الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تتمة محاور القرآن الكريم التي تتعلق بالقضاء والقدر:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني والستين من دروس العقيدة.
في الدرس السابق هناك مجموعة من الآيات الكريمة صُنّفت في خمس مجموعات، هذه المجموعات الخمسة تتعلق بالقضاء والقدر، وقد تمّ بفضل الله ورحمته توضيح معاني المجموعات الثلاثة الأولى، وبقي علينا اليوم المجموعة الرابعة والخامسة من آيات القضاء والقدر، الحقيقة أن آيات الهدى والضلال:
﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)﴾
هذه الآيات من الآيات التي تحتاج إلى دقة في الفهم، فلو أن الإنسان فهمها فهماً محدوداً أو سريعاً، أو أخذها على ما يبدو له من معانيها، واعتقد أن الله سبحانه وتعالى هدى فلاناً، وأضلّ فلاناً، وانتهى الأمر، وفلان لا حيلة له في هذا ولا ذاك، هذا فهم خطير، لذلك الآيات المتشابهات آيات ينبغي أن يُسأل عنها أهل العلم، وقد قال الله تعالى:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)﴾
ليس للإنسان الحق أن يعتمد على فهمه وحده في فهم آيات القرآن الكريم، قد يكون فهمه محدوداً، ومعلوماته حول هذه الآية محدودة، فآيات: ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ فهمها يحتاج إلى دقة بالغة.
الاستعمالات التي وردت في القرآن الكريم في معاني الهدى والضلال:
لدى تَتَبُّعي نصوص القرآن الكريم نلاحظ أنه قد ورد فيها استعمال الهداية والضلالة في أربعة معان؛ فالمعنى الأول: الهداية بمعنى الدلالة، والإرشاد، والتعليم، والضلالة بمعنى الجهل بالحقيقة والعمى عن طريقها، هذا هو المعنى الأول، فمثلاً يقول ربنا سبحانه وتعالى في سورة البقرة:
﴿ الم(1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)﴾
إن هذا القرآن العظيم يدل المتقين على طريق سعادتهم ﴿الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ في آية أخرى في سورة الضحى:
﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)﴾
أي وجدك غافلاً عن طريق هداية الناس فهداك، فالمعنى الأول من معاني الهداية والضلالة أن الهداية هي الدلالة والإرشاد والتعليم، والضلالة هي الجهل بالحقيقة والعمى عن طريقها.
آية ثالثة في سورة الحج:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)﴾
من تولاه الشيطان ﴿فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ﴾ أي يبقيه جاهلاً، يغطي عليه الحقائق ﴿وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ أي يُسَلِّكه في طريق العذاب عذاب السعير، لازلنا في المعنى الأول من معاني الهداية والضلال، إنها الدلالة، والإرشاد، والتعليم، والضلالة هي الجهل بالحقيقة والعمى عن طريقها.
المجموعة الثانية من معاني الهداية والضلال الهداية بمعنى وجود الشيء والعثور عليه، والضلالة بمعنى الضياع، يؤكد هذا المعنى الثاني قوله تعالى:
﴿ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)﴾
معنى ﴿ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي ضعنا في الأرض، تفتت أجزاؤنا، أنخلق خلقاً جديداً؟ قال الله عزّ وجل في آيات أخرى يخاطب الكفار يوم القيامة:
﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)﴾
﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)﴾
أي ضاعوا عنا، فالهداية بالمعنى الثاني وجود الشيء والضلال الضياع عنه، لذلك حينما يُضِلّ الله الإنسان بمعنى أنه يُبعده عن شركائه، يُضلّه عن الشركاء، لا يُضلّه عن ذاته، إنما يُضلّه عن شركائه، هذا هو المعنى الثاني، فحيثما وجدت أنّ الله عز وجل أضلّ فلاناً، أي فلان اعتمد على غير الله، وضع ثقته به، جعله إلهاً من دون الله، عندئذ في ساعات الشدة يبحث عنه فلا يجده، وهذا شيء معروف عند المؤمنين، لمجرد أن تضع ثقتك في مخلوق وتنسى الله عز وجل، لمجرد أن تعتمد على شيء؛ على علم أو على مال أو على جاه أو على قوة أو على جهة أو على شريك، لمجرد أن تعتمد على جهة من دون الله وتضع كل ثقتك بها يُضلّك الله سبحانه وتعالى، بمعنى يُضلك عن هذا الشريك، تبحث عنه في الوقت العصيب فلا تجده، وهذا من رحمة الله عزّ وجل، لو أنك وجدته في الوقت العصيب لعبدته من دون الله، وكان هذا طريق الهلاك، فالإنسان إذا اتّكل على نفسه أوكله الله إياها.
هناك من يعتمد على علمه فيقع في حماقة ما بعدها حماقة، هناك من يعتمد على قوته فيفضحه الله عزّ وجل في أضعف خلقه، هناك من يعتمد على ماله فتأتيه مصيبة لا علاقة لها بالمال إطلاقاً، لا تحُلّها الأموال الطائلة، هناك من يعتمد على مكانته، يتعامل مع إنسان لا يعرفه إطلاقاً، ولا يقيم له وزناً، فكل من اعتمد على جهة غير الله عزّ وجل، ووضع ثقته فيه أضلّه الله عنه، هذا المعنى الثاني من معاني الضلالة.
المعنى الثالث: تُستعمل كلمة الهدى بمعنى أثبت الهداية وحكم بها، وتستعمل كلمة أضلّ بمعنى أثبت الضلالة وحكم بها، فلان هداه الله بمعنى أنه حكم عليه بالهداية، أضلّه الله حكم عليه بالضلالة، هذا هو المعنى الثالث من معاني الهداية والضلالة، مثلاً يقول الله عزّ وجل:
﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)﴾
حكم بعض المؤمنين على بعض المنافقين بالإيمان، والله سبحانه وتعالى حكم عليهم بالضلالة: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ هذه الآية تعني أن المؤمن ظنّ بهذا المنافق ظناً حسناً فحكم عليه بالإيمان، والله سبحانه وتعالى لأعماله وبعده وعداوته حكم عليه بالضلالة.
آية أخرى تؤكد المعنى الثالث من معاني الهداية والضلالة:
﴿ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)﴾
أي هذا الذي ضلت نفسه عن الله عزّ وجل فحكم الله عليه بالضلالة، أنت إذا رأيت إنساناً تائهاً ضائعاً تقول: هذا ضال، بمعنى أنك حكمت عليه بالضلال.
مصير إرادة الإنسان أمام إرادة الله:
هناك نقطة مهمة جداً في أمور العقيدة، هو أن الفعل بيد الله، فإذا عُزِي الفعل إلى الله عزّ وجل بمعنى أنه سمح بحدوثه، الله سبحانه وتعالى منذ خلقنا أخذ على نفسه عهداً أن يعطينا سؤلنا، فكل إنسان أعطاه الله مشيئة حرة، هذه المشيئة الحرة تحتاج إلى قدرة كي تتحقق، والقدرة هي قدرة الله عزّ وجل، فإذا أراد الإنسان بمشيئته الحرة أن يكون ضالاً فلابد بحكم الأمانة التي أوكلنا الله إياها، والتي هي التكليف، لابد من أن يُمدّ الله الإنسان بقدرة يُحقق بها اختياره، هذا هو المعنى الذي يُستفاد من كلمة أضلّه الله، أي اختار الضلالة بمشيئته الحرة والله سبحانه وتعالى بحكم أن الإنسان في الدنيا مخير، وأنه مكلف، وأنه مختار، عندئذ أمدّه الله بالقدرة المادية التي يُحقق بها اختياره الحر، فإذا عُزيت الهداية والضلالة إلى الله عزّ وجل فمن باب أن كل شيء لا يحدث إلا بأمر الله، ولا يحدث إلا بإرادته، وأنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن نكون أحراراً في مشيئتنا، فإذا شاء أحدنا الهداية هداه الله، بمعنى أنه وفَّقه على الوصول إليها، وإذا شاء أحدنا الضلالة -لا سمح الله-أضلّه الله بمعنى يسّر له، أو أمده بالقدرة اللازمة لتحقيق مشيئته الحرة، هذا هو المعنى الثالث من معاني الهداية والضلالة، قال تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)﴾
إذاً الهداية والإضلال بالمعنى الثالث أن الإنسان أُعطي حرية الاختيار، فإذا اختار الهداية وفَّقه الله إليها، وإذا اختار الضلالة وأصرّ عليها بحكم أنه قد حُمّل الأمانة، وأن نفسه أمانة بين يديه، وأن الله سبحانه وتعالى:
﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)﴾
إذاً لابد من أن يُمدّه بالقدرة اللازمة على تحقيق إرادته الحرة في أن يكون ضالاً، إذاً إذا أضلّ الله العبد بمعنى أن فعل الضلالة لابد من إرادة الله عز وجل، فإذا عُزِي الفعل إلى الله عز وجل فبمعنى أنه سمح بحدوثه، هذا معنى دقيق جداً.
لأن الله عز وجل لا يقع في الكون شيء إلا إذا أراد ذلك، وإذا أراد شيئاً لابد من أن يقع، كل شيء وقع لابد من أن يكون الله قد أراده، وإذا أراد الله شيئاً لابد من أن يقع، هناك ترابط دقيق بين إرادة الله في حدوث شيء وبين حدوثه.
لذلك يؤمن المؤمن أن كل شيء وقع أراده الله، وكل شيء لم يقع لم يُرده الله، وأنّ كل ما أراده الله لابد من أن يقع، وأنّ إرادة الله متعلقة بحكمته، ومتعلقة بعلمه، ومتعلقة برحمته، ومتعلقة بعدالته، فهذا الشيء الذي وقع لابد من أن يكون حكيماً، ومعنى أنه حكيم أي أن هناك خيارات عديدة، الذي وقع هو أفضل هذه الخيارات، الذي وقع هو أحسن هذه الخيارات، كل شيء وقع تعلقت به إرادة الله التي تعلقت بحكمته، وتعلقت برحمته، وتعلقت بعلمه، وتعلقت بعدالته.
قال بعضهم توجيهاً آخر لهذه الآيات هو أن الله عز وجل إذا عزا الهدى والضلال إليه فهذا هو الهدى الجزائي والضلال الجزائي، قال تعالى:
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)﴾
اختاروا الضلالة فجازاهم الله أن يكونوا بحالة الضلال، اختاروا الهداية فأكرمهم الله عزّ وجل بأن جعلهم مهتدين، إذاً هذه الآيات التي مُفادها أن الله يهدي من يشاء ويُضلّ من يشاء تؤكد أنك حرّ في مشيئتك، وأن الله عز وجل هو الذي يحقق هذه المشيئة، إن كانت خيراً وإن كانت شراً، فإذا عُزِي الفعل إلى الله مباشرةً فلأنه هو الفاعل، ولأنه سمح بحدوث هذا الفعل، وإذا عُزِي الفعل إلى الإنسان فلأنه هو الذي اختار، أي بشكل مبسط غير معقد لكم أن تقولوا: إن مدير المدرسة هو الذي رسّب الطالب الكسول، ولكم أن تقولوا: لقد رسب هذا الطالب، فإذا عزوت فعل الرسوب إلى الطالب فلأنه هو السبب، ولأن إهماله، وكسله، وتوانيه عن الاجتهاد هو الذي جعله يرسب، وإذا عزوت فعل الرسوب إلى الإدارة، فلأنها هي التي نفّذت، وأقرّت، ووافقت وفق مبادئ العدالة والرحمة، إذًا يمكن أن تعزو الفعل إلى الله عزّ وجل، بمعنى أنه سمح بحدوثه، وأن كل فعل لا يقع إلا إذا أراده الله، وإذا عزوت الفعل إلى الإنسان فبمعنى أن هذا من كسبه، وهو المسؤول عن ذلك، هذا ملخص الملخص، أي إذا قلت: إن الله قد هدى فلاناً، فلأنه اختار الهدى، وإن الله قد أضلّ فلاناً، فلأنه اختار الضلال، وأنه من سار على الدرب وصل، وأن الأمور لها مقدمات ولها نتائج، فمن سلك في المقدمات وصل إلى النتائج، هذا شيء بسيط جداً، فآيات الهدى والضلال يجب أن تُفهم على حقيقتها، أما أن تلتقي بإنسان، وتقول له: أخي لماذا لا تصلي؟ يقول لك: الله ما هداني، ما الدليل؟ يهدي من يشاء، ويُضلّ من يشاء، هذا هو الفهم الخطير الساذج المحدود الذي ما أراده الله عزّ وجل، لذلك يجب على الإنسان أن يتعلم المعاني الدقيقة التي جاءت في كتاب الله.
الرد من الكتاب على من يزعم بأن الله هو الذي يضلّ الإنسان:
شيء مهم جداً؛ أي ما أكثر الآيات في كتاب الله المتعلقة بالهدى والضلال، فالإنسان دائماً إذا فعل المعاصي والموبقات، وانحرف في سلوكه، وأخذ ما ليس له، واعتدى على أموال الناس، وعلى أعراضهم، يميل دائماً إلى أن يحمل فجوره على ربه، يميل دائماً إلى أن يعزو هذه الضلالات إلى الله:
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)﴾
﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ﴾ أين الدليل؟ ﴿فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾ أُذكّركم مرة ثانية بقول الإمام الحسن بن عليّ رضي الله عنه إذ يقول: ((من أنكر القضاء والقدر فقد كفر، ومن حمل ذنبه على الله فقد فجر، إنّ الله تعالى لا يُطاع استكراهاً، ولا يُعصى بغلبة، فإن العباد أطاعوه لم يَحُلْ بينهم وبين طاعتهم، وإن عصوه فليس هو الذي أجبرهم على المعصية، لو أجبرهم على الطاعة سقط الثواب، ولو أجبرهم على المعصية سقط العقاب، ولو تركهم هَملاً لكان هذا عجزاً في القدرة، إنهم إذا أطاعوه فله المِنةُ والفضل، وإن هم عصوه فعليهم الحجة الدامغة)) .
هذه عقيدة أهل السنة والجماعة في موضوع الاختيار والتسيير، الإنسان مُخيّر أرادت مشيئة الله أن تكون ذا مشيئة أيها الإنسان، فالذي تفعله تُحاسب عليه، لأنك مخير في فعله أو عدم فعله.
توضيح معنى المصيبة والهدف منها:
شيء آخر متعلق بالمجموعة الخامسة من الآيات المتعلقة بالقضاء والقدر، وهو قوله تعالى:
﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)﴾
هذه الآية دقيقة جداً لأن بعض الناس يفهمونها فهماً مغلوطاً، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ المصيبة هنا نكرة، ومعنى التنكير هو الشمول، أي كل أنواع المصائب على وجه الأرض من دون استثناء؛ مصيبة في المال، مصيبة في الأموال، مصيبة في الصحة، مصيبة في الأولاد، مصيبة مادية، مصيبة معنوية، مصيبة طفيفة، مصيبة كبيرة، مصيبة فردية، مصيبة جماعية، ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ﴾ الزلزال مصيبة، والفيضان مصيبة، والقحط مصيبة، والمرض مصيبة، والشقاق الزوجي مصيبة، والولد العاق مصيبة، وفقد المال مصيبة، والمرض الخطير مصيبة، والمرض الطفيف مصيبة، والهم والحَزَن مصيبة، ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾ آفة زراعية قضت على المحصول كله، صقيع جاء لدقائق معدودة فقضى على موسم الفاكهة في هذه المنطقة كلها، هذه مصيبة، قال تعالى:
﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)﴾
فهذه المصيبة مصيبة بمعنى أنها تُصيب الهدف، أصاب يصيب إصابة ومصيبة، فحينما سُميت مصيبة لأنها تصيب مكان الداء، فالمتكبر قد تأتيه مصيبة تُذِّل كبرياءه، والمُبذر قد تأتيه مصيبة تُفقره ليعرف قيمة المال، والذي يعتدي على أعراض الناس قد تأتيه مصيبة فيها عدوان على عرضه، فمعنى مصيبة أنها مُحكمة، وأنها مُسَددة، وأنها صائبة، وأنها من يدٍ خبيرة، عليمة، حكيمة، بصيرة، عادلة، هذا معنى مصيبة.
يغفل الإنسان أحياناً عن معنى الكلمة، يقول لك: مصائب، يا أخي مصائب كثيرة، كلها أصابت الهدف، كم من إنسان لولا هذه المصيبة لما توجه إلى القبلة؟! لولا هذه المصيبة لما كفّ عن أعماله السيئة، لولا هذه المصيبة لما نجا من عذاب النار، قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ هنا دقة المعنى أي كل إنسان له عند الله صحيفة أعمال، كما لو أن الطبيب مرّ على المرضى في المستشفى، فكان على كل سرير لوحة فيها أحدث الفحوص، ضغطه، حرارته، نسبة الشحوم في الدم، نسبة بعض المواد في الدم، يُلقي الطبيب على هذه الورقة، أو على هذا الكتاب، أو على هذه الإضبارة نظرة ويقرر العلاج المناسب، فكل مصيبة وقعت في الأرض مبنية على حالة راهنة تلبّست بها النفس، قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ أي قبل أن تقع هناك حكيم قررها، وهناك عليم قررها، وهناك خبير سمح بها، وهناك إله عادل أراد أن يُنزلها، لا يوجد شيء يأتي اعتباطياً، لا يوجد شيء ارتجالي، غلط لا يوجد عند الله عز وجل، بالخطأ، لا يوجد عند الله عز وجل شظية طائشة، كل الشظايا عند الله مفيدة وليست طائشة، حادث مثلاً كان في ساعة غفلة، الغفلة مقصودة، فربنا عزّ وجل يقول: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ أن نبرأ هذه المصيبة، قبل أن تقع المصيبة هناك تعلقت إرادة الله عزّ وجل التي تعلقت بحكمته، ورحمته، وعدالته، وعلمه، وخبرته أن تقع هذه المصيبة، ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ طبعاً يسير هو خالق الأكوان، لكن بعض العلماء قالوا: معنى يسير هنا أي على رحمته، هل يُرضي الأب الشفيق أن يسيل الدم من جسم ابنه؟ نعم يرضيه ذلك، إذا كان هناك التهاب بالزائدة الدودية، والآلام لا تحتمل، ولهذا الالتهاب مضاعفات، والأب طبيب جرّاح بيده يشقّ البطن ويفتحه، وتسيل الدماء لأن الأب رحيم، عليم، طبيب وأب، إذاً المصيبة هنا بمعنى أنها أصابت الهدف، وأنه يسير على الله عزّ وجل أن يُنْزِل بعباده مصيبة تمحق أموالهم من أجل أن يهتدوا إليه، لأنه أعدّ لهم في الآخرة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
الحظوظ في الدنيا توزّع توزيع ابتلاء لا توزيع جزاء:
هذه نقطة مهمة جداً؛ نحن لماذا نُسمّي هذه مصيبة أوشراً؟ ولكن إذا علمت علم اليقين أن الله سبحانه وتعالى قد خلقك لحياة أبدية، وأن في هذه الحياة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال تعالى:
﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)﴾
عندئذ هانت عليك مصائب الدنيا.
يقول سيدنا علي كرم الله وجهه لسيدنا الحسن: ((يا بني ما خير بعده النار بخير، وما شرّ بعده الجنة بشر، وكل نعيمٍ دون الجنة محقور، وكل بلاءٍ دون النار عافية)) أي الحظوظ في الدنيا موزعة توزيع ابتلاء، فليس الغني مُكرّماً عند الله لأنه غني، إذا أنفق ماله في طاعته عندئذ هو مكرم، وليس الفقير مُهاناً عند الله لأنه فقير، إن حظّ المال، وحظّ العلم، وحظّ الجاه، وحظّ الصحة، وحظّ الجمال، موزعة توزيعاً في حكمة وعدالة بحيث يُبتلى كل إنسان بهذا الحظ، لكن هذه الحظوظ سوف تُوزّع على البشر توزيعاً جزائياً يوم القيامة وإلى الأبد.
بقي علينا إن شاء الله تعالى درس أخير من دروس العقيدة حول ما تجري به المقادير الربانية، مما ظاهره شرّ وهو في حقيقة أمره خير، وبقي علينا مسؤولية الإنسان عن أعماله الإرادية، والتوكل والاعتماد على الله، وأثر الإيمان بالقضاء والقدر في حياة المؤمن، هذه موضوعات كلها متممات.
وهذا الدرس الذي سوف نأخذه إن شاء الله تعالى هو الدرس الأخير من دروس العقيدة، وبعدها ننتقل إلى موضوعات أخرى.
الملف مدقق