- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (002) سورة البقرة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أنواع التكذيب :
في سورة البقرة الآية الواحدة والعشرون بعد المئتين وهي قوله تعالى :
﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾
أيها الأخوة الكرام ؛ هناك نوعان من التكذيب ، نوعٌ قولي ، ونوعٌ عملي ، والتكذيب العملي أخطر من التكذيب القولي ، فلو أن مريضًا زار طبيباً ، وهذا الطبيب فحصه فحصاً جيداً، وكتب له وصفة ، و شكر المريض الطبيب ، وأثنى على علمه ، وصافحه ، وعظمه ، وبجله ، لكنه لم يشترِ هذا الدواء ، فهو إذاً لم يعبأ لا بعلمه ، ولا بتشخيص مرضه ، ولا بنوع دوائه .فعدم شراء الدواء تكذيبٌ عملي لعلم هذا الطبيب ، رغم أنك أثنيت عليه ، وصافحته بحرارة ، وشكرته .
فالتكذيب العملي هو شراء الدواء ، وهذا يدل على أنك لم تعبأ بعلمه البتة .
كلكم يقرأ القرآن الكريم ، فإذا قرأتم القرآن الكريم وأنهيتم القراءة فإنكم تقولون : صدق الله العظيم ، فإذا جاء خاطب لابنتكم ، دينه قوي ، لكن دخله المادي وسط ، وجاء خاطبٌ آخر ، دينه رقيق ودخله كبير ، فإذا آثرتم الغني على المؤمن فأنتم لا تصدقون كلام الله عز وجل ، ولو قلتم صدق الله العظيم ، فالله عز وجل لا يرضى للعبد أن يتعامل معه بالشكليات ، فأنت تقول : صدق الله العظيم ، ويقول الله لك :
﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾
إنسان وسيم الطلعة ، دخلُه كبير ، عنده معمل ، بيته ملكه ، بيته أربعمئة متر مربع، وسيارته على الباب ، لكن لا دين له ، فلا يصلي ، ويسهر يمنة ويسرة بالفنادق ، وخطب ابنته رجلٌ مسلم ، يقول والدُ الفتاة : هذا شيء مغرٍ ، وكان قد خطبها سابقاً رجل فقير ، لكنَّه مؤمن إيمانا قويًّا ، فأنت آثرت الغني على الفقير ، آثرت رقة الدين على قوة الدين ، فإذا قرأت قوله تعالى :
﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾
فأنت حينما اخترت الغني الفاسق على الفقير المؤمن كذَّبت هذه الآية لا تكذيبًا لفظياً قولياً ، بل كذبتها تكذيباً عملياً ، والتكذيب العملي أخطر من التكذيب القولي ، لأن الذي يكذب بلسانه يُناقَش ، فتقيم عليه الحجة ، أما الذي يكذب بعمله فلا تستطيع أن تناقشه ، تسمع بعضهم يقول : أعوذ بالله ، لا يوجد مثل القرآن ، وعملُه يخالف ما في القرآن .لننتقل إلى مجال آخر ، هناك أٌناس كثيرون يذكرون أنهم يصدقون باليوم الآخر ، ولكن في الحقيقة لا يعملون عملاً واحدًا لليوم الآخر ، لسانهم يكذب عملهم ، وعملهم يكذب لسانهم .
الله لا يعذب أحبابه :
فيا أيها الأخوة الكرام ؛ القضية قضية الإيمان قضية مصيرية ، وربنا عز وجل يقول:
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون﴾
لهذه الآية معنًى دقيق ، فما دام المسلم يطبق سنة رسول الله في حياته ما كان الله ليعذبه :﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾
معنى الآية :﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾
طبعاً سنتك مطبقةٌ في بيوتهم ، في أعمالهم ، في بيعهم وشرائهم ، في زواجهم وطلاقهم ، في تجارتهم .﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾
فلِمَ يعذبهم وهم على المنهج الصحيح ؟ إنسان يطبق منهـج الله ، يطبق سنة رسول الله في كل نشاطاته ، لماذا العذاب ؟ والآية صريحة :﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾
وهناك آية أخرى تؤكد هذا المعنى :﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾
وهذا مجرَّد ادعاء فردَّ الله عز وجل عليهم قائلاً :﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾
انظُر :﴿يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾
فقيَّد العذاب :﴿بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾
ومن هنا استنبط الإمام الشافعي أن الله لا يعذب أحبابه من هذه الآية ، فلو أن الله أقرهم على أنهم يحبونه لما عذبهم .﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾
إذاً :﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾
من طبق منهج الله فلن يعذبه الله أبداً :
المعنى الثاني دقيق ، أي إذا كان المسلم قد زلت قدمه ، أخطأ بأنْ سبقت منه مخالفة، وندم أشد الندم ، واستغفر أشد الاستغفار ، وأصلح ، وتاب إلى الله ، فإذا كان بهذا الوضع فالله عز وجل لا يعذِّبه أيضًا .
أي إذا أب شاهد أنّ علامة ابنه بالرياضيات صفر ، وامتنع الابنُ عن الأكل حزنًا ، ودخل الابنُ إلى غرفته واعتصم بها ، فلما رأى الأب ابنه بهذا الألم والضيق الشديد فهل يلجأ إلى ضربه ؟ لا .
فمتى يأتي العذاب ؟ إذا لم نطبق منهج الله ، ولم نعبأْ بهذه المعصية ، وإن طبقنا المنهج فلا نعذب ، إن أخطأنا وندمنا فلا نعذب ، لكن نتباهى ، ولا نطبق ما فيه ، ولا نعبأْ بهذه المعصية ، فعندئذٍ يأتي التأديب .
معاقبة الله الإنسان على الفعل لا على الكلام :
أخواننا الكرام ؛ بالعالم الإسلامي كله ليس مقبولاً أبداً من إنساٍن أن ينكر الآخرة ، لكن الذي تراه بعينك أن الإنسان لا يعمل للآخرة ، بل يعمل للدنيا ، فهذا التكذيب العملي أبلغ ألف مرة من التكذيب اللساني .
مره ثانية :
﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾
هذا كلام خالق الكون ، امرأة صالحة مؤمنة ، تحفظ لك نسلك ، وتعلم أولادك القرآن، وتعلم أولادك سنة النبي العدنان ، وترعاك في غيبتك ، فإذا نظرت إليها سرتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ، وإذا أمرتها أطاعتك ، والله شيءٌ جميل ، فهذه هي المؤمنة .أما المشركة فهي عبءٌ عليك ، ولو أنها أعجبتك بادئ الأمر ، لكنها عبءٌ عليك ، فلا تعبأ بك ، ولا تأتمر بأمرك ، ولا تستقيم على أمر الله عز وجل ، ولا تربي لك أولادك كما تريد، دائماً أنت في شك منها ، وخالق الكون يقول لك :
﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾
وقال تعالى :﴿ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾
ولم يبقَ عبيدٌ في عصرنا ، لكن هناك إنسان فقير مؤمن ، وإنسان غني لا دين فيه ، فكل الأسر الإسلامية يجب أن تراعي مدلولات هذه الآية ، فإنْ لم تفعل فالمسلم يكذب إذًا كلام الله ، وهو لا يشعر ، والله يعامل الإنسان لا على كلامه فقط ، بل يعامله على فعله كذلك ، ولعل العقاب على الفعل أشد و أنكأ .من لم يطبق كلام الله فلن يستفيد شيئاً :
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾
فأنت اقرأ القرآن ، وما فيه من الأمر والنهي ، ثم إذا قلت : صدق الله العظيم ، وقبّلت المصحف ست مرات ، من كل وجه مرة ، ولم تطبق ما فيه ، فهذا لا يقدم ولا يؤخر ، ولا ينفعك عند الله أبداً ، فالذي يقدم ويؤخر العمل حينما تصدق كلام الله مِن أن المؤمن أفضل من المشرك ، ولو أعجبك المشرك بوسامته ، وطلعته ، وماله ، وبيته ، ومنطقة بيته ، ومركبته ، فيجب أن تؤثر المؤمن ، وإنْ كان دون مواصفات المشرك ، لأن المؤمن إن أحبها أكرمها ، وإن لم يحبها لم يظلمها ، بل يحافظ على دينها ، ويأخذ بيدها إلى الله ورسوله ، والدنيا كلها متاع وخير متاعها المرأة الصالحة .الابتعاد عن التكذيب العملي :
فيا أيها الأخوة الكرام ؛ حذارِ من التكذيب العملي ، أن تصدق بلسانك ويأتي فعلك ليكذب ما نطق به لسانك ، وربنا عز وجل كما يعاملنا على ما نتفوّه به فهو كذلك يعاملنا على أفعالنا ، والذي يمنعنا من عذاب الله أن نكون عند أمره ونهيه ، أو إذا أخطأنا أن نندم أشد الندم ، ولا تنسوا هذه الآية :
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾
طبعاً أي سنتك موجودة في حياتهم ، فإذا طبقتم سنة رسول الله ، والآية واضحة ، فأنتم في بحبوحة العيش ، وإن أخطأنا وندمنا واستغفرنا وتألمنا ، فنحن في فسحة ، ويمنحنا الله عز وجل فسحة كي نتوب ، أما إذا أخطأنا ولم نتب ، أخطأنا ولم نندم ، أخطأنا ولم نكترث ، عندئذ يأتي عذاب الله عز وجل قال تعالى :﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾
وقد لقي المسلمون ذلك الغي ، وهو تحت سمعكم وبصركم . فإذا أردنا من الله عز وجل أن يحفظنا ، وأن ينصرنا ، وأن يرحمنا ، وأن يعزنا ، وأن يطمئننا ، وأن يستخلفنا ، فعلينا بطاعته ، وعلينا بتصديق كتابه ، القرآن يقول :﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾
فإنْ لم يعبأ الإنسان بهذه الآية فهو يكذبه ، فحذارِ حذارِ .التعامل مع القرآن بصدق وإخلاص :
أيها الأخوة الكرام ؛ تعاملوا مع القرآن بصدق وبإخلاص ، اقرؤوا الآيات بتدبر ، فهي كلام خالق الكون ، وإذا كان عندك شك بكلام الله فاسأل أهل العلم ، ولا يمكن أن يتبادر إلى ذهن إنسان ذرة من شك في أنه ليس كلام الله ، لما فيه مِن إعجاز ، فالله خالق الكون ، وهذه تعليمات الصانع ، فكما أنك حريص على آلة حاسبة فتسأل الشركة الصانعة ، وكذلك مركبتك تأخذها إلى الوكالة الخاصة لصيانتها ، لحرصك عليها ، فإذا كنت حريصًا على سيارتك هذا الحرص فلتكن أشد حرصًا على نفسك ، على مستقبلك ، على مصيرك بعد الموت ، فهذه الآية جديرة بتدبرها ، والعمل بمضمونها ، وموضوعها التكذيب العملي . . . والتكذيب القولي . . . وليس في العالم الإسلامي من يكذب هذا القرآن ، هذا أمر غير مقبول إطلاقاً ، لكن كثيرًا من الناس وقعوا في التكذيب العملي .