- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (002) سورة البقرة
الامتناع عن أكل مال المؤمن :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين وبعد ، يقول الله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم :
﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
أيها الأخوة ؛ في الآية إشارة لطيفة أنّ الله عز وجل لم يقل : ولا تأكلوا أموال إخوانكم، ولم يقل : ولا تأكلوا أموال الغير ، ولم يقل : ولا تأكلوا أموال الناس ، بل قال :﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ﴾
فالإنسان كيف يأكل ماله ؟ إذا وضع خمسمائة ليرة ، ثم نقلها من مكان إلى مكان ، هل يعد قد أكل ماله ؟ في الآية إشارة إلى أن المؤمنين على ما هم عليه ، أو على ما ينبغي أن يكونوا عليه هم أسرةٌ واحدة ، وكيانٌ واحد ، وشخصيةٌ اعتبارية واحدة ، حيث إنّ أحدهم لو أخذ مال أخيه بحكم علاقة الإيمان ، وحكم الكيان الواحد ، والشخصية الواحدة ، والمصلحة الواحدة ، والهدف الواحد ، فكأنما أكل ماله ، فمال أخيك إذا كنت مؤمناً في حكم مالك ، مال أخيك هو مالك من زاويةٍ واحدة ، من زاوية وجوب المحافظة عليه ، فلئن تمتنع عن أكله ظلماً وعدواناً من باب أولى .فأنت مكلف أن ترعى هذا المال ، مثلاً لو أنّ إنسانًا سافر ووكل إنسانًا آخر بإدارة أمواله ، فهذا الإنسان الموكل بإدارة الأموال لو أخذ من هذه الأموال عدواناً فله عقابٌ مضاعف ، لأنه مؤتمن ، ولأنه موكل ، لو جاء سارق غريب وسرق المال يحاسب كسارق ، أما الموكل فالوكيل والأمين المكلف بالحفاظ على المال إذا أخذ المال فجرمُه مضاعف .
ربنا عز وجل يقول :
﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ﴾
أي انتبه أيها المؤمن ، فأنتم مؤمنون ، وأنتم كيانٌ واحد ، وشخصية اعتبارية واحدة ، وكتلةٌ واحدة ، هدفكم واحد ، كُلِّفتم بالتعاون ، والتعاضد ، والمساعدة ، فإذا أكل أحدكم مال أخيه فكأنما أكل ماله ، بمعنى أن هذا المال مال أخيك هو مالك ، من زاوية المحافظة عليه ، إذاً ينبغي أن تمتنع عن أكله بالحرام .هناك معنى آخر للآية ، أي إذا أكلت مال أخيك أضعفته ، وإن أضعفته أضعفت نفسك لأنك موكل به .
حسنًا ، لو فرضنا أنَّ أبًا أعان أولاده ، حتى صاروا منتجين ، فهو يرتاح ، أمّا لو أهملهم لصاروا عالة عليه ، فأنت إذا أكلت مال أخيك أضعفته ، وإن أضعفته فأنت مكلفٌ بالإنفاق عليه ومعاونته .
أي ما من آية تشير إلى هذه الأخوة ، وهذا التعاون ، وهذا التعاضد ، كهذه الآية :
﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾
أكل أموال الناس بالحق مقابل جهد وتعب :
قد يسأل سائل : هل هناك أكلٌ لأموال الناس بالحق ؟ الجواب : نعم ، أنت حينما تتاجر ، وتبذل جهداً كبيراً ، وتسافر ، وتأتي ببضاعة ، لك أن تضيف على ثمن الشراء والكلفة الإجمالية هامشَ ربحٍ ، فأنت إذًا أكلت مال أخيك ولكن بالحق ، مقابل جهد .
بالمناسبة ، لو تتبعتم الأحكام الشرعية لوجدتم أن معظم الأحكام الشرعية تتعلق بموضعين كبيرين ، استعرض الأحكام الشرعية في القرآن الكريم ، وفي السنة ، وفي كتب الفقه ، فمعظم الأحكام الشرعية ، تتعلق بموضوعين كبيرين ؛ موضوع كسب المال وإنفاقه ، وموضوع المرأة ، لأن الإنسان لا يؤتى إلا من هذين البابين ، فمثلاً إنسان مستقيم ، طاهر ، مقبل على الله، من أين يؤتى ؟ الشاب يؤتى من المرأة ، والتاجر يؤتى من كسب الأموال ، لذلك أول توجيه للشباب غض البصر ، وأول توجيه للتجار والراشدين الذين يعملون في مجالات الحياة ضبط الأموال ، وضبط الدخول .
الإقبال على الله لا يكون إلا بضبط الدخل والإنفاق :
أيها الأخوة الكرام ؛ الإنسان ما لم يضبط دخله ، ويضبط خرجه وإنفاقه ، لا يستطيع أن يقبل على ربه ، وما لم يضبط جوارحه ؛ عينه ، وأذنه ، ولسانه ، ويده ، ورجله ، فلا يستطيع أن يقبل على ربه ، فالإنسان قد يؤتى من قِبَل الشهوة ، ومن قِبَل المصلحة ، فقد تقتضي مصلحته أن يأكل مال الناس بالباطل ، فهو يؤتى من هذا المنحنى . لذلك :
((لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ ؛ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ ؟ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ؟ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ؟))
والمرء حينما يموت ترفرف روحه فوق النعش ، تقول : يا أهلي ، يا ولدي ، لا تلعبنّ بكم الدنيا كم لعبت بي ، جمعت المال مما حلّ وحرم ، فأنفقته في حله وفي غير حله ، فالهناء لكم والتبعة عليَّ .ورد في السنة أن ملَك الموت يخاطب أهل الميت :
(( فو الذي نفس محمد بيده ما من بيت إلا ويقف فيه ملك الموت في اليوم خمس مرات ، فإذا رأى أن العبد قد انقضى أجله ، وانقطع رزقه ، ألقى عليه غم الموت ، فغشيته سكراته ، فمن أهل البيت الضاربة وجهها ، والصارخة بويلها ، والممزقة ثوبها ، يقول ملك الموت : فيمَ الفزع ؟ ومم الجزع ؟ ما أذهبت لواحد منكم رزقاً ولا قربت له أجلاً ، وإنّ لي فيكم لعودة ، ثم عودة ، حتى لا أبقي منكم أحداً ))
تسمع أحيانًا أنّ الأب مات والأمَّ ماتت ، والأولاد بين مسافر ومتزوِّج ، أو متزوجة ، والبيت خلا من أهله بعد أنْ كان عامرًا ، هكذا سنة الحياة ، فالكل مرتحل ، كلنا تحت أطباق الثرى بعد كذا عام ، كلنا دون استثناء ، وقد أتى علينا يومٌ لم نكن شيئاً مذكوراً ، الإنسان إذاً حادث ، يأتي ويذهب ، يبقى عمله الصالح ، أو عمله الطالح ، العمل الصالح تذهب مشقته ويبقى ثوابه ، والعمل السيِّئ تذهب لذته وتبقى تبعته ، إذاً لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، فقد قال رسول الله لسعد :(( يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ))
أطب مطعمك ، فإذا كسبت رزقاً حلالاً ، واشتريت به طعاماً ، فهذا الطعام طيب .أُجرِي لشخص شاخ تحليل في سنة 1996 ، فكانت نتيجة التحليل تشير إلى صحة جيدة ، وهذه نعمة واللهِ ، فقال لابنه يا بُنَيَّ هذا من المال الحلال ، الذي جنيته منذ شبابي ، فالإنسان عندما يكون دخله حلالاً ، وإنفاقه حلالاً ، فالله عز وجل يمتعه بالحياة .
من يتبع هدى الله لا يضل عقله ولا تشقى نفسه :
قال الله عز وجل :
﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾
انظر إلى هذه الآية ما أجملها :﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾
وهناك آية ثانية :﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
أربعة أشياء : لا يضل عقله ، ولا تشقى نفسه ، ولا يحزن على ما فات ، ولا يخشى مما هو آت .بربكم هل هناك مكاسب يكسبها الإنسان أكثر من ذلك ؟ ألا يضل عقله ، وألا تشقى نفسه ، وألا يندم على ما فات ، وألا يخشى مما هو آت ، بآيتين :
﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾
وقال في آية ثانية :﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
المال والنساء أكبر مأخذين يضعف أمامهما الإنسان :
نحن يمكن أنْ نعتبر ، فأكبر مأخذين نؤخذ بهما ، المال والنساء ، وما من نقطتين يضعف أمامهما الإنسان إلا المال والنساء .
إذا أردنا أن نشتري إنسانًا ما فهذا ممكن ، إذ يبيع أمته ووطنه عن طريق امرأة أو شيك مصرفي ، فالمؤمن محصن من جهة المال والنساء ، النساء بغض بصره ، فلا يخلو بامرأةٍ، ولا يملأ عينيه من الحرام ، ليس عنده مجالس اختلاط ، فهو في عافية مِن خطر النساء ، والمؤمن دخله حلال ، وإنفاقه حلال ، وهو محصَّن من خطر المال ، والإنسان إذا نجا من المرأة ، والدرهم ، والدينار ، نجا واستحق جنة ربه ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
((تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَة وَالْخَمِيصَةِ ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ ))
الثياب ، إذا كان بنطاله مكويًا فهو لا يصلي حرصًا على كية البنطال ، فهو عبد البنطال ، هذا عبد للبنطال ، تعس عبد الدرهم والدينار ، تعس عبد الخميصة ، الثوب ، تعس عبد البطن ، تعس عبد الفرج ، هؤلاء كلهم تعسوا ، لكنّ المعنى المخالف ، وسعد عبد الله طبعًا و حقًّا .العاقل من يحاسب نفسه حساباً شديداً :
الآية دقيقة :
﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾
فالإنسان يحاسب نفسه حسابًا شديدًا ، التقوى ها هنا ، التقوى ها هنا ، ويشير إلى القلب ، ترك دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانين حجةً بعد الإسلام .أحد الأئمة التابعين كان يملك محلاًّ تجاريًّا تباع فيه ألبسة ، فذهب ليصلي الظهر ، فوضع ابن أخيه مكانه ، وكان هناك حلة بأربعمئة درهم ، وحلة بمئتين ، وحلة بمئة ، وهو خارج من المسجد رأى أعرابيًّا يحمل حلة من عنده ، فقال له : بكم اشتريتها ؟ قال له : بأربعمئة ، هي حلة المئتين ، فقال له : هذه ليست كذلك ، هذه سعرها أقل ، قال له : لا ، عندنا في بلدنا ثمنها خمسمئة ، فأنا اشتريتها وأنا راضٍ ، قال له : أنت لا تعرف ، فما زال صاحب المتجر يجر الشاري إلى متجره حتى أرجَعَ له المئتين الزائدة ، هذا هو المؤمن ، إذًا فنحن عندما نتعامل مع الله بهذه الطريقة ، بورع شديد ، بإنصاف ، بعدالة ، بصدق ، بأمانة ، فالمال يكون حلالاً مما يعني أنّ الطعام طيب ، واللهُ عز وجل يستجيب لنا إذا دعوناه ، قال له : يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ، ويقول العبد الآخرُ : يا رب ! يا رب ! ومأكله حرام ، ومشربه حرام ، وغُذِّيَ بالحرام ، فأنَّى يستجاب له ؟
المؤمن من يفكر بجواب لله عز وجل قبل أن يلقاه :
أيها الأخوة الكرام ؛ موضوع كسب الرزق موضوع خطير ، منه تُؤتَى ، وموضوع إنفاق المال موضوع خطير أيضًا ، منه تُؤتَى كذلك ، ويحشر الأغنياء أربع فرق يوم القيامة ، فريق جمع المال من حلال ، وأنفقه في حرام ، فيقال : خذوه إلى النار ، وفريق جمع المال من حلال ، وأنفقه في حرام ، والعكس فيقال : خذوه إلى النار ، والذي جمع المال من حرام وأنفقه في حرام ، طبعاً من باب أولى ، بقى الذي جمع المال من حلال وأنفقه في حلال ، فهذا يسأل ويحاسب ، لذلك :
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
والمؤمن عند كل حركة يفكر بجواب لله عز وجل ، و يُعِدُّه من الآن .