الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
النعيم الأرقى في الآخرة النظر إلى وجه الله الكريم:
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع ولعله هو الأخير من سورة الدهر، ومع الآية التاسعة عشرة.
﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19)﴾
أي كل شيء بالجنة مسعد، بدءاً من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، إلى الفواكه التي قطوفها دانية، إلى الحور العين التي لو أطلت إحداهن على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر، إلى الولدان المخلدين الذين يطوفون على أهل الجنة، وهذا كله نعيم حسي أما النعيم الأرقى النظر إلى وجه الله الكريم.
﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(26)﴾
﴿الْحُسْنَى﴾ أي الجنة، ﴿وَزِيَادَةٌ﴾ النظر إلى وجه الله الكريم، وهناك شيء فوق هذا.
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)﴾
قد تنظر إلى شيء رائع ولكن هذا الشيء الرائع لا ينظر إليك، أما رضوان الله عز وجل هو أعظم شيء يناله مخلوق في الكون؛ أن يرضى الله عنك، ووسائل الرضا بين يديك، وإذا شعرت أن الله راضٍ عنك وأنت في الدنيا فأنت أسعد الناس.
ما من شعور يُسعد الإنسان في الأرض كأن تشعر أن الله راضٍ عنك، ما من شعور يسعدك في الدنيا كأن تشعر أنك في طاعة الله، وأنك تحت ظلّ الله، وأنك في رعاية الله، وأنك في توفيق الله، وأنك في نصر الله، شعور أن الله معك لا يوصف، لا يعرفه إلا من ذاقه:
﴿ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)﴾
أي إذا كان الله خالق الأكوان معك من يستطيع أن ينال منك بنظرة؟
إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ وإذا تخلى الله عنك تخلى عنك أقرب الناس إليك، وقلبوا لك ظهر المجن، وقد يُهان الإنسان في عقر بيته، ومن أقرب الناس إليه، وقد يُخيب أقرب الناس إليه ظنه، وقد يرى العجب العجاب إذا تخلى الله عنه، وإذا كان معك سخر لك أعدى أعدائك، إذا كان الله معك كل من في الأرض معك، ألقى محبتك في قلوب الخلق، وإذا كان الله عليك ألقى البغض في قلوب الخلق، ومن هاب الله هابه كل شيء، ومن أطاع الله أطاعه كل شيء.
أيها الأخوة؛ الجنة حسية، حور عين.
﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(13)﴾
﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ(35)﴾
﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)﴾
أي شيء يخطر في بالك تراه أمامك ومتجددة إلى أبد الآبدين، وفوق هذه النعم الحسية هناك نعم النظر إلى وجه الله الكريم.
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾
وفوق هذا وذاك: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ ، ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً﴾ .
المؤمن في الجنة ملك كبير:
أيها الأخوة؛
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20)﴾
﴿وَإِذَا رَأَيْتَ﴾ أي يا محمد ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ﴾ ثم: ظرف مكان بمعنى هناك، ثُمّ شيء، وثَمّ شيء آخر، لم يكن ثَمة من أحد، لم يكن هناك من أحد، ثَم تعني هناك، ظرف مكان، ﴿وإذا رأيت ثَمَّ﴾ أي هناك ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً﴾ مقام المؤمن في الجنة مُلْك كبير.
للتقريب كيف أنك إذا علمت أن رجلاً له قصر، مساحته عشرون ألف متر، أنا زرت قصراً في استنبول، مساحته عشرون ألف متر، قاعة الاستقبال ألفا متر، يوجد فيه خمسة طن ذهباً للتزيين، الأبهاء، والمداخل، والحمامات، وغرف النوم، وغرف الاستقبال، والذهب المزين به الأقواس، والشيء الذي لا يوصف هذا لا يسمى بيتاً، ولا مسكناً، حتى ولا قصراً، هذا ملك كبير.
للتقريب: إنسان عنده مئة سيارة، عنده طائرات من كل القياسات، عنده يخوت بالبحر، عنده بكل بلد قصر، بكل مكان جميل بالعالم قصر، نقول: هذا مُلْك كبير، ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً﴾ .
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ذُخْرًا بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ» ثمَّ قَرَأَ {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . ))
بينك وبين الجنة أن تطيع الله، وبينك وبين الجنة أن تعبده، وبينك وبين الجنة أن تفعل الصالحات، الآية الكريمة:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً(108)﴾
هذا كلام الله، هذا ليس كلام أديب، نقول: خيال شاعر، نقول: أفكار ترد على ذهن عبقري، هذا كلام خالق الكون، فما عليك إلا أن تدفع الثمن.
﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)﴾
أي:
﴿ كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)﴾
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)﴾
هذا الثمن
﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)﴾
فهذه الجنات، وهذا النعيم المقيم بسبب الإحسان فقط، وكلمة إحسان مطلقة، في كل حركات المؤمن وسكناته محسن، في كل أقواله محسن، في كل تصرفاته محسن، محسن في بيته، في عمله، مع من حوله، مع من فوقه، مع من دونه، عمله متقَن، كلامه طيب، تصرفاته أديبة، ثيابه ساترة، نظراته متواضعة، محسن، كلمة مطلقة تنتظم كل حركة الإنسان في الدنيا.
طاعتك لله لا تتناسب مع الأجر العظيم المقدم لك:
يا أيها الأخوة الكرام؛ لا يتناسب الثمن مع المبيع، أي طاعة الله عز وجل في سنوات محدودة، ما منعك من الطعام، ولا من الشراب، ولا من الزواج، ولا من أن تأكل، كُلْ واشرب وتزوج واسكن في بيت ولكن وفق منهج الله.
ما كلفك أن تصلي ألف ركعة في اليوم، خمس صلوات، الصلاة ثلث ساعة، ما كلفك أن تصوم كل أيام العام، شهر واحد، ما كلفك أن تحج كل عام، مرة في العمر، الحج مرة، والعمرة مرة أو أكثر، والصيام شهر في العام، والصلوات خمس، يوجد وقت تنام ثماني ساعات، وهناك وقت تعمل ثماني ساعات، وهناك وقت تقعد مع أهلك، وهناك خمس صلوات، والفجر أربع ركعات، والظهر عشر ركعات، أو اثنتا عشرة ركعة، أي العبادات وفق طاقة الإنسان، ضمن إمكانيته.
ما حرمك من النساء قال لك: تزوج، لكن نهاك عن الزنا، حرم عليك الخمر سمح لك بعشرة آلاف مشروب، أنواع العصير، وأنواع المشروبات، أنواع لا تعد ولا تحصى، لكن اترك الخمر، سمح لك بآلاف الأنواع من اللحوم، منعك لحم الخنزير فقط وبعدها يوجد جنة، كم هو الإنسان غبي إذا نسي جنة الله عز وجل؟!
لذلك الإنسان الشارد حينما يأتيه ملك الموت يصيح صيحة لو سمعها أهل الأرض لصعقوا من شدة الندم.
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)﴾
﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)﴾
﴿ يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً (29)﴾
هذه كلمات الحسرة والندم تسحق الإنسان، ونحن أحياء، نحن نستمع، أهل النار ماذا يقولون؟ دققوا أهل النار وهم في النار يتصايحون ماذا يقولون؟
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾
إذا استمعت إلى الحق، واهتديت إلى الله عز وجل فزت بالجنة في الدنيا والآخرة، في الدنيا جنة القرب، وفي الآخرة جنة الله عز وجل، فلذلك: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً﴾ الإنسان يسكن ببيت مئة متر، مئة وعشرون، أي إذا كان مئتين يقول لك: ما شاء الله، ثلاث غرف نوم، صالونات، إذا عنده بيت وعنده مزرعة هذا شيء كبير، عنده بيت ومزرعة وهناك فيلا على البحر أكبر وأكبر، عنده سيارة له، ولزوجته سيارة، ولابنه سيارة، واحدة للسفر، وواحدة ضمن البلد، وواحدة كبيرة للأقارب، هذه بالدنيا، فكيف إذا قال الله عز وجل وهو العظيم: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً﴾ إذا قال لك طفل: أنا معي مبلغ كبير، كم تقدره؟ طفل عمره ثلاث سنوات، أنا معي مبلغ كبير، أي خمس وعشرون ليرة، إذا قال لك شخص من أكبر أغنياء البلد، قال لك: أنا معي ثروة ضخمة، أي مئة ألف معه، قل: خمسة آلاف مليون، قل: سبعة آلاف مليون، إذا الكبير قال: كبير، معنى هذا شيء كبير، إذا العظيم خالق الكون قال لك: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً﴾ حدثني أخ ذهب لبلد، قال لي: قصر الملك ضمن غابة عملاقة، السيارة تمشي فيه قريب من ساعة، ضمن غابات القصر، يوجد قصور بأوروبا، قصور بشرق آسيا شيء لا يوصف، استانبول هذا قصر دولمة بهجة هذا مساحته عشرون ألف متر، أي عشرون دونم، قاعة الاستقبال ألفا متر، ارتفاع السقف ارتفاع بناء بكامله، كله مزين، أنا أضرب أمثلة على قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً﴾ لأن الله عز وجل يقول في الحديث القدسي: ((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ)) .
إذا شخص رأى هكذا قصور يقول لك: مثل هؤلاء، لا، لا ليس مثلهم، أكبر بكثير، الذي عنده رغبات سياحية، وطاف أرجاء الدنيا، ودخل إلى قصور الملوك، ورأى العجب العجاب، الآن يوجد قصور تجد فيها زخرفات، فيها تماثيل، فيها رخام، فيها ذهب، شيء لا يوصف، الحديث القدسي: ((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) هذه الجنة ثمنها بيدك، ثمنها بيدكم جميعاً، ثمنها طاعة الله، وطاعة الله ضمن وسعك.
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً (21)﴾
يرتدون ثياباً فخمة جداً، اللون الأخضر جميل، هذا لون ثياب أهل الجنة، ﴿عَالِيَهُمْ﴾ أي يرتدون ثياباً من حرير، حرير رقيق وحرير غير رقيق، ﴿ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً﴾ أي ثياب فخمة جداً، حلي فخمة جداً، شراب طيب جداً، يقال لهم:
﴿ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)﴾
أنت في الدنيا متزوج وعندك امرأة، لكن وأنت في الطريق مرت امرأة حسناء، ليس في الأرض كلها قانون يمنعك أن تنظر إليها، ولكنك غضضت البصر عنها خوفاً من الله، هذا له ثمن.
إذا كنت تمشي في طريق كله نساء كاسيات عاريات، ولم تركز ولا على امرأة، ولا أطلقت البصر إليهن، هذا له ثمن.
عُرض عليك دخل كبير من شبهة، من مال حرام، أو عمل رفيع المستوى لكن لا يرضي الله، فقلت: معاذ الله إني أخاف الله رب العالمين.
يوجد مكاسب في الدنيا كبيرة جداً، أحياناً يمكن أن تصبح من أصحاب الملايين بمعاملة غير شرعية، بكسب غير مشروع، تقول: معاذ الله.
﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)﴾
الجنة جزاء المؤمن العفيف الطاهر:
أنا ذكرت لكم هذه القصة مرات عديدة، لكن هنا مناسب أن أذكرها: رجل من أهل الغنى، في هذه البلد الطيبة، أراد أن يبني مسجداً، في حيّ ليس فيه مسجد، بحث عن أرض مناسبة، وجد هذه الأرض المناسبة، صاحب هذه الأرض نالها بالإرث قبل أشهر ، صاحب هذه الأرض يعمل حاجباً في مدرسة ابتدائية-آذن في مدرسة ابتدائية -دخله ثلاثة آلاف، أربعة آلاف بالشهر، عنده ثمانية أولاد، يسكن ببيت عربي متداعٍ، ودخله ثلاثة آلاف، وعنده ثمانية أولاد، وليس له من الدنيا إلا هذه الأرض التي تَمَلّكها قبل شهر عن طريق الإرث.
هذا الرجل الميسور الغني أعجبته الأرض بحث عن صاحبها، سأل عنه، ساومه، فتمّ الاتفاق على أن يبيعها له بثلاثة ونصف مليون ليرة، وصار إيجاب وقبول، وانتهى كل شيء، وكُتِب العقد، وسطّر هذا الغني شيكاً لصاحب هذه الأرض بمليونين وقال: الباقي عند التنازل في الأوقاف، قال: لماذا الأوقاف؟ قال له: لأنني سأبني عليها مسجداً، فما كان من هذا الآذن إلا أن استرجع الشيك ومزقه وقال له: أنا أولى أن أقدمها لله منك، وقدمها لله عز وجل.
يقول هذا الغني: ما مرّ في حياتي موقف صغرت أمام إنسان كهذا الموقف، رأى حاله لا شيء أمام هذا الآذن، آذن بيته متداع، عنده ثمانية أولاد، راتبه ثلاثة آلاف لا يكفيه أسبوع أو أسبوعان، وعنده هذه الأرض الوحيدة ثلاثة ونصف مليوناً، وتمّ الإيجاب والقبول، قبض أول دفعة، لأنه علم أن هذا الذي اشتراها سيهبها لله عز وجل ويبني عليها مسجداً، قال: أنا أولى منك أن أقدمها لله، والآن هذا الجامع بناه أحد إخواننا وهو بنهر عيشة وله خيرات كثيرة، هذا الذي أعطى الأرض عند الله لا يوجد له شيء؟ له قصور لا تنتهي، الذي أنفق ماله ليس له شيء عند الله عز وجل؟ الذي ضبط نفسه بالشرع؟
الآن البلد حفلات واختلاط وسهرات وأفلام وصحون، يوجد كل شيء، وحفلات المجتمع المخملي، المؤمن يأوي إلى مسجده، فهذا الذي يغض بصره عن محارم الله، يضبط لسانه، يُنفق ماله، يرعى حقوق الآخرين، زوج صالح، أب صالح، جار صالح، عامل متقن، طبيب نصوح، مهندس وفي، أي يتقن عمله، هذا المؤمن المستقيم الصادق الأمين العفيف هذا له جنة عرضها السماوات والأرض.
ندم الإنسان على الوقت الضائع:
والله أيها الأخوة؛ لو نعلم جميعاً ما علمه النبي عليه الصلاة والسلام بما أعدّ للمؤمنين من نعيم مقيم لما نام أحدنا الليل، والله، لأنه أي ساعة تمضي دون أن تذكر الله فيها خسارة، أية ساعة تمضي دون أن تزداد علماً بالله خسارة، أية ساعة تمضي دون أن تزداد قرباً من الله خسارة، أي شيء تنفقه دون أن تبتغي به وجه الله خسارة، أي لقاء تلتقي به دون أن تذكر الله خسارة، أية نزهة تمضي بها وقتاً دون أن تذكر الله فيها خسارة، أي اجتماع، أية سهرة، أية وليمة تقام ابتغاء الظهور خسارة.
(( عن أبي ذر: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ. ))
[ أخرجه الترمذي: حسن غريب ]
هذه الدنيا تمضي.
ذكرت لكم مثل قبل يومين وأعيده لا يوجد مانع، سباق سيارات، كبيرة، وصغيرة، وحديثة، وقديمة، وقوية، وضعيفة، وجميلة، وغير جميلة، على طريق طويل ينتهي بقاطع خمسين متراً، وتحت حفرة مالها من قرار، فأول سيارة تسقط، وآخر سيارة تسقط، وأكبر سيارة تسقط، وأصغر سيارة تسقط، وأحدث سيارة تسقط، وأقدم سيارة تسقط، والأولى تسقط، والأخيرة تسقط، كله نازل، هذه الدنيا، غني ينزل ميتاً، الكفن ليس له جيب، دفتر شيكات لا يوجد بالقبر، الفقير يموت، المريض يموت، الصحيح يموت، القوي يموت، الضعيف يموت، الذي استغل أموال الناس يموت، المستغَل يموت، كله يموت، ما هذا السباق؟ شخص ورث تسعين مليوناً ترك محله واندفع لتحصيل هذا المبلغ عن طريق المعاملات، مات قبل أن يقبض قرشاً واحداً، هذه الدنيا، الدنيا جيفة طلابها كلابها، الدنيا دار من لا دار له، ولها يسعى من لا عقل له.
أيها الأخوة الكرام؛ ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾ وقوله تعالى:
﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)﴾
يوجد وعد إلهي، قال تعالى:
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ(61)﴾
إنسان وعده الله بالجنة، وعده الله بنعيم مقيم، وعده الله بجنة عرضها السماوات والأرض، وعده برضوان منه، وعده أن ينظر إلى وجهه الكريم، وهو خالق الأكوان، لا يعبأ بهذه الوعود، ولا يخشى هذا الوعيد، ويتحرك وفق شهواته، يشتم هذا، ويضرب هذا، ويأكل مال هذا، هذا هو الحمق بعينه والله أيها الإخوة، هذا هو الغباء بعينه، هذا هو الشقاء بعينه: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾ إنسان أحياناً يشكر إنساناً، أي إذا كان أب له ولد شارد عاق، وإنسان كريم أقنع هذا الابن أن يعود إلى مظلة أبيه، وأن يُرضي والده، وأن يكون ابناً باراً، هذا الأب ما شعوره تجاه هذا الإنسان الكريم الذي أعاد له ابنه؟ أنا لا أبالغ يقول له: أموت ولا أنسى فضلك، لأنه سبب برجوع ابنه له.
إذاً إذا شخص منكم أكرمه الله بهداية شخص آخر، أقنع إنساناً بالدين، أقنعه بالاستقامة، أقنعه بالتوبة، أقنعه أن يلزم مجلس علم، أقنعه أن يدع المنكرات، عبد شارد رُدّ إلى الله، هذا الذي رده إلى الله كم له عند الله؟ هذه الدعوة صنعة الأنبياء أيها الأخوة.
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)﴾
أي لا تجد في الأرض كلها إنساناً أفضل ممن ساهم بنشر الحق، وردّ الناس إلى الله، وأقنعهم أن يستقيموا، وأقنعهم أن يعبدوا الله عز وجل.
حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح:
إخواننا الكرام؛ الإنسان حجمه عند الله بحجم عمله الصالح، ألا تقرؤوا هذه الآية:
﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)﴾
فأنت أقنعت إنساناً بالإيمان، أقنعت إنساناً بالاستقامة، ساهمت بأخيك، بابن أخيك، بجارك، بزميلك بابنك، أقنعته أن يستقيم، أقنعته أن يعرف الله عز وجل، أقنعته أن يدع المنكرات، اعتنيت فيه، تفقدته، زرته، خدمته، أعطيته، حتى أخذت بيده إلى الله، هذه الآية دقيقة جداً، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ .
والله أيها الأخوة؛ أنا أرى بعض الأخوة الكرام لهم عمل عظيم، تجده هو وشركاؤه وأولاده وأقرباؤه وأصدقاؤه القدامى كلهم صاروا في المسجد، وكلهم التزم، وكلهم تركوا المنكرات، هذا جهد عظيم، فأنت لا تعلم ما لك عند الله إذا ساهمت في هداية إنسان.
عطاء الله للإنسان المستقيم:
ضربت لك مثلاً من واقع الحياة، إذا كان هناك ابن عاق، ابن شارد، ابن شرس، وشخص ما أقنعه أن يصبح ابناً باراً، مستقيماً، أعاده إلى أبيه، ماذا يقول الأب لهذا الإنسان؟ يقول له: قدمت لي معروفاً لا أنساه مدى الحياة، والله شاكر عليم.
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147)﴾
فإذا أنت خدمت لله عباده، ورحمت عباده، وطمأنت عباده، وتلطفت بعباده، ونصحت عباده، وأكرمتهم، وأعطيتهم، ودللتهم على الله، وكنت معهم، من الذي سيشكرك؟ الله جلّ جلاله.
أنا أنتظر من كل أخ منكم أن يكون داعية، ليس من الضروري أن تتعين خطيباً إطلاقاً، ليس من الضروري أن يكون لك اسم لامع، هذا وحيد عصره، فريد زمانه، لا، أنت إذا جارك أقنعته بالدين، إذا ابنك، إذا أخوك، إذا ابن خالتك، ابن عمتك، صديقك، اعتنيت به، زرته، أسمعته شريطاً، أعطيته كتاباً، دعوته للمسجد، تابعته، تفقدته، أنت ساهمت بهداية إنسان، لك عند الله عطاء لا يعلمه إلا الله، وهذه الآيات أمامك: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾ .
هؤلاء الذين فتحوا الصين، فتحوا شمالي أفريقيا، تجد بالمغرب يوجد جوامع، بالجزائر يوجد جوامع، في تونس يوجد جوامع، في ليبيا يوجد جوامع، بمصر، بالسودان، نصف إفريقيا مسلمة، بالصين يوجد خمسون مليون مسلم، بأمريكا عشرة ملايين مسلم، بفرنسا هناك ألف مسجد، هؤلاء الذين نشروا الحق، ووسعوه، وأسعدوا الناس، هؤلاء ما لهم عند الله؟ هذه التجارة، هذا هو الذكاء، هذا هو التوفيق، هذا هو الربح، هذا هو الفلاح، هذا هو التفوق.
بعد ذلك الله عز وجل عندما تقدم شيئاً للآخرين لا تنساه، هم في مساجدهم والله في حوائجهم، اسمحوا لي أتكلم بهذه الكلمة ولا تطالبوني بالدليل عليها، لأنه لا يوجد معي دليل، لكن أنا أشعر هذا، إذا لم تساهم في خدمة الخلق الله يرقيك بالصبر، أي إما أن ترقى بعمل صالح، وإما أن ترقى بصبرك على مصيبة، أيهما أحسن لك؟ الله يريدك، أنت مطلوب برحمته، مادمت آمنت لك عنده مقام، هذا المقام إما أن تصل إليه بالأعمال الصالحة، وخدمة الخلق، والخروج من ذاتك، وإما أن تصل إليه بالصبر، والله أول طريق أجمل وأسعد وأكمل وأشرف فإذا خرجت من ذاتك لخدمة الخلق تولى الله شؤونك، عبدي أنت تريد وأنا أريد فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد، عبدي كن لي كما أريد، ولا تعلمني بما يصلحك -لا تكلف نفسك أن تقول لي ماذا تريد، أنا أعرف ماذا تريد-كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك.
أي إذا خرجت من ذاتك لخدمة الخلق الله عز وجل كفاك كل همّ في الدنيا، أبداً، والله عز وجل فيما ورد عن رسول الله هم في مساجدهم والله في حوائجهم، أوحى ربك إلى الدنيا أنه من خدمك فاخدميه، ومن خدمني فاخدميه، إذاً: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾ أي أنت عندما تؤمن لك معاملة خاصة، أنت مستثنى مما يصيب الشاردين، والتائهين، والغافلين، والعصاة.
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(97)﴾
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾
﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾ أي إنسان يكون في رضوان الله، وينتظر ما عند الله.
مرة قال لي أخ من باب المداعبة: والله هذا المؤمن يصيبه ما يصيب الناس، ما هي ميزاته؟ إذا وجد الحر يذوق الحر مع الناس، إذا كان هناك برد، إذا كان هناك أزمة مواصلات يعاني من هذه الأزمة، يوجد أزمة سكن يعاني منها، يوجد غلاء أسعار يعاني منها، قلت له من باب التوضيح: لو أن إنساناً موظفاً فقيراً عنده ثمانية أولاد، دخله ألفان أو ثلاثة آلاف، بيته بالأجرة، عليه دعوى إخلاء، أي مصائب الدنيا اجتمعت عليه، وله عم حجمه المالي خمسمئة مليون، ليس له أولاد، ومات هذا العم فجأة بحادث، لمن هذه الخمسمائة مليون؟ لابن أخيه الفقير المُعدم، لا يستطيع أن يقبض قرشاً واحداً قبل عام، حتى تتم المعاملات القانونية، لماذا هو في هذا العام من أسعد الناس مع أنه لم يتمكن من أن يأكل لقمة واحدة، ولا أن يرتدي ثوباً جديداً، ولا أن يغير بيته؟ لأنه دخل في الوعد، الآن لا يملك شيئاً لكنه موعود بخمسمئة مليون، ربنا عز وجل قال: ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ إذا أنت مغطى بوعد إلهي فأنت أعظم إنسان معنى هذا، قال تعالى:
﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)﴾
أنت مغطى بهذا الوعد العظيم.
طريق الهداية طريق النجاة:
فيا أيها الأخوة الكرام؛ يجب أن نسعى، يجب أن نحُث الخطى، يجب أن نتحرى الحلال، يجب أن نقيم الإسلام في بيوتنا، أن نقيمه في أعمالنا، إذا أقمته في بيتك، وأقمته في عملك، أديت ما عليك، وانتهى الأمر، لا تحمل همّ الجميع.
﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)﴾
الله عز وجل سل النبي الكريم: من أنت؟ قال له: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ .
﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)﴾
﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)﴾
﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)﴾
﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)﴾
هذا مقام النبوة:
﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)﴾
بلاغ فقط، أما أنت شخصك مضمونة سعادته في الدنيا والآخرة بطاعتك لله، فإذا أنت كحلّ وسط بدأت بطاعة الله، وأقمت الإسلام في بيتك وعملك انتهى الأمر، وبعد ذلك افعل ما تشاء، وادعُ إلى الله كما تشاء لكن ضمنت سلامتك أنت أولاً.
أسماء الله الحسنى داخلة في أفعاله:
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24)﴾
إخواننا الكرام؛ أحياناً ربنا جلّ جلاله يعبر عن ذاته بضمير المفرد:
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾
﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ﴾ هكذا الآية وردت في سورة طه: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ هنا ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً﴾ قال بعض العلماء: ولعل في هذا الكلام شيئاً مقنعاً أن الله جلّ جلاله إذا تحدث عن ذاته العلية تحدث بضمير المفرد، أما إذا حدثنا عن أفعاله العظيمة تحدث بضمير الجمع، لأن كل أسمائه الحسنى داخلة في أفعاله، أي فعل لله فيه رحمة، فيه عدل، فيه حكمة، فيه لطف، فيه قوة، فيه قهر أحياناً، أفعاله فيها كل أسمائه، لذلك الحديث عن أفعاله بضمير الجمع:
﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)﴾
الوحي لا يملكه النبي الكريم:
هنا: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً﴾ تنزيل مفعول مطلق مؤكد للفعل، أي هذا ليس من عند محمد، هذا وحي من الله، والوحي لا يملكه النبي عليه الصلاة والسلام، لا يملك له جلباً ولا دفعاً، و الدليل: حينما اتهمت زوجته السيدة عائشة اتهاماً فظيعاً، تأخر الوحي أربعين يوماً، وما ملك النبي شيئاً في هذا الوقت، الوحي لا يستطيع النبي جلبه ولا دفعه، فهذا القرآن وحي من عند الله.
الحِكَم من وراء الآية التالية:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً*فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ هذه الآية رائعة جداً قال: اصبر على تنفيذ أمر الله أولاً، اصبر على ترك ما نهى الله عنه ثانياً، اصبر على قضاء الله وقدره، اصبر على مواجهة الكفار في الدعوة، أحياناً المواجهة تحتاج إلى صبر، وإلى شجاعة، ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ حَكَمَ الله أن نصلي، اصبر للصلاة، حَكَمَ الله أن نصوم، أن نحج، أن نعتمر، أن نؤدي زكاة أموالنا، نهانا عن الغيبة تحتاج إلى صبر، الحديث عن الناس ممتع ومسلّ ويلفت النظر، نهانا عن أن نغتاب، نهانا عن أن نكذب، نهانا عن أن نفعل المنكرات، فاصبر على الطاعات، واصبر عن الشهوات، واصبر على قضاء الله وقدره، واصبر وأنت تدعو إلى الله عز وجل.
هناك معارضون، هناك مفندون، هناك من يتهمونك، هناك من يطعنون في علمك، هناك من يُسفِّه أحلامك، سيدنا موسى بالمناجاة قال يا رب -هكذا ورد في بعض الكتب -لا تبقي لي عدواً، قال له: يا موسى هذه ليست لي، لا يوجد إنسان ليس له خصوم، لا يوجد إنسان ليس له طرف آخر يُقلل من قيمته، ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ إما اصبر على طاعته، أو عن معصيته، أو على قضائه وقدره، أو اصبر وأنت تدعو إليه، يوجد معارضات.
﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24)﴾
الكفار أو الشاردون العصاة نوعان؛ إنسان عقيدته فيها كفر، وإنسان عنده إثم، أي واحد له معاص، وآخر عنده عقيدة زائغة، الانحراف في عقيدته، أو في سلوكه، شخص عقيدته سليمة، أي مؤمن بالله ورسوله واليوم الآخرة، لكنه غارق بالمعاصي والذنوب، هذا إذا دعاك إلى سهرة، إلى حفلة، يقول لك: لا تدقق، ضعها برقبتي، الله عز وجل غفور رحيم يا رجل، عش وقتك الآن أنت، من الآن إلى يوم القيامة يفرجها الله، هذا آثم لا تطيعه، لا ترد عليه إطلاقاً، والثاني يقول لك: من مات ورجع وقال لك: يوجد آخرة، هذا الثاني الكافر، أي شخص كافر، خلل في عقيدته والثاني خلل في سلوكه، إياك أن تطيع لا هؤلاء ولا هؤلاء، ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾ أحياناً تأتيك دعوات من كفار للتقليل من قيمة الدين، يقول لك: هذا الدين شعور، الإنسان عندما كان ضعيفاً خاف من قوى الطبيعة فتدين، الآن عصر علم، الآن كل شيء مسيطَر عليه مثلاً، هذا كلام، هذا كافر، وأصحاب الشهوات يعيشون لشهواتهم، لغناهم، للطرب، للاختلاط، للمرأة، هؤلاء آثمون، فإياك أن تطيع آثماً أو تطيع كافراً، لذلك:
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)﴾
﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)﴾
الدعوة إلى الله لها ثمن باهظ:
من أجل أن تصبر على الطاعات، وعن الشهوات، وعلى قضاء الله وقدره، من أجل أن تصبر في الدعوة إلى الله، يوجد خصومات، يوجد معارضات، يوجد متاعب أحياناً، الدعوة لها ثمن باهظ، دفع النبي أكبر ثمن، أخرجوه، وقاتلوه، ونكّلوا بأصحابه، ثم جاء نصر الله والفتح في النهاية، الإسلام وصل إلى درجة بقي موضوع ساعات بالخندق، ساعات وينتهي الإسلام عن آخره، قال أحدهم: أيعدنا صاحبكم أن تُفتح علينا بلاد قيصر أو كسرى، وأحدنا لا يستطيع أن يقضي حاجته، انتهى الإسلام، النبي صبر، لما هاجر أُهدر دمه، وضِع مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ اصبر على طاعته، واصبر عن معصيته، واصبر على قضائه وقدره، وللدعاة واصبروا في الدعوة، يوجد معارضات، مقاومات، يوجد أناس خصوم يكيدون المؤامرات، ﴿فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً﴾ إنسان فكره علماني كافر، وإنسان ثانٍ فاسق فاجر.
ذكر الله طريق الثبات على الدعوة:
من أجل أن تستطيع ذلك:
﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25)﴾
صلاة الفجر، والظهر، والعصر، الظهر بعد زوال الشمس.
﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)﴾
المغرب والعشاء ﴿فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً﴾ هذه العبادة خمسة أوقات، الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ﴾ قيام الليل، ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً﴾ .
ندم الشاردين عن طريق الحق:
﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً(27)﴾
﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾ الشاردون، ﴿يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ تحدثه عن الدنيا خمس ساعات لا يمل على الواقف بالطريق، لا يقول لك: عندي موعد، عندما تذكر له آية يقول لك: اعذرني عندي موعد، عندما تتحدث عن حديث شريف يتثاءب، سبع ساعات يعطيك كل آذانه، الحديث عن العملات، وعن البيوت، وعن الزواج، وعن التجارات، والاستيراد، والتصدير، والسفر، والرحلة، والفندق خمس نجوم، والعرس، تصل إلى موضوع الدين تجده يتثاءب، لا يريد، لأنه شيء عنده غير مطلوب، لذلك: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾ أي يوم ينسون فيه كل ملذات الدنيا، يصعقون.
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25)﴾
أي إذا شخص حضر ألف عزيمة، وكل عزيمة طعامها أطيب من الأخرى، بأحد الليالي أصابه ألم في أسنانه لا يحتمل، فكان بقرية لا يوجد فيها طبيب أسنان، لو تذكر هذه الولائم وليمة وليمة هل يذهب ألمه؟ اليوم أكلنا الأكلة الفلانية وهي لذيذة جداً، لكن الألم قائم، لو أراد أن يستعيد كل الطعوم الطيبة التي أكلها، وأسنانه تؤلمه، والألم لا يُحتمل، واقعه الآن في شقاء، فالماضي ينسى في لمحة.
جزاء المؤمن والكافر يوم القيامة:
الكافر يقول حينما يرى مكانه في النار: لم أر خيراً قط، في كل حياته، يكون قد زار جميع الأماكن، يقول لك: ما هذا الفندق شيء جميل جداً، أكل، سفر، ركبت هذه السيارة، ركبت هذه الطائرة، يحدثك ساعات عن رحلاته، عن متعه، عن نعيمه، حينما يرى مكانه في النار، يقول: لم أرَ خيراً قط، والمؤمن حياته كلها متاعب، وتكليف، وضبط شهوات، وضبط جوارح، وضبط لسان، وضبط عين، لا يسمع شيئاً خلاف الشرع، لا ينظر إلى عورة إنسان، ضابط لسانه، ضابط دخله، عرضوا عليه ملايين، قال لك: لا، إني أخاف الله رب العالمين، بقي على دخله المحدود، وبقي على بيته الصغير، لكن حينما يأتيه ملك الموت، يقول: لم أرَ شراً قط.
طالب جامعي درس وأخذ الشهادة بأعلى درجة، وقد نال الدرجة الأولى، لو حاول أن يتذكر سهر الليالي للساعة الرابعة، واعتزل بالبيت، وكم مرة ما فهم الموضوع، وسأل صديقه، وأحضر كتباً وترجم، عندما يأخذ الدرجة الأولى نشوة النجاح تنسيه كل متاعب السنة، هذه الحياة في الحقيقة.
الظفر برضوان الله مراد كل إنسان:
نشوة الظفر برضوان الله ينسيك كل متاعب الحياة، وشقاء النظر إلى مصير إنسان ينسيه كل ملذات الحياة، لذلك:
﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)﴾
الملف مدقق