- التربية الإسلامية / ٠1الحقوق
- /
- ٠6حق الطريق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
حق الطريق :
أيها الأخوة المؤمنون, لا زلنا في موضوع الحقوق، ولا زلنا في حقوق الطريق، ومن حقوق الطريق -إضافةً إلى غضِّ البصر- كف الأذى، وكف الأذى ينقلنا إلى موضوعٍ تمهيديٍ له، ألا وهو الحياء.
النبي -عليه الصلاة والسلام- في أحاديث كثيرة يؤكِّد: أن الحياء من الإيمان، وبعد قليل سألقي على مسامعكم بعضاً من هذه الأحاديث الشريفة، ولكن الحديث الأول:
يقول عليه الصلاة والسلام:
((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً ...))
الإيمان درجات، والدليل: أن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾
هناك إيمان مقبول، وهناك كمال الإيمان، الإيمان إذاً درجات، والتقوى درجات:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾
الفرق بين الإيمان والتقوى:
والإيمان شيء والتقوى شيءٌ آخر:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾
والإيمان شيء والإسلام شيءٌ آخر:
﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾
فمعرفة معاني هذه المُصطلحات الدقيقة في القرآن الكريم جزءٌ من الإيمان، يجب أن تعرف ما الإيمان؟ ما الإسلام؟ ما التقوى؟ ما المعصية؟ ما الفسق؟ ما الفجور؟ ما الإلحاد؟ ما الكفر؟
الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يقول:
﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾
إذاً: الإيمان شيء والإسلام شيءٌ آخر.
الحديث الذي بين أيدينا هو قول النبي -عليه الصلاة والسلام-:
((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ.
-أي أن أعلى درجة في الإيمان أن تصل إلى قول لا إله إلا الله، وإذا قال النبي: قول لا إله إلا الله, فيعني بذلك: أن تعلم أنه لا إله إلا الله، وإذا علمت أنه لا إله إلا الله, فمن لوازم العلم, بكلمة التوحيد: أنك تدخل في حصن الله.
لا إله إلا الله حصني, من دخلها أمن من عذابي.
وينبغي أن تعلم أيضاً: أن لا إله إلا الله لا يسبقها عمل، الأعمال الصالحة في ظاهرها قبل أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله, مشوبةٌ بعدم الإخلاص، لأنه لا ينفع عملٌ مع الشرك-.
... أَفْضَلُهَا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ.
-بل إن نهاية العلم: أن تؤمن أنه لا إله إلا الله، والإنسان لا يعصي ربَّه إلا إذا اعتقد أن هناك جهةً أخرى تنفعه أو تضرُّه، فهو يطيعها ويعصي الله، أما إذا أيقن أنه لا إله إلا الله، وأن الله سبحانه وتعالى هو الحقيقة الأولى والأخيرة، هو الظاهر والباطن، هو الأول والأخر، بيده ملكوت كل شيء، إليه يرجع الأمر كله، مالك كل شيء، إذا أيقن هذا اليقين انتهى كل شيء، فالعلم نهايته أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله:
وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد-.
وَأَوْضَعُهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ.
- أن تميط الأذى عن الطريق، حجر تزيحه إلى جانب الطريق.
أيها الأخوة دقِّقوا: من الإيمان أن تعتقد أنه لا إله إلا الله، من الإيمان أن تميط الأذى عن الطريق-.
وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ))>
هذا الحديث دقيق جداً، معنى ذلك: أن في الإيمان جانباً فكرياً، وأن في الإيمان جانباً نفسياً، وأن في الإيمان جانباً سلوكياً، كلمة إيمان: هذه الكلمة الرنانة التي يطمح كل امرىء أن يتصف بها، يجب أن نعرفها معرفةً صحيحة، من الإيمان أن تفكِّر في الكون، والآيات التي تحضُّنا على ذلك لا تعدُّ ولا تحصى، من الإيمان أن تتدبَّر كتاب الله عزَّ وجل، من الإيمان أن تنظر في الحوادث، لأن الكون خلقه، ولأن الحوادث أفعاله، ولأن القرآن كلامه، فإذا تفكَّرت وتدبَّرت ونظرت، وأجريت محاكمةً دقيقة، وتوصَّلت بعد البحث والدرس والتدقيق والتـأمُّل إلى الحقائق الأساسيَّة التي أراد الله سبحانه وتعالى أن نؤمن بها، هذا هو الجانب الأول في الإيمان.
لذلك: الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً, أَفْضَلُهَا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ .
أي إنك إذا تأمَّلت في الكون، وإذا تدبَّرت القرآن، وإذا نظرت في الحوادث, وصلت إلى أن هناك خالقاً عظيماً ومربياً رحيماً ومسيِّراً حكيماً, لا إله إلا هو، هذه الجولة التفكُّريَّة، الجولة التأمليَّة، الجولة التبصُّريَّة -إن صحَّ التعبير- الجولة التدبريَّة في الكون، وفي القرآن، وفي الحوادث, مع إجراء المحاكمة، والدراسة، والبحث، والتمحيص، والمقدِّمات، والنتائج, يستطيع هذا الفكر البشري أن يصل إلى نتائج قطعيَّة، وهذا الذي عبَّر عنه العلماء باليقين الاستدلالي، هذا جانب في الإيمان.
مفهوم التوحيد:
فهذا الذي لا يفكر، ولا يُعمل عقله، ولا يتأمَّل، ولا يتدبَّر، ولا ينظر, هذا مقلِّد، والمقلِّد ليس من عِداد المؤمنين، كما أقرَّ بذلك علماء التوحيد، لا يمكن أن يكون الإيمان تقليداً، لأنك إذا قلَّدت في الإيمان قد تقلِّد في الضلال، إذا كان عندك استعداد أن تقلِّد في عقيدتك, فأنت ضال مضل آخر, إذا جمعتك به الصُدَف، ولقَّنك عقيدته الضالَّة, يمكن أن تعتنقها، إذاً: لا يقبل منك أن تقلِّد في العقيدة، فالإيمان شعبٌ كثيرة كما قال عليه الصلاة والسلام: بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً, أَفْضَلُهَا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ.
هذا الجانب الفكري.
الدرس الماضي ليس هنا ولكن في درس العقيدة, قلت: لو جمعنا الإيمان والإسلام معاً، وعددناهما وحدة متكاملة، هناك جانبٌ فكري يمثِّله الإيمان الفكري، وهناك جانب سلوكي يمثِّله الإسلام، الإسلام انصياع، وهناك جانِبٌ نفسي قلبي يمثِّله الإيمان القلبي .
فأنت قبل أن تستسلم لأمر الله, لا بدَّ من أن تجري محاكمة فكريَّة صحيحة، تصل بها إلى نتائج قطعيَّة، وأنت بعد أن تستقيم على أمر الله، وتنساق إلى أمر الله, لا بدَّ من أن تقبل على الله عزَّ وجل، فالإقبال على الله يجعلك تصطبغ بصبغة الله عزَّ وجل، من هذه الصبغة الحياء، فترى المؤمن له جانبٌ فكري نشيط، وله جانبٌ نفسيٌ أخلاقي، إنه يتصف بالصفات الأخلاقيَّة الرفيعة, من عدلٍ وإنصافٍ، إلى رحمةٍ وحنانٍ، إلى لطفٍ، إلى شفقةٍ، إلى طُهْرٍ، إلى عفافٍ، إلى تجمُّلٍ، إلى صبرٍ، هذا الجانب النفسي, والجانب الفكري له عقيدةٌ يقينيَّةٌ, سببها: أنه تأمَّل وفكَّر، وتدبَّر ونظر.
كأنني أقول لكم: لا بدَّ من قناعة يتبعها سلوك، تتبعها سعادة، تقنع، تسلك، تسعد، وهذا يطابق تماماً تعريف العبادة:
العبادة: طاعةٌ طوعيَّة ممزوجةٌ بمحبَّةٍ قلبيَّة، أساسها معرفةٌ يقينيَّة, تفضي إلى سعادةٍ أبديَّة.
ثلاثة أشياء؛ طاعةٌ طوعيَّة سلوك، الإسلام التزام، الإسلام ضبط الحواس، الإسلام ضبط الدخل، الإسلام ضبط الإنفاق، الإسلام ضبط العلاقات .
وكنت قد أكَّدت لكم من قبل: أن في الإسلام عباداتٍ شعائريَّة, منها: الصلاة والصيام والحج، وفي الإسلام عباداتٌ تعامليَّة، ولعمري إن العبادات التعاملية أخطر بكثير من العبادات الشعائريَّة، بل إن العبادات الشعائرية لا تصح ولا تؤتي ثمارها يانعةً إلا إذا سبقتها العبادات التعاملية, لذلك:
عندما رأى سيدنا عمر بدوياً, يرعى غنماً وشياهاً، فقال له: بعني هذه الشاه وخذ ثمنها, قال: ليست لي, قال: قل لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب -القصَّة معروفة-, قال: والله إنني في أشد الحاجة إلى ثمنها, ولو قلت لصاحبها: ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني، فإني عنده لصادقٌ أمين، ولكن أين الله؟
فمعلومات، تطلعات، طموحات، مشاعر من دون التزام, هذا كلامٌ فارغ، إياك أن تضيَّع وقتك.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾
هؤلاء الذين اعتقدوا، هؤلاء الذين أيقنوا، هؤلاء الذين طمحوا, إن لم يؤكِّد عقيدتهم مواقف؛ عطاءٌ ومنعٌ، صلةٌ وقطعٌ، غضبٌ ورضى، إن لم تؤكِّد عقيدتهم وإيمانهم مواقف ماديَّة ، يجب أن ترى الإسلام في بيت المسلم، في علاقته بأهله، في مظهر أهله إذا خرجوا من البيت، في مظهر بناته، في تجارته، في حانوته، في مكتبه، في قاعة تدريسه، في معمله، الإسلام يبدو أكثر ما يبدو في التعامل.
لعلَّك رأيته يصلي؟ قال: نعم, قال: أنت لا تعرفه، هل حاككته بالدرهم والدينار؟ قال: لا, قال: هل جاورته؟ قال: لا, قال: هل سافرت معه؟ قال: لا، فقال: أنت لا تعرفه.
فحينما فهم الصحابة الكرام الإيمان التزام، وتعامل، وانضباط، وتحرِّي الحلال, بلغوا أعلى درجات الكمال.
قال النجاشي لسيدنا جعفر:
((حدِّثنا عن نبيُّكم, قال: كنا قوماً أهل جاهليَّة, نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونقطع الرحم، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف -هذه الجاهليَّة- حتى بعث الله فينا رجلاً, نعرف أمانته وصدقه، وعفافه ونسبه, فدعانا إلى الله لنعبده ونوحِّده, ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث -المسلم صادق؛ صادق مع نفسه، صادق مع ربِّه، صادق مع الناس، صادق مع من هم أدنى منه، صادق مع من هم أكبر منه- أمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، والكف عن المحارم والدماء))
هكذا عرَّف سيدنا جعفر الإسلام، مواقف أخلاقيَّة، هذا الذي يجب أن نضع أيدينا عليه، الإسلام فيه جانب فكري عقائدي، بالتعبير الحديث: أيديولوجي، فيه جانب سلوكي، الجانب السلوكي هو الأصل في الإسلام:
وعالمٌ بعلمه لم يعملن معذبٌ من قبل عبَّاد الوثن
تعلَّموا ما شئتم, فو الله لن تؤجروا حتى تعملوا بما علمتم .
الجانب الآخر وهو: الجانب النفسي، جانب الإقبال على الله عزَّ وجل. فلاحظوا في هذا الحديث :
((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً, أَفْضَلُهَا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ, وَأَوْضَعُهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ, وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ))
الذي أريد أن أقوله: أنه توجد بالإسلام صبغة، أنت كإنسان لك فطرةٌ عالية، ما من مخلوقٍ إلا ويتمتع بفطرة عالية، الفطرة أن تحب الكمال، لكن أن تحب الكمال شيء وأن تكون كاملاً شيءٌ آخر، أن تحب الكمال هذا قاسم مشترك بين كل البشر، ولكن أن تكون كاملاً هذا من أثر الإيمان، هذه هي الصبغة، هذه هي ثمرة الصلاة، هذه هي ثمرة الاتصال بالله عزَّ وجل؛ الصبر، الصدق، الأمانة، العفَّة، الإنصاف، ومنها الحياء، فكف الأذى في الطريق أساسه الحياء.
الحياء :
ما الحياء؟ الإنسان حينما ترقى نفسه, يعظم على صاحبها أن يصدر منه نقص، وكلَّما ارتقت النفس, يعظم عليه أن يصدر منه نقصٌ في السلوك، ونقصٌ في الكلام، ونقصٌ في المَظهر، أصبح كاملاً، لماذا هو حيي؟ لأنه اتصل بالله عزَّ وجل.
ألم تسمعوا بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-:
((إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ, يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْن))
فإذا اتصلت بالله سبحانه وتعالى, لا بدَّ من أن تقتبس أو أن تشتقَّ منه صفة الحياء، الحياء أن تخشى وأن تخاف أن يصدر منك تصرفٌ ناقص؛ في الطريق، وفي عملك، وفي بيتك، مع أهلك، مع أولادك، مع أخوانك، في المسجد، تصرُّف قولي، تصرف عملي، مظهر ناقص، خلل في موقفك، هذا كله من الحياء.
في نقطة دقيقة جداً: اليوم صباحاً سألني عنها أخ: أنه المؤمن مبتلى, لكن لماذا هو سعيد؟ المؤمن سعيد لأنه يشعر أنه على الصراط المستقيم، وأنه ضمن المنهج الإلهي، وأن الله سبحانه وتعالى راضٍ عنه، ليس معنى هذا أن حياته ليس فيها متاعب، المتاعب لا بدَّ منها، لأن المتاعب تُظهر كماله، تظهر صبره، لا يرقى إلا بالصبر، تظهر حِلمه، لا يرقى إلا بالحلم ، تظهر إنصافه، قد يعتدى عليه، فيأخذ حقَّه من دون أن يزيد عليه، فلا تتوهَّموا أن الإنسان إذا عرف الله, واستقام على أمره, أصبح الطريق كله ورود ورياحين، لا, لكنك سعيدٌ جداً, لأنك تشعر دائماً: أن الله سبحانه وتعالى خالق السموات والأرض راضٍ عنك ويحبك، هذا الشعور الدقيق، تشعر أنك على الصراط المستقيم، تشعر أنك على هدى من الله، تشعر أن الله معك، تشعر أن الله يحبك، أن الله يؤيدك، لذلك الأنبياء العِظام، كانوا كما قال عليه الصلاة والسلام:
((أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنْبِيَاءُ, ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ))
أصحاب النبي الكرام كانت حياتهم مشحونةً بالمتاعب، لكن هذه متاعب مقدَّسة في سبيل معرفة الله، في سبيل عقيدتهم، في سبيل مواقفهم، في سبيل إرضاء ربهم.
فكيف يمكن لهذا العبد أن يرقى إلى الرب؟ شيء دقيق، ربنا عزَّ وجل خلق هذا المخلوق، ويريد من هذا المخلوق أن يرقى إليه، أن يصل إليه، أن يتَّصل به، ما السبيل؟ لا بدَّ من أن يخلقه على طبيعةٍ معيَّنة، ولا بدَّ من أن يأمره وينهاه، افعل ولا تفعل, لا بدَّ من أن يكون هذا الأمر مخالفاً لطبيعته، ولا بدَّ من أن يكون هذا الذي ينهاه عنه موافقاً لطبيعته، أودع فيه حب النساء وقال له: غضَّ بصرك, لكن هذه الشهوة التي أودعها الله فيه, جعل لها قناةً نظيفةً وحيدة، وليست على مزاجه.
فهناك شهوة أودعها الله في الإنسان وهناك تكليف، من معاني التكليف: أن فيه كلفة، يجب أن تغض بصرك، ومسموحٌ لك فقط أن تستمتع بما أحلَّ الله لك:
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾
أنت بهذا ترقى، المال، أودع فيك حب المال، لك أن تكسبه من طرقٍ شتَّى، قنن لك الطرق التي يمكن أن تكسب بها المال، لا بدَّ من أن تكسبه من حلال، وقنَّن لك الطرق التي يمكن أن تنفقه بها، إذاً: أنت لست حراً. هذا بشر الحافي أحد كبار أولياء الله، كان مسرفاً على نفسه في المعصية، وكان في مجلس خمر، طُرِق بابه، فإذا رجلٌ يقول لغلامه: قل لسيدك إن كان حراً فليفعل ما يشاء، وإن كان عبداً فما هكذا تصنع العبيد.
كانت هذه الكلمة لها وقعٌ في قلبه خطير، حمله على أن يدع كأس الشراب, وعن أن يتبع هذا الذي قال هذا الكلام، وعن أن يتبعه حافياً.
قل لسيدك إن كان حراً فليفعل ما يشاء، وإن كان عبداً فما هكذا تصنع العبيد؟.
أي أنك في قبضة الله عزَّ وجل، أنت إذا قلت في أحد الأيام: الحمد لله، الأمور ميسَّرة, صحتي طيبة, فآلاف الأجهزة تعمل بانتظام؛ أجهزة عصبيَّة، وأجهزة دورانية، وعضلات، وأعصاب، فأي خللٍ طفيفٍ في جسمك يقلب الحياة إلى جحيم، فأنت في قبضة الله.
دقِّقوا في قوله تعالى، يقول الله عزَّ وجل :
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا
-ما معنى هذه الآية؟ أي أنت مخيَّر-:
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا
-هو الإنسان موليها، أما الشيء الذي يُلفت النظر: لماذا قال الله عزَّ وجل- :
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ
-لماذا؟ لأن هذا الاختيار موقَّت, لا تملكه إلى أبد الدهر، والدليل-:
أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً﴾
أنت الآن مخيَّر؛ لك أن تطيع أو أن تعصي، لك أن تفعل الصالحات أو أن تفعل السيئات ، لك أن تصلي أو لا تصلي، لك أن تحضر مجلس العلم أو تحضر مجلس لهو، أنت مخيَّر:
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ
-صاحبها موليها، يا عبادي-:
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ
-لأن هذه الميزة، هذه الخصيصة، هذا الاختيار الذي هو سر سعادتكم، وسر ارتقائكم عند ربكم, إنما هو موقَّت، لا بدَّ من أن يُسْلَبُ منكم حينما يأتي ملك الموت.
لذلك-:
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً﴾
إذا جاء ملك الموت انتهى الاختيار، نحن جميعاً ما دام هذا القلب ينبض, نتمتَّع بفرصةٍ لا تعوَّض، أنت الآن مخيَّر, تستطيع أن تفعل الصالحات، تستطيع أن تتوب، تستطيع أن تستغفر، تستطيع أن تتقرَّب إلى الله عزَّ وجل، تستطيع أن تغضَّ بصرك، تستطيع أن تعيد الحقوق إلى نصابها:
﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ
-استبقوا؛ أي أن هذه الفرصة التي مُنِحتموها فرصةٌُ لا تعوَّض، وهي فرصةٌ موقَّتة, لا بدَّ من أن ننتهي-:
أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً﴾
إذاً: سر سعادة المؤمن: أنه يشعر أنه على هدى من الله عزَّ وجل:
﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾
الآن الحياء: النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:
((الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ))
تستحي، حياؤك يمنعك من معصية الله، تستحي أن تمدَّ بصرك إلى ما حرَّم الله، تستحي أن تأخذ ما ليس لك، تستحي أن تسُب إنساناً، تستحي أن تشتم، تستحي أن تعتدي على أعراض الناس، تستحي أن تأكل أموالهم بالباطل، إذاً الْحَيَاءُ -كما قال عليه الصلاة والسلام- كُلُّهُ خَيْرٌ .
لماذا تحدَّثنا عن الحياء؟ لأن من حقوق الطريق كفُّ الأذى، وكف الأذى لن يكون إلا بالحياء، لأن آخر ما أدرك الناس من كلام النبوَّة -كما ورد في البخاري-: إذا لم تستحِ فاصنع ما تشاء.
لهذا الحديث تفسيرٌ دقيقٌ جداً: إذا لم تستحِ فاصنع ما تشاء؛ أي عملٍ تزمع أن تفعله, زنه بميزان الشرع، فإذا فعلت هذا العمل وأنت لا تستحي من الله عزَّ وجل في فعلك إياه، هذا العمل افعله ولا تخش شيئاً، إذا لم تستحِ من الله في هذا الفعل فافعل ما تشاء، هذا المعنى الأول.
فالبطولة: أن تملك الجواب لله عزَّ وجل، افعل ما تشاء, لكن بشرط أن كل موقف، كل حركة، كل سكنة: يجب أن تغطِّيها بجوابٍ صحيحٍ لله عزَّ وجل يوم القيامة إذا سألك، فإذا وزنت هذا العمل, ورأيت أنه يرضي الله، ولا تستحي به، فافعله ولا تخف، إذا وزنت هذا العمل بميزان الشرع, ورأيت أنه إذا واجهك الله به لا تستحي، لماذا ضربت هذا اليتيم؟ يا ربي أنا ضربته, لأنه لو كان ابني مكانه لضربته, هذا ميزان دقيق، إذاً: اضربه، إذاً: أدِّبه, لماذا حرمت زيداً؟ لأنه ينفق ماله في شرب الخمر يا رب, فأي عملٍ تحب أن تفعله, يجب أن تقيسه بالشرع، فإن جاء الجواب إيجابياً, فاصنعه ولا تخش شيئاً، هذا المعنى الأول.
المعنى الثاني: أنه إذا خلا قلب المؤمن من الإيمان، من لوازم الإيمان الحياء، فإذا لم يستح الإنسان يفعل أي شيءٍ قبيح، ما الذي يردعه عن فعل القبيح؟ حياؤه، هو لا يستحي, ما دام لا يستحي, إذاً: فليفعل كل شيء.
إذا لم تستحِ فاصنع ما تشاء .
والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:
((إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا, وَإِنَّ خُلُقَ الإِسْلامِ الْحَيَاءُ))
فربَّما تعرف المؤمن من غير المؤمن من حيائه، من سيره في الطريق، يغضُّ بصره، تعامله سنواتٍ طويلةً طويلة لا تستمع منه إلى كلمةٍ تخدش الحياء أبداً، لو أنه مزح فمزاحه شريف، مزاحه أديب لا يجرح الحياء، هناك أشخاصٌ كبار مثقَّفون يحتلون مناصب رفيعة، إذا دخلت إلى مجالسهم الخاصَّة, استمعت إلى مزاحٍ رخيصٍ يندى له الجبين، هذا الذي لا يستحي ليس مؤمناً:
الحياء من لوازم الإيمان.
الخُلق الصارخ للمؤمن الحياء؛ في تصرُّفاته، في جلسته، في مَشيه، في ثيابه، في طعامه، في شرابه، في ركوبه، في تعامله مع الناس، في مُزاحه، في لهوه، في مرحه، في جده، في عمله، في بيته, في كل هذه المجالات تراه صاحب حياء.
يبدو أن أحد أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يعظ إنساناً، فقال له النبي الكريم -وأظنه سيدنا الصديق-:
((دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ))
أي لا تتعب نفسك، لو أنه مؤمن لاستحيا، وما دام لا يستحي فليس مؤمناً.
تروي سيدتنا عائشة: النبي -عليه الصلاة والسلام- كان أشد حياءً من المرأة في خدرها، مرَّةً جاءته امرأةٌ, فقالت له:
((كيف أطهر يا رسول الله؟ قال: خُذِي فِرْصَةً مِنْ مَسْكٍ فَتَطَهَّرِي بِهَا, قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ؟ قَالَ: تَطَهَّرِي بِهَا, قَالَتْ: كَيْفَ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَطَهَّرِي فَاجْتَبَذْتُهَا إِلَيَّ, فَقُلْتُ: تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ))
النبي كان حَيياً، ما تكلَّم كلمةً تخدش الحياء إطلاقاً .
يا بنيتي, إن هذه الثياب تصف حجم عظامكِ.
ماذا يقول مكان عظامك؟ حجم ساقيك، حجم عضدك، أية كلمةٍ أخرى تثير الشهوة.
يا بنيتي إن هذه الثياب تصف حجم عظامكِ.
ماذا قال الله عزَّ وجل؟ قال:
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾
كلمة لطيفة جداً لا تخدش الحياء.
الحقيقة: الإنسان إذا كانت فطرته صافية, لم تُطمس بالشهوات، وكان في حضرة عظيم، وهذا العظيم كامل، وهذا العظيم الكامل بيده كل أمره، وعنده ما لا عينٌ رأت, ولا أذنٌ سمعت, ولا خطر على قلب بشر، وعنده عذابٌ أليم، إذا كنت في حضرة عظيم, فإنك تستحي منه قطعاً.
فتصوَّر نفسك: لك شخص بالأسرة عظيم الشأن، له مكانة، أخلاقياته عالية، عالم جليل وزارك في البيت، كيف تستقبله؟ هل يمكن أن تستقبله بثيابٍ مبتذلة؟ لا، هل يمكن أن تسبَّ ابنك أمامه بسبابٍ مقذع؟ لا, هل يمكن أن تتمطَّى أمامه؟ لا، هل يمكن أن تتجشَّأ أمامه؟ لا, أنت في حضرة شخصٍ من بني البشر, تشعر أنك منضبطٌ في حضرته، فإذا شعرت أن الله معك دائماً؛ في خلوتك وفي جلوتك، في بيتك وفي عملك، هذا الشعور بمراقبة الله عزَّ وجل هو من ثمار الحياء، لذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:
((مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلا شَانَهُ -أذرى به- وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ))
الكلام الفاحش، والثياب الفاحشة المتبذِّلة، والتصرُّفات الفاحشة، والأفكار الفاحشة، والقصص الفاحشة.
((مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلا شَانَهُ -عابه- وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ))
الحديث الخطير: أن الحياء والإيمان قُرنا جميعاً، فإذا رفُع أحدهما رُفع الآخر، فلان لا يستحي أن فلان ليس مؤمناً، فلان ليس مؤمناً لا يستحي، فهناك علاقةٌ ترابطيَّة، لا يستحي ليس مؤمناً، ليس مؤمناً لا يستحي، انتهى الأمر، فمؤمن لا يستحي مستحيل، لا يجتمع فحشٌ وإيمان:
الحياء من لوازمه الإيمان.
لذلك: إذا كان لك صديق، أو جار، أو زميل في العمل, وفيه حياء, توسَّم فيه الخير، ما دام يستحي ففيه إيمان، تعهَّد هذا الإيمان، إذا أردت علامةً صارخةً على إيمان المؤمن؛ إنها الحياء.
النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:
((الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ.
-هذه من للتبعيض؛ أي بعض صفات المؤمن الحياء-.
والإيمان في الجنَّة، والبذاء -هذه الكلمات البذيئة، هذه الكلمات الفاحشة، هذا المزاح الرخيص، وصف العورات، هذا الشيء الذي يندى له الجبين، الذي تحمرُّ منه الخدود، الذي يخدِش النفوس، هذا الكلام المؤذي-.
والبذاء من الجفاء.
-ما الجفاء هنا؟ البعد عن الله عزَّ وجل، من لوازم البعد: هذا الفحش في الكلام-
والجفاء في النار))
حديثٌ خطير:
((الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ, وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ, وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ, وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ))
فلو أن الإنسان التقى بك وعاملك, يجب أن يعرفك مؤمناً لا من كلامك بل من أفعالك، يجب أن يعرفك أنك مؤمن، يقول: مؤمنٌ ورب الكعبة, لأنه فقط حَيي.
عندنا مقياس دقيق جداً، هذا المقياس: النبي -عليه الصلاة والسلام- أعطانا إياه، قال :
ما أحببت أن تسمعه أذناك فأَتْهِ، وما كرهت أن تسمعه أذناك فلا تأته.
فاجتنبه, أتحب أن تستمع إلى إنسان خائن، أو إنسان كاذب، أو إنسان له انحرافه؟ إذا أحببت هذا الذي تستمع إليه فأته، وإذا كرهته فلا تأته، هذا مقياسٌ دقيق من مقاييس الحياء.
أنواع الحياء :
1-الحياء من الله عز وجل :
الآن: الحياء أنواعٌ ثلاث، الحديث عن الحياء حديثٌ عن كف الأذى في الطريق، وكف الأذى أحد حقوق الطريق، هناك حياءٌ من الله عزَّ وجل، إذا أتيت أمره, وتركت نهيه، اجتنبت ما نهى الله عنه, فأنت تستحي منه، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:
((اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ, قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ, قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ, وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ؛ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى -العينان، الأذنان، اللسان، الخواطر- وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى -أن تأكل طيباً- وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى))
إن فعلتم هذا فقد استحيّيتم من الله حقَّ الحياء, عندنا ميزان دقيق:
من لم يكن له ورعٌ يصدُّه عن معصية الله إذا خلا, لم يعبأ الله بشيءٍ من عمله .
البطولة وأنت وحدك، وأنت في البيت لا أحد يطلع عليك، إذا كانت خلوتك كجلوتك، وإذا كانت سريرتك كعلانيَّتك، إذا كنت تخشى الله وأنت منفرداً كما تخشاه وأنت مجتمعاً، فأنت تستحي من الله حقَّ الحياء .
2-الحياء من الناس :
النوع الثاني من الحياء: الحياء من الناس:
النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:
((لا خير فيمن لا يستحيي من الناس))
لأن الحياء كل لا يتجزَّأ، سِمَة الحياء تظهر في حيائك من الله، وتظهر في حيائك من الناس، وتظهر في حيائك من نفسك.
3-الحياء من النفس :
الآن: لو أنك عملت عملاً فيما بينك وبين نفسك، وقد لا ينطوي على طاعةٍ أو معصية, لكن لا يليق بك أن تفعله وفعلته، إنك الآن لا تستحي من نفسك، والإنسان إذا انهارت مكانته عند نفسه اختل توازنه، شيء كبير جداً أن تنهار مكانتك عند نفسك، أي إذا فعلت شيئاً متعلِّقاً بالصحَّة أو بالنظافة فيما بينك وبين ذاته لا يتفق مع الكمال، لا أحد يطلع عليك، ولا أحد يحاسبك، وقد تكون هذه من المباحات، لكن تشعر أنك صغيرٌ أمام نفسك.
إذاً: الحياء من الله في طاعته واجتناب نواهيه، والحياء من الناس في أن تكفَّ الأذى عنهم، والحياء من نفسك أن تكون في المستوى المطلوب.
النقطة الدقيقة: الحديث الشهير الذي يقول فيه النبي -عليه الصلاة والسلام-:
((لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ))
لا يمكن، إنك إذا ربطت الطاعة بثوابها، وربطت المعصية بعقابها, لا يمكن أن تفعل المعصية، ولا يمكن إلا أن تأتي الطاعة، ولكن حينما تعزل الطاعة عن نتائجها، والمعصية عن نتائجها، إذاً: أنت في هذه اللحظة لست مؤمناً.
إذاً:
((لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ))
كيف يزني وهو يرى أن الله مطلعٌ عليه؟.
إنسان أراد أن يزني بامرأة, فأغلق كل الأبواب، قالت له: إن هناك باباً لا تستطيع أن تغلقه؛ إنه باب الله, فاستحيا, أي إذا شعرت أن الله يطلع عليك وأنت متلبِّسُ في معصية، وكانت الفطرة سليمة والإيمان قوياً, عندئذٍ تكف عن محارم الله.
فأساس كف الأذى في الطريق الحياء؛ في لباسك، في حركاتك، في سكناتك.
فأحياناً الإنسان يريد أن يتجاوز دوره، هناك شيء له دور, يحس نفسه صغيراً أمام الناس، فهؤلاء كلهم من بني البشر، هؤلاء كلهم بشر لهم كرامتهم، فإذا تجاوزت هذا الصف ونلت شيئاً ليس من حقِّك، المؤمن يستحي أن يتميَّز على الناس، هذا من الحياء أيضاً، والحياء له أبواباً كثيرةٌ جداً, إذاً: الحياء من حقوق الطريق.
سعد بن عبادة :
بقي علينا فقرةٌ متعلِّقةٌ بسيدنا سعد بن عبادة, ذلك الصحابي الجليل الذي كان صريحاً مع النبي عليه الصلاة والسلام، حينما حدَّثناكم عنه في الدرس الماضي، وقد نقل للنبي موقف الأنصار، وكيف أن النبي -عليه الصلاة والسلام- وقف أكمل موقف حينما بيَّن فضلهم عليه، وفضله عليهم, وقال:
أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير, وتذهبون بالنبي إلى رحالكم؟.
الآن سيدنا سعد بن معاذ قيل: لا يذكر سعد بن معاذ إلا ويذكر معه سعد بن عبادة، فالاثنان زعيما أهل المدينة، سعد بن معاذ زعيم الأوس، وسعد بن عبادة زعيم الخزرج، كلاهما آمنا بالنبي -عليه الصلاة والسلام- في وقتٍ مبكِّر، وكلاهما بايعاه بيعة العقبة، ولكن الشيء الذي يتميَز به سعد بن عبادة: أنه قد ناله من عذاب قريش الشيء الكثير، وشيءٌ يلفت النظر: أنه من أهل المدينة، وأنه زعيم الخزرج، فكيف نالت منه قريش ما نالت؟.
يروي هو هذه القصَّة فيقول: -طبعاً حينما كان في بيعة النبي -عليه الصلاة والسلام في مكَّة- علم كفَّار قريش أنه بايع النبي، واتفق معه على أن يكونا في المدينة من الدعاة لهذا الدين الجديد، لذلك أرسل زعماء قريش من يلحقهم في الطريق، واستطاعوا أن يقبضوا على سعد بن عبادة، وأن يعيدوه إلى مكَّة ليعذِّبوه, الآن نترك له الكلام-، يقول:
فو الله إني لفي أيديهم إذ طلع عليَّ نفرٌ من قريش فيهم رجلٌ وضيء -أبيض اللون-شعشاع من الرجال -أي فيه نورانيَّة- فقلت في نفسي: إن يكُ عند أحدٍ من القوم خير فعند هذا الرجل -هو الآن في قبضتهم ويعذِّبونه- فلما دنا مني -هذا الرجل الوضيء، الأبيض، الشعشاع، والذي ظن به سعد بن عبادة خيراً- قال: فلما دنا مني, رفع يده فلكمني لكمةً شديدة ، فقلت في نفسي: لا والله ما عندهم بعد هذا من خير.
-أحياناً الإنسان يتوسَّم بإنسان الصلاح، يغره شكله، أناقته, وسامته الحسن, ينكشف أنه ذئب، ينكشف أنه شخص حقير، هو توسم به الصلاح، رآه أبيض اللون، وسيم القامة، شعشاع ، يظهر أن لونه أبيض-.
فلما دنا مني لكمني لكمةً, فقلت: والله ما عندهم بعد هذا من خير, قال: والله إني لفي أيديهم يسحبونني إذا أوى إليَّ رجلٌ ممن كان معهم, فقال: ويحك, أما بينك وبين أحدٍ من قريش جوار؟ -هو يعذَّب- قلت: بلى، كنت أجير لحُبَيْر بن مطعم تجارةً وأمنعهم ممن يريد ظلمهم ببلادي، وكنت أجير للحارث بن حربٍ بن أميَّة, قال الرجل: فاهتف باسم الرجلين - وهذه الجاهليَّة، هذا قبل الإسلام، يكفي أن تكون لك يدٌ, انظر هذا الموقف: يكفي أن تكون لكم يدٌ بيضاء على رجل من قريش، وأن تهتف باسمه فقط-.
قال له: كنت أجير لجبير بن مطعم تجارةً، وأمنعهم ممن يريد ظلمهم ببلادي، وكنت أجير للحارث بن حرب بن أميَّة, قال الرجل: فاهتف باسم الرجلين واذكر ما بينك وبينهما من جوار، ففعلت -الرجل نفسه- وخرج إليهما, فأنبأهما أن رجلاً من الخزرج يُضرب بالأبطح، وهو يهتف باسميكما، ويذكر أن بينه وبينكما جواراً، فسألاه عن اسمي؟ فقال: سعد بن عبادة, فقالا : صدق والله وجاءا فخلَّصاه.
هذه بالجاهليَّة قبل الإسلام، هؤلاء المشركون، هؤلاء الكفار, هكذا كانت أخلاقهم، يكفي أن تنطق باسمه، إن كانت لك عليه يد، يكفي أن تنطق باسمه، فيأتي هذا لينقذك مما أنت فيه .
سيدنا سعد بن عبادة إضافةً إلى هذه المحنة التي تحمَّلها، كانت له صفات، هذه محنة أكَّدت طبعه.
وكما قلت لكم دائماً: سيدنا الشافعي سُئل: أندعو الله بالتمكين أم بالابتلاء؟ فقال -رضي الله عنه-: لن تمكَّن قبل أن تبتلى.
أي إن الله عزَّ وجل لا بدَّ من أن يمتحن عباده في السرَّاء والضراء، في الضيق والرخاء، في العطاء والمنع، في إقبال الدنيا وإدبارها، في الصحة والمرض، في الغنى والفقر ، في الرفعة والضعف، في كل ألوان الحياة.
سيدنا سعد كان من الأثرياء، سخَّر أمواله لخدمة المهاجرين، وكان هو جواداً إلى أعلى حدود الجود.
الرواة يروون: أن جفنته –الجفنة: قصعة الطعام الكبيرة؛ أي حلَّة كبيرة، هذا الخوان الكبير- كانت جفنة سعدٍ تدور مع النبي -صلى الله عليه وسلَّم- في بيوته جميعاً حيثما دار، وكان الرجل من الأنصار ينطلق إلى داره بالواحد من المهاجرين، أو بالاثنين، أو بالثلاثة، وكان سعد بن عبادة ينطلق بالثمانين.
الأنصار -رضي الله عنهم- وقفوا موقفاً أخلاقياً من المهاجرين, طبعاً هذا الموقف تاريخي، لكن أتمنَّى أن يكون كل مؤمن كذلك .
الحقيقة: السيرة لها مقصد بعيد جداً، ماذا يفيدك أن تعلم أن الأنصار تقاسموا مع أخوانهم المهاجرين أموالهم؟ هذه فكرة تاريخيَّة وقعت وانتهت وانتهى أمرها، وأصحابها تحت أطباق الثرى، ولكن الذي يفيدنا من السيرة -من سيرة النبي -عليه الصلاة والسلام-, ومن سيرة أصحابه الكرام- أن تكون هذه المواقف قدوةٌ لنا، أخ ضعيف يجب أن ينهض له أخوته الكرام بالمعونة، والمساعدة، والتضحية، والإيثار, هذا هو الحد الأدنى في الإيمان.
فكان الرجل من الأنصار ينطلق إلى داره بالواحد، أو بالاثنين، أو بالثلاثة، وكان سعد بن عبادة ينطلق بالثمانين. هذا الصحابي الجليل له دعاءٌ يقول فيه: اللهمَّ إنه لا يصلحني القليل، ولا أصلح عليه.
هناك إنسان كريم؛ يحب أن يعطي، يحب أن يكرم، يحب أن يطعم الفقراء، يعين المحتاجين، يغيث المستغيثين، مثل هذا الإنسان يحتاج لدخل كبير، قال: يا رب, إنه لا يصلحني القليل ولا أصلح عليه.
والنبي -عليه الصلاة والسلام- فيما يرويه عن ربه يقول: إن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى، فإذا أفقرته أفسدت عليه دينه".
كريم جداً, سخي، لا يقر له قرار إلا إذا أعطى، وهناك إنسان على الغنى يفسُق:
﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ﴾
إن من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر، فإذا أغنيته أفسدت عليه دينه.
هناك حكمة بالغة .
النبي -عليه الصلاة والسلام- حينما رأى سيدنا سعد بهذا الكرم، وهذا السخاء، وهذه النجدة، وهذه المروءة، وهذا العطاء، وهذه التضحية، وهذا الفداء, ماذا كان يفعل؟.
كان عليه الصلاة والسلام يرفع يديه إلى السماء ويقول:
((اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى آلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ))
دعاء النبي مستجاب.
وسيدنا ابن عبَّاس يقول: كان للنبي -عليه الصلاة والسلام- في المواطن كلها رايتان؛ مع علي بن أبي طالب راية المهاجرين، ومع سعد بن عبادة راية الأنصار.
والصفة الأخيرة التي تحدثنا عنها في الدرس الماضي: صراحته البالغة حين قال للنبي -عليه الصلاة والسلام-: إن هذا الحيَّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم.
هذه بعض اللمحات عن هذا الصحابي الجليل، والذي أتمنَّاه دائماً: أن تكون هذه القصص نبراساً لنا في طريق الإيمان، نبراساً، مشعلاً وضَّاء، مثلاً أعلى، قدوة، فنحن مؤمنون والحمد لله رب العالمين، والإنسان إذا كان مؤمناً يجب أن يقول: مؤمن -والقضيَّة بحثها العلماء- مؤمن والحمد لله, فنحن مؤمنون والحمد لله، وهؤلاء أصحاب النبي -عليهم رضوان الله- هكذا كانوا، وهذه أخلاقهم، فإذا كنا مؤمنين ينبغي أن نقتدي بهم.
سيدنا سعد تحمَّل الأذى، سيدنا سعد كان معواناً لأخوانه، سيدنا سعد كان شجاعاً، سيدنا سعد كان كريماً، سيدنا سعد كان مؤثراً .