الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثاني من سورة الدهر، ومع الآية الرابعة وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً (4)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ أن يتوهم الإنسان أن هذه الدنيا تنقضي وينقضي معها كل شيء هذا جهل كبير، لأن الله عز وجل يقول:
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾
أي تتحرك، وتستعلي، وتأخذ ما ليس لك، وتعتدي، وتتبجح، وتقول: أنا وأنا، وتنتهي الحياة، وينتهي معها كل شيء، هل تقبل أن يعيش إنسان في أعلى درجات الخوف وإنسان ثان في أعلى درجات الطمأنينة وتنتهي الحياة هكذا من دون تسوية حسابات؟ إنسان يعاني من أشدّ أنواع الفقر، وإنسان يكاد لا يُعقل كم ينفق من الأموال وتنتهي الحياة بلا تسوية حسابات؟ إنسان مغتصب لأموال الآخرين وإنسان مقهور وتنتهي الحياة بلا تسوية حسابات؟ هذا هو العبث بعينه، لابدّ من يوم آخر تسوى فيه الحسابات، لابدّ من يوم آخر ينتصر فيه المظلوم، لابدّ من يوم آخر ينتصر فيه الفقير، لابدّ من يوم آخر ينتصر فيه المستغَل، أن تأتي إلى الدنيا وتكذب على الناس وتحتال عليهم وتقتنص أموالهم بقوة منك، أو بحيلة منك، أو بمركز منك، وتنتهي الحياة هكذا ولا شيء بعد الموت؟ هذا هو الجهل بعينه.
تسوية الحساب يوم القيامة:
الحياة الدنيا تعقبها الحياة الآخرة، يعقبها يوم تُسوَّى فيه الحسابات، يعقبها يوم يحاسب فيه الظالمون.
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42)﴾
لذلك قمة العقل، وقمة الذكاء، وقمة الفلاح، وقمة النجاح، أن تُدْخل هذا اليوم في حساباتك اليومية، بل في حساباتك الساعية، بل في كل حركاتك وسكناتك، كلما تقف موقفاً هذا الموقف هل أحاسب عليه؟ هذا الموقف هل يرضي الله؟ هل أدفع الثمن باهظاً يوم القيامة؟ هل أستحق النار من أجله؟
(( عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهم عَنْهمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأرْضِ. ))
فإذا كانت امرأة قد استحقت النار في هرة فما قولك فيما فوق الهرة؟ لذلك أيها الأخوة؛ أقل إدراك عقلي صحيح العبثية تتناقض مع وجود الله، ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ مستحيل ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً﴾ مستحيل، لابدّ من يوم يحاسب فيه الإنسان حساباً دقيقاً.
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
الآية الأولى في هذا الدرس:
﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)﴾
تقيد بها أرجلهم، ﴿وَأَغْلَالاً﴾ تقيد بها أيديهم، ثم يُقْذفون في النار﴿وَسَعِيراً﴾ هذا كلام خالق الكون، وكلما ارتقى إيمانك ارتقى تصديقك لكلام الله، تقول أنت: صدق الله العظيم، هذا كلام خالق الكون.
الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، مرة خاطب نفسه قال: يا نفس لو أن طبيباً حذّرك من أكلة تحبينها، لا شك أنك تمتنعين -وأنتم جميعاً وأنا معكم لو قال الطبيب: دع الملح، وطعم الطعام لا يطيب إلا بالملح، تترك الملح حفاظاً على ضغطك-يا نفس لو أن طبيباً حذرك من أكلة تحبينها لاشك أنك تمتنعين عنها –دقق-أيكون الطبيب أصدق عندك من الله؟ إذاً فما أكفرك! أيكون وعيد الطبيب أشدّ عندك من وعيد الله؟ إذاً ما أجهلك! الذي يعصي الله مدموغ بالكفر والجهل، أمر خالق الكون وسوف تقف بين يديه، وسوف يسألك.
لو أن إنساناً اصطاد عصفوراً لغير مأكلة، عصفور صغير، قتله، ما أكله، يأتي يوم القيامة وله دويّ تحت العرش، يقول: يا رب سله لم قتلني؟ فإذا المرأة قالت لله عز وجل: سله لمَ طلقني؟ لمَ ظلمني؟ لمَ حرمني الطعام؟ لمَ طردني في منتصف الليل وأنا أخدمه وأرعى شؤونه؟ وإذا قال الشريك: يا رب لم أخرجني شريكي خارج المحل وأنا أسست هذه الشركة؟ لمَ جعلني أموت جوعاً أنا وأولادي من أجل أن يستأثر بحظه من هذه الشركة؟ إذا أيقنت أن كل مظلوم سوف يقف بين يدي الله عز وجل ليأخذ منك حقك حتى الغيبة والنميمة التي قد يقول الإنسان ما عملنا شيئاً فقط تكلمنا.
قال أحد العلماء الكبار: التقى برجل قال له: بلغني أنك اغتبتني؟ قال له: ومن أنت حتى أغتابك؟ لو أنني مغتاب أحداً لاغتبت أبي وأمي لأنهم أولى بحسناتي منك، كلام دقيق، لو أنني مغتاب أحداً لاغتبت أبي وأمي لأنهما أولى بحسناتي منك، أنت تظن أن القضية هكذا، تتحدث عن إنسان كلاماً غير صحيح، يوجد افتراء، يوجد كذب وأنت مرتاح، لا يوجد شيء، هكذا الأمور تمشي.
أعرابي لم يدرس شريعة، ولا فقهاً، ولا أصولاً، ولا حديثاً، ولا عقيدة، ولا تفسيراً، قال للنبي الكريم عظني ولا تطل؟ قال له: فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، فقال له: كفيت، هذه تكفي، القرآن الكريم ستمئة صفحة، آية واحدة كفت هذا الأعرابي، فقال عليه الصلاة والسلام: فقه الرجل.
وَاللَّهِ أيها الأخوة هناك آلاف الآيات، والله كل آية وحدها تكفينا، وحدها، لو لم تعلم من الدين كله إلا هذه الآية لكفتك.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)﴾
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)﴾
﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)﴾
آية وحدة لو تدبرناها وعقلنها لكفتنا، كان الأمام الشافعي يقول: في القرآن سورة لو تدبرها الناس لكفتهم.
﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)﴾
الموت والحساب نهاية الدنيا:
اليوم الذي لا تزداد به علماً بالله عز وجل يوم خاسر، لو غلة المحل مئة ألف، خمسمئة ألف، بعت بمئة مليون، اليوم الذي لا تزداد فيه علماً بالله عز وجل يوم خاسر، اليوم الذي لا تزداد فيه قرباً من الله عز وجل يوم خاسر، ورد في بعض الأدعية: لا بورك لي في طلوع شمس يوم لم أزدد فيه من الله علماً، ولا بورك لي في طلوع شمس يوم لم أزدد فيه من الله قرباً، فلذلك الحياة فيها الغني والفقير، فيها القوي والضعيف، فيها الظالم والمظلوم، فيها المستغِل والمُستغَل، فيها المُعتدي والمعتدى عليه، فيها المغتصِب والمغُتصَب، وتنتهي الحياة هكذا؟! لا يوجد شيء بعد الحياة؟! هذا هو الجهل بعينه.
الوقوف بين يدي الله عز وجل:
قال تعالى:
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ(116)﴾
فتعالى الله أن يفعل هذا، ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)﴾
اقرؤوا القرآن أيها الأخوة؛
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)﴾
يوجد حساب، هناك وقفة بين يدي الله عز وجل، سمعت قصة وقعت في الشام إنسان مضطر إلى ثلاثمئة ألف ليرة، لم يجد أحداً يُقرضه إياها، عرض على أحد الأغنياء أن يكتب له مزرعة يملكها كرهن مقابل هذا القرض فقبل، كتبت هذا المزرعة في السجلات الرسمية باسم هذا المُقرض، وبعد سنوات توافر المبلغ الذي اقترضه فذهب إليه ليعطيه المبلغ، قال له: لا، كل واحد حقه معه، مزرعة ثمنها ملايين، قال له: كل واحد حقه معه، من شدة الألم أصيب بأزمة قلبية وقارب أن يموت، فكلف ابنه وهو على فراش الموت أن يكتب رسالة قال له فيها: أنا ذاهب إلى دار الحق، وسأقاضيك هناك، فإن كنت بطلاً فلا تلحق بي، قال له: امشِ بالجنازة إلى دكان هذا الرجل -محله التجاري-قد يكون بطرف المدينة، سِرْ بالجنازة إلى أمام دكانه وقِفوا قليلاً وناوله هذه الرسالة وأنا في النعش، يروى أن هذا الإنسان الغني لما قرأ الرسالة في اليوم الثاني أرجعها إلى الورثة.
يوجد حساب دقيق، سوف تقف بين يدي الله عز وجل، لتُسأل عن أقل الأشياء، لم اغتصبتها؟ لم أكلتها؟ لم غششت الناس؟ لم غششتهم في طعامهم وشرابهم؟ هؤلاء المسلمون قدمت لهم طعاماً فاسداً، ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾ .
ازدياد علم الإنسان يؤدي لازدياد خوفه:
كلما ازداد علمك ازداد خوفك من الله، وأشد الناس خوفاً من الله عز وجل هو رسول الله، لولا أني خشيت القصاص لأوجعتك بهذا السواك،
فكلما ازداد علمك ازداد خوفك
﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً﴾ .
طبعاً:
﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)﴾
هذه أوصاف أهل النار، شيء ينخلع له القلب، إياك أن تظن أنه كلام، هذا كلام رب العالمين، زوال الكون أهون على الله من ألا يقع، كلام رب العالمين، ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ﴾ لمن كفر بالله، لمن ابتعد عنه، لمن تبع شهوته، لمن بنى مجده على أنقاض الناس، لمن بنى غناه على فقرهم، لمن بنى حياته على موتهم، لمن بنى أمنه على خوفهم، ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً﴾ قال بعض علماء التفسير: السورة في مجملها تتحدث عن أهل الجنة، فلذلك جاء الحديث عن أهل النار مقتضباً موجزاً، آية وحدة، ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً﴾ .
﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً (5)﴾
من هم الأبرار؟ الأبرار جمع البَر، من هو البَر؟ الذي أطاع الله عز وجل في أدق التفاسير، البَر هو الذي عرف ربه فأطاعه، ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾ هؤلاء الناس، هؤلاء المؤمنون الذين جاؤوا إلى الدنيا، وتفكروا في خلق السماوات والأرض، وعرفوا أن لهذا الكون إلهاً عظيماً، إلهاً واحداً، إله كاملاً، وهذا الإله له حقّ عليهم أن يعبدوه.
حاجات الإنسان الدنيا والعليا:
هؤلاء المؤمنون الذين جاؤوا إلى الدنيا، وطلبوا العلم، لبوا حاجاتهم العليا، المعرفة، معظم الناس يلبون حاجاتهم الدنيا، الطعام، والشراب، والنساء، المؤمنون الصادقون يلبون الحاجات العليا، المعرفة، معرفة الله، معرفة منهجه، التقرب إليه، بطاعته، قال: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾ هؤلاء في نعيم مقيم، هؤلاء في جنة عرضها السماوات والأرض، هؤلاء في جنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر إلى أبد الآبدين.
الحياة الدنيا أيها الإخوة؛ اسم على مسمى، دنيا، كل شيء فيه ظلم وفيه غرم، وخط الإنسان البياني يصعد، ثم يستقر، ثم ينزل، ثم يُرد إلى أرذل العمر، الإنسان يشيب شعره، يضعف بصره، تفسد أسنانه، تؤلمه مفاصله، ينحني ظهره، يشكو من تعب شديد، تضطرب معايير جسمه، هذه هي الحياة، أي الإنسان كائن غالٍ على الله، إلا أنه سريع العطب، أي لا يوجد إنسان خال من علة في جسمه، هذه العلة لحكمة بالغة أرادها الله، من أجل ألا تطمئن إلى الحياة الدنيا، ألا تجعلها منتهى طموحك، محط رحالك، منتهى آمالك، هذا الدنيا تغر وتضر وتمر، والإنسان لا يستأهل هذه الحياة حتى يحقق الإنسان مصالحه المادية يكون في الأربعين، معترك المنايا بين الخمسين والستين، الآن معظم الناس، كلما مات إنسان اسأل عن عمره، يقول لك: ثمان وخمسون، سبع وخمسون، واحد وخمسون، والله صغير، تسع وأربعون، خمس وأربعون، أي الإعداد أربعون سنة لعشر سنوات فقط، أنضيع الآخرة كلها من أجل سنوات معدودة؟!
مقياس أهل الدنيا المال والصحة والوقت:
سأذكر حقيقة ليس لها علاقة بالمؤمنين هي لأهل الدنيا، أي لذائذهم وسعادتهم في مقاييسهم، تحتاج إلى ثلاثة عناصر، تحتاج إلى صحة، وإلى مال، وإلى وقت، والإنسان بكل مراحل حياته تنقصه واحدة دائماً، ففي أول حياته الصحة جيدة جداً، والوقت مديد، لكن لا يوجد مال، المال مادة الشهوات،
في منتصف حياته أسس مشروعاً المال متوافر، والصحة متوافرة، لكن لا يوجد وقت، عمل دائماً يعمل عشرين ساعة باليوم، في خريف عمره يوجد وقت سلّم أولاده، المعمل صار لأولاده، كل شيء، يوجد وقت ومال وفير لكن لا يوجد صحة، كله ممنوع عنه، هكذا الحياة تغر وتضر وتمر.
معرفة المؤمن لربه تكون في مقتبل حياته:
أما المؤمن والله له شأن آخر، والله المؤمن لا علاقة له بهذا المثل إطلاقاً، عرف الله في مقتبل حياته.
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)﴾
سعيد بقربه من الله، لأن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، هي جنة القُرب، ماذا يفعل أعدائي بي؟ تجد شخصاً هو في بيت فخم، معه دخل وفير، والشهوات كلها أمامه، يقول لك: أنا مللت من هذه الحياة، الحياة لا يوجد فيها شيء، المؤمن وهو في أصعب الحالات سعيد، المؤمن وهو في أصعب حالاته في قمة السعادة.
تصور إنساناً على وشك أن يصلب، سيدنا خبيب، تقدم منه أبو سفيان، إنسان ماذا بقي له؟ بقي له من حياته ساعة، سيصلب، قال له أبو سفيان: أتحب أن يكون محمد مكانك؟ والله أنا لا أشبع من ترداد جوابه، قال له: والله ما أحبّ أن أكون في أهل وولدي -في بيته مع زوجته وأولاده-وعندي عافية الدنيا ونعيمها، العافية لا يوجد مرض، لا يوجد جوع، ونعيمها.
أحياناً الإنسان يضع باقة ورد أمامه، ويشتري مكيفاً، يتفنن بأنواع الفاكهة هذه نعيمها، عندي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة، ما هذه السعادة؟
النبي عليه الصلاة والسلام تفقد أحد الصحابة ما وجده، سعد بن الربيع، فكلف أحد أصحابه يتفقده بأرض المعركة، ذهب إلى أرض المعركة فإذا هو بين القتلى، لكن لم يمت بعد، بالنزع الأخير، قال له: يا سعد هل أنت مع الأموات أو مع الأحياء؟ قال له: مع الأموات، منته، قال له: إن النبي الكريم أرسلني إليك ويقرئك السلام، قال له: قل له -تصور إنساناً على وشك الموت-جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته ، هو يموت، معنى ذلك أنه في قمة السعادة، قال له: وقل لأصحابه لا عذر لكم عند الله إذا خُلِص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف ، ما هذه السعادة وهو على فراش الموت؟
طلب العلم فريضة على كل مسلم:
سألنا أحد إخواننا الكرام وهو طبيب قلت له: صف لنا حالة إنسان وهو يموت؟
قال لنا: أهل الدنيا يضربون وجوههم، يلدمون أنفسهم، يبكون كالصغار تماماً؛ لأن الموت عندهم مصيبة كبيرة جداً، من كل شيء، يا ليت إلى لا شيء، إلى كل شيء من العذاب، تُعْرض على الإنسان عند نزعه الأخير أعماله كلها، عملاً، عملاً، وسيواجه الله عز وجل بكل أعماله، أما المؤمن فينتظر رحمة الله عز وجل.
لذلك عندما يطلب الإنسان العلم يعرف موقعه، لا شيء يعلو على طلب العلم أنت بالعلم تعرف من أنت؟ وأين أنت؟ من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ فالعلم يقدم لك حراسة بالغة، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾ الذين برّوا ربهم أي أطاعوه، هنا بمعنى عرفوه فأطاعوه، وتقربوا إليه.
﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً﴾ طبعاً بالمناسبة أيها الأخوة لا أحد يعلم حال أهل الجنة، إلا ما جاءنا في هذا القرآن الكريم، وربنا عز وجل يصف لنا الجنة: فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لكن نحن في الدنيا، الله عز وجل خلق جمالاً، خلق بساتين، أشجاراً، مروجاً خضراء، جبالاً خضراء، سواحل بحار، ورداً جميلاً، أطفالاً لهم صورة حسنة، هذا الجمال الذي أودعه الله في بعض مخلوقاته نموذج ليقرِّب لأذهاننا ما في الجنة من نعيم مقيم، قال:
﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)﴾
لكن الجنة في الآخرة غير كل ما في الدنيا من جمال، قال لك:
﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)﴾
عسل الجنة غير عسل الدنيا.
قال لك: ﴿مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ﴾ لبن الجنة غير لبن الدنيا، ليس من شيء يجمع بينهما إلا الاسم فقط، فقط للتقريب، لأنه لو لم يكن في الدنيا مظاهر جمالية كلمات الجنة تصبح لا معنى لها، فربنا عز وجل جعل أشياء بالأرض جميلة، وحدثنا عن هذه الجنة العظيمة بكلمات نفهمها نحن، أي العرب كانوا في الجاهلية يشربون الخمر ويمزجونه بالكافور من أجل نكهة طيبة، تقريباً لأذهانهم هؤلاء قال: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً﴾ أي أعلى أنواع الشراب.
أحياناً الإنسان يشعر بعطش شديد والجو حار، يُقدم له كأس شراب طبيعي، عصير فاكهة من الدرجة الأولى، لا يوجد شيء يعلو عليه إطلاقاً، بارد، مُحلى، ونكهة الفواكه الطبيعية، فلذلك تقريباً للأذهان قال تعالى:
﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)﴾
أي أعلى أنواع الشراب.
﴿ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً(6)﴾
قال علماء التفسير: يشرب بها أي يشرب منها ﴿عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً﴾ وفي بعض التفاسير أن هذه المياه العذبة الباردة المنعشة تدور معهم أينما داروا.
أحياناً يقول لك أحدهم: هناك مشاريع مذهلة، الحجاج ينتقلون من مكة إلى مِنى فالمياه كلها تنتقل معهم، وصلوا إلى عرفات المياه تنتقل معهم، أي ترتيبات دقيقة جداً، بحيث أن كل المياه التي هم بحاجة إليها تتنقل معهم من مكان إلى مكان، هذا حال أهل الجنة، أي أينما ذهبت عين الماء العذب السلسبيل إلى جانبك، ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ عباد الله الصالحين، الذين صلُحَت نفوسهم واستحقوا جنة ربهم، ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً﴾ .
﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7)﴾
النذر: ما أوجبه الإنسان على نفسه، هذا هو النذر، فإذا كان موفياً بما أوجبه على نفسه فلأن يكون موفياً بما أوجبه الله عليه من باب أولى، الله أوجب علينا الاستقامة، أوجب علينا الصدق، أوجب علينا الأمانة، أوجب علينا العفة، أوجب علينا الإخلاص، أوجب علينا أن نصلي، أن نصوم، أن نحج، أن نعتمر، فإذا كان هؤلاء المؤمنون يوفون بالنذر ما أوجبوه على أنفسهم يوفون به فكيف بالذي أوجبه الله عليهم؟ من باب أولى، أي هذا المؤمن صفته أنه يُوفِّي ما عاهد الله عليه، ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ .
النبي عليه الصلاة و السلام جاءه صحابي جليل مهاجر ففي أثناء الطريق ألقي القبض عليّ من قِبَل المشركين –هكذا روى لهم- قال: عاهدتهم إن أطلقوني ألا أقاتلهم، فرح به النبي عليه الصلاة والسلام، بعد سنة أو سنتين كان هناك غزوة فهذا الصحابي نسي العهد، فرح بالجهاد مع رسول الله فانخرط مع أصحابه، قال له: أنت ارجع، ألم تعاهدهم؟
﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)﴾
فهؤلاء المؤمنون الذين استحقوا جنة الله عز وجل ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ أي هم يوفون ما أوجبوه على أنفسهم، ومن باب أولى ما أوجبه الله عليهم، لذلك قال تعالى:
﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)﴾
أما المؤمن كما قال عز وجل عن سيدنا إبراهيم:
﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)﴾
أي أشرف موقف أن تكون عند عهدك مع الله عز وجل.
الإنسان لأن يسقط من السماء إلى الأرض فتنحطم أعضاؤه أهون من أن يسقط من عين الله، قد تكون فقيراً، والفقر ليس وصمة عار بالإنسان أبداً، قد تكون مريضاً، ليس مشكلة، لا الفقر مشكلة ولا المرض مشكلة، ولكن أن تسقط من عين الله هي المشكلة، أن تخون أمانتك، ألا توفِّي بما عاهدت الله عليه، ألا تكون عند وعدك لله عز وجل بطاعته، فلذلك:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)﴾
[ سورة الصف ]
بنو إسرائيل: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)﴾
أما المؤمنون الصادقون: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)﴾
محاسبة الإنسان يوم القيامة:
﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾ الشر المستطير؛ المنتشر، المُتفجر، أي يوجد مشكلات بالحياة الدنيا ينشأ عنها مشكلات، مشكلة متفجرة، يوجد مشكلات محدودة، تُحاط، تُطوّق، تُحدد، أما في مشكلة تتفجر، فهذا اليوم يحاسب الإنسان فيه عن كل شيء، تُرَاجع كل الحسابات، تُرَاجع كل القوائم، كل شيء فعله يراجع به، هذا اليوم يوم عصيب.
﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)﴾
[ سورة المدثر ]
﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)﴾
﴿يَوْماً ثَقِيلاً﴾ قال: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾ أي أخ كريم قال لي: اشتريت محضراً، وأخذناه بالمزاد، أي بطريقة أو بأخرى أخذه بثلثي ثمنه، أي دخل بالمزاد أشخاص خلبيّون، رفعوا السعر قليلاً قليلاً، هذا الأخ قال لي: ثم عرفت أن أصحاب هذا المحضر بعضهم أيتام، كيف أواجه الله يوم القيامة؟ قال لي: بماذا تنصحني؟ قلت له: إما أن تنسحب، وإما أن تعطي أصحابه الثمن الكامل، ولا تعبأ بهذه المزاودة أو المناقصة، وهذا الذي فعله، هناك قبر، أحياناً يكون القانون معك مئة بالمئة لكن بالقبر لا يوجد قانون، بالقبر يوجد شرع، القضية تُحل معك هكذا؟
جوهر الدين معرفة الحلال والحرام:
قال له: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها؟ قال له: ليست لي، قال له: قل لصاحبه ماتت، قال له: ليست لي، قال له: خذ ثمنها، قال له:
والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني فإني عنده صادق آمين، ولكن أين الله؟ هذا الراعي وضع يده على جوهر الدين.
لو عندك مكتبة أربعة جدران للسقف، وعندك ألف شريط تسجيل، وعندك اطلاع، وعندك ثقافة إسلامية واسعة، وعندك، وعندك، وأكلت درهماً من حرام فأنت لا تعرف شيئاً، لا تقل أبالغ، والله لا أبالغ، قالت السيدة عائشة عن رجل خالف الشرع قولوا له: إنه أبطل جهاده مع رسول الله:
﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)﴾
يصلي وينفق وهو عند الله كافر.
(( ربّ صائم ليسَ لَه من صيامِه إلَّا الجوعُ. ))
[ ابن ماجه عن أبي هريرة ]
الصلاة: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً.
الصوم ذكرته،
الحج: أيضاً إذا إنسان حجّ بمال حرام وقال: لبيك اللهم لبيك، يناديه مناد في السماء أن لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك.
لا الحج يفيد، ولا العمرة تفيد، ولا إنفاق المال يفيد مع المعصية، ولا الصلاة تفيد، ولا الصيام يفيد، يفيدك أن تطيع الله أولاً، عندئذ كل هذه العبادات ترقى بها، أما إذا كنت مقيماً على المعاصي أي بيتك إسلامي، وعملك إسلامي، الآن الصلاة تتوِّج بها هذه الاستقامة، أما إذا كان هناك مخالفات كبيرة جداً، هذه العبادات لا تقدم ولا تؤخر، هي فرض لابدّ منها، لكن لا تقدم ولا تؤخر.
﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8)﴾
إطعام الطعام، النبي الكريم سئل: أي الإسلام أفضل؟ قال: إطعام الطعام، إطعام الطعام يؤلف القلوب، يجمع النفوس، فأحد الأعمال الصالحة، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كان لا يجيب المتباريين، أي إذا الوليمة من أجل أن تفتخر، أن تعلو بها على الناس، هذه وليمة أريد بها الشيطان، أما إطعام الطعام فمن أعظم الأعمال الصالحة.
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ العلماء قالوا: على معنيين:
1 ـ إطعام عباد الله بدافع حبهم لله:
إما أنهم محتاجون لهذا الطعام ويحبونه، والوضع عصيب جداً، آثروا به الفقير، هذا معنى، أو على حبّ الله عز وجل، أي الإطعام بسبب حبهم لله عز وجل،
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً﴾ عاجزاً عن العمل،
﴿وَيَتِيماً﴾ لا يمكنه أن يكسب المال، صغير،
﴿وَأَسِيراً﴾ ولو كان مشركاً، واقع بالأسر.
﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً (9)﴾
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ أي حباً بالله عز وجل، بدافع حبهم لله، هؤلاء عباده الجائعون، بدافع حبهم لخالقهم يطعمون عباده، هذا المعنى الأول.
2 ـ إيثار إخوانهم على أنفسهم على الرغم من فقرهم:
المعنى الثاني: يؤثرون على أنفسهم ولو كان به خصاصة، هم في أشدّ الحاجة إلى هذا الطعام، لكنهم آثروا عليه إخوانهم، على حبهم لهذا الطعام، وشدة حاجتهم إليه، يطعمونه، ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً﴾ أي العاجز عن العمل، ﴿وَيَتِيماً﴾ أي الصغير الذي ليس له أب يغتني بغناه، ﴿وَأَسِيراً﴾ الذي أُسِر ولو كان مشركاً، إلا أن الأسير المشرك لا يُعطى من الزكاة، يُعطى من الصدقة لأن الزكاة تؤخذ من أغنياء المسلمين وترد على فقرائهم، أما الصدقة فيمكن أن ينفق منها لغير المسلمين: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ لذلك الإخلاص الإخلاص، الإخلاص ينفع معه قليل العمل و كثيره، أما عدم الإخلاص لا ينفع معه لا قليل العمل ولا كثيره.
الإخلاص لا يعلمه إلا الله، حتى المَلَك الذي على كتفك لا يعلم إخلاصك، هذا بينك وبين الله، ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ ابتغاء مرضاته ﴿لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً﴾ لا نريد استحساناً، ولا مدحاً، ولا ثناء، ولا أي شيء من هذا القبيل.
بعض المسلمين -أصلحهم الله-لا يدفعون إلا إذا وضعت على جدار قطعة رخام عليها اسمهم، أنت حينما قدمت هذا لله عز وجل، الله عز وجل يعلم كل أعمالك الصالحة.
﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)﴾
هو يعلمه، وسيعوض عليك أضعافاً مضاعفة، كن غنياً عن أن يقول الناس عنك محسن كبير، كن غنياً عن ذلك، لأن هذا تقترب به إلى الإخلاص، والإنسان إذا نازعته نفسه حول ما إذا كان مخلصاً أو غير مخلص ليكتم عمله الطيب عن الناس، ليصلي في جوف الليل دون أن يقول لأحد، ليدفع صدقة لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، بهذا تنتصر على الشيطان، إذا قال لك: أنت تريد سمعة، تريد مديحاً، ثناء، رُدّ عليه بهذه الطريقة، ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً﴾ ومؤمنون كثيرون لهم أعمال كالجبال لا يعلمها أحد، فيما بينهم وبين الله عز وجل، وكلما كانت عامرة فيما بينك وبين الله استغنيت عن استجداء المديح، استجداء المديح مرض نفسي، لضعف الإخلاص تستجدي مديح الناس، تُذكرهم بعملك، من أجل أن يمدحوك، تذكرهم بفضلك، بإحسانك، تذكرهم بطريقة أو بأخرى من أجل أن يثنوا عليك، لأن ثناءهم عليك هو جزاؤك من هذا العمل، أما المؤمن يبتغي وجه الله، لذلك لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه.
أعمال المؤمن الصادق لا يعلمها إلا الله:
سيدنا الصديق رَضِي اللَّه عَنْه له أعمال عظيمة لا يعلم بها أحد، له جيران ضعاف، فكان يحلب لهم الشياه، فلما صار خليفة المسلمين دخل الحزن على هؤلاء الجيران، مستحيل يتابع هذه الخدمة، مشغول، في صبيحة اليوم الأول لتسلمه منصب الخلافة طُرِق باب أحد الجيران، قالت الأم لابنتها: افتحي الباب يا بنيتي، فلما رجعت قالت: من الطارق؟ قالت: جاء حالب الشاة يا أماه، وهو في قمة المجتمع الإسلامي، يحلب الشياه لجيرانه الضعاف، فالمؤمن الصادق له أعمال لا يعلمها إلا الله، له أعمال جليلة بينه وبين الله، ولا يستطيع الشيطان أن يقول له: إنما تفعل هذا رئاء الناس أبداً، الدليل: ما تكلم بها، فيما بينه وبين الله.
إعلان الأعمال الصالحة إذا كان ذلك يشجع الآخرين:
أما إذا كنت واثقاً من نفسك والكلام عنها يشجع الآخرين فلا يوجد مانع:
﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) ﴾
﴿ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)﴾
يوم القيامة يوم مخيف، هم:
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾ وهم مخلصون بهذا العمل،
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً﴾ لأننا:
﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾ .
الملف مدقق