الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
المحاور التي تدور عليها الآيات حول موضوع القضاء والقدر:
1- محور هداية الناس جميعاً:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الحادي والستين من دروس العقيدة.
أيها الإخوة الأكارم؛ هناك خمس مجموعات من آيات القرآن الكريم تتعلق بالقضاء والقدر، خمس مجموعات، كل مجموعة تتمحور حول محور، فالمجموعة الأولى مثلاً بيّن الله فيها أن:
﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)﴾
وفي آيات أخرى قال تعالى:
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)﴾
وفي آيات أخرى قال تعالى:
﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)﴾
هذه الآيات ومثيلاتها، قال تعالى:
﴿ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)﴾
﴿لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا﴾ ، ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ :
﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)﴾
قد يأتي سائل ويسأل: لماذا لم يشأ ذلك؟ سؤال.
هذه الآيات أيها الإخوة؛ من الآيات المتشابهات التي تحتاج إلى تأويل، وتفسير، وتوضيح، وتبيين، فالله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)﴾
ويقول في آية أخرى:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)﴾
فماذا قال أهل الذكر عن هذه الآيات؟ الآية الأولى في سورة السجدة:
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)﴾
وفي سورة يونس: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ .
وفي سورة هود: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ .
وفي سورة المائدة:
﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)﴾
أيها الإخوة؛ هذه الآيات دقيقة جداً، كما قلت قبل قليل من الآيات المتشابهات، ومعنى المتشابهات التي يجب أن تسأل عنها، لئلا يتبادر إلى ذهنك فهم سطحي ساذج محدود من أن الله عزّ وجل لم يشأ الهداية، أراد أن يجعل الناس ضالين مُضلين: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ ما الذي حصل؟ هذه لو حرف امتناع لامتناع، أي امتنعت هداية الخلق لامتناع مشيئة الله، ليس هذا هو المعنى.
احتمالات ثلاث للمشيئة الربانية:
أولاً: إذا تأملنا في واقع الأمر يتبين لنا احتمالات ثلاث للمشيئة الربانية؛ الاحتمال الأول أن تكون مشيئة الله في جعل الناس مجبرين على سلوك طريق الهداية، دون أن يستطيعوا غير ذلك، أي الله سبحانه وتعالى قادر على أن يُجبر الناس على طاعته، وقادر على أن يجبر الناس على سلوك طريق الهدى، شيء بسيط جداً، ضمن قدرته جلّ وعلا أن يجبر الناس على طاعته، فمشيئة الله عز وجل يمكن أن تكون هكذا ولكنها لم تكن، ويمكن لمشيئة الله عز وجل أن تُجبر الناس على سلوك الضلالة دون أن يستطيعوا غير ذلك، ويمكن أن تشاء الله أن يُضلّ الناس جميعاً، ويُمكن أن تكون مشيئة الله في جعل الناس مجبرين على سلوك طريق الضلالة، ويمكن أن تكون مشيئة الله عزّ وجل في أن يجعل الناس مخيرين، فمن شاء منهم اختار بإرادته الحرة طريق الخير، ومن شاء منهم اختار بإرادته الحرة طريق الشر.
هناك ثلاثة احتمالات لمشيئة الله عزّ وجل في هذا الموضوع، إما أن يشاء الله أن يُجبر عباده على طاعته، وإما أن يشاء الله أن يُجبِر عباده على معصيته، وإما أن يشاء الله أن يمنح عباده مشيئة حرة يختارون هم طريق الهداية أو طريق الضلال.
فالله سبحانه وتعالى لم يشأ أن يُجبِر عباده على طريق الطاعة، فإذا كان لم يشأ أن يُجبِر عباده على أن يسلكوا سبيل الطاعة كذلك لم يشأ أن يُجبِر عباده على سلوك سبيل المعصية، إذا لم يشأ أن يُجبِر عباده على طاعته ليس معنى هذا أنه شاء أن يجبرهم على معصيته، لا، ليس هذا هو البديل، ليس هذا هو المقابل، ليس هذا هو الاستنباط العكسي، هذا فهم ساذج، إن كان الله سبحانه وتعالى لم يشأ أن يُجبر عباده على طاعته، ليس معنى هذا أنه شاء أن يجبرهم على معصيته إن لم يجبرهم على طاعته بل شاء لهم أن تكون لهم مشيئة حُرة، يختارون بها طريق الهداية، أو طريق الضلال، أخطر ما في الموضوع أن تفهم من هذه المجموعة من الآيات أن الله لم يشأ أن يجبر الناس على طاعته، ولكن شاء لهم أن يجبرهم على معصيته، لا، ليس هذا هو البديل، ليس هذا هو المقابل، ليس هذا هو الاستنباط العكسي، لم يشأ أن يجبرهم على طاعته بل شاء أن يجعلهم أحراراً في اختيارهم.
أضرب بعض الأمثال، الجامعة بإمكانها وببساطة وضمن حدود قدرتها أن تجعل جميع الطلاب ينجحون بعلامات تامة، شيء في منتهى البساطة، تُوزِّع على الطلاب أوراق الأسئلة، وأوراق الإجابة مطبوع عليها الإجابة الكاملة، وما على المدرس إلا أن يضع على كل ورقة بشكل آلي مئة من مئة، فقد يقول رئيس الجامعة: لو شئت لجعلت جميع الطلاب ينجحون نجاحاً ممتازاً، ولكن لو فعلت الجامعة ذلك أين قيمتها؟ هل لها قيمة؟ هل لهذا النجاح قيمة عند الطلاب؟ هل لهذا النجاح قيمة عند إدارة الجامعة؟ هل لهذا النجاح قيمة عند الناس؟ هل لهذه الشهادة التي يحملها خريجو هذه الجامعة لها قيمة دنيا؟ بإمكان هذه الجامعة أن تُنَجِّح جميع الطلاب بيسر شديد، ورقتان؛ ورقة الأسئلة وورقة الإجابة مطبوعة بأكمل الأجوبة، فربنا سبحانه وتعالى لو أجبـر عباده على طاعته لأصبح التكليف باطلاً، وأصبح الابتلاء باطلاً، وأصبح الامتحان باطلاً، وصار مجيئنا إلى الدنيا عبثاً، ولبطل الثواب، وسقط العقاب، وبطل الوعد والوعيد، وعُطِّلت نواميس الكون، وسقط الإنسان، وصار في مستوى الحيوان، قال تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾
ما الذي حمله؟ حمل الأمانة، ما الأمانة؟ التكليف، أي أن الله عز وجل كلّف الإنسان أن يعرفه، وأن يطيعه، وأن يتقرب إليه، وأن يُزكِّي نفسه، يزكو بنفسه، كلفه ذلك وأعطاه المؤهلات، قال تعالى:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾
إذاً الله سبحانه وتعالى من الممكن أن يجبر الناس على طريق الهدى ولكنه لم يفعل لأنه لو فعل لبطل التكليف.
مثل آخر؛ لو أن مدرساً متفوقاً في الرياضيات، وله ابن طالب عنده، فسأله: يا أبت حلّ لي هذه المسألة؟ أليس في إمكان الأب ان يحلها له في لمح البصر؟ فيذهب الطالب إلى المدرسة يعرِضُها على أستاذه يأخذ علامة تامة، ما قيمة هذه العلامة التامة؟ ما قيمة هذا التفوق؟ لا شيء، بمجرد أن يُجبِر الله الناس على طاعته سقط التكليف، وانتهى الابتلاء، وتعطلت نواميس الكون، وأصبح إرسال الأنبياء عبثاً، ودعوة العلماء باطلاً، وأصبح الثواب لعباً، والعقاب مُزاحاً، فربنا عز وجل قال: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ ولكننا لم نفعل، مشيئتنا لم تكن كذلك، كان من الممكن أن تكون هذه مشيئتنا، ولكن هذه المشيئة لم تتعلق بها حكمتنا، ليس من الحكمة أن نشاء ذلك، فالله سبحانه وتعالى إن لم يشأ أن يجبر عباده على طاعته لم يشأ قطعاً أن يجبرهم على معصيته، ولكنه شاء لهم أن يكونوا أحراراً في مشيئتهم، شاء لهم هم أن يختاروا طريق الهدى أو طريق الضلال، فإذا خَفِي على الإنسان الاحتمال الثالث، هذا القرآن يحتاج إلى من يعلمك إياه، يحتاج إلى من يفسره لك، ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ الفهم الساذج، الأولي، البدائي، المحدود، ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ ولكننا لم نشأ، إذاً شئنا أن نجعلهم ضالين؟ لا، ليس هذا هو المعنى، شئنا أن نجعلهم أحراراً في مشيئتهم، فآية السجدة مثلاً: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ أي ولو شئنا أن تكون الأنفس كلها مفطورة على سلوك سبيل الهداية فقط لسلبناها مِنحة الاختيار، ممكن نوزع مذياعاً له محطة واحدة، لا يوجد إبرة، هل لك خيار أنت؟ أما إذا كان هناك اختيار، هذا استمع إلى القرآن، وهذا استمع إلى الغناء، أصبح هناك اختيار، كُشفت النفوس، أما بمحطة واحدة لم يعد هناك خيار، إذاً ولو شئنا أن تكون الأنفس كلها مفطورة على سلوك سبيل الهداية فقط لسلبناها مِنحة الاختيار، وقدرة الكسب، ولجعلناها أنفساً مُجبرة لا اختيار لها، ولو أنا جعلناها كذلك لكان من مقتضى الحكمة أن نؤتي كل نفس هداها، لو أننا أردنا أن نسلبها حرية الاختيار لكان مقتضى الحكمة أن نؤتي كل نفس هداها، ولكن حيث تمت الحكمة بأن توهب هذه الأنفس الاختيار الحر، والقدرة على الكسب، ضمن دائرة التكليف فقد حقّ القول مني أن الذي يختار سبيل الشر وطريق المعصية فسوف يدخل النار، الاختيار فيه مسؤولية، أنت حينما تجبر الإنسان على فعل معين لن تستطيع أن تحاسبه إطلاقاً، أما إذا خيّرته عندئذٍ تأتي المسؤولية، ويأتي الحساب، ويأتي الجزاء، ﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ لأن مشيئة الله عزّ وجل شاءت أن يكون الإنسان ذا مشيئةٍ حرة، إن اختار طريق الخير سَعِد في الدنيا والآخرة، وإن اختار طريق الشر دخل جهنم، وخلُد بها إلى أبد الآبدين، ﴿ولكن حق القول مني﴾ لأنني منحت الإنسان مشيئة حرة ﴿حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ هذه الآية واضحة.
الحكمة في اختلاف الناس فيما بينهم طالما كانوا أحراراً في الاختيار:
الآية الثانية: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ﴾ يا محمد عليه الصلاة والسلام ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ .
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)﴾
إذاً:
﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)﴾
﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)﴾
﴿ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)﴾
﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)﴾
﴿ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)﴾
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)﴾
آيات واضحة كالشمس، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ لِمَاذا هم مختلفون؟ قد يتوهم الإنسان: يا ربي جلت حكمتك لماذا أردت البشر أن يكونوا كذلك مختلفين دائماً؟ مذاهب واتجاهات ونظريات وخصومات ومشاحنات لماذا؟ الجواب: هذا هو الاختيار، لأنني منحتهم حرية الاختيار، الاختلاف فيما بينهم نتيجة طبيعية لمنحهم حرية الاختيار، لماذا هم مختلفون؟ لأنهم مخيرون، حينما تُجبر الناس على سلوك معين لا تجد اختلافاً فيما بينهم، أما إذا منحتهم حرية الاختيار هذا يختار كذا وهذا يختار كذا، هذا يلوم هذا على اختياره، وهذا يلوم هذا على اختياره، تنشأ الخلافات، هذه الخلافات من لوازم حرية الاختيار، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ لأن الاختلاف من طبيعة حرية الاختيار، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ لو أن الله سبحانه وتعالى أجبر عباده على طاعته لألغي التكليف، ألغي الابتلاء، ولكن لم يشأ ذلك، لماذا؟ ﴿ليبلوكم﴾ ليمتحنكم، ليكشف خبايا نفوسكم، ليميز الخبيث من الطيب، قال تعالى:
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)﴾
إذاً الفتنة إظهار ما في النفس، إذاً حرية الاختيار من أجل الابتلاء، أي الامتحان، أي التكليف، ومن لوازم حرية الاختيار الاختلاف بين الناس، وحرية الاختيار تنفــي الإكراه في الدين، وحرية الاختيار تقتضي المسؤولية، هذه المجموعة الأولى من الآيات تُبين أن الله عز وجل لم يشأ أن يجبرنا على طاعته، ولم يشأ أن يجبرنا على معصيته، ولكنه شاء أن نكون أصحاب مشيئة حرة نتحمل نتائج أعمالنا، ونُمتحن، ونُبتلى، فإذا نجحنا في هذا الامتحان دفعنا ثمن السعادة الأبدية التي نحيا بها إلى الأبد، هذه هي المجموعة الأولى.
أما المجموعة الثانية فقد أورد القرآن الكريم تعلل المشركين بمشيئة الله تعالى في إشراكهم، وفي عبادتهم لغير الله، أي المشركون يعتقدون أنّ الله خلقهم مشركين، أجبرهم على الشرك، هذه العقيدة عقيدة أهل الشرك، هذه الآية التي سأتلوها عليكم تنفي الجبر، أي أن الإنسان ريشة في مهب الرياح، يقول ربنا سبحانه وتعالى:
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)﴾
ألا تستمعون إلى أكثر الناس يقولون: يا أخي هذا أضله الله، ما هذا الكلام؟ هكذا، خلقه الله كافراً، خلقه مشركاً، خلقه ضالاً، طاسات معدودة بأماكن محدودة، مكتوب عليه سلفاً يجب أن يشرب الخمر، ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ ليس بيدنا شيء، ترتيب سيدك هكذا يقول، ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا﴾ ربنا سبحانه وتعالى سمّى هذه العقيدة كذباً، سماها تكذيباً، وأوعد هؤلاء المكذبين أن يعاقبهم على هذا التكذيب، ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا﴾ ما الدليل؟
أيها الإخوة الأكارم؛ لولا الدليل لقال من شاء ما شاء، منهج البحث في الإسلام: إن كنت ناقلاً فالصحة، وإن كنت مبتدعاً فالدليل، هؤلاء الذين يزعمون أنهم أشركوا لأن الله خلقهم هكذا، خلقهم مشركين، أجبرهم على ان يكونوا مشركين، فربنا عزّ وجل يطالبهم بالدليل: ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ سوف تأتيكم الحجة الداحضة لافتراءاتكم وكذبكم، قال تعالى:
﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)﴾
لم تتعلق مشيئته أن يجبركم، ولكن مشيئته تعلقت بأن يجعلكم مُخيّرين.
مرة ثانية، ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ*قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ هذه الآية محكمة، صريحة، واضحة في نفي الجبر عن الإنسان.
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له: إياك إياك أن تبتل بالماء
آية أخرى تنفي الجبر عن الإنسان، قال تعالى:
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)﴾
نحن حينما نعبد هؤلاء الأصنام إنما هي مشيئة الله، هو الذي قدّر علينا ذلك، هو الذي أجبرنا، هو الذي دفعنا إلى ذلك، هو الذي كتب علينا ذلك، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ .
أيها الإخوة الأكارم؛ هاتان الآيتان تُشكلان المجموعة الثانية المتعلقة بالقضاء والقدر، والتي هي صريحة أشدّ الصراحة في نفي الجبر عن الإنسان، وفي منحه حرية الاختيار، والدليل تتمة الآية الأولى: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ .
﴿فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ معنى هذا أنه أجبركم، وإذا أجبركم بَطَلَ الثواب، وإن أجبركم كما تزعمون على المعصية والشرك بطل العقاب، له الحجة البالغة عليكم لأنه خيَّركم، ربنا عز وجل قال: هذا القول عقيدة أهل الشرك، وكل من قال كذلك فقد انتمى إليهم، وبيّن الله عز وجل أن هذا القول كَذِب صريح، بل هو أشدّ أنواع الكذب، وأنه يفتقر إلى الدليل، ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾ وتوعّد هؤلاء المفترين الأفاكين بأنه سيحاسبهم وسيعذبهم عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة، وأكد لهم أن الله سبحانه وتعالى تعلقت مشيئته الحكيمة بأن تكونوا مخيرين لذلك له الحجة البالغة عليكم.
3- محور المشيئة الربانية:
المجموعة الثالثة من الآيات المتعلقة بالقضاء والقدر قوله تعالى في سورة الكهف: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً﴾ .
الآية الثانية:
﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)﴾
أي أنت تشاء يا إنسان، أنت مُخير، فإذا شئت طريق الحق فطريق الحق سالكة أمامك، ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ لكن: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ لهذه الآية معنيان؛ الأول أن مشيئة الإنسان هي مشيئة اختيار، ولكن مشيئة الواحد القهّار هي مشيئة فحص واختبار، فإذا شئت أنت طريق الجنة يتفحص الله سبحانه وتعالى صدقك، وإمكاناتك، والثمن الذي تدفعه لهذه المشيئة، فإذا كان الثمن وافياً، والصدق كافياً، والأهلية تامة، شاء لك ما تشاء، الذي شئته أنت، وإن لم تكن صادقاً في هذه المشيئة، ولم تدفع ثمن الهداية، ولم تؤد ما عليك من موجباتها، عندئذٍ مشيئة الله عزّ وجل لا تشاء لك هذه المشيئة الكاذبة، هذا معنى أولي، لكن المعنى الذي هو ألصق بدرسنا هو المعنى الثاني: ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ لكن هذه المشيئة الحرة التي مُنحتم إياها، والتي هي سبب سعادتكم، وسبب رُقيكم في الآخرة، هذه المشيئة الحرة من خَلْقِ الله عزّ وجل، لولا المشيئة الحرة لما ارتقيتم إلى الله عزّ وجل، إذاً: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ لولا أن الله شاء لكم هذه المشيئة الحرة لما نعمتم في الجنة، ولما ارتقيتم إلى رب الأرض والسماوات.
أيها الإخوة الأكارم؛ بقي علينا مجموعتان مهمتان من الآيات القرآنية المتعلقة بالقضاء والقدر، أنهينا منها ثلاث مجموعات في هذا الدرس، وسوف ننهي المجموعتين الأخريين في الدرس القادم إن شاء الله تعالى، وإذا تفضّل علينا بذلك.
الملف مدقق