- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (002) سورة البقرة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
من أهمل معرفة الله لم تصح عبادته :
أيها الأخوة الكرام ؛ أُثِرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة أخي عيسى ".
فماذا دعا سيدنا إبراهيم ؟ ورد في سورة البقرة في الآية التاسعة والعشرين بعد المئة قوله تعالى :
﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
إنّ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لها أربعة أركان :﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾
أية آيات يا ترى ؟ إذا توهمنا أنها آيات القرآن الكريم ، بعد قليل يقول الله عز وجل :﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾
لذلك يرجح أن تكون الآيات التي وردت في هذه الآية تشير إلى الآيات الكونية .﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ﴾
وإذا أردنا أن نجمع بين المعنيين فلنا أن نقول :﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ﴾
القرآنية الدالة على الآيات الكونية .أليس في القرآن آيات كونية قرآنية تتحدث عن الكون والقصد من ذلك أنك من خلال الكون تعرفه ؟
﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾
الكتاب هو المنهج ، فأنت محتاج إلى شيئين ؛ إلى أن تعرفه أولاً ، وإلى أن تطيعه ثانياً ، فبالكون تعرفه ، وبالقرآن تعبده ، فأنت محتاج إلى أن تعرفه و إلى أن تعبده ، فلو أننا أهملنا معرفته لم تصح العبادة .وأغلب الظن أنّ الإنسان يلجأ إلى أساليب كثيرة يحتال بها على الشرع ، فمن الذي يحتال على الشرع ؟ هو الذي لا يعرف المشرع .
لذلك أية دعوة إلى الله لا تبدأ بالتعريف بالله ، وتسمي بالتعريف من أجله لا تنجح، والنبي صلى الله عليه وسلم بقي بمكة المكرمة ثلاثة عشر عاماً يُعرِّف أصحابه بالله ، فلما تَرسَّخ الإيمان في قلوبهم ، وعرفوا الله معرفة صحيحة ، وقدروه حق قدره ، عندئذ نزل التشريع وطبَّقوه نصاً وروحاً .
أمّا إذا كانت معرفة المرء بالله قليلة فعندئذٍ لو جاءَهُ التشريعُ فإنّه يطبِّقه نصاً لا روحاً.
إنّ كل الحيل الشرعية أساسها ضعف في معرفة الله عز وجل . فأركان الدعوة إلى الله :
﴿وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ﴾
الآيات الكونية الدالة على عظمة الله .أخواننا الكرام ؛ لا بد من مثل موضِّحٍ ، وهأنذا أسوقه : هناك في أمعاء الإنسان غشاء شفاف ، هذا الغشاء الشفاف اسمه الغشاء البريتوني ، له دورٌ خطيرٌ في الدم ، وفيه عقد بلغمية ونهايات عصبية ، وهو يحمل الأمعاء بشكل مرن ، ولو أنه حملها بشكل غير مرن لاضطرب عملها ، فالأمعاء أساسها أنّ لها حركة ميكانيكية من أجل الهضم ، فلا بد من أن تُحمل .
وفي المركبة هذا العازل حامل الغاز اسمه المحول ، وهو محول بحلقات مطاطية ، يحث يتحرك مع المحرك ، دون أن يُزعج السيارة ، فهذا معلق ، لكن تعليق حركي . والأمعاء معلقة في البطن بتعليق حركي ، معلقة بغشاء يسمح لها بالحركة عن علم ، فهذا الغشاء
أولاً : يحمل الأمعاء حملاً مرناً . ثانياً : فيه نهايات عصبية . ثالثاً : فيه عقد بلغمية ، أما هذه العقد البلغمية فشيء لا يصدق ؛ إنها مركز دفاع ، فيه قسم على شكل جنود استطلاع ، وقسم على شكل جنود تصنيع أسلحة ، وقسم آخر على شكل جنود مقاتلين ، فإذا حصل انثقاب بالأمعاء من التهاب حاد فيها ، وخرج من الأمعاء بعض الإنتانات ، فهذه العقد البلغمية في الغشاء البريتوني تنطلق منها جنود لتكشف نوع الجرثوم ، تصنع المصل مرة ثانية ، ترسل هذا السلاح مع جنود مقاتلين ، كل هذا يتم بالتعبير الحديث "التطويق" ، يطوق هذا الجرثوم لئلا ينتشر ، ويفشو ضرره في الجسم .
لكن الشيء الغريب أن هذه الأمعاء ليس فيها أعصاب حس ، فلو فتحنا أمعاء إنسان وسكبنا فيها ماء ساخنًا لم يشعر صاحبُها بشيء ، لا أعصاب حس فيها ، أما إذا انثقبت هذه الأمعاء فالنهايات العصبية في الغشاء البريتوني تنقل الألم الشديد للإنسان ، فالنهايات العصبية جهاز إنذار مبكر ، والعقد البلغمية جيش دفاع . وفي الوقت نفسه هذا الغشاء يحمل الأمعاء حملاً مرنًا ، حيث إنها تتحرك حركة معوية دون أن يتأثر الحمل .
إذاً : حمل ، وتثبيت مرن ، وجهاز دفاع معقد ، ونهايات عصبية ، وهذا كلُّه تدبيرُ مَنْ؟
مكارم الأخلاق أساس حياة المؤمن :
الآن دققوا في قوله تعالى :
﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾
فليس هناك أعصاب حس ، فلو أن هذا الماء قطع الأمعاء فعندئذٍ يبدأ الألم ، وآلام الإنسان لا تبدأ إلا إذا ثُقِبَتْ الأمعاء ، ثم بعدها تتأثر النهايات العصبية . هل تسمح المعطيات العلمية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التفسير ؟ إذاً هذا كلام خالق الكون ، وهذا معنى:﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾
الكتاب هو القرآن وما فيه ، والحكمة هي السنة ، القرآن الكريم فيه كليات ، والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته القولية والعملية يبيِّن ، والكتاب هو المنهج ، والآيات الكونية هي المعرِّف ، فالآيات الكونية مع المنهج القرآني مع السنة التفصيلية القولية والعملية ثلاثة أركان للدعوة ، وأما الركن الرابع فقد قال تعالى :﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾
فإذا حذفنا مكارم الأخلاق من حياة المؤمن فقد حذفنا منه كل شيء ، وبعدها ليس له عند الله شيء ، وإن الإيمان حسن الخلق ، وتصفو نفوس المؤمنين باتصالهم بربهم :﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾
.أركان الدعوة :
أربعة أركان للدعوة ؛ تلاوة الآيات الكونية كي نعرفه ، ودراسة الآيات القرآنية كي نعبده ، والاتصال بالله عز وجل كي تزكوَ نفوسنا بقربه ، فإذا عرفناه بالكون ، وأطعناه بالقرآن والسنة ، واتصلنا به فقد زكت نفوسنا ، وعندئذ نكون قد حققنا المنهج الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، وأية دعوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لا تتلمس خصائص دعوة النبي صلى الله عليه وسلم دعوة لا تنجح .فلو علَّمنا الناس الفقه وحده ولم نعرفهم بالله عز وجل لن تنجح دعوتنا ، وإذا قدّمنا الأمر على الآمر لا ننجح في دعوتنا ، وإذا أهملنا التزكية يصبح الإسلام ثقافة رفيعة ، لكن المعاملة سيئة ، فإذا ألغينا التزكية ألغينا الإسلام ، وإذا ألغينا المنهج ألغينا الإسلام ، وإذا ألغينا تلاوة الآيات ألغينا الإسلام . إنَّ الإسلام كل متكامل ، لابد من آيات تتلى كي نعرف الله ، ولابد من منهج يطبق كي نتقرب منه ، ولابد من نفوس تتزكى كي نكون أهلاً لدخول الجنة ، هذا معنى الآية الكريمة :
﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
.من أعرض عن الدين فقد احتقر نفسه :
أخواننا الكرام ؛ قد يُعرِض إنسانٌ عن شيخه احتقاراً له ، أما إذا أعرض عن الدين فهو يحتقر نفسه ، فإذا أعطاك أحدٌ جوهرة تُقدَّر بثلاثين ألفًا ، وأعطاك قطعة بلور تقدَّر بليرة ، ثم فكرت وفكرت وفكرت وأخذت قطعة البلور فأنت عندئذ لا تفهم شيئًا إطلاقاً .
عُرضت عليك هديتان ؛ قطعة ألماس أصلي ، و قطعة بلور تشبه قطعة الماس ، فحينما تُعرِض عن الألماس الصحيح ، وتقبل هذه القطعة البلورية فأنت حقَّرْتَ نفسك ، إذ برهنت أنك لا تعرف حقائق الأشياء فربنا عز وجل يقول :
﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾
فإذا لم يلتفت الإنسان إلى الدين ، ولم يقبل على هذا الدين الحنيف ، وما اتصل بالله عز وجل ، وما قرأ القرآن ، وما تدبر آياته ، وما صدق تعاليم الله عز وجل ، فهذا لا يحتقر الدين لكنه يحتقر نفسه ، وهذه الآية :﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول :((أنا دعوة أخي إبراهيم ، و بشارة أخي عيسى ))
على الإنسان أن يريح نفسه والآخرين من كل قضية تاريخية سابقة :
آخر آية في السياق تريحكم من كل قضية سابقة ، ومن أي خلاف ديني سابق ، ومن أي خلاف بين مذاهب المسلمين ، ومن أي خلاف بين الصحابة الكرام ، ومن أي خلاف بين فرق الإسلام ، فهذا الخلاف كله مغطى بآية واحدة ، وانتهى الأمر ، فقد قال الله تعالى :
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
وفر وقتك ، واكسب حياتك ، فالهدف واضح ، والمنهج واضح ، فعليك ألا تدخل في متاهات قديمة ، وعليك ألا تجترَّ حوادث تاريخية عفا عليها الزمان ، فلا ترجع وتعمل على إحيائها بعد موتها ، فهذه متاهات لا تنفع المسلمين اليوم .﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
مثلاً شخص في طريقه إلى حلب وهنالك مليون ليرة ليقبضها ، وجرت وراءه مشادَّة ، فليس له مصلحة في أنْ يرجع إلى الوراء ، وليس عليه أنْ يتعرف على صاحب الحق في هذه المشادة ، ليكن من كان :﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ﴾
والآن هناك محاولات استعادة التاريخ القديم ، والدخول في دوامة أنّ الحق مع فلان ، والحق على فلان ، وهذا أحق بالخلافة ، لا ، بل هذا أحق منه بها ، لقد مضى كلٌّ مِن هذا وذاك .يا أخي تلك قضية قديمة ، ولدينا الآن هدف واضح ، وعندنا منهج ، فهذه الآية تغطي التاريخ كله .
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
إنَّ كل إنسان له عند الله مكانة ، لمعرفته وإخلاصه وعلمه واستقامته ، فلا يرفعه مدحنا ، ولا يخفضه ذمنا ، فلا مدحنا ينفعه ، ولا ذمنا يضره بعد أنْ غدا إلى ربه ، وأصبح في ذمته ، إذاً نحن نريح أنفسنا ، ونريح الآخرين من كل قضية تاريخية سابقة ، فلم تعُد تقدم ولا تؤخر .﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾