الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الخامس والأخير من سورة الدهر، ومع الآية الكريمة:
﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25)﴾
هل هناك من علاقة بين الصبر والذكر؟ الصبر سلبي، أما الذكر إيجابي، لو أن الإنسان صبر ولم يذكر يختل توازنه، الذكر هو البديل، الإنسان مفطور على حبّ الخير، مفطور على حبّ الجمال، مفطور على حبّ النوال، فالإنسان يحتاج إلى إيجابيات فإذا صبر عن الشهوات التي حرمها الله عز وجل لابدّ من البديل، لابد من بديل جمالي، لابد من بديل إيجابي، لا بد من جميل ينسيك الذي تركته في سبيل الله، إنه ذكر الله.
عندما يستقيم الإنسان، ويضعف ذكره تصبح استقامته عبئاً عليه، عندما يستقيم ولا يذكر الله إلا قليلاً يرى الاستقامة عبئاً لا يُحتمل، لأنه سلبيات، ترك هذه، وترك هذه، وترك هذه، إذاً ما الإيجابيات؟ هذا الطعام ممنوع، هذا الطعام ممنوع، هذا الطعام ممنوع، إذاً بقي بلا طعام، لابد من طعامٍ نفيسٍ ينسيه هذا الذي تركه، فدائماً صبر وذكر، الصبر سلبي.
ذكرنا في درس سابق: الإنسان عليه أن يصبر على الطاعات، فالطاعات فيها جهد، تكاليف، وعليه أن يصبر عن الشهوات، وعليه أن يصبر على قضاء الله وقدره، أما ما البديل؟ البديل الأنس بالله.
المنظر الجمالي لأهل الدنيا المال، الطعام، النساء، الأماكن الجميلة، المركبات، البيوت، إذاً عندما الإنسان المؤمن يدع أشياء كثيرة لوجه الله لابد من مصدر جمالي له يسعده، إنه ذكر الله، اصبر واذكر، دع هذا وخذ هذا، لكن دع ولا تأخذ، اختل توازنه الإنسان، فالإنسان سعادته بذكر الله.
لذلك قالوا: في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، إنها جنة القرب، أحد العلماء قال: بستاني في صدري ماذا يفعل أعدائي بي؟ إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة.
قال بعض شرّاح الحديث: حينما قال عليه الصلاة والسلام: أبو بكر في الجنة، الآن في جنة أي في جنة القرب، لابد من البديل، أنت حينما تحرم ابنك كل هذه الشبهات والمعاصي، لابد من البديل، لابد من أن تعلمه، لابد من أن تعطيه أشياء إيجابية يحبها حتى ينسى هذا الذي تركه.
يوجد آباء قمعيين، هذه حرام، وهذه حرام، وهذه لا تجوز، وهذا ممنوع، هذه لابأس بها، ماذا أفعل؟ لابد من أن تقدم البديل، والتربية هكذا، والتعليم هكذا، والدعوة إلى الله الصحيحة هكذا، عندما أنت منعته من هذه الشبهات وهذه المحرمات يجب أن تعطيه البديل الإيجابي، أن تعطيه الشيء الذي يسره، أن تعطيه الجانب الجمالي في الدين، الإنسان يمشي بالصحراء، حَر لا يحتمل، عطش، لكن بعد حين يوجد واحة، فيها ظل، فيها ماء، فلابد من محطات استراحة، لابد من إيجابيات، لابد من القرب من الله.
طعم الإيمان يشدك إلى الدين:
أقول لكم هذه الكلمة أيها الأخوة؛ الدين منطقي، والدين حق، والدين أعطى الإنسان تفسيراً عميقاً وواضحاً ومتكاملاً للكون والحياة والإنسان، والدين أعطى للموت تفسيراً عميقاً، الموت بداية وليس نهاية، الدين أعطى الحياة معنى الإعداد لا معنى الاستهلاك، الدين أعطى الإنسان قيمة كبيرة جداً، الإنسان مخلوق أول، كل هذه الأفكار العظيمة، وكل هذه المنظومة المتناسقة، وكل هذا التصور العميق، لا يكفي وحده، الإنسان حينما يُشدّ إلى الدين لأن الله تجلى على قلبه، لأن الله أسعده، لأن الله قربه، لأنه أذاقه طعم القرب، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام:
(( ذاق طعم الإيمان من رضيَ باللَّهِ ربًّا، وبالإسلامِ دينًا، وبمحمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عليه وسلم نبياً. ))
الإيمان له طعم، يوجد بالإيمان قناعات، وأفكار، ومبادئ، وتصورات، جيد، لكن يوجد بالإسلام أذواق تذوقها، تشعر بها، الذي يشدك إلى الدين طعم الإيمان، الذي يشدك إلى الله القرب منه، الذي يشدك إلى البذل والتضحية هذه السعادة التي تنغمس فيها، هذه الإيجابيات، دعوة إلى الله بلا إيجابيات لا تنجح، تدين مبني على القمع والتحريم، حرام، ولا يجوز، ودع هذا، لا تنجح، لابد من أن يكون هناك شيء بين يديك تسعد به.
عندما تركت المحرمات هناك المباحات، والمباحات يوجد معها قرب من الله عز وجل، فلذلك لابد من أن نذكر هذه النقطة.
القلوب لا تطمئن إلا بذكر الله:
لذلك يقول الله عز وجل: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ آية واحدة لو فهمناها فهماً دقيقاً كما تقتضيه قواعد اللغة وهي قوله تعالى:
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾
نحن قد نقرأ القرآن ولا نعرف دقائق نظمه الإعجازي، لو أن الله عز وجل قال: تطمئن القلوب بذكر الله، هذا الكلام ليس قرآناً، السبب: لأن هذه العبارة لا تعني أن القلوب تطمئن بذكر الله وحده، تطمئن بذكر الله، وقد تطمئن بغير ذكر الله، وقد تطمئن بالمال الوفير، وقد تطمئن بالجاه العريض، وقد تطمئن بالمتع الرخيصة، أما حينما قال الله عز وجل وهو ربنا، هو الخبير، هو الصانع، قال: ﴿ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾ أي أن القلوب لا تطمئن إلا بذكر الله.
يوجد بالإنسان حاجة، يوجد فراغ لا يملؤه المال، قد تجد إنساناً معه ملايين وهو أشقى الناس، لا تملؤه الصحة قد تجد إنساناً كالحصان وهو شقي، لا يملؤه الجاه العريض، قد تجد إنساناً قوياً جداً، بيده مقاليد الأمور وليس سعيداً، لكن هذا الفراغ يملؤه الإيمان، ﴿ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾ .
ينبغي أن نعلم علم اليقين أن الإنسان قلب وعقل وجسم، الجسم يحتاج إلى طعام وشراب هو قِوام حياته، والعقل يحتاج إلى علم غذاؤه الأول، والقلب يحتاج إلى ذكر، فبإتقان الصلوات، وبذكر الله عز وجل، وتلاوة القرآن، وبالدعاء، والاستغفار، والمناجاة، والابتهال، والتسبيح، والحمد، والتكبير، هذه كلها أذكار توصلك بالله، تُسعد القلب، هي غذاء القلب.
دقق تماماً الذكر كالمحرك، والعقل كالمقود، غذاء العقل هو العلم، وغذاء القلب هو الذكر، الذكر يعطيك قوة اندفاع هائلة، أما العقل وغذاؤه العلم يعطيك منهجاً، يعطيك مقوداً صحيحاً تبقى على الطريق، فالذكر والعلم يتكاملان، وأية دعوة تركز على الذكر ولا تركز على العلم دعوة عرجاء، وأية دعوة تركز على العلم ولا تركز على الذكر دعوة عرجاء، وأية دعوة تركز على العلم وعلى الذكر وتهمل الجسم، وتهمل الحياة، وتهمل الكسب المشروع، وتهمل قِوام الحياة دعوة لا تنجح.
الخطوط التي نسير عليها لنتزود بالمعرفة:
خطوط ثلاث، العبادة طاعة طوعية تسبقها معرفة يقينية تفضي إلى سعادة أبدية، هناك جانب معرفي، وجانب سلوكي، وجانب جمالي، خطوط ثلاث يجب أن نسير عليها معاً، جانب معرفي، جانب سلوكي، جانب جمالي، تتزود بالمعرفة، تسلك منهج الله عز وجل، تتصل بالله، الاتصال بالله يجعلك تعيش في سعادة كبيرة تنسى بها هموم الدنيا.
(( عَجِبْتُ لأمرِ المؤمنِ، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ خيرٌ، إن أصابَهُ ما يحبُّ حمدَ اللَّهَ وَكانَ لَهُ خيرٌ، وإن أصابَهُ ما يَكْرَهُ فصبرَ كانَ لَهُ خيرٌ، وليسَ كلُّ أحدٍ أمرُهُ كلُّهُ خيرٌ إلَّا المؤمنُ. ))
[ مسلم عن صهيب بن سنان الرومي ]
لذلك الله عز وجل يقول:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41)﴾
﴿ذِكْراً كَثِيراً﴾ الأمر يتجه إلى كثرة الذكر، لا إلى الذكر، لأن الذكر القليل يفعله المنافقون.
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً (142)﴾
الذكر القليل يفعله المنافقون، أما المؤمن فيذكر الله ذكراً كثيراً، لذلك الصلوات الخمس ذكر كثير، المتقنة، تلاوة القرآن كل يوم ذكر، التسبيح ذكر، الاستغفار ذكر، الدعاء ذكر، الابتهال ذكر، المناجاة ذكر، التكبير ذكر، الحمد ذكر، الشكر ذكر، الدعوة إلى الله ذكر، بيان السنة ذكر، بيان الحكم الفقهي ذكر، بيان السيرة ذكر، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾ .
جرِّب في أي جلسة تذكر الله تنعقد القلوب، تجتمع القلوب، تتألق الوجوه، يسعد الحاضرون، فإن ذكرت غير الله قام الحاضرون عن أنتن من جيفة حمار، احرص على ذكر الله في كل جلسة، لا تنس أن تذكر الله، ذكر الناس بآية، بحديث، بقصة، بحكم فقهي، بسيرة، بصحابي، بشيء يسمو بك، يرقى بك، قال: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ إما أن تذكره لنفسك، وإما أن تذكره لغيرك، الآية مطلقة: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً﴾ الفجر، ﴿وَأَصِيلاً ﴾ الظهر والعصر.
﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)﴾
﴿وَمِنَ اللَّيْلِ﴾ المغرب والعشاء وقيام الليل، الآية الكريمة:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)﴾
إذاً: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ وكل أمر في القرآن يقتضي الوجوب، الشيء المؤلم أن هذا الدين منهج كامل، منهج لعقلك، ومنهج لقلبك، ومنهج لجسمك، ومنهج لحياتك الاجتماعية والنفسية، ومنهج لتربية أولادك، ومنهج لعقيدتك، منهج كامل، أفكار دقيقة جداً معها أدلة قوية، كيف أن هذا الدين ضُغط وضُغِط وضُغط حتى أصبح عبادات شعائرية لا تقدم ولا تؤخر، الدين دين حياة، الله عز وجل قال:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)﴾
ما قال: أمانة، قال: أمانات.
﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)﴾
هؤلاء الكفار، أو هؤلاء المنافقون، أو هؤلاء الشاردون عن الله عز وجل، أو هؤلاء العصاة، أو هؤلاء المجرمون، الطرف الآخر، نحن يوجد عندنا طرفان.
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(50)﴾
يوجد بالحياة خطان لا ثالث لهما، إن لم تكن على الخط الأول فأنت على الثاني حتماً، إن لم تستجب لله عز وجل فأنت مع الهوى، إن لم تكن على الحق فأنت على الباطل، إن لم تكن مع الله فأنت مع الشيطان، إن لم تكن مع القيم فأنت مع المصالح، إن لم تكن من أهل الآخرة فأنت من أهل الدنيا، أبداً اثنينية، ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾ الطرف الثاني.
الحقيقة يوجد تقسيمات كثيرة، أي حياتنا مفعمة بالتقسيمات التي لا تعد ولا تحصى.
الآن يوجد تقسيم جديد، دول الشمال ودول الجنوب، دول الشمال كلها غنية، الجنوب كلها فقيرة، كان يوجد شرق وغرب، وصار شمال وجنوب، وصار هناك أعراق، وأجناس، وألوان، وشعوب، وأمم، وقبائل، ومِلل، ونِحل، ومذاهب، وطوائف، كل هذا التقسيمات باطلة.
1 ـ رجل عرف الله فدخل الجنة:
هناك رجلان لا ثالث لهما، رجل من أي جنس، من أي عرق، من أي ملة، من أي طائفة، من أي عنصر، رجل عرف الله، وانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، واتصل به، فسعد في الدنيا والآخرة.
2 ـ رجل غفل عن الله فخسر الآخرة:
ورجل غفل عن الله، فانقطع عنه، من لوازم الغفلة الانقطاع، وتفلت من منهجه، وأساء إلى خلقه، فشقي في الدنيا والآخرة، ولن تجد إنساناً ثالثاً، هذا هو التقسيم الحقيقي، الناس رجلان غر كريم، كريم على الله، وفاجر شقي، هيّن على الله، فمنهم شقي وسعيد.
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24)﴾
﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ(106)﴾
اثنان؛ وجه أبيض، ووجه أسود، وجه ناظر إلى الله، ووجه مغبر، فمنهم شقي وسعيد، أهل الجنة وأهل النار، أهل الشقاء وأهل النعيم، الوجوه الناضرة والوجوه الباسرة، هذا التقسيم الحقيقي، وأي تقسيم آخر باطل، مؤمن وغير مؤمن، الطرف الثاني، فقال: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾ الطرف الثاني ينضوي تحته الكفار، المشركون، العصاة، الشاردون، المنافقون، الفجّار، كل هؤلاء الملحدون طرف واحد، والمؤمنون طرف آخر، قال:
﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)﴾
يحبون الدنيا، الدنيا تمشي في دمائهم، تمشي في عروقهم، الدنيا هي كل شيء، هي نهاية المطاف، نهاية السعي، فمن ملكها ظنّ نفسه سعيداً، ومن فاتته ظنّ نفسه شقياً:﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ ولكن الله عز وجل أعظم، وأكرم، وأجلّ من أن يكون عطاؤه محدوداً.
أيعقل أن يكون عطاء الله عز وجل ينتهي عند الموت؟ ليس عطاءً، وكما قلت لكم من قبل: الدنيا أمامكم سباق أحمق، الغني يموت، والفقير يموت، والموت ينهي الفقر والغنى، والقوي يموت، والضعيف يموت، والوسيم يموت، والدميم يموت، والصحيح يموت، والمريض يموت، والموت ينهي كل شيء، سباق أحمق، سباق سيارات، طريق طويل ينتهي بقاطع مئة متر، حفرة سحيقة، فأقوى سيارة تسقط، وأضعف سيارة تسقط، وأحدث سيارة تسقط، وأقدم سيارة تسقط، كل ينتهي للقبر، هذه المقبرة أمامكم، ينزل عالم، ينزل جاهل، ينزل غني كبير، ينزل فقير، ينزل شقي، ينزل سعيد، القبور تجمع كل البشر. فلذلك: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾ يوم الحساب.
مثلاً يروون قصة هي طرفة أن رجلاً من أغنياء مصر مات فأولاده خافوا عليه من عذاب القبر، فرجوا إنساناً فقيراً معدماً أن ينزل معه ليلة واحدة ليؤنسه، أعطوا هذا الفقير مئة جنيه، مبلغ خيالي بالنسبة له، قَبِل، هي قصة رمزية، جاء أنكر ونكير فوجدوا اثنين بالقبر، قال أحدهما للآخر: عجيب يوجد اثنان، خاف الفقير فحرك رجله فعرفوا أنه على قيد الحياة، فقالوا: نبدأ به، أحضر معه كيساً من الخيش قصه من فوق أدخل رأسه فيه من فقره، وقصه من أطرافه من عند الأكمام وربطه بحبل عند خصره، من أين أحضرت الحبل؟ قال له: من البستان، كيف دخلت إلى البستان؟ فضربوه كيف دخل البستان، الحبل له حساب ثان، كيف أخذه موضوع ثاني، كيف دخل البستان؟ حتى تعب من القتل، خرج في اليوم التالي فقال: أعان الله أباكم، طبعاً: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ إذا الله عز وجل قال:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)﴾
إذا امرأة استحقت النار لأنها حبست هرة، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها، فإذا كانت الهرة سبب دخول النار فكيف بما فوق الهرة؟ ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾ .
أين قوله تعالى:
﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)﴾
﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)﴾
أين:
﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)﴾
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)﴾
ولا قطمير، أين:
﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)﴾
آيات نفي الظلم كثيرة جداً، كل شيء بحسابه الدقيق، أنا أرى الأحمق هو الذي يظن أن الحساب غير دقيق، يأخذ ما ليس له، يعتدي على الناس، الذي يبني مجده على أنقاض الناس أحمق، الذي يبني غناه على فقر الناس أحمق، الذي يبني مجده على إتعاس الناس أحمق: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾ أحياناً السارق يسطو على بيت ويأخذ أموالاً كثيرة، يظن نفسه شاطراً، فلما يقع في قبضة العدالة، ويؤخذ المال كله، ويُحكم ثلاثين سنة أو أربعين سنة أو يعدم إذا قتل أحداً، عندئذ يعلم أنه كان أحمقاً، ودائماً المجرمون مصنفون في علم النفس مع الأغبياء.
خلق الإنسان على أكمل وجه:
مرة ثانية الإمام الغزالي يقول: يا نفس لو أن طبيباً منعك من أكلة تحبينها لاشك أنك تمتنعين، أيكون الطبيب أصدق عندك من الله إذاً ما أجهلك! إذاً ما أكفرك! أيكون وعيد الطبيب أشد عندك من وعيد الله إذاً ما أجهلك! الذي يعصي الله مدموغ بالغباء، والكفر، ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾ .
﴿ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)﴾
قال: لو جئنا بكرة نحاسية وقسمناها شطرين، وفرغناها من الهواء، وأتينا بأربعة أحصنة من هنا، وأربعة من هناك، وتحركت الأحصنة باتجاهين متعاكسين، لا تستطيع هذه الأحصنة أن تفك هذه الكرة، لماذا؟ لأنها مفرغة من الهواء، محكمة، وقال: عظم عنق الفخذ داخل بتجويف الحوض مع تفريغ الهواء، فالإنسان محكم، أي أصعب شيء بعملية العظام سحب المشاشة من الحوض، ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾ أحياناً الإنسان يحمل ابنه من يده، مدروس الابن، لو كان الرباط ضعيفاً تخرج يده من مكانها، أحياناً يشتري الإنسان حقيبة رخيصة يحملها فتنقطع اليد، طبعاً غير محكمة، غير مدروسة، أما الابن مدروس وزنه، مدروسة مفاصله، العضلات، الأربطة، الأوتار، وإذا كان الأب غضبان يدفع ابنه، الدفع فيه ضعف الوزن أيضاً مدروس إذا كان والده غضبان، إذا كان غضبان لا تؤذى يده، ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾ .
الإنسان بناؤه كامل، أنت لاحظ سيارة مصنوعة سنة 1900 شيء مضحك، تدعو إلى الضحك، لا يوجد فيها علبة سرعة، حركة واحدة، لا يوجد فيها دولاب فيه هواء، دولاب صب، فيها فانوس يشعله مساء بيده، يشغلها من أمام، مناويل، انظر 600 موديل 1999 انظر لميزتها ما معنى هذا؟ معنى هذا أن الإنسان خبرته تنمو.
عندما اخترعوا القطار ببريطانيا أمروا صاحب القطار يمشي أمامه إنسان مشياً يحذر الناس منه، إذاً ما هي سرعته؟ أول قطار سرعته أقل من حركة الإنسان، الآن يوجد 380 كيلومتر بالساعة، فالإنسان خبرته تنمو.
انظر الإنسان هل طرأ عليه تعديل؟ هل يوجد إنسان موديل 1998، إنسان S مثلاً، كله واحد، الإنسان مصمم أكمل تصميم، حتى كلمة زائدة دودية كلمة خاطئة، ذائدة مدافعة، لا يوجد شيء عند الله زائد إطلاقاً، كمال مطلق، قال: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾ تصور لو وجد بالشعر أعصاب حس، إلى أين تذهب؟ أعمل عملية حلاقة بالمشفى، طبعاً يحتاج إلى تخدير كامل إذا وجد بالشعر أعصاب حس، إذا وجد بالأظافر أعصاب حس فيلزمك عملية تقليم أظافر، لماذا يوجد أعصاب حس بالعظام؟ بنقي العظام، لا يوجد حاجة، هذه أعصاب حس وقائية، لو صار كسر، شدة الألم تجعلك تحافظ على وضع الرجل، بقاؤها على ما هي عليه أربعة أخماس العلاج.
الطفل معه منعكس المص، لولا هذا المنعكس لا يوجد أحد بالجامع، لم يكن هناك جامع أساساً، لولا هذا المنعكس أي عمل معقد جداً يفعله الصغير بلا تعليم، الآن وُلِد يضع فمه على حلمة ثدي أمه، يحكم الإغلاق ويسحب الهواء، لو ما معه المنعكس تفضل علِّمه، تكلم باللغة العربية هل يفهم عليك؟ كان مات من الجوع: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾ الأمعاء فيها شحم أسود، يقول لك: هذه السيارة بشحمها، أول أربع وعشرين ساعة حليب الأم مادة مذيبة للشحم يسمى صمغاً، أول أربع وعشرين ساعة خروجه أسود، هذا الشحم ما قال: شحمه، الشحم المذاب بهذه المادة تصميم رائع جداً، خلق الإنسان جهاز التوازن وحده يكفي، أنت تمشي على قدمين لطيفتين لو لم يوجد جهاز التوازن بالأذن يلزمك خفي جمل لتمشي وإلا تسقط، أما يوجد جهاز توازن، قنوات فيها سائل، فيها أهداب، تميل ثلاث درجات لتعدل، فالتوازن جهاز معقد.
هناك جهاز معرفة جهة الصوت، جهاز بالدماغ يكشف تفاضل الصوتين، والتفاضل 1/1620 جزء من الثانية تعرف جهة الصوت، وبالعينين تعرف البعد الثالث، والأنف فوق الفم، والأنف يوجد فيه عشرون مليون نهاية عصبية، وكل نهاية فيها سبعة أهداب، وكل هدب مُغمس بمادة مخاطية تتفاعل مع الروائح، وتشكل شكلاً هندسياً يُرسل للدماغ، بالدماغ يوجد ملف فيه عشرة آلاف رائحة، الرائحة الجديدة تُعرض على عشرة آلاف رائحة أين وافقت تقول: ياسمين، تشم تقول: هذا ياسمين، هذا مسك، هذا عنبر، هذا ورد، هذا كمون، هذا فلفل، هذا بهار، الله كرمك، عندك حاسة قوية جداً.
تجلس بالبيت عينك تنتهي عند الجدران، لكن عندك جهاز سيطرة أبعد من الجدران السمع، يقول لك: هناك حركة، السمع أبعد، إذا شيء ليس له حركة وليس له شكل، يوجد عندك الشم، يوجد بالبيت شيء متفسخ، الله أعطاك سمعاً وأعطاك بصراً وأعطاك شماً، هذه كلها أجهزة سيطرة على المحيط،إذاً: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً﴾ .
المؤمن الحقيقي مستعد دائماً لمغادرة الدنيا:
الإنسان عندما تضعف أجهزته، عندما تتعطل كليتاه، قلت لشخص مرة له عمل حساس، يستطيع أن يؤذي الناس، قلت له: الله عنده سرطان، تشمع كبد، وفشل كلوي، وخثرة بالدماغ، وشلل، يوجد أمراض تقلب حياة الإنسان جحيماً، وكل هؤلاء عباده، هيئ لله جواباً عن كل شيء تعمله، ﴿وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾ سألوا طالباً نال الدرجة الأول على القطر بمَ نلت هذا المجموع؟ قال: لأن لحظة الامتحان لم تغادر ذهني إطلاقاً، والمؤمن يتفوق إذا هذه الساعة الحاسمة، ساعة الحساب مع الله، ساعة اللقاء، ساعة مغادرة الدنيا لم تغادر ذهنه إطلاقاً، وأروع ما في حياة المؤمن أن الحدث الخطير في حياته المغادرة مستعد له، كل حياته استعداد لهذه الساعة كالطالب المجتهد عندما يدخل الامتحان يكون مهيئاً نفسه، دارساً، ملخصاً، مراجعاً الكتاب كله، حلّ أسئلة الكتاب كلها، عنده شيء جاهز، أما الشارد والغافل يُفاجأ، يصعق، إذاً: ﴿إنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ كأن الله يحتقرهم، كأن الله يُقرِّعهم، ﴿يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ الله عز وجل قال:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾
كونوا واقعيين، حتى يرتاح الإنسان بالأربعين، بيت صغير، زوجة وسط، دخل يكفي مصروفه مدة أربعين سنة، ومعترك المنايا بين الستين والسبعين، هل من المعقول أربعون سنة إعداد استمتاع عشر سنوات أو عشرون سنة؟ لو لم يكن هناك آخرة قضية مختلة غير صحيحة أما الآخرة فهي التي تسوي الحسابات كلها: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾ .
لذلك الكافر حينما يرى مكانه في النار يقول: لم أر خيراً قط، سيدنا علي قال: يا بني -يخاطب ابنه الحسن-ما خير بعده النار بخير، لو معك ثلاثة آلاف مليون، لو لك بكل مدينة بالعالم قصر، لو عندك عشرات المركبات، عشرات الطائرات، والمراكب البحرية، ما خير بعده النار بخير، وما شرّ بعده الجنة بشر، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية.
مثلاً: إذا شخص مقطوعة يداه ورجلاه وأعمى وأصم وأبكم ومتسول ولا زوجة له ولا ولد وعلى الرصيف وانتهى للجنة، وكل بلاء دون النار عافية، أما النار:
﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)﴾
دائماً، قال تعالى:
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)﴾
التفكر بآيات الجنة والنار:
الحقيقة الإنسان إذا لم يعبأ بآيات الجنة والنار يكون إيمانه ضعيفاً جداً، آيات الجنة والنار يجب أن نأخذها بملء السمع والبصر، يجب أن نسعى للجنة، دار النعيم، النعيم المقيم، ويجب أن نفرَّ من النار.
لذلك: كل شيء يقربك إلى الجنة يجب أن تفعله، وكل شيء يبعدك عن الجنة يجب أن تدعه: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً* نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً﴾ أي:
(( عن أبي ذر عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ. ))
الإنسان مفطور على الإيمان بالله:
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (29)﴾
هذه كلمة دقيقة جداً، أنت مثلاً ذهبت إلى بيروت، ورأيت الصخرات في شاطئ الروشة، ثم أطلعناك على صورة، تقول: أذكر ذلك رأيتها بأم عيني، الصورة ذكرتك بشيء تملكه، فكل كلمة ذكرى بالقرآن تعني أنك أنت بالأصل مؤمن، الإيمان ضمن فطرتك، الإيمان فطري، كل مولود يولد على الفطرة، الإنسان مفطور على الإيمان بالله؛ مصمم ليؤمن بالله، لا ترتاح نفسه إلا إذا آمن بالله، لا يطمئن قلبه إلا بذكر الله، لا يطمئن إلا إذا لجأ إلى الله.
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)﴾
مصمم نفسك، خصائص نفسك، قوانين نفسك، مبرمج، مولف على أن تؤمن بالله، فإن لم تؤمن شقيت، إن لم تؤمن امتلأ قلبك ذعراً.
أصل الشقاء الخروج عن الفطرة:
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)﴾
المصلي ليس جزوعاً، ولا منوعاً، هذه المركبة مصممة للزفت، الطريق معبد، الآن اركب سيارة على الزفت شيء مريح تماماً لا أصوات، ولا مشكلة، امشِ فيها بالطريق الوعر تكسرها، حجر يكسر مستودع الزيت فوقفت، حفرة نزلت فيها، حجر ضرب المحرك، لأنها مصممة للزفت لا للوعر، أما الوعر الدبابة، المدرعة، لأن فيها جنزير، هذه مصممة للوعر، وهذه مصممة للطريق المعبد.
فالإنسان مصمم للإيمان فإذا آمن ارتاح، لذلك في أصل جبلتك، وفي أصل تركيبك، ومن خصائص نفسك أنك مؤمن بالله، فإذا خرجت عن فطرتك شقيت.
أكثر الأمراض النفسية هي بالأساس خروج عن الفطرة، الإنسان إذا كان محسناً يرتاح، إذا أساء يخاف.
يوجد فندق بألمانيا، قال لي شخص: نزلت فيه ليلة، مكتوب لوحة لطيفة على السرير أنه إذا لم تنم فالعلة من ذنوبك لا من فروشنا، نحن فراشنا وثير، إذا ما نمت العلة منك، تعذبك ذنوبك.
الإنسان المستقيم ينام مرتاحاً، يتعب، ينام يرتاح، لا يوجد حقوق معلقة فيه، لم يظلم أحداً، لم يعذب أحداً، لا يوجد إنسان كان سبب شقائه، فالإنسان عندما يكون سبب شقاء مخلوق ولو حيوان ينهار من الداخل.
لذلك الفطرة أساسها الإيمان بالله، قال: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾ أنت بالأساس مؤمن، الإيمان فطري، الإيمان أصل في جبلة الإنسان، الإيمان شيء من طبيعية الإنسان، ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾ وهذا القرآن يُذكرك بأصل فطرتك، إنسان إذا اصطلح مع الله وجد نفسه، استقرت نفسه، في اللحظة التي يتوب فيها إلى الله يشعر أن جبالاً قد أزيحت عن كاهله، الشهوات عبء، والمعاصي عبء، أما حينما تتوب إلى الله، لطيف، خفيف، متفائل، مستبشر، مطمئن، الله عز وجل قال:
﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)﴾
أي أعظم نعمة نعمة الأمن، الأمن مكافأة للمؤمن، أنت مع الله وإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا وجدت الله ماذا خسرت؟ ما خسرت شيئاً، ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾ وأنت مخير، قال: ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾.
الطرائق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق:
الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، طلب العلم طريق إلى الله، والاستقامة طريق إلى الله، والأعمال الصالحة طريق إلى الله، وتربية الأولاد طريق إلى الله، والنصح للمسلمين طريق إلى الله، وإطعام الفقير طريق إلى الله، وكسوة العاري طريق إلى الله، والإحسان إلى الزوجة طريق إلى الله، وإتقان العمل طريق إلى الله، وأن تكون صادقاً طريق إلى الله، وأن تكون أميناً طريق إلى الله، وأن تكون عفيفاً طريق إلى الله، وأن تُعلّم العلم طريق إلى الله، وأن تدعو إلى الله طريق إلى الله، ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ والله عز وجل بكماله المطلق، ولكرمه العظيم، السعادة كلها عنده، لكن جعل لك طرائق له، الأبوة الكاملة طريق إلى الله، البنوة الكاملة طريق إلى الله، الزوج الكامل طريق إلى الله، الزوجة المطيعة لزوجها طريق إلى الله، أبداً، إتقان عملك طريق إلى الله، عدم الغش طريق إلى الله، الصدق طريق إلى الله، ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ صحبة المؤمنين طريق إلى الله، لزوم مجالس العلم طريق إلى الله، علمنا النبي صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا الإنسان دخل المسجد يقول:
(( عن أبي حميد الساعدي: إذا دخلَ أحدُكُمُ المسجِدَ ، فليسلِّم علَى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ، ثمَّ ليقُلْ : اللَّهمَّ افتَح لي أبوابَ رحمتِكَ ، وإذا خرجَ فليقُلْ : اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ مِن فضلِكَ. ))
أنت في بيت الله، وفي ضيافة الله، وَاللَّه عز وجل إذا أكرمك في بيت الله وفقك في الحياة، يسر لك أمورك، ألقى في قلبك النور، اتخذت قراراً صحيحاً.
مرة في بعض قرى ريف دمشق صائغ هاجمه سبعة أو ثمانية أشخاص ساقوه إلى مكان الخزنة وسرقوا عشرة كيلو ذهب وقتلوه وبعضهم كان مثقفاً، خلال أسبوع كشفت الجريمة وتمّ إعدامهم في مكان الجريمة هل كانوا أذكياء؟ حمقى، هل تمتعوا بالذهب الذي سرقوه؟ ما صرفوهم، خلال أسبوع توهموا أنهم يملكون عشرة كيلو من الذهب، ثم أعدموا شنقاً في مكان الجريمة.
تجلي الله على قلب الإنسان بالرأفة:
ما معنى الله رحمك؟ أي أعطاك رؤية صحيحة، أعطاك قراراً حكيماً، أعطاك كلاماً سديداً، وفقك، يسر لك أمورك، يسر لك زواجاً مريحاً، يسر لك أولاداً أبراراً، يسر لك عملاً صالحاً تلقى الله به، هذه رحمة الله عز وجل، طبعاً بالجامع لا يوجد شاي ولا كاتو، الجلوس على الأرض غير مريح، لكن عندما يتجلى الله على قلبك، يطمئنك، ييسر لك أمورك، يوفقك بالعمل، يعطيك رؤية صحيحة لا تغلط، كلام سديد لا يتحامق الإنسان، هذا كله من رحمة الله عز وجل فالله عز وجل قال: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ .
ربط مشيئة الإنسان بمشيئة الله:
1 ـ ربط مشيئة الإنسان بمشيئة الله ربط حكمة:
لكن:
﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (30)﴾
ربط مشيئة الإنسان بمشيئة الله ليس ربط جبر لكنه ربط حكمة، لا يقع شيء في الكون إلا بمشيئة الله، كل شيء وقع أراده الله، وكل شيء أراده الله وقع، أحياناً الإنسان يرتكب معصية، الله عز وجل لا يعاقبه، أحياناً يعاقبه، هذا لعلم الله به، إذا ما عاقبه أعطاه فرصة ليتوب، إذا عاقبه قد يقصمه، وقد يردعه، وإذا مؤمن قد يرفعه، إذاً مشيئة الله عز وجل مشيئة حكمة، مشيئة رحمة، ليست مشيئة جبر، لا، هذا المعنى فاسد، إنسان أراد أن يعصي الله لكن الله يعلم أنه صالح يمنعه من المعصية، يضع أمامه العراقيل، إنسان شهوته استحكمت بنفسه حتى جعلته لا يرى شيئاً، أحياناً يسمح له أن يفرغ شيئاً منها يعاقبه، فالله عز وجل ربط مشيئة الإنسان بمشيئة الله ربط حكمة، وربط رحمة، وربط تأديب، وربط تربية، لكن ليس ربط جبر، هذا الذي يعتذر عن عدم صلاته، وعدم إيمانه، أن الله ما شاء له الهدى، هذا كذب على الله، هذا افتراء، هذا كلام ما أنزل الله به من سلطان، ربط حكمة، ربط تربية، ربط رأفة، يوجد معنى ثان.
2 ـ مشيئة العبد مشيئة اختيار:
المعنى الثاني: مشيئة العبد مشيئة اختيار، لكن مشيئة الله مشيئة فحص واختبار، طلبنا من الطلاب الذين معهم شهادة ثانوية أن يقدموا طلبات للجامعة فتقدم الجميع لكلية الطب، الطب يريد علامات عالية، فحصنا هذه الاستمارات وجدنا الطلاب ليسوا أهلاً للطب، ليس عنده إمكان أن يتابع الدراسة بهذه الكلية، كلية علمية، عنده أسلوب أدبي جيد، هذا للآداب، الطالب اختار الطب، أما رئاسة الجامعة تفحص اختياره، ترى علاماته، إمكاناته، ميوله، توجهه وجهة صحيحة تناسبه.
3 ـ مشيئة الله مشيئة فحص واختبار:
مشيئة الله عز وجل مشيئة فحص واختبار، وحكمة، ورحمة وتربية، وتأديب، وليست مشيئة جبر، وإلا المعنى فاسد.
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148)﴾
إذا ربطت المشيئة مشيئة الإنسان بمشيئة الله ربط جبر وقهر التغى الاختيار، وإذا التغى الاختيار التغى الثواب والعقاب، والتغت الجنة والنار، والتغى التكليف، والتغى حمل الأمانة، والتغى نزول الأنبياء، فنزول الأنبياء لا معنى له، والتغى إنزال الكتب، إنزال الكتب، وإرسال الأنبياء، والجنة، والنار، والثواب، والعقاب، والتكليف، وحمل الأمانة، أصبحت تمثيلية سمجة، الإنسان مخير، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ ربط حكمة، ربط تربية، ربط تأديب، ربط علم، الإنسان اختار.
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً(18)﴾
شخص أراد أن يسافر، الله يعلم أن إيمانه ضعيف بالسفر يفسد، فنشأت عقبة منعوه من السفر، هذه مشيئة الله عز وجل، لكن مشيئة الله فيها حكمة، إنسان يستفيد سمح له، إنسان طلب الزواج بوقت مبكر، ليس له أهل، قد يفسد الزوجة، أخره، فالله يؤخر أو يقدم، المؤمن لا يستعجل ما أخره الله، ولا يؤخر ما عجله الله، يرى حكمة الله.
إذاً مشيئة الإنسان مشيئة اختيار، لكن مشيئة الله مشيئة فحص واختبار، ومشيئة علم، ومشيئة تربية، ومشيئة رحمة، ومشيئة تأديب، ومشيئة توجيه.
4 ـ مشيئة الله مشيئة تربوية:
الآية الكريمة: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ﴾ أحياناً الإنسان يطلب المال، المال لا يناسبه، الله لا يعطيه المال، هو شاء المال لكن الله ما شاء له المال.
أحياناً يشاء السفر لكن الله لا يشاءه له، فمشيئة الله مشيئة تربوية، مشيئة رحمة أساسها العلم، والدليل: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ لعلمه وحكمته يشاء لكم أو لا يشاء لكم، فأنت لك أن تختار، أما أن تُوفق لما اخترت فهذا بيد الله عز وجل.
لذلك قالوا: هناك أربع هدايات، الهداية الأولى: هدايتك إلى مصالحك، أعطاك سمعاً وبصراً، حياتك مصونة بالسمع والبصر والإدراك والخوف أحياناً، وتهتدي إلى الطعام والشراب، لو لم يكن هناك إحساس بالجوع كنا متنا من الجوع، لكن يجوع الإنسان، لا يوجد داع أن يقول لك الله: كُلْ، أودع فيك الشعور بالجوع، فهناك شعور بالإنسان ثابت.
الهداية الثانية: الهداية إلى الله.
الـهداية الثالثة: هداية التوفيق.
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)﴾
عندما أنت تختار الهدى الله يوفقك، يجمعك مع أهل الحق، يُعينك على الطاعة، يُعينك على الاستقامة، أحياناً يُعينك على إنفاق المال، يهبك المال لتنفقه في سبيل الله، هذه هداية التوفيق.
﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(17)﴾
ثم الهداية إلى الجنة، يوجد هداية مصالح، وهداية وحي، وهداية توفيق، وهداية للجنة، إذاً:
﴿ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (31)﴾
رحمة الله عز وجل شيء صعب وصفه، عطاء الله مطلق، الصحة من الرحمة، والأمن من الرحمة، والسعادة من الرحمة، والتوفيق من الرحمة، وصلاح البال من الرحمة، وعدم الخوف من الرحمة، الرحمة واسعة جداً، إذا الله عز وجل منحك رحمته، لو حرمك الدنيا كلها أنت أسعد الناس، ولو حجب عنك رحمته وأعطاك الدنيا كلها فأنت أشقى الناس.
شيء عجيب، وأنت في وضع صعب جداً تنام على الشوك مع رحمة الله فراش وثير، وتنام على فراش وثير وقد حُجِبت عنك رحمة الله فأنت أشقى الأشقياء، تتمتع بأموال طائلة وقد حُجبت عنك رحمة الله.
أخ من إخواننا الكرام قال لي: بيوم واحد وجدت مفارقة كبيرة جداً، التقى بإنسان حجمه المالي كبير جداً بآلاف الملايين، قال لي: شكا له السقم، والضجر، والملل، والدنيا ليس لها طعم، وهو متعب من أهله، ومن أولاده، ومن بيته، ومن هذا البلد، قال لي: شيء غير معقول، الحجم كبير جداً، بنفس الوقت زارته امرأة تطلب منه مساعدة ألف ليرة بالشهر، أجرة بيت، سألوا عن عنوان البيت، وذهبوا ليزوروها، وجد بيتاً تحت درج، نظيف، وزوجها موجود، بالبيت جو لطيف، يوجد مودة، يوجد سرور، طبعاً قرر لها ألفين، قالت له: لا، ألف يكفي، لأن معاش زوجي يكفينا، لكن ينقصنا أجرة البيت.
قال لي: أنا الذي يحيرني أن إنسانة تسكن تحت الدرج وبأعلى درجة من السعادة، وشخص معه ملايين مملينة، ويسب الدنيا وحظه وشقاءه، يعطيك المال يحجب عنك الرحمة أنت أشقى الناس، يحرمك من المال يتجلى عليك بالرحمة أنت أسعد الناس.
يجعلك قوياً ويحجب عنك الرحمة فالقوة تصبح بلاء، يجعلك ضعيفاً مستضعفاً ويعطيك رحمته أنت أسعد الناس.
يحرمك الأولاد أحياناً مع رحمته مستغنٍ عن كل الأولاد، أحياناً يعطيك الأولاد كما تتمنى، الأولاد يصبحون عبئاً، بلاء من الله أحياناً، فأنت ابحث عن رحمة الله وَاللَّهِ عز وجل قال:
﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾
لي دعاء أدعوه دائماً: اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك، أنت اطلب رحمة الله، اطلب توفيقه، اطلب أن تكون راضيه، اطلب أن تكون بطاعته، اطلب أن يحبك الله، أن يرضى الله عنك شيء كبير.
محبة الله للعبد قمة سعادته:
سيدنا رسول الله مرة قال لسيدنا معاذ:
(( عن معاذ بن جبل: يا مُعَاذُ قُلْتُ: لَبَّيْكَ، قال: إنِّي أُحِبُّكَ ، قُلْتُ: وأنا واللهِ ، قال: أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِماتٍ تقولُها في دُبُرِ كلِّ صَلاتِكَ قُلْتُ: نَعَمْ، قال: قُلْ: اللهمَّ أَعِنِّي على ذكرِكَ وشُكْرِكَ، وحُسْنِ عِبادَتِكَ. ))
هذا عطاء أن يحبك رسول الله، وأن يحبك الله، واستقامتك، وتواضعك، وأدبك، ومحبتك، وإخلاصك، ووفاؤك، وعفتك، وطهارتك، وخدمتك للناس، وصدقك معهم، وأمانتك، الله يحبك، وإذا أحبك الله ألقى محبتك في قلوب الخلق، هذا العطاء، أن يحبك الله، أن تكون في رضوانه، أن تكون في طاعته، ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ من هذا الذي يستحق أن يدخل في رحمته؟
الظالمون هم المحرومون من محبة الله ورحمته:
﴿وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ معنى الذين يحرمون من رحمته هم الظالمون، أما المنصفون فهؤلاء في رحمة الله، فالعادل، والرحيم، والمستقيم، والصادق، والأمين، والعفيف في رحمة الله.
هناك قانون: لو أن أستاذاً قال لطلابه: أنا آخذ من أشاء من الطلاب إلى النزهة، هم فهموها قضية مزاج، قال: أما المقصرون فلن آخذهم معي، توضح مزاجه، فُهِم من الذين سيأخذهم، واضحة، إذاً: ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ لو أنك عزوت المشيئة إلى الله، لكن للمشيئة قانون: ﴿وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ فإياك أن تظلم، إياك أن تخرج عن مظلة الله عز وجل، كن في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
الإنسان يعرف الحقيقة بالفطرة:
إخواننا الكرام؛ آخر آية دقيقة جداً:
﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29)﴾
الدين فطري، والقرآن الكريم، والأنبياء، والرسل جاؤوا ليذكروك بأصل فطرتك، سأحضر لكم مثلاً، مرة قرأت كلمة أن إنسانة تعمل في الفن، سألوها: ما شعورك وأنت على خشبة المسرح؟ قالت: شعور الخزي والعار، وهذا شعور كل أنثى تعرض مفاتنها على الجمهور، إن الحب يجب أن يبقى بين الزوجين وفي غرف مُغلّقة، هذه الفطرة، هي فاسقة، هي ممثلة، لكن هذه الفطرة، الإنسان بالفطرة يعرف الحقيقة، أنت مبرمج، بالتعريف الحديث مولف، أنت مجبول، جبلتك وفق هذا الدين، فإذا سرت مع هذا الدين شعرت بالراحة، تماماً سيارة تجري على أرض وعرة تتكسر، فلما انطلقت إلى طريق معبد استرحت، ارتحت وأرحت، هذه الفطرة، ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ﴾ أنت مخير ﴿اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ إذا إنسان دخل إلى مسجد يطلب العلم فهو في رحمة الله، اختار طريقاً إلى الله، طبعاً يوجد ملهيات بالبيت لكنك آثرت أن تسمع الحق: ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ بطلب العلم، بتعليم العلم، بإنفاق المال، بخدمة المساجد، بالدعوة إلى الله، يوجد مليون طريق إلى الله، وكلما أكثرت كلما كان أحسن.
﴿ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)﴾
أنت لو عزوت هذه الفعل إلى الله، مشيئته واضحة، ﴿وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ .
هذه السورة أيها الأخوة سورة الإنسان من السور الدقيقة، وبدأت:
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1)﴾
ونحن كلنا نتمتع بثلاث نعم كبرى: نعمة الإيجاد، نحن موجودون، هذه نعمة.
ونعمة الإمداد، يوجد هواء، ويوجد ماء، ويوجد طعام، ويوجد شراب، ويوجد زوجة، ويوجد أولاد، ويوجد بيت، ولك أب، ولك أم، ولك إخوان وأصدقاء.
ونعمة الهدى والرشاد.
ثلاث نعم نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد.
الملف مدقق
