- محاضرات خارجية / ٠26ندوات مختلفة - تركيا
- /
- ٠3ندوات مختلفة - تركيا
مقدمة :
المذيع :
كلمتان متشابهتان خفيفتان عظيمتان، كلمتان يدور حولهما همّ الأمة كلها، كلمتان لطالما تحدث عنهما المصلحون، وأهل الكلام، وأهل العظة، وأهل البيان، نكون اليوم وإياكم مع رجل من رجالات الكلمة، مع رجل من رجالات المواقف، مع نجم من نجوم هذه الأمة وعلمائها، مع فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي..
vالدكتور محمد راتب النابلسي؛ ولد في دمشق من أسرة حظها من العِلم كثير، فقد كان والده عالماً من علماء دمشق، وكان يدرس في مساجد دمشق، حصل على ليسانس في آداب اللغة العربية وعلومها عام 1964، وقد أعطي شهادة الدكتوراه في التربية عام في ١٩٩٩، ألّف أو شارك في تأليف عدة كتب متعلقة باختصاصه، لا أريد أن أطيل عليكم، وأن أعكر صفو انتظاركم لهذا الدكتور الذي طالما انتظرنا كلماته فإليه مشكوراً جزاه الله خيراً مع آمال وآلام..
طلب العلم فرض على كل إنسان :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألوِيَتِه، وارضَ عنّا وعنهم يا ربّ العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وُحول الشهوات إلى جنّات القربات.
أيها الأخوة الكرام؛ من المسلمات أن الكائنات جماد كهذه الطاولة، لها وزن، ولها حجم، ولها أبعاد ثلاثة، ومن المكونات أيضاً النبات، لها وزن، وحجم، و أبعادٌ ثلاثة، إلا أنه ينمو، تميز عن الجماد بالنمو، أما الحيوان فله وزن، و له أبعادٌ ثلاثة، وينمو إلا أنه يتحرك، والإنسان كالجماد له وزن، وله أبعادٌ ثلاثة، وكالنبات ينمو وكبقية المخلوقات يتحرك، بماذا فضله الله؟ بقوة إدراكية أودعها فيه، هذه القوة الإدراكية التي يتميز بها الإنسان تلبى بطلب العلم، لذلك خيار أحدنا مع العلم ليس خيار وردة حمراء يتزين بها، خياره مع الهواء يتنفسه وإلا فقد حياته.
فلذلك أيها الأخوة الكرام؛ إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، إلا أن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظنّ أنه قد علم فقد جهل، طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً، بينما الجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً.
لذلك أيها الأخوة الكرام؛ الذي يؤكد إنسانيتك طلبك للعلم، خيارك مع العلم كالهواء أساس حياتك، لذلك أيها الأخوة؛ لا بد من طلب العلم، والله عز وجل أكرمنا بفكر نير، و تنزيل سماوي من عند الله عز وجل، أعطانا كل مقومات الهداية، أعطانا خصائص، أعطانا كوناً، أعطانا وحياً، أعطانا قرآناً، أعطانا سنة، لذلك أرجو الله عز وجل أن تكون هذه المقدمة القصيرة باعثاً على طلب العلم، لا تؤكد إنسانيتك إلا إذا طلبت العلم، ولا تسعد إلا إذا طلبت العلم.
إن الله يعطي الصحة، والذكاء، والمال، والجمال للكثيرين من خَلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين، يتمتع المؤمن بحالة من السكينة يسعد بها ولو فقد كل شيء، ويشقى بفقدها ولو ملك كل شيء، وما لم تقل: ليس على وجه الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أحد أتقى مني هناك مشكلة في الإيمان.
أيها الأخوة الكرام؛ أنت إذا عرفت الله عرفت كل شيء:
(( ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء ))
الاصطلاح مع الله و الإقبال عليه :
أيها الأخوة الكرام؛ النقطة الدقيقة أن الدعوة إلى الله نصوص، وأحياناً قصص، النصوص القرآن والسنة، وفي قصص الصالحين أيضاً دعم لهذه الحقائق بشكل عملي، فقد قيل للشيخ معروف الكرخي رحمه الله تعالى: كيف اصطلحت مع ربك؟ قال: بقبول موعظة ابن السماك رحمه الله، فعندما كنت ماراً بالكوفة، دخلت مسجداً لأصلي صلاة العصر، وبعد الصلاة وجدت رجلاً يعظ الناس، فقلت في نفسي: لأجلسن ولأستمع، وكانت عليه علامات الهيبة والوقار، فكان مما قال: من كان مع الله تارة وتارة- في تناوب- كان الله معه تارة وتارة، ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه، ومن أقبل على الله بكليته، أقبل الله سبحانه عليه بكامل رحمته، فإذا أردت رحمة الله فاتصل بالله.
فـلو شاهدت عيناك من حسننــــا الذي رأوه لما وليت عنــــــــــا لغـيرنـــا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنـــــــــــا
ولو ذقت مـن طعم المحبـــة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنـــــــــــا
ولو نسمت من قربنا لك نسمـة لمــــت غريباً واشتيـــــــــاقاً لقربنـــــــــــا
***
الحقيقة قال: هذا الرجل أدهشني كلامه، ووقع في قلبي حبه، وقلت: إن مكنني ربي لأفوزن بأعلاها، لماذا أنت في حقل الدين متواضع؟ لماذا في حقل الدنيا متفوق؟ متطلع إلى أعلى درجة؟ البطولة أن تكون في موضوع الدين متطلعاً إلى أعلى درجة، يقول هذا الرجل: فأقبلت على الله بكليتي- الحياة والموت والرزق كل ذلك في خدمة هذه الدعوة- فأقبل ربي عليَّ بواسع رحمته وعطائه..
ريح الجنة في الشباب :
أيها الأخوة الكرام؛ كل شيء بين أيديكم والله لا أغبط فئة عمرية في الحياة إلا الشباب، ريح الجنة في الشباب، إن الله يباهي الملائكة بالشاب التائب يقول: انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي، لكن لا بد من تحفظ، ما من شهوة أودعها الله في الإنسان - كلام دقيق، من لاستغراق أفراد ما سيأتي- ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها..
مثلاً لو تصورنا الشهوة صفيحة بنزين، سائل متفجر، دقق الآن إذا وضع في المستودع المحكم في السيارة، وسال في الأنابيب المحكمة، وانفجر في الوقت المناسب، والمكان المناسب، ولّد حركة نافعة قد تقلك في العيد إلى العقبة مثلاً، ماذا في السيارة؟ انفجارات، هذه الصفيحة نفسها إن صبت على المركبة، وأصابتها الشرارة، أحرقت المركبة ومن فيها، الشهوات إما أنها أكبر قوة دافعة، أو أنها أكبر قوة مدمرة، والشاب في أول حياته ما من عمر يحتاج إلى العلم كالشاب، لأنه إذا عرف الله بوقت مبكر - وأنا أغبط الشباب- شكّل حياته تشكيلاً إسلامياً، إذا شخص تأخر، شكل حياته تشكيلاً آخر، انتقاله من حال إلى حال صعب جداً، فكلما أقبلت على الله في سن مبكر جاء زواجك إسلامياً، وحرفتك إسلامية، وكل نشاطاتك إسلامية.
أنواع العلم :
الآن عَنْ عَبْدِ اللَّه بْن أَحْمَد بن حنبل أنه قَالَ: قلت لأبي: هل كان مع معروف الكرخي شيء من العلم؟ فقال لي: يا بني كان معه رأس العلم..
بالمناسبة هناك علمٌ بخلقه، فيزياء، كيمياء، رياضيات، فلك، جيولوجيا، أي الظواهر الأرضية الحياتية، علمُ بخلقه، وهناك علمٌ بأمره، الشريعة، الحلال والحرام، والفرائض، والواجبات، هناك علمٌ بخلقه، وعلم بأمره، العلم بخلقه وبأمره يحتاجان إلى مدارسة، تحتاج إلى جامعة، إلى أستاذ، إلى كتاب مقرر، إلى حضور، إلى استماع، إلى دراسة، إلى حفظ، هذه العملية سوف نسميها مدارسة، فالعلم بخلقه يحتاج إلى مدارسة، والعلم بأمره يحتاج إلى مدارسة كلية شريعة، أما العلم به فيحتاج إلى مجاهدة، قيل: جاهد تشاهد، لذلك إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلّما تنقضه الأيام إذا كان صادراً حقاً عن إرادة و إيمان..
في الشام عالم جليل ذكر قصة تأثرت بها كثيراً، في قرى الجنوب بمصر بالصعيد وهي تبعد ألف كيلو متر عن القاهرة، بيت متواضع، فيه إنسان فلاح، أرسل ابنه إلى الأزهر ليتعلم، بعد سبع سنوات عاد إلى القرية يحمل الشهادة، وعيّن خطيباً في قريته، فلما ألقى خطبة أمام أبيه الأمي، بكى الأب بكاء مراً، كل من حول الأب توهموا أنه بكى فرحاً بابنه الخطيب، والحقيقة خلاف ذلك، هو بكى أسفاً على جهله، وفي اليوم التالي - الرواية هكذا- ركب جحشته، واتجه نحو الجنوب، وبين صعيد مصر و القاهرة حوالي ألف كيلو متر، اتجه نحو القاهرة، وبقي يمشي شهراً إلى أن وصل إلى القاهرة، لما وصل إلى القاهرة، قال: أين الأزعر؟ لا يحفظ اسمه، قالوا له: ما الأزعر؟ قال: مكان التعلم، قال: اسمه الأزهر، النتيجة أوصلوه إلى الأزهر، وفي الخامسة والخمسين بدأ بتعلم القراءة والكتابة، ودخل الأزهر ونال الشهادة، وما مات إلا شيخ الأزهر، أعلى منصب ديني في مصر.
سوف أقول لكم هذه الكلمة: إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلّما تنقضه الأيام، إذا كان صادراً حقاً عن إرادة و إيمان، دليل قرآني قال تعالى:
﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾
أنا أضرب مثلاً لكنه حاد، إنسان مقيم في ألاسكا غير الثلج لا يوجد أمامه، خطر في باله سؤال: يا ترى هل هناك إله لهذا الكون؟ فقط لا يوجد عنده عمل في ألاسكا، وجد عملاً في كندا، التحق بالعمل، فرزوه إلى بلد خليجي سكن في بناء له جار داعية إسلامي، هو سأل في ألاسكا هل يوجد إله لهذا الكون؟ قال تعالى:
﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾
الله عز وجل ينتظرنا.. لذلك قال تعالى:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
قيل: القلب السليم هو القلب الذي لا يشتهي شهوة لا ترضي الله، و لا يصدق خبراً يتناقض مع وحي الله، ولا يعبد إلا الله، لذلك أصل الدين معرفته، هناك علمٌ بخلقه، علوم الأرض، وعلمٌ بأمره، علوم الشريعة، وعلمٌ به، عرف الله عز وجل ثمنه المجاهدة، جاهد تشاهد..
الإيمان بالله العظيم و تأدية حقه :
إبراهيم بن الأدهم رحمه الله، اجتمع الناس إليه وقالوا: يا أبا إسحاق مالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ كأن هذا العلم وضع يده على مشاكل المسلمين الآن، قال: لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء، الأول أنكم عرفتم الله فلم تؤدوا حقه، سؤال محرج؛ هل إبليس عرف الله؟
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ ﴾
نوع من المعرفة وهو إبليس اللعين، لكن دقق في الآية الكريمة:
﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ﴾
تحت العظيم أربعة خطوط، المطلوب أن تؤمن بالله العظيم، وكيف تؤمن بالله العظيم؟ عن طريق آياته، آياته الكونية والتكوينية والقرآنية، التكوينية تفكر، قال تعالى:
﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
والتكوينية نظر، قال تعالى:
﴿ قُل سيروا فِي الأَرضِ ثُمَّ انظُروا ﴾
والآية ثانية:
﴿ فَسيروا فِي الأَرضِ فَانظُروا ﴾
والقرآنية هي التفسير، أنت معك آيات كونية تفكر، آيات تكوينية أي أفعاله نظر، آيات قرآنية تدبر.
إنكم عرفتم الله فلم تؤدوا حقه، ادعيتم حب رسولكم فلم تعملوا بسنته، قرأتم القرآن فلم تعملوا به، للتقريب شخص مرض مرضاً شديداً، التهاب معدة حاد، لا ينام الليل، ذهب إلى الطبيب وصف له وصفة، هذه الوصفة قرأها قراءة رائعة هل يشفى؟ زينها هل يشفى؟ زخرفها هل يشفى؟ ما لم يشتر الدواء ويشربه لن يشفى، عندنا مليون نشاط إسلامي لكن ليس له علاقة بالاستقامة والالتزام، ممكن أن نعمل متاحف، قباباً، مساجد، أما العبرة:
(( ولن يُغْلَبَ اثنا عَشَرَ ألفا مِنْ قِلَّةٍ ))
وهذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، فإذا كنا سابقاً ملياراً وثمانمئة مليون، والآن تقريباً مليارين، إذا كنا مليارين وليست كلمتنا هي العليا، وليس أمرنا بيدنا، وللطرف الآخر علينا ألف سبيل وسبيل، هناك مشكلة كبيرة.
تعطل وعود الله عز وجل إن قصرنا في عبادته :
دقق الآن قال تعالى:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾
بربكم والحقيقة المُرّة أفضل ألف مَرّة من الوهم المريح، هل نحن الآن مستخلفون في الأرض؟ لا والله، قال تعالى:
﴿ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾
كلمة واحدة، قال تعالى:
﴿ يَعْبُدُونَنِي ﴾
فإذا قصرنا في عبادة الله جميع هذه الوعود معطلة أبداً، الأثر القدسي دقيق جداً، إذاً أكلتم نعمة الله ولم تؤدوا شكرها، قلتم: إن الشيطان لكم عدو فوافقتموه، قلتم: إن الجنة حق فلم تعملوا لها، إن النار حق لم تهربوا منها، الموت حق لم تستعدوا له، اشتغلتم بعيوب الناس وتركتم عيوبكم، يروى أن الإنسان قبل أن يموت ينادى: عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت.
إنسان من أغنياء مصر، من كبار أغنياء مصر، وافته المنية، وابنه قرأ الحديث، ماذا يفعل؟ فكر أن ينام إنسان مع أبيه في القبر أول ليلة فقط، وأغراه بمبلغ كبير فوافق- القصة رمزية طبعاً- جاء الملكان رأيا شخصين قال له: عجيب! اثنان، يبدو أن الحي قد خاف فتحرك، فقال له: هذا حي وليس بميت، بدؤوا به أجلسوه، من شدة فقره أحضر كيس خيش، فتحه من مكان من أجل رأسه، ومن الطرفين من أجل يديه، وربطه بحبل، من شدة فقره، لا يملك من الدنيا إلا هذا الكيس، وهذا الحبل، أيقظوه بدؤوا بالحبل من أين جئت بها؟ قال: من البستان، كيف دخلت إلى البستان؟ تلعثم، انهالوا عليه ضرباً حتى كادوا يقتلونه، بعد أن خرج قال: أعان الله والدكم، أنت فكر هل من الممكن أن تؤذي عباد الله وتنجو؟ تقتل مئات الألوف وتنجو؟ تستغل قوتك وتنفد؟ قال تعالى:
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
ذكاؤك ونجاحك وتفوقك أن تراقب الله، هذا العمل لا يرضي الله، هذا العمل يرضي الله.
الفلاح و النجاح :
أيها الأخوة الكرام؛ لا بد من أن نقف وقفة تاريخية في عالم الأزل، في هذا العالم عالم النفوس لم يكن هناك صور أبداً، بعالم الصور يوجد حصان، صقر، عصفور، إنسان، هذا عالم الصور، عالم الأزل قال تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ﴾
الإنسان عندما قبِل حمل الأمانة، كان المخلوق الأول عند الله، لأنه قبل حمل الأمانة المخلوق الأول، الأمانة أن يتسلم إدارة نفسه، والدليل قال تعالى:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾
هذه الأمانة، أي نفسه أمانة بين يديه، قد أفلح، ما الفلاح؟ الفلاح غير النجاح، قد تنجح بدرجات عالية جداً، اسمه نجاح، قد تنجح بجمع المال، غني، قد تنجح بذكاء سياسي تسلمت منصب رئيس وزارة، هذا نجاح أيضاً أما الفلاح فهو شيء آخر، الفلاح أن تنجح نجاحاً شمولياً، أن تنجح مع الله معرفة وطاعة وتقرباً، أن تنجح في بيتك، أن تنجح في عملك، أن تنجح في صحتك، هذا لم يعد نجاحاً صار فلاحاً، وبالقرآن يوجد آيات كثيرة قال تعالى:
﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
أنا أقول: بطولة الشاب أن يفكر بنجاحه مع الله أولاً، ومع أهله ثانياً، ومع عمله ثالثاً، ومع صحته رابعاً، وكل خلل بواحدة ينسحب على الثلاثة الباقية، عندما صار النجاح شمولياً انقلب إلى فلاح، ففي عالم الأزل قال تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ﴾
جاءت الآية:
﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾
يوجد آيات فيها استفهام، المعنى استفهام، قال تعالى:
﴿ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ﴾
هذا كلام نبي ليس ضالاً
﴿ فَعَلْتُهَا ﴾
لذلك الإنسان في عالم الأزل قبِل حمل الأمانة، فلما قبِل حمل الأمانة كان عند الله المخلوق الأول رتبة، قال تعالى:
﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ﴾
تسخير التعريف والتكريم.
تسخير كل شيء للإنسان تسخير تعريف و تكريم :
ما من شيء بين يديك إلا وهو مسخر لك تسخير تعريف وتكريم، من أين جاء هذا الكلام؟ نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الهلال فقال:
(( هِلالٌ خَيْرٍ وَرُشْدٍ ))
ننتفع بضوئه وبتقويمه وبالوقت نفسه يرشدنا إلى الله عز وجل، أي شيء أمامك كأس الماء هل تصدقون أن في هذا الكأس خاصة لولاها ما كان هذا المجلس، ولا كانت هذه البلدة، ولا كان الأردن، ولا كان الشرق الوسط، ولا العالم، هذا الماء مثل أي عنصر تسخنه يتمدد، تبرده ينكمش، إلا أنه يوجد استثناء، من عشر درجات إلى تسع، ثمان، سبع، ست، خمس، أربع، تنعكس الآية يزداد حجمه، الماء وحده من بين جميع العناصر في الأرض، لولا هذه الخاصة كلما تجمدت طبقة ماء في البحار تزداد كثافتها تغوص إلى أن تتجمد البحار بأكملها، ينعدم البخار، ينعدم المطر، يموت النبات، يموت الحيوان، يموت الإنسان، لولا هذه الخاصة ما كان هناك حياة، هل فكرت بهذا؟ ماذا أقول؟ أنت محاط بأشياء دقيقة جداً، تقول: شعرك، ثلاثمئة ألف شعرة، لكل شعرة شريان و وريد و عصب و عضلة و غدة دهنية وغدة صبغية.
تقول: القلب، دساماته، تقول: الدماغ، مئة و أربعون مليار خلية سمراء استنادية لم تعرف وظيفتها بعد، والله يا أخوان يا شباب لو تفكرتم في خلقكم في خلق الإنسان وحده لوصلتم إلى الله عز وجل.
التفكر أقوى عبادة في هذا الكون :
لذلك هذا الكون للتفكر قال تعالى:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
التفكر أكاد أقول أقوى عبادة، لأنه يضعك وجهاً لوجه أمام عظمة الله، وإذا وضعت أمام عظمة الله خشعت له، واستقمت على أمره، لذلك الإنسان عنده عقل، العقل ما غذاؤه؟ العلم، وعنده قلب، ما غذاؤه؟ الحب الذي يسمو به طبعاً، لا تفكر بشيء ثان، والجسم، ما غذاؤه أيضاً؟ الطعام والشراب الذي اشتري بمال حلال، إن غذيت عقلك بالعلم، وقلبك بالحب، وجسمك بالطعام والشارب تفوقت وحققت الهدف من وجودك، أما إذا اكتفيت بواحدة تطرفت، والفرق كبير جداً بين التفوق وبين التطرف.
أيها الأخوة الكرام؛ للتقريب أنت راكب دراجة وصلت إلى مكان صار أمامك طريقان، طريق هابط وطريق صاعد، ولراكب الدراجة أيهما أهون؟ الهابط، وإذا الهابط معبد، وفيه أشجار أفضل، و الصاعد فيه غبار وأكمات وحفر، لكن إذا أنت ثبت لك أن هذا الطريق الصاعد ينتهي بقصر منيف، هو لمن وصل إليه، وهذا الطريق الهابط ينتهي بحفرة ما لها من قرار، فيها وحوش كاسرة لم تأكل منذ أسبوع، ماذا تفعل؟ على الشبكية النازل أفضل أما بالعقل وهو الفرق بين الشبكية وبين الدماغ، التفكير الصحيح أن تختار الطريق الصاعد، لأن نهايته قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾
لذلك ورد في الحديث:
(( أَلا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ،...إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ ))
تراخي، يأكل ما يشاء، يفعل ما يشاء انتهى عند الله عز وجل.
كليات الدين :
1 ـ العقيدة :
أيها الأخوة الكرام؛ مرة كنت في أمريكا زرت معمل سيارات رقم واحد، جينرال موتورز، قال لي المرافق: هذه السيارة في ذلك الوقت - كاديلك - فيها ثلاثمئة ألف قطعة، لكن أنا كراكب سيارة لها غلاف معدني، ومقاعد، ومحرك، ومقود، وعجلات، من ألف قطعة إلى خمس قطع، إذاً هذا الدين فيه مليون موضوع لا أبالغ فيه مليون عالم، مليون كتاب، ممكن أضغط هذا الدين إلى كليات كبيرة؟
إليكم هذه الكليات، أول كلية العقيدة، إن صحت العقيدة صح العمل، أو المنطلق النظري، أو الأيديولوجيا، أو الفلسفة، كلها مثل بعضها الجانب العقدي في الإنسان، الجانب التصوري، الجانب الأيديولوجي إن صحت صح العمل، ألا يجب على الواحد منا أن يتفرغ لمعرفة سرّ وجوده وغاية وجوده؟ لمعرفة الله خالقه؟ لمعرفة الأنبياء والمرسلين؟ لمعرفة الرسول نبيه؟ شيء مهم جداً هذا الشيء الأساسي، لا بد من الوصول إلى حقائق أساسية في حياتنا، إذاً العقيدة رقم واحد، الفكر، المنطلق النظري، الأيديولوجيا، التصور، الفلسفة، كلها مثل بعضها، الجانب الفكري.
2 ـ الاستقامة :
الآن يوجد جانب ثان؛ الاستقامة، الحقيقة المرة أهون ألف مرة من الوهم المريح، ما لم تستقم على أمر الله لن تقطف من ثمار الدين شيئاً، تدين من دون استقامة، يقول لك: فولكلور إسلامي، القرآن قرئ في باريس على أنه فلكلور إسلامي، أو يقول لك: عادات، تقاليد، تراث إسلامي، أما الدين فهو منهج تفصيلي يبدأ من أخص خصوصيات الإنسان من العلاقات الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية، هذا المنهج، أما الصوم والصلاة والحج والزكاة فهذه عبادات شعائرية.
أريد أن أقول لأخواننا الشباب الكرام، هذه العبادات والله لا أبالغ لا وزن لها إن لم ترافقها استقامة، الدليل:
(( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ))
هذه الصلاة، الصيام:
(( مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ، فَليسَ للهِ حاجة فِي أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ))
انتهى الصيام، الحج: " من حج بمال حرام ووضع رجله في الركاب ونادى: لبيك اللهم لبيك، نودي أن لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك ".
الزكاة، قال تعالى:
﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾
أي لا يمكن أن تقبل عبادة شعائرية إلا مع الاستقامة، هذه أهم نقطة في هذا اللقاء الطيب، العبادات الشعائرية صلاة، صوم، حج، زكاة، شهادة، الآن الشهادة:
((من قال لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة، قيل: وما حقها؟ قال: أن تحجبه عن محارم الله))
ذكرت كل واحدة، والنص الذي يؤكد أن صحتها وقبولها مرتبط بالاستقامة هو قول سيدنا جعفر رضي الله عنه حينما سأله النجاشي عن الإسلام، فقال:
(( أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه فدعانا إلى الله لتوحيده، ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء...))
ذكر عشرين بنداً تقريباً، هذه العبادة التعاملية ...
إذاً عندك عبادة شعائرية؛ خمس عبادات، وعندك عبادة تعاملية، الأمر والنهي، هذه العبادات هي الأصل، إذا صحت صحت العبادة الشعائرية، العقيدة جانب، والاستقامة كأنها سلبية، ما كذبت، ما غششت، ما أكلت مالاً حراماً، الإيجابية العمل الصالح، علة وجودنا في الدنيا العمل الصالح، والدليل قال تعالى:
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِي* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا ﴾
العمل الصالح الذي يصلح للعرض على الله، ومتى يصلح؟ إذا كان خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة، أول كلية العقيدة، الفكر، التصور، الفلسفة، المنطلق العقدي، ثاني كلية الاستقامة ترك المعاصي والآثام.
3 ـ العمل الصالح :
الكلية الثالثة العمل الصالح، الإيجابية إنفاق المال، إنفاق العلم، إنفاق الخبرة، الجاه.
4 ـ الاتصال بالله :
والكلية الرابعة الاتصال بالله، هنا قال تعالى:
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾
و قال تعالى:
﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾
إن صليت ذكرت الله، فما معنى أن الله يذكره هنا؟ الآن دققوا، إذا ذكرك الله منحك نعمة الأمن، وهذه النعمة لا يتمتع بها إنسان على الإطلاق إلا إذا كان مؤمناً، والدليل قال تعالى:
﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ*الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
الآن صار معنا عقيدة، استقامة، عمل صالح، اتصال بالله، هذه كليات الدين، وأي وحدة إذا اختلت أثرت على الثلاثة الباقيات، كليات دينك عقيدة صحيحة، استقامة تامة، عمل صالح، اتصال بالله، هذه الكليات، كأن تقول: غلاف السيارة، العجلات، المحرك، البنزين.
سنن الله دفع و ردع :
أيها الأخوة الكرام؛ نحن عندنا حقيقة، كلمة قانون يقابلها في الإسلام سنة، جمع سنن، بعضهم قال: هناك سنن الدفع إلى الله، وسنن الردع، هم ثلاث بثلاث، أو أربع بأربع، أول شيء السنن، أي قوانين الدفع إلى الله، الهدى البياني، وأنت صحيح، لا يوجد عندك مشكلة إطلاقاً، سمعت محاضرة، ندوة، قرأت كتاباً، قرأت تفسيراً، تلقيت شيئاً علمياً، دينياً، هذه حالة راقية اسمها الهدى البياني، أنت صحيح لا يوجد عندك مشكلة إلا أنك تعلمت شيئاً في هذه الليلة؛ الهدى البياني، لذلك الموقف الكامل للهدى البياني، الاستجابة قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكم ﴾
هذا قرآن، وإذا الشخص لم يكن مهتدياً كان ميتاً، الدليل قال تعالى:
﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ﴾
قد يكون نبضه ثمانين – مثالي- ضغطه ثمان إحدى عشرة، لكنه عند الله ميت، أموات غير أحياء، الثانية قال تعالى:
﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ﴾
الثالثة قال تعالى:
﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾
الرابعة قال تعالى:
﴿ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ﴾
خيارك مع الدين خيار هواء تستنشقه، لا وردة تزين بها صدرك.
أيها الأخوة الكرام؛ صارت الهداية من الله، هناك هدى بياني و تأديب تربوي، تساق المصيبة كي تردك إلى الله، وأحياناً إكرام استدراجي إنسان غير دين، ولا يصلي، له دخل فلكي، أما الناجح بالتأديب التربوي فتسعون بالمئة، الناجحون بالإكرام الاستدراجي عشرة بالمئة، الإنسان بالشدة يكون أقرب إلى الله من الرخاء.
كنت مرة في أمريكا سألني شخص: ماذا شاهدت؟ قلت له: شاهدت شيئين، يعيشون لحظتهم، هذا المجتمع كله، شيء اسمه آخرة، موت، عقاب، برزخ، جنة، نار، لا يدخل في حساباتهم أبداً، وهمهم الرفاه، هذا العالم الآن، لذلك الردع يكون عن طريق المصائب.
مرة ثانية: الهدى البياني، التأديب التربوي، الإكرام الاستدراجي، لم يستجب لأي واحدة يأتي القصم، هذا سنن الدفع، أما الردع فهي المصائب.
مصائب الأنبياء مصائب كشف، ذهب للطائف مشياً على قدميه، مشى ثمانين كيلو متراً، يدعوهم إلى الدين، كذب، سخر منه، ضرب، جاء ملك الجبال وقال له:
(( إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ))
مصائب الأنبياء مصائب كشف، دقق للمؤمنين دفع ورفع، سرعته إلى الله بطيئة، بعد شبح مصيبة يصلي قيام الليل، بعد شبح مصيبة يبالغ في غض بصره، يبالغ في ضبط لسانه، للمؤمن دفع، وأحياناً الله أكرم مؤمناً بهداية صديقه، رفع، لماذا قبلت بواحد اقبل باثنين بثلاثة، المؤمنون دفع ورفع، الأنبياء كشف، أما غير المؤمنين فردع وقصم.
الهرم البشري زمرتان الأقوياء والأنبياء :
أيها الأخوة الكرام؛ يقع على رأس الهرم البشري زمرتان هم الأقوياء والأنبياء، الأقوياء ملكوا الرقاب، والأنبياء ملكوا القلوب، الأقوياء عاش الناس لهم، الأنبياء عاشوا للناس، الأقوياء يمدحون في حضرتهم، والأنبياء يمدحون في غيبتهم، و كل البشر تبع لقوي أو نبي، لذلك قال تعالى:
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى *وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى *وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾
متنوع، كم شخص الآن؟ مليار وثمانمئة سابقاً، الآن يوجد ملياران، وهناك عشرة مليارات في الأرض، كانوا سبعة مليارات، لا يوجد واحد إلا ويتحرك نحو هدف، الله عز وجل قال:
﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾
صدق أنه مخلوق للجنة، وبناءً على هذا التصديق اتقى أن يعصي الله، وبنى حياته على العطاء، الصنف الثاني:
﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾
كذب بالحسنى – بالجنة- آمن بالدنيا فاستغنى عن طاعة الله، بنى حياته على الأخذ، صنف يعيش ليأخذ، وصنف يعيش ليعطي، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا.
شيء آخر؛ كنت أقول كلمة في أمريكا: لو بلغت أعلى ثروة في العالم، وتسلمت أعلى منصب في الأرض، وارتقيت إلى أعلى درجة علمية، ولم يكن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الناس، لذلك كل إنسان يعتني بابنه، يعتني بنفسه، وأكبر مكافأة لك قال تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾
ألحقنا بهم أعمال ذريتهم.
شيء آخر؛ مهمتك الأولى أن تقيم هذا الدين في نفسك أولاً، وفي بيتك ثانياً، وفي عملك ثالثاً، وهنا تنتهي مسؤوليتك، أما إذا كنت تهتم بالناس فلك أجر، أما كمسؤولية أن تقيمه في بيتك وفي نفسك وفي عملك.
حاجة كل مؤمن إلى حاضنة إيمانية :
الآن يوجد سؤال يأتيني كثيراً: نسمع الدرس نتأثر كثيراً نرجع إلى البيت نصبح كما كنا، ما الحل؟ هذه جوابها دقيق جداً، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾
تحتاج إلى حاضنة إيمانية، رفيق مؤمن تسهر معه، عدد من الأخوة الصالحين تسهر معهم، والدليل:
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾
الجهاد أربعة مستويات :
آخر فقرة في هذا اللقاء الطيب كلمة جهاد متداولة كثيراً، أنا أرى أن الجهاد أربعة مستويات؛ المستوى الأول الأساسي جهاد النفس والهوى، بعض الآثار: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، جهاد النفس والهوى" والعاجز عن ضبط نفسه لا يستطيع أن يواجه نملة، هذه واحدة، وهناك جهاد ثان الجهاد البنائي، أنت لك عمل مهني تسهم في بناء الأمة، هذا جهاد أيضاً، اختصاص نادر بذلته لأمتك، لوطنك، وهناك جهاد دعوي، قال تعالى:
﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ﴾
وآخر شيء الجهاد القتالي، صار عندنا جهاد النفس والهوى، و الجهاد البنائي، و الجهاد الدعوي، و الجهاد القتالي، أرجو الله عز وجل أن يحفظ إيمانكم جميعاً، وأهلكم، ومن يلوذ بكم، وأن يلهمكم الصواب، وأن يجعل هذا البلد آمناً مستقراً وسائر بلاد المسلمين، والحمد لله رب العالمين، الفاتحة.
خاتمة و توديع :
المذيع :
نشكر فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي، هذا الحضور وهذا التألق وهذا العطاء جزاه الله عنا خير الجزاء، ونشكر لكم حضوركم.
لا يسعنا أيها الأحبة إلا أن نقدم الشكر لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي، وأدعو الشيخ بلال أسامة الرفاعي نجل شيخنا الشيخ أسامة الرفاعي ليتفضل مشكوراً لتقديم درع الشكر باسم مؤسسة الحضارة ومنتدى الشباب السوري لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي.