وضع داكن
07-03-2025
Logo
العقيدة الإسلامية - الدرس : 53 - الإيمان باليوم الآخر 9 - عالم البرزخ ما بعد الموت المرحلة الثانية من مراحل اليوم الآخر
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

عالم البرزخ هو المرحلة الثانية من مراحل اليوم الآخر وهي مرحلة ما بعد الموت:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثالث والخمسين من دروس العقيدة.

وصلنا في الدرس الماضي في موضوع اليوم الآخر إلى المرحلة الثانية من مراحل ما بعد الموت ألا وهي البرزخ، تحدثنا عن الساعة وهي نهاية الحياة الدنيا، واليوم الآخر وهو بداية الحياة الآخرة، وبين نهاية الحياة الدنيا وبداية الحياة الآخرة مرحلة انتقالية سماها القرآن الكريم: البرزخ، قال تعالى في سورة المؤمنون:

﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾

[ سورة المؤمنون  ]

نهاية الحياة ويوم البعث بينهما البرزخ، ففي هذه الآية تصريح بأن ما بين الموت وبين البعث مرحلة زمنية اسمها البرزخ.

 

أحوال البرزخ:

 

1 ـ نعيم مقيم أو عذاب أليم:

ماذا في البرزخ؟ في البرزخ نعيم مقيم أو عذاب أليم، أي إذا أصدر القاضي حكماً بالإعدام، ماذا بين إصدار الحكم وتنفيذ الحكم؟ هناك حالة من الشقاء النفسي، هذا الذي يصدر في حقه حكم بالإعدام إلى أن يُنفَّذ فيه الحكم يموت كل يوم ميتتين أو ثلاثًا، كلما وُضِع المفتاح في الباب يظن أنهم جاؤوا ليُنفِّذوا فيه حكم الإعدام، فهذه الفترة ما بين الموت وما بين البعث هي البرزخ إما نعيم أو عذاب أليم، ما الذي يؤكد أنها نعيم أو عذاب أليم؟ الآية التالية من سورة الجاثية وهي قوله تعالى:

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية ]

أي موت هذا ليس كموت هذا، ﴿سَوَاءً مَحْيَاهُمْ﴾ واضحة، حياة المؤمن غير حياة الكافر، في حياة المؤمن طمأنينة، في حياة المؤمن رضا، في حياة المؤمن استسلام، في حياة المؤمن توكّل، في حياة المؤمن تفويض، في حياة المؤمن تسليم، في حياة المؤمن سعادة، في حياة المؤمن شعور أن خالق الكون راض عنه، في حياة المؤمن تفاؤل، موعود بجنة عرضها السماوات والأرض، في حياة الكافر القلق، والقهر، والشعور بالحرمان، وخوف الفقر، أو خوف المرض، أو خوف المصيبة، فشتان بين حياة المؤمن وبين حياة الكافر، هذا لا شك فيه، هذا شيء نعرفه جميعاً ونعيشه، لكن الآية تشير إلى أنه بعد الموت هناك فرق كبير بين حياة المؤمن وبين حياة الكافر، والدليل: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ فالتسوية بين الفريقين المذكورين في الممات مستحيلة، إذاً ممات المؤمن شيء فيه نعيم، وممات الكافر فيه جحيم.

 

الأدلة الواردة من الكتاب والسنة على عذاب القبر ونعيمه:


آية أوضح من هذه الآية، يقول الله عزّ وجل في شأن آل فرعون في سورة غافر:

﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)﴾

[ سورة غافر ]

إذاً فرعون ومن معه منذ ستة آلاف عام وإلى يوم القيامة يُعرَضون على النار غدواً وعشياً، حتى الآن ستة آلاف عام اضربوها بثلاثمئة وخمسة وستين يوماً ثم اضربوا الناتج باثنين  عدد مرات عرض فرعون ومن معه على النار: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ هذه الآية أصلٌ في عذاب القبر، لذلك ربنا عزّ وجل قال:

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)﴾

[ سورة المدثر ]

أصحاب اليمين أنفسهم طليقة، بينما أهل النار أنفسهم رهينة أعمالهم، أحاديث للنبي عليه الصلاة والسلام كثيرة وصحيحة تؤيد عذاب القبر أو نعيم القبر،

(( فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ))

[ صحيح البخاري ]

الإنسان له مقعد بعد الموت، إما أن يكون هذا المقعد مقعد أهل الجنة، وإما أن يكون هذا المقعد مقعد أهل النّار، يجلس عليه إلى أن يبعثه الله يوم القيامة،

(( وعن عبد لله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: إِنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا هَذَا فَكَانَ لا يَسْتَنْزِهُ مِنْ بَوْلِهِ وَأَمَّا هَذَا فَإِنَّهُ كَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ. ))

[ صحيح البخاري ]

أي ما من شيء يُفتت العلاقات الاجتماعية، ويُفّرق بين الأهل، وبين الزوج وزوجته، والأخ وأخيه، والأب وابنه، والأم وابنتها مثل النميمة، وقد قيل: لعن الله من فرّق بين والدة وولدها، فأي تفريق بين متحابين، بين زوجين، بين أخوين، بين شريكين، بين جارين، بين موظفين، بين زميلين، التفريق بينهما جرم كبير عند الله عزّ وجل، لذلك النميمة هي السلاح الفعّال لتفكيك المجتمع، لذلك قال عليه الصلاة و السلام:

(( عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ. ))

[ أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح ]

واسم النمام أيضاً هو القتّات، في المناسبة الله سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)﴾

[ سورة الأنفال ]

ذات البين هي النفس، وذات البين ما بينك وبين الآخرين من علاقة، لك علاقة مع أبيك، لك علاقة مع أمك، لك علاقة مع زوجتك، مع أولادك، مع إخوتك، مع جيرانك، مع زبائنك، مع من هم فوقك، مع من هم دونك، مع جيرانك، كل هذه العلاقات الثنائية يجب أن تُصلح، يجب أن تصلحها، أن تكون مبنية على المحبة والوداد والإنصاف والعدل والحكمة والتروي والحلم والصبر، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ وفي معنى آخر، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ أصلح أنت كل علاقة بين اثنين، لست أنت أحدهما، أصلح بين أخويك، أصلح بين جيرانك، أصلح بين أولادك، أصلح بين بناتك، فالآية دقيقة جداً: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ .

فتلاحظون أن كل الذي ذكرته من تعريف البرزخ، ومن عذاب أهل الكفر في القبر، ومن نعيم أهل الجنة في القبر، هذا مؤكَّدٌ بآيات قرآنية وبأحاديث صحيحة رواها البخاري ومسلم.

 

هل عذاب القبر ونعيمه جسماني وروحاني معاً أي على النفس والبدن؟


أما كيف يكون العذاب؟ ما طبيعة العذاب؟ هل هو عذاب مادي؟ هل هو عذاب نفسي؟ هذا لا نعرف عنه شيئاً، لأننا في هذه الموضوعات ليس لنا إلا أن نؤمن بالخبر الصادق الذي ذكره الله عزّ وجل، وما سوى الخبر الصادق أي التحليلات، والزيادات، والإضافات هذا كله لا يُقدِّم ولا يؤخر، بل إن علماء العقيدة قالوا: أية زيادة في المُغيّبات عن الخبر النصّي هي زيادة ظنية، ليس لها مستوى اليقين.

لذلك كيف يكون العذاب؟ كيف يكون النعيم؟ هذه أمور غيّبها الله عنا، ولكن الشيء المُجدي أن يكون عملك صالحاً حتى تعرف معرفة يقينية بعد الموت كيف يكون النعيم، لكن أنا حتى أُقَرب لك الموضوع، أحياناً تؤوي إلى فراشك، وأنت في حالة عادية، ربما رأيت نفسك في الرؤيا في حالة سعيدة جداً، قد ترى رؤيا لا تحب أن تستيقظ من شدة السرور، تحسّ إن رأيت النبي عليه الصلاة والسلام فالسعادة التي تُحصّلها من هذه الرؤيا لا توصف، إن رأيت أصحاب رسول الله، إن رأيت من تحبهم مِن المؤمنين، إن رأيت نفسك قد وصلت إلى آمالك، إن الله عزّ وجل قادر على أن يسعدك سعادة ملموسة حقيقية لا توصف وأنت في فراشك، وبالمقابل الله سبحانه وتعالى قادر على أن يذوق الإنسان في أثناء النوم مِن ألوان العذاب، ومن ألوان الخوف، ومن ألوان الاضطهاد، ومن ألوان القلق ما لا سبيل إلى وصفه، يسمونها كوابيس، اللهُ عزّ وجل جعل النوم مثلاً لنا، كيف أنه يمكن أن يُعذَّب الإنسان عذاباً شديداً من دون أن يكون للجسد أثرٌ فيه، في النوم طبعاً، لكن عذاب الآخرة عذاب مادي قولاً واحداً وعذاب نفسي، عذاب مادي قال تعالى:

﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)﴾

[ سورة المؤمنون ]

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)﴾

[ سورة النساء ]

طبيعة العذاب في القبر، لم يرِد فيها نص قرآني يوضح طبيعة العذاب، العذاب موجود، والنعيم موجود، طبيعة العذاب وطبيعة النعيم تُترك إلى حينه. 

2- بيان سؤال منكر ونكير مع الدليل:

الآن يوجد عندنا شيء سؤال القبر من قِبَل الملكين المنكر والنكير، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الإنسان المُكلّف إذا مات جاءه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المُنكَر، ويقال للآخر: النكير، فيسألانه الأسئلة التالية: من ربك؟ قد يقول أحدكم: الجواب سهل، أقول: الله ربي، ما دينك؟ الإسلام ديني، ماذا تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم أي سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؟ هو نبي الرحمة، هو نبي، ولكن الحقيقة هذه اللغة التي تستخدمها في الدنيا لا تستطيع أن تستخدمها في القبر، أنت في القبر لا تنطق إلا بلغة الحال، فمَن كان دينه الدرهم والدينار في الدنيا، إذا سُئل: ما دينك؟ يقول: الدرهم والدينار، والذي كان دينه في الدنيا الشهوات إذا سُئل؟ يقول: النساء، والذي كان دينه الإفساد بين الناس إذا سُئل؟ يقول: ديني الإفساد بين الناس، لذلك ليس هناك كذب في الآخرة، الكذب في الدنيا، أي طبيعة اليوم الآخر لا تحتمل تزييف الحقائق، ولا تغيير الحقائق، قال تعالى:

﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)﴾

[ سورة يس  ]

إذاً من ربك؟ الله ربي، كأن الله عز وجل سرّب لنا، الأسئلة التي سوف نُسأل عنها في القبر، هذه الأسئلة عرفناها في الوقت المناسب، عرفنا السؤال في أول العام الدراسي، ما قولكم؟ هذه الأسئلة حضِّروا عنها إجابات دقيقة وصادقة.

لذلك أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن تدركه الوفاة طلب قميص النبي عليه الصلاة والسلام ليُكفَّن به، فقالوا: لِمَ طلبت هذا القميص؟ قال: إذا قال لي الملكان: من ربك؟ أقول: الله ربي، ما دينك؟ الإسلام ديني، ما تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ أقول: هذا قميصه، انتهت، لكن بعض المنافقين الذين كانوا يجلسون إلى جنب النبي عليه الصلاة والسلام، وكانوا رأس الفتنة في المدينة، حينما جاءتهم المنية قال عليه الصلاة والسلام: الآن استقر في جهنم حجر كان يهوي فيه سبعين خريفاً، وقد طلبوا قميص النبي، وأعطاهم النبي قميصه، وقال: ما يغنيهم قميصي من عذاب الله، أي كن موضوعياً، تعلَّق بجوهر الدين، لو أنك ارتديت قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن في المستوى المطلوب ما نفعك هذا القميص. 

أما المؤمن فيجيب عليها بما آمن به في الدنيا مِن حق، فيُعرَض عليه مقعده من الجنة، بعد أن يُعرَض عليه مقعده من النار لو لم يكن قد مات مؤمناً، وذلك تطميناً لقلبه، وتنعيماً له، ويُفسح له مدّ نظره، أي القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران، وأما المنافق والكافر فيقول: هاء، هاء، لا أدري، فيُقال له: لا دريت ولا تليت، ويُضرب بمطارق من حديد، يصيح منها صيحة يسمعها مَن يليه غير الثقلين، أي يسمع صيحته مَن يليه من الملائكة والموتى غير الإنس والجن، كما يُضيَّق عليه تعذيباً له، يختلط عليه القبر حتى تختلط أضلاعه معه،

(( فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ. ))

[ ابن حبان في صحيحه ]

أي الإنسان بعد الموت يرى كل شيء، ويسمع كل شيء، أنا أعتقد أن روح الميت تُرفرف فوق النعش، ترى المشيعين واحداً واحداً، ترى مَن يبكي، ومن لا يبكي، ترى من يعلن عن حزنه، ومن لا يُعلن، ترى أن فلانًا وفلانًا كانا يتحادثان في الجنازة، سيدنا سعد رضي الله عنه قال: ثلاثة أنا فيهن رجل وفيما سوى ذلك فأنا واحد من الناس، ما مشيت في جنازة فحدثت نفسي بغير ما تقول ، معنى ذلك أن الجنازة تقول: يا أهلي! يا ولدي! لا تلعبنّ بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حلّ وحَرُم، فأنفقته في حله، وفي غير حله، فالهناء لكم، والتبعة علي،

(( قال أصحاب النبي عليه الصلاة السلام عقِب معركة بدر الكبرى، وقد توجّه إلى قتلى بدر يخاطبهم: يا عتبة بن شيبة، بأسمائهم، يا أمية بن خلف، يا فلان، يا فلان، يا فلان، هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً؟ لقد كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، دُهش أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تُكَلِّمُ قَوْمًا جَيَّفُوا؟ فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَفْهَمَ لِقَوْلِي مِنْهُمْ أَوْ لَهُمْ أَفْهَمُ لِقَوْلِي مِنْكُمْ. ))

[ أخرجهما البخاري ومسلم عن عائشة في الصحيح ]

لستم أنتم وأنتم أحياء أشدّ استماعاً لي من هؤلاء الموتى، لذلك

(( عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الـرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: لا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلا الثَّقَلَيْنِ. ))

[ ابن حبان في صحيحه ]

وقد حدثتكم من قبــل عن أن أول ليلـة يُوضع الميت فيها في قبره هي أصعب ليلة، تصور إنسانًا يسكن في بيت، ينام على فراش وثير، عليه مِلاءة بيضاء ناصعة كالثلج، وقد تكون معطرة أحياناً، يجلس إلى طاولة ليتناول الطعام، على هذه الطاولة ما لذّ وطاب، حوله زوجته، أولاده، قد يأتيه ضيف يُعظّمه، ويُبجّله، قد يُدعى إلى سهرة، إلى ندوة، إلى نزهة، فما قولكم إذا سُحب هذا الرجل ليوضع في حفرة لا نور ولا دفء ولا اتساع فيها؟ لذلك الإنسان حينما يُوضع في قبره أول ليلة، يقول الله عزّ وجل: عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت.

المفروض أنك صائر إلى الله عزّ وجل، فالمفروض أن تُحَسِّن علاقتك به منذ الآن، الناس الآن إذا كان علاقته مع إنسان مهم لا يعرفه سابقاً يضطر يعمل معه علاقة طيبة يُعَرّفه على نفسه، أي يعمل عملاً طيباً، يُقدم له عملاً يُلفت نظره، في الدنيا، أي دائرة صغيرة، راح مدير جاء مدير، تجد سبحان الله! لو يجهد الناس لإرضاء ربهم كما يجهدون لإرضاء بعضهم بعضاً لنجوا من عذاب الدنيا والآخرة، ولسعدوا في الدنيا والآخرة.

وجاء في حديث آخر أخرجه الترمذي

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَوْ قَالَ أَحَدُكُمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لأحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ وَالآخَرُ النَّكِيرُ، فَيَقُولانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ ))

[ أخرجه الترمذي عن أبي هريرة في سننه : حسن ]

هناك قصة رمزية أن إنسانًا غنيًا كبيراً وافته المنية، وخاف أولاده من هذه الليلة الأولى التي يُوضع فيها في القبر، فرأوا إنساناً فقيراً مُعدماً، عرضوا عليه أن ينام هذه الليلة مع أبيهم، ويعطونه مبلغاً كبيراً، وهذا فقير مدقع، محروم، بائس، رضي معهم، هي قصة رمزية، فجلس أو نام إلى جنب هذا الميت الغني، جاء الملَكان رأوا منظراً غريباً، وجدوا اثنين، بالعادة يُدفَن واحد في القبر، والآن يوجد اثنان، فارتعب هذا الرجل فحرّك قدمه، فقال: عجيب حيّ أيضاً هذا، تعال نبدأ به، أجلساه، كان له حبل قد ربط ثوبه المهترئ بها، فسألاه: مِن أين لك هذا الحبل؟ فقال: وجدتها، أين وجدتها؟ قال: في بستان، كيف دخلت إلى هذا البستان؟ ماذا أكلت من هذا البستان؟ استأذنت من صاحب البستان؟ سؤال وراء سؤال ثم انهالوا عليه ضرباً، فلما جاء الصباح خرج من هذا القبر وهو لا يلوي على شي، ويقول: أعان الله أباكم.

فلذلك موضوع عذاب القبر شيء مخيف: ((إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَوْ قَالَ أَحَدُكُمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لأحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ وَالآخَرُ النَّكِيرُ)) وهو حديث طويل، وفي حديث آخر أخرجه البخاري ومسلم

(( عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ. ))

[ أخرجهما البخاري ومسلم  ]

يُقال من ربك؟ فيقول: الله ربي، ومحمد عليه الصلاة والسلام نبيي، والأحاديث في هذا الباب متعددة يُكمِّل بعضها بعضاً، على كل الأسئلة معروفة، الأسئلة قد سرِّبت إلينا، ما علينا إلا أن نُعِدّ العدة للإجابة عن هذه الأسئلة، والإجابة لا تكون باللسان بل بلسان الحال. 

2- للنفخ في الصور حالتان: 

1- النفخة الأولى:

ثالثاً: هنالك النفخة الأولى، والنفخة الثانية، كل هذه الحقائق، وكل هذه المعلومات مأخوذة من كتاب الله سبحانه وتعالى، لقد أخبرنا الله تعالى بأنه ستحدث نفختان في الصور، وعندها تكون ساعة إنهاء النظام القائم في الحياة الأولى، وقد جاء التعبير عن وقت هذا الإنهاء بالساعة، يوجد عندنا أول نفخة تنتهي بها الحياة الدنيا، ويُصعق كل مَن عليها، لو فرضنا فرضاً أتى يوم القيامة، والناس في بيوتهم، وفي الشوارع، وفي الطرقات، وفي محلاتهم التجارية، وفي النزهات، وفي المصايف، وبعضهم على البحر، وآخرون على الجبل، وأناس يعملون سهرات، كيف يموتون؟ يموت الناس كلهم دفعة واحدة بهذه النفخة الأولى، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)﴾

[ سورة الحج ]

أي ما من عاطفة على وجه الأرض أشدّ وأبلغ من عاطفة الأم على ابنها، ولا تكون هذه العاطفة في أعلى درجاتها إلا في أثناء الإرضاع، لم يقل الله عزّ وجل: يوم تذهل كل مرضع، لو قال الله عز وجل: يوم تذهل كل مرضع، المرأة المرضع التي هي في طور الإرضاع، أي بعد أن تولد خلال سنتين ثدياها يدران الحليب، نقول: هذه امرأة مُرضع، لأن كل صفة خاصة بالنساء لا تؤنث، تقول: معلم ومعلمة، لماذا تؤنث معلم؟ لأن في الحياة معلماً ومعلمة، عامل وعاملة، حامل وحاملة، ما دامت الصفة يمكن أن يشترك بها الذكر والأنثى تؤنث عندئذٍ، أما إذا انفردت الأنثى بصفة ما فهذه الصفة لا تُؤنث، تقول: امرأة بكر، وامرأة ثيب، وامرأة طالق، وامرأة حامل، فكل صفة خاصة بالنساء لا تؤنث، تُذكَّر، أما الفرق بين امرأة حاملة وامرأة حامل فرق دقيق، الرجل يحمل مع المرأة، فإذا قلت: امرأة حاملة، أي على ظهرها، وإذا قلت: امرأة حامل، أيْ في بطنها، هذه التاء المربوطة، إذا قلت: امرأة حاملة، أي على ظهرها، إذا قلت، امرأة حامل أي في بطنها، ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ﴾ هي في الأساس مرضع، بل لأن المرأة الآن تحمل هذا الغلام، وتضعه على صدرها، وهذا بإمكانه أن يفعله الرجل، إذاً: هذه مرضعة، أي الأم في أثناء إرضاع ابنها لشدة الخوف والهول تلقيه ولا تلقي له بالاً: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ هذه النفخة الأولى نفخة الصعق التي تُنهي الحياة على وجه الأرض. 

2- النفخة الثانية:

أما النفخة الثانية وهي نفخة البعث إلى الحياة بعد الموت، وقد جاء التعبير عن الوقت الذي يحدث فيه البعث العام إلى الحياة بعد الموت بالساعة قال تعالى:

﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)﴾

[ سورة الروم ]

لدينا في هذه الجملة لون بلاغي اسمه: الجناس، الجناس: تشابه كلمتين في اللفظ، واختلافهما في المعنى، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ يقيني بالله يقيني، هذا جناس، أي يقيني بالله أي إيماني بالله يحفظني، المرء تحت طي لسانه لا تحت طيلسانه، هذا جناس، ويدل على حدوث هاتين النفختين قوله تعالى في سورة النازعات:

﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)﴾

[ سورة النازعات ]

نفختان، وعن ابن عباس قال: الراجفة النفخة الأولى، والرادفة النفخة الثانية، وقوله تعالى في سورة الزمر:

﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)﴾

[ سورة الزمر ]

﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ هذه الأولى، واضحة كالشمس، نفختان، الأولى يصعق لها من في السماوات والأرض، والثانية: ﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ وهذه النفخة جاءت تسميتها في القرآن بالناقور، قال تعالى:

﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)﴾

[ سورة المدثر ]

وقد ورد أن الملك المُوكّل بنفخ الصور تنفيذاً لأمر الله هو إسرافيل عليه السلام، كما سبق ذلك في مبحث الإيمان بالملائكة، قال تعالى:

﴿ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)﴾

[ سورة النمل ]

﴿إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ استثناءهم من الموت بهذه النفخة لأن الله يتولى قبض أرواحهم بدون نفخة الصور كإسرافيل الموكل بنفخه، طبعاً: ﴿إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ الموكل بهذه النفخة يميته الله عزّ وجل مباشرة، حتى ملك الموت يقول له: مُت يا ملك الموت، من دون نفخة، ﴿إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ وبالنفخة الثانية يبعث الله الناس إلى الحياة الثانية ليَتِم فيها نظام الجزاء الأكمل بالثواب أو بالعقاب.

 

وضع الكون بعد البعث:


أما وضع الكون بعد البعث فقد جاء وصفه في قوله تعالى في سورة إبراهيم:

﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)﴾

[ سورة إبراهيم ]

البطولة أن تكون في هذا الموقف مع الفائزين، أو مع الناجين، أو مع الناجحين.

وفي درس قادم إن شاء الله تعالى نتابع الحديث عن البعث واليوم الآخر، نتحدث عن الدنيا والآخرة، وعن أن البعث ممكن عقلاً، وعن أن البعث حقيقة لا شك فيها، وعن الحياة في اليوم الآخر، حياة مرافقة للتجسد المادي، إلى ما هنالك من بحوث في الإيمان باليوم الآخر.


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور