وضع داكن
26-04-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة البقرة - تفسير الآية 165 ، الحب الإلهي
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

من نما عقله وإدراكه ارتقى اختياره :

 أيها الأخوة الكرام ؛ في الآية الخامسة والستين بعد المئة من سورة البقرة يقول الله سبحانه وتعالى فيها :

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾

[سورة البقرة : 165]

 الإنسان قبل أن نشرح الآية جسدٌ يأكل ، وعقلٌ يدرك ، وقلبٌ يحب ، هذه حقيقة الإنسان ، وهذه جوانبه الثلاث ، جسدٌ يأكل ، وعقلٌ يدرك ، وقلبٌ يحب .
 دعونا من الجسد ، فنحن وبقية المخلوقات سواء ، أجهزة ، وأعضاء، وأنسجة ، ويحتاج إلى طعام، وإلى شراب، وإلى راحة ، له قوانينه، وله مبادئه ، والأطباء موكلون بمعرفة أمراضه ودوائه .
 دعونا من الجسد ، ولنقف عند القلب الذي يحب ، والعقل الذي يدرك ، هل هناك من علاقة بينهما ؟ نعم ، وهذه العلاقة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم ، دققوا ورد في الأثر: " أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً" ، فلو عرضت على إنسان قطعة بلور عادية، وقطعة كريستال، وقطعة ألماس ؛ قطعة الماس ثمنها ثلاثمئة ألف ، والكريستال بعشرين ليرة ، بينما قطعة البلور بليرتين ، ثم قلت له : اختر ، فإن اختار البلور فهو لا عقل له ، وإذا اختار الكريستال فلديه بقية عقل ، ولعله لم ينتبه لقطعة الماس ، أما الذي يعمل في بيع المجوهرات فإنه يأخذ الماس رأساً .
 فكلما نمت معرفتك، ونما إدراكك ، ارتقى اختيارك ، وكلما نما عقلك ارتقى اختيارك ، فالذي اختار الدنيا المحدودة ، أحمق ، غبي ، لأنها قصيرة ، ولأنها تنقطع عند الموت ، ومهما علوت في الدنيا فكل مخلوق يموت ، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت ، ومهما كنت غنياً فإن الكفن لا جيب فيه ، ولا دفتر شيكات ، ليس هناك قبر خمس نجوم ، بل كل القبور نجمة واحدة وكل نجوم الظهر .
 فمهما كنت في أعلى مكانة في المجتمع ، أو بأعلى مكانة في المال ، أو كنت حائزًا على أعلى الدرجات العلمية ، بورد مثلاً ، فمصيرك إلى القبر .
 فالذي يختار الدنيا ، فيه ضعف في عقله ، وهو غبي ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً" .
 فالبلور والكريستال والماس ، كلما كانت خبراتك أعمق اخترتَ الماس ، فإنْ دنت فالكريستال جميل ، وكأس الكريستال ثمنها حوالي مئتي ليرة ، أما قطعة البلور فقد تكون برطمان بلور ، لونه أزرق وطني ، فثمنه خمس ليرات أو عشر ليرات ، قد يقال لك : حجمه كبير ، وهو يستحق ثمنًا أكثر من عشر ليرات ، وكأس كريستال ثمنها حوالي مئتي ليرة ، وقطعة الماس ثمنها ثلاثمئة ألف ، فأنت مخيَر لقلة خبرتك ، لكن الجواهري لا يتردد ثانية في التقاط قطعة الماس .

العقل والقلب مؤشران يتحركان معاً :

 أخواننا الكرام ؛ صحابي جليل اسمه عبد الله بن رواحة ، تُروى عنه هذه القصة ، فإن صحت فلها مغزى كبير ، وإن لم تصح فلنا منها عبرة فقط ، عيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم قائداً ثالثاً في معركة مؤتة ، القائد الأول سيدنا زيد ، ثم سيدنا جعفر ، ثم سيدنا ابن رواحة ، والمعركة مخيفة وطاحنة ، وأعداد جيش العدو كبيرة ، فأول قائد رفع الراية وقاتل لم يلبث أنْ قتل، ثم تسلم القيادة سيدنا جعفر ، فأمسك بالراية فقاتل فلم يلبث أنْ قتل هو الآخر ، ثم تسلم القيادة عبد الله ، وكان شاعرًا فقال بعدما تردد قليلاً :

يا نفس إلا تقتلي تموتي  هذا حمام الموت قد صليت
إن تفعلي فعلهما هـــديـت  وإن توليت فـقــــد شقيــــــــت
***

 وأمسك بالراية وقاتل بها حتى قتل . وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق سيدنا جبريل نبأ هذه المعركة، فقال بين أصحابه : أخذ الراية أخوكم زيد فقاتل بها حتى قتل ، وإني لأرى مقامه بالجنة ، ثم أخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قتل ، وإني لأرى مقامه بالجنة يطير بجناحين ، فسميّ جعفر الطيار - وسوف يبنى بمطار دمشق مسجد ، ويسمونه باسم جعفر الطيار ، لأن له علاقة بالطيران ‍‍‍‍‍ - قال راوي الحديث : وسكت النبي صلى الله عليه، فلما سكت غار الصحابة على أخيهم الثالث ، سيدنا عبد الله بن رواحة ، فقالوا : ما فعل عبد الله؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم سكت بقدر ثلاثين ثانية تقريبًا ، بقدر ما تردد عبد الله بن رواحة حين أخذ الراية ، قال : ثم أخذ الراية أخوكم عبد الله فقاتل بها حتى قتل وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه ، لأنه تردد ثلاثين ثانية هبطت درجته عن صاحبيه قليلاً .
 فإذا كان الجواهري متمرِّسًا ، وعرضتَ عليه برطماناً وطنيًّا ثمنه عشر ليرات ، وكأس كريستال ، ثمنها مئتا ليرة ، وقطعة ألماس ثمنها ثلاثمئة ألف ليرة ، فإنْ تردد ثانية واحدة فيكون أحمق ، ولا يستحق اسم جواهري ، فالتردد ذنب أحيانًا .
 إذاً العلاقة بين العقل والقلب ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً" فإذا كان العقل له مؤشر ، وإذا كان الحب له مؤشر أيضًا فلا بد أنْ تعرف أن هذين المؤشرين يتحركان معاً .
 وقد تجد بجهاز الساعة عدادين ؛ واحدًا لدورة المحرك ، وواحدًا للسرعة ، و كذلك مؤشر العقل و مؤشر القلب . ورد في الأثر: " أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً" .

أشد أنواع احتقار الذات أن تكون لغير الله :

 وبعد فلنَعُد إلى الآية :

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾

[سورة البقرة : 165]

 هنا الحمق واضح جليّ ، فإنسان فانٍ ، إنسان ميت ، إنسان محدود ، إنسان ضعيف، إنسان لئيم ، تمنحه حبك ؟! إنها متاهة تؤدِّي إلى الضياع . إنك لن تجد إنسانًا على وجه الأرض أخلص للنبي كسيدنا الصديق ، فماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :

((لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي ))

[سورة البخاري]

 إذاً هذا القلب لا يليق به إلا أن يحب الله ، فأنت تحتقر ذاتك إذا أحببت غير الله .
 قال تعالى :

﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾

[سورة البقرة : 130]

 إنّ أشد أنواع احتقار الذات أن تكون لغير الله ، محسوباً على غير الله ، أو أن تُجَيّر - بالتعبير المصرفي- لغير الله ، وأن تحب غير الله ، دققوا في الآية :

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾

  إنك تحب زوجتك أكثر من الله ، فهناك علامة -أعوذ بالله !! لا أحب إلا الله - حينما تطيعها في معصية الله فاعلم أنك تحبها أكثر من الله ، وهناك علامة كذلك أنك تحب أولادك أكثر من الله ، حينما تطيعهم أكثر من الله ، وهناك علامة أنك تحب هذا البيت أكثر من الله والجنة ، فإذا جلست به مغتصباً ، ولم تعبأ بتهديد الله لك ، وتقول : القانون معي ، خير إن شاء الله ، فليشفع لك القانون عند الله تعالى .
 ليس في القبر مِن قانون ، فعلامة محبة غير الله أن تؤثره على الله ، والأمر لا يحتاج إلى زعبرة، ولا أنْ تتلبس له ، ومادمت تطيع إنسانًا وتعصي الخالق ، فهذا الإنسان إما أنك تخافه ، وإما أنك تحبه أكثر من الله ، وهذا هو الشرك بعينه ، ويقول صلى الله عليه وسلم :

((أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي أما إني لست أقول إنكم تعبدون صنماً ولا حجراً - انتهت تلك الحال إلى غير رجعة ، فلن نتجه إلى صنم نعبده - ولكن شهوة خفية وأعمال لغير الله . .))

 وهذا هو الشرك الخفي ، فهؤلاء :

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾

  فلم يقل سبحانه و تعالى : ومن المؤمنين ، بل قال : ومن الناس .

محبة الله أكثر من كل شيء من علامات إيمان المرء :

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ﴾

  من علامة إيمانك ، أنك تحب الله عز وجل أكثر من كل شيء ، فقد قال عمر : يا رسول الله إني أحبك أكثر من أهلي وولدي ومالي والناس أجمعين إلا من نفسي ، قال له : يا عمر لمَّا يكمل إيمانك ، قال: ولِمَ ؟ قال : حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك أيضاً ، وبعد حين قال له : الآن يا رسول الله أحبك أكثر من نفسي وولدي ومالي والناس أجمعين ، قال له ، الآن يا عمر ، الآن كمل إيمانك دققوا في قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم :

((أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً ))

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ﴾

  لكن متى يصعق الإنسان ؟ يوم القيامة ، قال :

﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾

 وبعد فالإنسان من يحب ؟
 بالمناسبة ، إنّ قوانين النفس تقول : الإنسان يحب الشيءَ الجميل ، يحب الجمال ، ويحب الكمال ، ويحب النوال – العطاء- هناك قصة وقعت من خمسين سنة ، خطيب جامع الورد بحي ساروجة رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال له : قل لجارك فلان : إنه رفيقي بالجنة، ليس معقولاً ، أنا الخطيب وأنا الداعية ، والمنام ليس لي ، بل للسمان جار المسجد ؟! في الصباح طرق بابه وقال له : لك عندي بشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله لا أقولها لك إلا إذا قلت لي ما صنعت مع ربك ، فلما استحلفه قال له : والله تزوجت امرأة وبعد خمسة أشهر من عرسي كانت في الشهر التاسع ، إذاً هذا الولد الذي في بطنها ليس مني .
 قال له : بإمكاني أن أسحقها ، بإمكاني أن أطلقها ، بإمكاني أن أفضحها ، لكن وجد أنها زلت قدمها مرة واحدة ، وأرادت أن تتوب على يديه ، فأتى بقابلة أولدتها ليلاً ، وحمل الوليد إلى المسجد بعد أن كبر الإمام تكبيرة الإحرام ، حتى لا يراه أحد ، ووضع الغلام عند طرف الباب، فلما انتهت هذه الصلاة ، بكى هذا الوليد ، فتحلق المصلون حوله ، وجاء معهم كواحد منهم ، دون أن يشعرهم أنه يعلم ، قفال : خير ماذا هنالك ؟ قالوا : تعالَ انظر ، ولدٌ وُلد لتوه ، قال : أعطوني إياه أنا أتكفله ، فأخذه و رده إلى أمه وأمام الجيران سترها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قل لجارك فلان : إنه رفيقي بالجنة .
نحن الآن جميعاً أُعْجِبْنا بهذا الموقف ، لأنّ الإنسان يحب الكمال ، ويحب المروءة ، والشهامة ، والأمانة ، والإخلاص ، والجمال ، والإنسان يحب النوال .
 لو أنَّ إنساناً قصير القامة ، أسمر اللون ، ناتئ الوجنتين ، غائر العينين ، ضيق الجبهة ، أعرج الرجل ، أعطاك مئة مليون ، فأينما سار تتبعه ببصرك ، رغم أنه ليس جميل المنظر ، فالإنسان يحب النوال أي العطاء ، والكمال ، والجمال ، وهذه كلها في الله ، قال تعالى:

﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾

  إنّ قوة العطاء من الله ، وقوة الجمال من الله ، وقوة الكمال من الله ، فهو الكامل ، وهو الجميل ، وهو المعطي ، والإنسان تَركه وأحبَّ غيره ؟! هذا من غبائه ، وحمقه ، وضعف إيمانه ، فهذه الآية دقيقة :

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ﴾

 في الدنيا .

من أحبّ غير الله فقد وقع في شر عمله :

 أما الكفار فإنهم يصعقون يوم القيامة حينما يرون أن كل شيء تمتعوا به كان من الله وأحبوا غيره ، وكل شيء أسعدهم كان من الله وأحبوا غيره .

(( إني والإنس والجن في نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل ، وشرهم إليّ صاعد ، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم ، ويتبغضون إليّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إليّ ، من أقبل عليّ منهم تلقيته من بعيد ، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب ، أهل ذكري أهل مودتي ، أهل شكري أهل زيادتي ، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب ، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد ، والسيئة بمثلها وأعفو ، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها ))

[ البيهقي والحاكم عن معاذ ، والديلمي وابن عساكر عن أبي الدرداء ]

 قل لي ما الذي تحبه أقل لك من أنت ، فكلما نما عقلك أحببت ربك ، وكلما ضعف العقل أحببت سواه ، وكلُّ شيءٍ سواه فانٍ .

﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾

[سورة الرحمن : 26]

 فإنْ ربطتَ نفسك مع إنسان يموت ، ربطتَ نفسك مع زوجة تموت ، وتكون لئيمة أحياناً ، فأين عقلُك ؟ أما إذا أحببت الله فأنت العاقل ، وأنت الذكي ، وأنت الموفق ، وأنت المفلح، وأنت الفائز ، وأنت الذي عرفت سر وجودك ، وأنت الذي عرفت قيمة وجودك ، فلا تعرف قيمة وجودك إلا إذا عرفت الله عز وجل ، وأنت لله أوَّلاً وأخيرًا .
 إنّ الماء للتراب ليسقيه ، والتراب للنبات لينبته ، والنبات للحيوان ليأكله ، والحيوان للإنسان ليتغذى به ، وأنت لله ، فإذا أحببت غير الله فقد وقعت في شر أعمالك .

تحميل النص

إخفاء الصور