وضع داكن
23-02-2025
Logo
العقيدة الإسلامية - الدرس : 47 - الإيمان باليوم الآخر 5- أنواع النعم والمصائب
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

الجزاء الرباني منه ما هو مُعجّل ومنه ما هو مؤجل فمن المعجل للمحسن:

 

1- النصر والتأييد في الدنيا للمؤمنين:

أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السابع والأربعين من دروس العقيدة.
وصلنا في الدرس الماضي إلى الحديث عن بعض القوانين أو السنن التي سنّها الله سبحانه وتعالى فيما يتعلق باليوم الآخر، وكنت قد بيَّنتُ لكم من قَبل أن الإيمان باليوم الآخر يأتي في الأهمية بالدرجة الثانية بعد الإيمان بالله، في أكثر آيات القرآن الكريم ذَكَرَ الله عزّ وجل الإيمان بالله ثم ذكر الإيمان باليوم الآخر، لذلك لا زلنا في الحديث عن بعض القوانين المتعلقة باليوم الآخر.
تحدثنا في الدرس الماضي عن أن أدنى الجزاء على الحسنة عشرة أمثالها وأعلى الجزاء على السيئة مثلها، وهذا تفضّل إلهي عظيم، كأن الله سبحانه وتعالى يحب أن نربح عليه، الحسنة بعشرة أمثالها كحدّ أدنى، والسيئة كحدّ أقصى يُجازى الإنسان بمثلها، هذا إن لم يكن هناك تفضّل بالعفو عنها بعد التوبة.
الآن هناك مِن الجزاء ما هو مُعجّل، وهناك من الجزاء ما هو مُؤجَّل، وهذا موضوع دقيق جداً، لأن بعض الناس قد يتساءلون: ما لفلانٍ يزداد قوة وغنى مع أنـــه غارق في المعاصي؟ وما لِفلان يعاني الأمَرّيْن مع أنه مستقيم على أمر الله؟ الحقيقة الجزاء الرباني الذي هو أحد قوانين الحياة، الجزاء الرباني منه ما هو مُعجّل، ومنه ما هو مُؤجّل، فلو تتبعنا آيات القرآن الكريم لوجدنا أن الجزاء على الحسنة منه ما هو مُعجّل، وأن الجزاء على السيئة منه ما هو مُعجّل أيضاً ومنه ما هو مؤجّل.
فالجزاء بالثواب والجزاء بالعقاب قد يُعجّل تحقيقه أو تحقيق قسم منه، فيتم في الدنيا، وقد يُؤجّل تحقيقه أو تحقيق قسم منه إلى الدار الآخرة، ونصوص القرآن الكريم وأحاديث النبي الكريم تؤكد هذه الحقيقة، فمن الجزاء المُعجّل في الدنيا أنواع كثيرة، من الرغائب المادية والمعنوية التي يَحْبُوها الله للمحسنين، مِن هذا الجزاء المُعجّل النصرُ في الدنيا، والتأييد، والعز، والسؤدد، قال سبحانه:

﴿ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)﴾

[ سورة الصف ]

﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)﴾

[ سورة الفتح ]

لا شك أن الإنسان المؤمن حينما ينتصر في الدنيا على أعدائه يحسّ بسعادة لا توصف، وربنا سبحانه وتعالى ذكر هذا فقال: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ فمِن الجزاء المُعجّل في الدنيا على الأعمال الصالحة أنّ الله عزّ وجل يرفع شأن الإنسان في الدنيا فيُعزّه، وإذا أعزّك الله عزّ وجل فلا أحد في الأرض يستطيع أن يُذلّك، سبحانك إنهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، قال تعالى:

﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)﴾

[ سورة فاطر ]

اجعلْ لربك كــل عِزّك يستقر ويثبـتُ            فإذا اعتززت بمَن يموت فإنّ عزك ميتُ

[ الشافعي ]

* * *

﴿ ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)﴾ ﴾

[ سورة الإسراء ]

إذا ربطت نفسك بالحق فأنت مع الحق، وأنت مع الحقّ العزيز، وإذا نصرك الله عزّ وجل ينصرك نصراً عزيزاً، أي لا مِنّةَ لأحد فيه عليك، فمن الجزاء المُعجّل في الدنيا النصر، والتأييد، والعز، والسؤدد، قال تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)﴾

[ سورة الحج  ]

﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)﴾

[ سورة آل عمران ]  

 

الصفحة المشرقة من الأنبياء والصحابة دليل على صدق الله في تنفيذ وعده:


سيدنا يوسف أعزّه الله في الدنيا فصار عزيز مصر، رأته جارية تعرفه عبداً في موكبه الملكي قالت: سبحان من جعل العبيد ملوكاً بطاعته.
سيدنا عمر قال: كنت عُميرًا، فأصبحت عمرَ، فأصبحت أمير المؤمنين. 
سيدنا عمر بن عبد العزيز قال: تاقت نفسي للإمارة فلما بلغتها تاقت نفسي للخلافة فلما بلغتها تاقت نفسي إلى الجنة.
أي لست مُستبعداً إذا أخلصت لله عزّ وجل، واعتمدت عليه، واستقمت على أمره، وبذلت من أجله، وفعلت كل ما تملك من أجل رضاه، أن يرفع الله شأنك في الدنيا قبل الآخرة، وأن ينصرك على أعدائك، وأن يؤيدك بنصره، وأن يجعل القلوب تميل إليك، ما أقبلَ عبد على الله عزّ وجل إلا جعل قلوبَ المؤمنين تهفو إليه بالمحبة، وهذا مصداقُ قول الله عزّ وجل مخاطباً سيدنا موسى:

﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)﴾

[ سورة طه ]

إذا ألقى الله عليك محبة منه أحبك الخلق كلهم، فإذا ألقى الله على إنسان البغضاء أبغضه أقرب الناس إليه، لذلك الكلمة الشهيرة: إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ سيدنا هود قال:

﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾

[ سورة هود ]

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)﴾

[ سورة مريم ]

هذه المودة التي تنشأ بين العبد وبين ربه لا يعرف طعمها إلا من ذاقها، لو أنه نشأت لك مودة مع بعض الخلق ممن لهم شأن وقيمة ما وسعك بيتك، ما وسعتك مدينتك، لا تفتأ تذكر ذلك للناس جميعاً، وتبرز لهم الصور، سهرت معه، دعاني إلى طعام العشاء عنده، فكيف إذا كانت لك مع الله مودة؟! مع خالق الكون، لذلك من الجزاء المعجّل في الدنيا النصر، والتأييد، والعز، والسؤدد. 

2- الشعور بالسعادة والطمأنينة:

من الجزاء المُعجّل في الدنيا الشعور بالسعادة والطمأنينة، إن الله يعطي الصحة، والذكاء، والمال، والجمال للكثيرين مِن خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين، تكون معه وتشقى؟ معاذ الله عزّ وجل، تستقيم على أمره وتقلق؟ تطيعه وتحزن؟ القرآن الكريم مَن قرأه انتفى مِن قلبه الحزن، قيل: لا يحزن قارئ القرآن، لماذا الحزن؟ أتخشى الفقر وأنت عبد الغني؟ أتخشى أن تُخذل وأنت عبد القوي؟ أتخشى أن تشقى وأنت عبدُ مَن بيده ملكوت كل شيء؟ إذاً أول جزاء معجل النصر والتأييد والعز والسؤدد، والجزاء الآخر في الدنيا السعادة والطمأنينة، لذلك في قلب المؤمن من السعادة ما لو وزّعت على أهل بلدٍ لكفتهم، قال تعالى:

﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)﴾

[ سورة الفتح ]

ألا تقولون أنتم في صلواتكم على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: اللهم صلّ على أسعدنا محمد، إنه أسعد الخلق قاطبة، فإذا كنت على دربه، إذا اقتفيت أثره لابد من أن تسعد معه. 

3- الشعور بلذة العلم:

من هذا الجزاء المُعجّل اللذة التي يشعر بها المؤمن حينما يعرف شيئاً جديداً عن الله عزّ وجل، لذة المعرفة لا يعرفها إلا العارفون، قد تقول وأنت صادق: لو مُلّكت الأرض كلها لا يَعدُل هذا عندي فَهمَ آية من كتاب الله، كلما ارتقيت في العلم درجة شعرت بسعادة لا توصف، فمن الجزاء المُعجّل نعمة العلم، قال تعالى:

﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)﴾

[ سورة الزُمر ]

حتى إن بعض العلماء قالوا: إن الله عزّ وجل يَخصُّ الأنبياء بالمعجزات، ويخصّ الأولياء بالكرامات، وِمن أبرز الكرامات العلم والحكمة، كرامة العلم والحكمة لا تحتاج إلى خرق العادات، إنها وفق العادات، وفق السنن. 

4- البركة في الوقت والمال:

مِن هذا الجزاء المُعجّل في الدنيا البركة في الوقت والمال، من أخّر الصلاة عن وقتها أذهب الله البركة من عمره. 
سبحان الله! المؤمن يباركُ الله سبحانه وتعالى في وقته، سمعت عن بعض العلماء العارفين بالله بعد وفاتهم أُحْصِيت كتبهم المؤلفة، مجموع كتبهم مئتان وثلاثون كتاباً، جمعت صفحاتها وقُسّمت على أيام حياته منذ ولادتهم فكان نصيب كل يوم تسعين صفحة، هذا العالم العارف بالله الذي عاش حياة مديدة ترك مئتين وثلاثين مُؤلّفاً، قُسّمت صفحات مؤلفاته على أيام حياته منذ أن وُلِد فكان نصيب كل يوم تسعين صفحة، من منا بإمكانه اليوم أن يقرأ تسعين صفحة؟ ذلك ألّفها، كتبها، ألّفها تأليفاً كاملاً، كُتب بعلوم محددة، أبواب، فصول، حقائق، دراسات، لذلك البركة في الوقت لا يعرفها إلا من أدركها، وكذلك البركة في المال، المال الذي يتفضّل الله به عليك يُبَارك لك فيه، تسكن، تتزوج، تأكل، تشرب، ترتدي ثياباً جديدة، تُزوِّج أولادك جميعاً بمالٍ قد يبدو قليلاً، وقد يأتي إنسان حصّل المال من الحرام تأتيه مئات الملايين، وتذهب من حيث جاءت من دون أن يستفيد منها. 

5- البركة في الزوجة والولد:

البركة في الوقت والمال والبركة في الزوجة والولد، أي يتزوج فيبارك الله له في زوجته، وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا دُعِي إلى عقد قران كان من دعائه الشريف:

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: تَزَوَّجَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ فَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدًا وَكَانَ يُحِبُّهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَبِتُّمَا عَرُوسَيْنِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِكُمَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا. ))

[ تخريج المسند لشعيب: صحيح ]

فالدعاء بالبركة أي هذه الزوجة الذي اقترنت بها يُبَارك لك فيها، تسعد بها، قال لي بعضهم: البيت قطعة من الجحيم، كل يوم يوجد مشكلة، لأن البيت إذا بُنِي على طاعة الله عزّ وجل تولّى الله التوفيق بين الزوجين، وإذا بُنِي على معصية الله عزّ وجل تولّى الشيطان التفريق بينهما، مشكلات، خصومات، مُشاحنات، تحديات، سباب، شتائم، كلام قاس، نفور، بغضاء، تنتهي بالطلاق، وتشريد الأولاد، فهذا المحسن يُبَارك الله في ماله، وفي وقته، وفي زوجته، وفي أولاده، بين أن يكون لك ولد بار يرعاك إذا كبرت وبين أن يكون لك ولد عاقّ يقسو عليك وأنت في أوج قوتك فكيف إذا ضَعُفت سنك؟ فالولد قد يكون بلاء مِن الله عزّ وجل، ومن علامات قيام الساعة أن يكون المطر قيظاً، والولد غيظاً، ويفيض اللئام فيضاً، ويغيض الكرام غيضاً.
قال: يا فلانة إن في خُلقي سوءاً، خطب إنسان امرأة صالحة أراد ألا يَغُشُّها فقال: إن في خُلقي سوءاً، فقالت: إن أسوأ خلقاً منك من حاجك لسوء الخلق، هذا الذي يحوجك إلى سوء الخلق أسوأ خلقاً منك، بين أنْ تسعد بزوجة، وبأولاد، وبمال، وبوقت، وبين أن يذهب الوقت فلا بركة فيه.
أحياناً -كلكم يعلم ذلك-حينما تبذل وقتاً مِن وقتك الثمين في حضور مجالس العلم يُبَارك لك الله في وقتك، كيف؟ الله سبحانه وتعالى بثانية ترتكب حادثاً يقتضي سبعين أو ثمانين ساعة تصليح سيارة، من مكان إلى مكان، تبحث عن القِطَع، وعن الحاجات، وهنا مفقودة ووجدتها ولم تجدها، وبين أول وجه معجون وثاني وجه وثالث وجه، وبخ، واذهب، وارجع، سبعون ثمانون ساعة تستهلكهم بلا جدوى، لأنك ضننت على ربك بمجلس علم واحد.
أحياناً يمرض الطفل الصغير فيقتضي سهراً طويلاً، ساعات طويلة، انتظار عند الأطباء ست ساعات، البحث عن الحاجات، فلذلك الإنسان حينما يقتطع جزءاً من وقته الثمين لحضور مجالس العلم يُبارِك الله له في وقته، فلا يذهب وقته سدى، ولا يُستهلك وقته استهلاكاً رخيصاً، إذا اسْتُهْلِك الوقت استهلاكاً رخيصاً أولاً ضاع الوقت، وثانياً توترت الأعصاب، وارتفع الضغط، هذا كله مِن ذهاب بركة الوقت، كيف أنّك تُزكي عن مالك بدفع مبلغ من المال، قال بعض العلماء: زكاة الوقت أن تقتطع منه وقتاً لطاعة الله، لعبادة الله، لمعرفة الله، للأمر بالمعروف، للنهي عن المنكر.
ومنها التوفيق أي كم مِن مشروع ضخم باء بالفشل؟ بعد ثلاث سنوات خسارة ثمانمئة ألف، يا ضيعة الوقت، يا ضيعة المال، فالتوفيق، الإنسان أحياناً يبدأ بمشروع صغير ينمو وينمو وينمو، وهذا من علامات التوفيق، والآية الكريمة:

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)﴾

[ سورة هود ]

بمعنى أن إنساناً ما على وجه الأرض لا يستطيع أنْ يُحقق هدفاً ما إلا بتوفيق الله، لذلك في الحديث الشريف، ومن عرف هذا الحديث الشريف غيّر مجرى حياته كلها: من ابتغى أمراً بمعصية كان أبعد مما رجا، وأقرب مما اتقى، من ابتغى أمراً بمعصية كان هذا الأمر أبعد مما رجا وأقرب مما اتقى، طبعاً إلى غير ذلك، هذا بعض الجزاء المُعجّل في الدنيا. 
 

التيسير شيء يخلقــه الله عزّ وجل ليس حظاً ولا صدفة:


طبعاً النتيجة أو أن الدليل القرآني على هذه الأقوال وهذه المعاني أن الله عزّ وجل يقول:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل ]

كلام خالق الكون، هذا كلام قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، قطعي التحقيق، قال تعالى:

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)﴾

[ سورة الليل ]

التيسير شيء يخلقــه الله عزّ وجل، ليس حظاً، ولا صدفة، إنما هو من خَلْق الله عزّ وجل.
 

بعض الجزاء الرباني المُعجل للمسيء في الدنيا:


أما جزاء العقاب المُعجّل في الدنيا، مِن هذا الجزاء مثلاً صنوف العذاب والخزي، أي عضو صغيرٌ صغير في جسمك لو تعطل لقلب الحياة جحيماً، أحياناً آلام مستمرة، آلام مزمنة في الرأس أحياناً، أحياناً عسر هضم مزمن، دائماً هناك ألم، أحياناً شعور بالضيق، هذه أعراض جسمانية، يوجد أعراض نفسانية وساوس، سوداوية، الله عز وجل يقلب حياته جحيماً.
صنوف العذاب المادي والمعنوي، قلق، همّ، خوف، يأس، شعور بالقنوط، هذا قد يتصاعد ينتهي بالانتحار. 
الله سبحانه وتعالى بالقوانين دائماً آخر مادة: ومن يخالف أحكام هذا القانون يُعاقب بكذا وكذا وكذا، هذا عند علماء القانون اسمه المؤيد القانوني، لولا المادة الأخيرة لا أحد يطبق القانون، ربنا عزّ وجل جعل المصائب، والأمراض الوبيلة، والأمراض المستعصية، والفقر المدقع، والذل الشديد، والخزي، والعار، والهموم، والأحزان، والخوف، والقلق، هذه كلها جعلها الله مؤيدات لشرعه الحنيف، إما أن تستقيم على أمر الله فتسلم، وإما تتحمل،

(( عن أبي عمرو سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدا غيرك؟ قال: قل آمنت بالله ثم استقم. ))

[ صحيح مسلم ]

قال: أريد أخفّ من ذلك؟ قال: إذاً فاستعد للبلاء، فمن البلاء المُعجّل في الدنيا صنوف العذاب المادي والمعنوي، والعيش الضنك، حياة كلها شحناء، كلها بغضاء، حياة قاسية خشنة، مليئة بالأحزان، بالهموم، يجزي الله بها المسيئين.
أيضاً الإخفاق، هذا المشروع خسر، وهذا العمل لم ينجح، وهذه السفرة عاد منها بخُفّي حنين، وهذه الصفقة خسرت، وهذا الصديق تَنكّر له، وهذا الزواج لم ينجح، وانتهى إلى الطلاق، وهذا المحل بعد أن اشتراه عليه مشكلة كبيرة لا تُحّل، وهذا البيت في أساساته خلل، لابد من تفريغه فوراً، فالفشل والخذلان شيء لا يعرفه إلا من ذاقه، صعب جداً، ومنها الشعور بالقلق والشقاء، ومنها الألم وضيق الصدر، ومنها بلبلة الفكر، واضطراب النفس، ومنها مَحْق البركة والخير في الوقت والمال والزوج والولد، ومنها المصائب والبلايا الكثيرة، أعاذنا الله منها، ومنها مجانبة التوفيق في الأمور، ومنها الإذلال والإهانة.
استغل رجل علمه استغلالاً لا أخلاقياً، كان لا يبذل هذا العلم إلا بأجر باهظ جداً، والناس بحاجة إليه، أصابه مرض عضال، كان يسكن في أرقى بناء، زوجته أَمرت أن يكون في القبو وحده، ووكّلت خادمة ترعى شؤونه، وامتنعت عن اللقاء به، فكان يذكرها كل يوم مرات كثيرة، وتهمله، ثم أمرت أن ينتقل إلى مكان بعيد عن البيت، وبقي ثماني سنوات يعاني-طبعاً كان مشلولاً-مِن الإهمال، والقذارة، وضيق النفس، والإذلال، ما لا يتحمله بشر، قال تعالى:

﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)﴾

[ سورة البروج ]

إذا أدب ربنا عزّ وجل الإنسان، أحياناً زوجته تقسو عليه، ابنه أقرب الناس إليه :

وإذا أعطاك من يمنعه                      ثم من يعطي إذا ما منعك؟

[ عبد الغني النابلسي ]

* * *

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)﴾

[ سورة الرعد ]

لابد من أن يذوق السوء، لا يعصمك من الله إلا الله، لا ملجأ منه إلا إليه، هذا كله جزاء مُعجّل في الدنيا قبل الآخرة، حتى إن الله عزّ وجل يقول:

﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)﴾

[ سورة الرحمن ]

جنة في الدنيا، وجنة في الآخرة.

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)﴾

[ سورة طه ]

 

الأدلة القرآنية على أن من الجزاء ما هو مُعجّل للمحسن في الدنيا قبل الآخرة:


الآن إلى الأدلة القرآنية على أن من الجزاء ما هو مُعجّل في الدنيا قبل الآخرة، وهي قوله تعالى، استمعوا جيداً:

﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)﴾

[ سورة النحل ]

في الدنيا، الله كريم في الدنيا وفي الآخرة: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾ قال تعالى:

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)﴾

[ سورة الأعراف ]

والله كنت مرة في مزرعة، أحد الأصدقاء أطلعني على حبة قمح أنبتت خمساً وثلاثين سبلة، أخذنا سبلة وفرطناها فإذا فيها ما يعادل خمسين قمحة، ضربنا الخمسين بخمس وثلاثين كان الناتج ألفاً وسبعمئة وخمسين قمحة مِن قمحة واحدة، قال تعالى:

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)﴾

[ سورة البقرة ]

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّ مَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ .
 

الأدلة من الكتاب على تعجيل بعض العقاب للمسيء في الدنيا قبل الآخرة:


قال تعالى:

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)﴾

[ سورة النحل ]

الجوع من الفسق والفجور والانحلال والتفلت وفشو الزنا والاختلاط، إذا رخصت لحوم البشر ارتفعت أسعار اللحوم التي نأكلها، هناك علاقة عكسية بين لحوم البشر ولحوم الضأن، فكلما غلت اللحوم.

(( عن النبي ﷺ أنه قال: صنفان من أهل النار لم أرهما: رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات ، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها.  ))

[ صحيح مسلم  ]

عندئذٍ تصعب الحياة، كن لي كما أريد أكن لك كما تريد، كن لي كما أريد ولا تُعلِمني بما يُصلحك، إذا سلّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد، قال تعالى:

﴿ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)﴾

[ سورة القمر ]

هذا حفظ ربنا عز وجل، في كل الأزمات، والشدائد، وفي المصائب الجماعية، والأعاصير، والفيضانات، والزلازل، والبراكين، في كل المصائب الجماعية يُنجّي الله المؤمنين، قال عز وجل:

﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾

[ سورة الأنبياء ]

قال تعالى:

﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)﴾

[ سورة الذاريات ]

المؤمن ينجو، آيات أخرى تؤكد هذه الحقيقة، قال تعالى:

﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)﴾

[ سورة الفتح ]

العقاب للمسيئين قال تعالى:

﴿ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)﴾

[ سورة الزمر ]

عذاب الخزي والعار شيء لا يحتمل، ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ قال تعالى:

﴿ لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)﴾

[ سورة الرعد ]

إذاً الجزاء على الحسنات أو السيئات قد يكون مُعجّلاً، وقد يكون مُؤجّلاً، ذكرنا بعض أنواع الجزاء المعجّل على الحسنات وعلى السيئات.
 

أنواع النعم:

 

1- نِعم الجزاء:

الآن يوجد عندنا موضوع فرعي له علاقة وشيجة بهذا الموضوع، نِعم الجزاء، والابتلاء، والاستدراج، النعم على ثلاثة أنواع، نِعم جَزاء ونِعم ابتلاء ونِعم استدراج، فليست كل نعمة ينعم بها الإنسان نعمة جزاء على حسنات، قد تكون هذه النعمة نعمة ابتلاء، وقد تكون هذه النعمة نعمة استدراج، فيجب أن تعلم علم اليقين أنّ هذه النعم التي أنت فيها هل هي نِعَم جزاء أم نِعم ابتلاء أم نِعم استدراج؟ فنِعم الجزاء مثلاً تكون ثواباً من الله تعالى للإنسان على ما قدم من حسنات، وهذا النوعُ تأييد رباني، وتشجيع مِن شأنه أن يدفع الإنسان لمضاعفة العمل الصالح، والتزام سلوك الصراط المستقيم في أمره كله.
أحياناً تجد الإنسان في الظروف الصعبة القاسية يُوفَّق في عمله توفيقاً لا يُصدق، لأنه كان مستقيماً، وقد بذل، وضحى، وآثر، آثر رضوان الله عزّ وجل، تأتيه الدنيا وهي راغمة، هذه الدنيا التي جاءته وهي راغمة إنما هي جزاء من الله عزّ وجل على إحسانه في الدنيا، هذه النعم نِعم الجزاء، وغالباً تكون النعمة من جنس العمل الصالح، فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه، من غضّ عينه عن محارم الله متّعه الله بها، من كفّ أذنه عن سماع الملهيات متّعه الله بها، من كفّ يده عن الحرام متّعه الله بها، من أنفق من ماله ابتغاء مرضاة الله ضاعف الله له ماله أضعافاً كثيرة، أي قضية الإنفاق شيء ثابت، قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)﴾

[ سورة سبأ ]

شيء قطعي:

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾

[  سورة النجم  ]  

2- نِعم الابتلاء:

من النعم ما هي نعم جزاء، ومن النعم ماهي نعم ابتلاء، قال تعالى:

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)﴾

[ سورة الفجر ]

﴿ كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)﴾

[ سورة الفجر ]

ليس هذا إكراماً، هذا ابتلاء، الغني يُبتلى بالمال، ماذا يفعل؟ أينفقه في طاعة الله؟ سيدنا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه سمع من بعض أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام أنّ ماله قد يؤخّره عن اللحاق بأصحابه، يا أبا ذر ربما دخلت الجنة حبواً، أي زحفاً، فقال رضي الله عنه: والله لأدخلنّها خبباً، أيْ هرولة، وماذا أفعل؟ واللهِ ما منعت مالي مسكيناً ولا فقيراً، وماذا أفعل إذا أنفقت مئة في الصباح فأعطاني الله ألفاً في المساء؟ ماذا أفعل؟ لذلك أحياناً كلما بذلت مِن المال ضاعف الله لك أموالك أضعافاً مضاعفة، هذه نعمة الجزاء، أو قد يأتي المال ابتلاء ليمتحن معدن الإنسان، هل يتغير بالمال؟ هل يتيه على الخلق؟ هل يستعلي عليهم؟ هل ينسى أيام الضيق والشدة؟ هل يحمله ماله على معصية الله؟ هل يحمله ماله على الفجور؟ هل يحمله ماله على أن يترك صلاة أو صياماً؟ هل يحمله انشغاله بماله عن أن يبتعد عن مجالس الذكر؟ هذا المال الآن ابتلاء وليس جزاء، لكن مال الابتلاء إذا أُنفق في طاعة الله انقلب إلى جزاء، لا يكون مال الابتلاء نعمة إلا إذا أُنفق في طاعة الله. 

3- نِعم الاستدراج:

أما النوع الثالث ونعوذ بالله من هذا النوع: نِعَم الاستدراج، ترك ثمانمئة مليون، كلها جُمّعت من القمار، يملك خمس أو ست صالات قمار، قبل وفاته التقى ببعض أهل الله، ماذا أفعل؟ ماذا تفعل؟ الآن بعد فوات الأون؟! كل هذا المال حرام، قال له أحدهم: لو أنفقته كله لا ندري ما النتيجة؟ البطولة عند هذه الساعة، قال تعالى:

﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)﴾

[ سورة الزخرف ]

﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)﴾

[ سورة الطور ]

هذا المال الثالث من نِعَم الاستدراج:

﴿ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)﴾

[ سورة الهمزة ]

﴿ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6)﴾

[ سورة البلد ]

كلفنا العشاء سبعمئة وخمسين ألف ليرة أثناء العرس، في الفندق الفلاني، عشاء للضيوف بالفندق الفلاني، بالسبعمئة والخمسين ألفاً نزوج خمسة عشر شاباً، نزوجهم مع أثاث بيتهم، قال تعالى:

﴿ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)﴾

[ سورة البلد ]

وهي النعم التي يوليها الله للكافرين والعصاة الموغلين في العناد لربهم، ومخالفتهم له، استدراجاً لهم لتهيئة الظروف التامة لحرية إرادتهم في الدنيا، حتى إذا أنزل الله بهم عقابه الشديد الذي يستحقونه لم يكن لهم عذرٌ عند ربهم، قال تعالى:

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾

[  سورة الأنعام  ]

هذا روتشيلد كان من أغنى أغنياء اليهود، كان عنده مستودعات لسبائك الذهب، كان ينتقل من عاصمة إلى أخرى، دخل إلى بعض المستودعات، أُغلق الباب عليه خطأً، وجعل يصيح ويستريح إلى أن مات جوعاً بين سبائك الذهب، جرح إصبعه وكتب على الحائط قبل أن يموت: أغنى إنسان يموت جوعاً، هؤلاء الذين: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ فصار النعم نِعم جزاء ونِعم ابتلاء ونِعم استدراج.
 

أنواع المصائب:  


1- مصائب الجزاء:

الآن مصائب الجزاء والابتلاء والتربية، أولاً يوجد عندنا مصائب الجزاء وهي المصائب التي تكون عقاباً من الله عزّ وجل للإنسان على ما اكتسب من سيئات، وفي هذا النوع عناية من الله بعبده ليتذكر فيتعظ، ويتوب إلى الله تعالى، ما من عثرةٍ، ولا اختلاج عرقٍ، ولا خدش عودٍ إلا بما قدمت أيديكم، وما يعفو الله أكثر.
هذه العقوبات دليل محبة رب الأرض والسماوات، إذا أحبّ الله عبده عجّل له بالعقوبة، إذا كان عند أحدهم ثلاثة أولاد، ولد ذكي مجتهد، ولد ذكي مقصر، ولد أبله، مَن يعاقب؟ الذكي المجتهد لابأس، والأبله لا أمل منه، يصب الأب كل عقابه على الذكي المقصِّر، فهذا الذي ذكّره الله مراراً فلم يتذكر ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ وهذا المؤمن المستقيم الشاكر هذا موفق، حققّ الهدف من وجوده، على مَن ينصبّ العقاب؟ على هذا الذي عنده إمكانيات كبيرة، وهو مُفرّط بها، قال تعالى:

﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾  

[ سورة القصص ]

إذاً هذه المصائب عناية ربانية بالإنسان، يقول الله تعالى:

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)﴾

[ سورة الشورى ]

انظر المصيبة نكرة، ﴿من مصيبة﴾ أيّة مصيبة، صغيرة كانت أم كبيرة، مادية كانت أو معنوية، خطيرة أم حقيرة: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ﴾ لاستغراق كل المصائب، ﴿فبما كسبت أيديكم وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ هذه مصائب الجزاء. 

2- مصائب الابتلاء:

مصائب الابتلاء هي المصائب التي يتعرض فيها أهل الطاعة ليبتلي الله بها صبرهم فيرفع درجاتهم، ويزيد من حسناتهم، السيارة ماشية، حمولتها خمسة وعشرون طناً فرضاً، وهي الآن تحمل خمسة أطنان، على كل طن مئة ألف ليرة أجرة، هو قبِل خمسة أطنان، لكن نحن لا نقبل أن نُحمّله خمسة طن، نحمله خمسة أخرى، حتى يتضاعف أجره، لأنّه يتحمل، فهناك مؤمنون يعرفون الله جيداً، وهم أهلٌ للتحمل، لذلك تُساق لهم بعض المصائب في الدعوة كي يُضاعف الله لهم أجرهم، هذه مصائب رفع الدرجات، لا علاقة لها بالجزاء.
يا أيها الإخوة الأكارم؛ الذي أتمناه عليكم وهذا من أدب المسلم إذا ألّمت بنا مصيبة يجب أن نتهم أنفسنا، ما الذنب الذي اقترفته؟ أما إذا ألّمت بغيرنا مصيبة يجب أن نُحسِن الظن بهم ونقول: هذه مصيبة رفع درجات، أما مِن اللؤم ومن الفجاجة أن تتهم الآخرين إذا أصابتهم مصيبة بأنها مصيبة جزاء، وأن تُحسِن الظن بنفسك إذا أصابتك مصيبة تقول: هذه ابتلاء، هذه رفع درجات، لا، بالعكس يجب أن يعمل الإنسان، إذا ألمّت المصيبة بأخيك ظُنّ به خيراً وقل: هذه مصيبة ابتلاء، ولعل أخي له عند الله درجة عالية جداً، أراد الله أن يرفعها له، أما إذا ألمّت بك مصيبة لا سمح الله وبنا، قل: لعلي مقصر، اتّهم نفسك دائماً، ونزّه أخاك دائماً، هذا هو الأدب، أمّا أكثر الناس يُبرئ نفسه، ويتهم أخاه، هذا من سوء الأدب، من أساء الظن بأخيه فكأنما أساء الظن بربه، مصيبة الجزاء: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ واضحة الآية.
مصيبة الابتلاء:

﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)﴾

[ سورة الشورى ]

أنـت أديت حجاً في أيام القيظ الشديد، هذا ابتلاء، رفع درجات، لم تتحمل الحر، لكن الله عزّ وجل كتب لك بهذا أجراً كبيراً، كانت أيام الصيام بأشهر الصيف الطويلة، تحملت منذ الظهر كِدت تسقط على الأرض من شدة العطش، هذا ابتلاء، رفع درجات، ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ لو فرضنا أحدهم كلفك بعمل، على قدر المشقة أعطاك الجزاء، وجدك ما تعبت أعطاك ألفاً، وجدك تعبت أعطاك ألفين، تعبت جداً أعطاك خمسة آلاف، فكلما كان هناك مشقة رفع السعر، فربنا عزّ وجل يُحب أن يكرمنا عن طريق أن يسوق بعض المصائب للمؤمنين الصادقين يتحملوا في سبيل الله فيرفع الله شأنهم، هذه إذا أحبّ الله عبده ابتلاه. 

3 – مصائب التربية:

النوع الثالث مصائب التربية، هذه:

﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)﴾

[ سورة التوبة ]

ربنا عزّ وجل للإنسان الغافل، المُعرض، المُقصر، يرسل له مشكلة خطيرة، يُضَيق عليه إلى أن يضجّ بالشكوى إلى الله عزّ وجل، يتوب من ذنبه، ممكن تاجر يفلس، لا يصلي، بعدما فلّس صار يصلي، ممكن، رابحة معه، ليس فيها خسارة، احترق محل أحدهم، قال لي: واللهِ بالمحل يوجد بضاعة بثلاثة ملايين، عندما كان ثمن البيت خمسين ألفًا، الآن لا قيمة لهذه الملايين الثلاثة، قال لي: لعلي أكون أنا قد بعت بعض البضائع بشكل غلط سابقاً، آكل المال الحرام، لعل الله جمعهم كلهم وأراد أن يُطهر لي مالي، والله شيء جميل، بارك الله بك على هذا الظن الحسن، سيدنا عمر كان يقول إذا أصابته مصيبة: الحمد لله ثلاثاً، الحمد لله إذْ لم تكن في ديني، الدين سليم، الحمد لله إذْ لم تكن أكبر منها، الحمد لله إذْ أُلهمت الصبر عليها، هذه مصائب التربية، يوجد تقصير، يوجد ضياع، يوجد انحراف، يوجد مال حرام بالمنتصف، جاءت النيران فالتهمت المال الحرام.
 في الدرس القادم الحديث عن الجزاء المؤجل، هذا الجزاء المؤجّل يناله الإنسان يوم القيامة، وبعدها نتابع موضوع الإيمان باليوم الآخر ونأخذ قانون المسؤولية والكسب وبعدها ننتقل إلى الإيمان باليوم الآخر وهذه كلها مقدمات.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور