- التربية الإسلامية / ٠1الحقوق
- /
- ٠6حق الطريق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
حق الطريق :
أيها الأخوة المؤمنون, أنهينا في الدرس الماضي حقوق المسلم على المسلم، وها نحن ننتقل في هذا الدرس إلى حقٍ جديد وقد يبدو لكم غريباً، إلا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- هو الذي سمَّاه هذا الاسم: إنه حق الطريق, الطريق التي نسير فيها لها حقٌ علينا، والنبي -عليه الصلاة والسلام- سمَّاها حق الطريق.
فعن أبي سعيد الخِدْرِيّ -رضي الله عنه-, عن النبي -صلى الله عليه وسلَّم- أنه قال:
((إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ.
-كلمة إياكم من ألفاظ التحذير، إياك والكذب، إياك والخيانة، إياك والتقصير، إياك وما يعتذر منه-.
إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ.
-لا أعتقد أن أحداً يجلس في الطريق، ولكن هذا الذي له محلٌ تجاريٌ مطلٌ على الطريق ، أو هذا الذي يسمح لنفسه أن يجلس في مقاهي الرصيف، هناك مقاصف، وهناك مقاه، وهناك محلاتٌ تطل على الطريق، مثل هذه المحلات، ومثل هذه الملاهي، ومثل هذه المقاصف هذه منهيٌ عنها، فقال عليه الصلاة والسلام- :
إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا.
- أي إذا كان هناك ضرورة، إذا كان لا بدَّ من أن نجلس لشأنٍ مهم، لشأنٍ مشروع, لشيءٍ مباح، لعملٍ، لتجارةٍ، لكسب رزقٍ، لحل مشكلةٍ، لحل قضيَّةٍ -.
إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ.
-الطريق لك أن تذكِّرَ هذه الكلمة ولك أن تؤنِّثها، لك أن تقول: هذه طريق وهذا طريق، وهذه حال وهذا حال، وهذه بئر وهذا بئر, في اللغة العربيَّة كلماتٌ تذكَّر وتؤنَّث في وقتٍ واحد.
قال عليه الصلاة والسلام-: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلا الْمَجْلِسَ
- المجلس أي إلا الجلوس، هذا مصدر ميمي، المجلس مكان الجلوس، ويأتي المصدر الميمي على وزن مَفْعِل، أي فإن أبيتم إلا الجلوس-.
فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ, قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ))
1- غض البصر:
يمكن أن أسمِّي غضَّ البصر مدرسةً في الإسلام، غض البصر لا يوجد قانون في الأرض يلزم به.
قلت لكم سابقاً: إنه قد تتوافق مواد القانون مع أوامر الشرع، فإذا امتنعت عن السرقة, لا ندري امتنعت عنها خوفاً من عقاب الله أم خوفاً من عقاب البشر, لكن رحمةً من الله عزَّ وجل بهذا المؤمن, جعل بعض الأوامر في الشرع لا تتفق مع أي قانون، فجميع القوانين الأرضيَّة لا تُلزم بغض البصر، وإن كان عالِم شهير ألَّف كتاب اسمه: الإنسان ذلك المجهول.
هذا العالِم عالم نفس وطبيب في الأساس، استنبط من خلال التفسُّخ الاجتماعي، ومن خلال الشقاء الزوجي، ومن خلال الانحلال الخُلُقي في العالم الغربي والأمريكي، استنبط أنه لا بدَّ من قصر الطرف على زوجةٍ واحدة.
هذا الكلام قاله ذلك المؤلِّف, وهو لا يدري ما الإسلام؟ ولا يدري ماذا في القرآن؟ ولكن من خلال ملاحظٍة ذكيَّة، ومن خلال استقراءٍ دقيق, وجد أنه لا بدَّ للرجل من أن يقصر طرفه على زوجةٍ واحدة، لم يقل: لا بدَّ من أن يكتفي بزوجةٍ واحدة, بل لا بدَّ من أن يقصر طرفه عليها , لأن الإنسان أحياناً يهتدي بالتجربة، والبحث، والدرس، والتعمُّق، والتحليل، والملاحظة، والاستنتاج، والاستقراء, ينتهي إلى حقيقة توافق ما جاء في القرآن، القضيَّة تفسيرها سهل، فالحقائق واحدة إما أن تصل إليها بالتجربة، وإما أن تصل إليها عن طريق الوحي، فالوحي الذي أوحاه الله للنبي -عليه الصلاة والسلام- هو حقٌ مطلق, لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فيمكنك أن تمسك آلة تحاول تبحث عنها، تفكك جهازاً، تنزع صمَّاماً، اختفى الصوت، تتوهَّم أن هذا الصمام للصوت، شيءٌ آخر:
هذا الفاصل –مثلاً- له علاقة بالشيء الفلاني، فأنت من خلال النزع، والتركيب، والتعطيل، والتشغيل، والتجريب, تكتشف بعض نظام هذه الآلة، هذا العلم اسمه علم تجريبي، وفي هذا العلم التجريبي قد تخطئ وقد تصيب، قد تملك الحقيقة الكاملة أو قد تملك بعضها، ولكنك إذا توجَّهت إلى مخترع هذا الجهاز, وسألته عن سر تصميمه، وعن دقائق عمله, لأعطاك الحقيقة المطلقة.
فأنت إذا توجَّهت إلى كتاب الله, تسأله عن حقائق الأمور، وعن سر الخلق، وعن سر التصرُّف، وعن حقيقة الأمر والنهي، وعن مؤدَّى المعاصي، وعن مؤدَّى الطاعات، لأخذت من كتاب الله الجواب الشافي المطلق الصحيح, لأنه من عند الخبير:
﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾
وخبرة الله عزَّ وجل ليست حديثة، الإنسان خبرته حديثة، بمعنى أنها حادثة، بمعنى أنها مكتسبة, تنشأ مع الأيام، ولكن خبرة الله قديمة، فإذا سألت الخبير لن تجد إلا في كلامه الحق المُطلق، فإما أن تتجه إلى الصانع, وتستشف من كلامه الحقائق، وإما أن تتجه إلى التجربة، إلا أن مشكلة التجربة أنك قد تصل من خلالها إلى الحقيقة ولكن بعد فوات الأوان.
أنت أمام كرة فهل يا ترى: قنبلة، كرة، لعبة؟ ممكن تجرِّب، ممكن تلمسها بيدك، لكن فيما لو كانت قنبلة وانفجرت لم يبقَ في الحياة دقيقةٌ تستفيد من هذا الدرس، أما إذا سألت الخبير، وأنبأك بالحقيقة الشافية، فأنت قد أخذت الاحتياط، فالإنسان يجوز بعد فوات الأوان، في خريف العمر: أن يكتشف الحقيقة التي جاء بها القرآن, وأنت في مقتبل العمر.
نقطة مهمَّة جداً:
ما من مخلوقٍ إلا ويكتشف في خريف عمره: أن المال ليس كل شيء، هو شيء ولكنه ليس كل شيء، وأن المتعة شيء ولكنها ليست كل شيء، وأن الحياة لا بدَّ لها من نظام، لا بدَّ لهذا الكون من خالق، لا بدَّ لهذا الإنسان من أن يطيع خالقه، هذا متى تعرفه؟ في خريف العمر, من خلال التجربة، والخطأ، والصواب، والدروس الثمينة، والعقاب الأليم، والتجارب.
ما قولك: وأنت في مقتبل العمر, إذا قرأت القرآن من عند الواحد الديَّان، إذا قرأت هذا القرآن واستشفيت منه الحقائق، وكانت هذه الحقائق نوراً لك في طريق الحياة؟ والأغرب من ذلك: أنه ما من مخلوقٍ إلا ويعرف الحقيقة الكاملة التي عرفها الأنبياء، ولكن يوم القيامة:
﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾
فرعون وهو على مشارف الغرق قال :
﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾
فالقضيَّة قضية زمن، هذه الحقائق التي جاء بها الأنبياء، هذه الحقائق التي وردت في القرآن الكريم، هذه الحقائق لا بدَّ من أن تؤمن بها، لا بدَّ من أن تكشفها، لا بدَّ من أن ينكشف الغطاء، لا بدَّ ومن أن تملك البصر الحاد:
﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾
ولكن الطامَّة الكبرى: أن هذه الرؤية الصحيحة، وأن هذا البصر الحديد، وأن هذا الغطاء المكشوف, متى جاءنا؟ بعد فوات الأوان.
الطالب إذا دخل الامتحان وليس مستعداً له، وخرج من الامتحان وقلبه يعتصر من الألم، توجَّه إلى البيت, وفتح الكتاب، وقرأ الإجابة الصحيحة وعرفها، ولكن متى عرف الإجابة؟ بعد الامتحان، معنى هذا أنه رسب، أي طالب كسول يمكن أن يعرف الإجابة ولكن بعد الامتحان، أما البطولة: أن تعرفها قبل الامتحان.
حقائق الدين:
إذاً: هذه النقطة دقيقة جداً: حقائق الدين، الحقائق التي جاء بها القرآن، الحقائق التي جاء بها أي كتابٍ سماوي، الرسالات السماويَّة، رسالة الله إلى الإنسان, فيها حقائق، فيها قواعد، فيها قوانين، فيها سنن، هذه الحقائق، وتلك القواعد، وهذه السنن: إذا كشفتها في الوقت المناسب, فأنت أسعد الناس، أما إذا ألقيتها عُرض الحائط، جعلتها وراءك ظهرياً، هجرتها واتجهت إلى قواعد أخرى مستحدثة من وضع البشر، ترضي ميولك، ترضي شهواتك، وتمسَّكت بها، وتشبَّثت بها، ودافعت عنها، ودعوت إليها، وكشفت بعد فوات الأوان أنها باطلة .
قلت لكم في الخطبة: أنه من يتق الله, فلا يسمح للأفكار الزائفة أن تحتل مكانها من عقله ، جعل الله له مخرجاً من الضلال، والضياع، والحيرة، وخيبة الأمل.
الفرق بين المؤمن والكافر:
إذاً: نستنبط من هذه المقدِّمة: أن الفرق بين المؤمن والكافر من حيث المعرفة فرق زمن فقط، المؤمن عرف الحقيقة قبل فوات الأوان، والكافر عرف الحقيقة بعد فوات الأوان، عملية وقت، هذا قبل فوات الأوان، هذا في الوقت المناسب، وهذا في الوقت غير المناسب، هذا في مقتبل العمل, وهذا في خريف العمر، أو على مشارف الموت، أو يوم القيامة.
لا تنسوا هذه الآية:
﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾
ماذا قال سيدنا علي؟ لو كُشِفَ الغطاء ما ازددت يقيناً .
أي هو يقينه بعد كشف الغطاء كيقينه قبل كشف الغطاء، هذه البطولة، ليس من يقطع طُرقاً بطلاً, إنما من يتقي الله البطل، أن تعرف الحقيقة في الوقت المناسب.
وبشكل ملخَّص: لو أردت أن أضغط لكم هذه الفكرة: أنت آلة معقَّدة جداً، وفي كتيِّب فيه تعليمات الصانع، فإذا أهملته، ولم تعبأ به، وسخرت منه، وألقيته في الأرض، كذَّبته، وعملت في هذه الآلة دون علم، وفق هواك، وفق مزاجك، حمَّلتها ما لا تطيق فتعطَّلت، عندما تتعطَّل وتدفع الثمن باهظاً، تعلم ساعة إذٍ أنك لو طبَّقت هذه المعلومات, لأخذت من هذه الآلة أعلى مردود، ولقدمت لك أكبر فائدة.
لذلك هذا الذي أقوله لكم دقيقٌ جداً: بمعنى أنه إذا كنت من السعداء، من المتفوِّقين، من الفائزين، من الفالحين، من الناجحين، من أولي الألباب, من أصحاب العقول, تبحث عن الحقيقة في الوقت المبكِّر، لذلك الله سبحانه وتعالى سمَّى البحث عن الحقيقة، ماذا سمَّاه؟ جهاد , فقال:
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾
البحث عن الحقيقة، معنى ذلك: أنك تحتاج إلى وقت، يجب أن تقتطع من زبدة وقتك وقتاً لمعرفة الله، وقتاً للتأمُّل، وقتاً لمعرفة منهج الله، وقتاً لمعرفة شرع الله، وقتاً لمعرفة كتاب الله، في الدرجة الأولى يجب أن تعرف كتاب الله وأن تعرف سُنة رسول الله، اللذان هما أصلان أساسيان من أصول هذا الدين.
غض البصر مدرسة لتهذيب النفس :
فلذلك الفكرة التي قلتها قبل قليل: إن غض البصر ينفرد به الدين، وليس في القوانين الوضعيَّة كلِّها مادَّةٌ تلزم الإنسان بغض البصر، فإذا غض الإنسان بصره عن محارم الله, بماذا يشعر؟ هل يستطيع الشيطان أن يوسوس إليك أنك بهذا الغض تنافق؟ لا والله، ما أحد يراقبك، ولا أحد يلزمك، ولا أحد يحاسبك، إذا كنت خالياً وحدك، في غرفتك الشخصيَّة، والنافذة مفتوحة، وخرجت إلى الشرفة امرأةٌ من الجيران، حينما تغض بصرك عنها, وأنت وحدك في الغرفة، من الذي رأى هذا العمل؟ لا أحد، لذلك:
إذاً: غض البصر مدرسةٌ لتهذيب النفس .
النقطة الدقيقة الثانية: إن غض البصر، أنت قد سمح الله عزَّ وجل لك أن تقف بين يديه في النهار والليلة خمس مرات، في صلاة الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقد جعل لك آلاف المناسبات في النهار، بل عشرات الألوف، بل مئات للإقبال عليه، كلَّما صرفت بصرك عن امرأةٍ لا تحلُّ لك, شعرت أنك بهذا تطيع الله عزَّ وجل، كأن غض البصر هذا كان لك مُدخلاً إلى الله عزَّ وجل، فأنت حينما تقف في اليوم والليلة خمس مرات تصلي، أنت إذا غضضت بصرك عن محارم الله، في كل مرةٍ تغض فيها البصر ترقى إلى الله، كأن الله سبحانه وتعالى أعطاك مناسباتٍ عديدةً كي تقبل بها عليه.
الطاعة ونتائجها:
والنتيجة: أن هناك علاقةً علميَّةً بين الطاعة وبين نتائجها، كما أن هناك علاقةً علميةً بين المعصية وبين نتائجها، بمعنى: أنك إذا وضعت يدك على المدفأة أحرقتك المدفأة، هذه علاقة علميَّة، أي علاقة سبب بنتيجة، هذا الذي يغض بصره عن محارم الله قبل الزواج, يعيش حياة هادئةً، حياةً نظيفةً، حياةً وادعةً، قد يبني بهذا الوقت مستقبلاً، فإذا تزوَّج وغضَّ بصره عن محارم الله, عاش حياةً زوجيَّةً سعيدة، تعيش الحياة مرَّتين؛ مرَّةً قبل الزواج ومرَّة بعد الزواج، وحينما تغض البصر عن محارم الله, لا تفعل هذا إلا ابتغاء مرضاة الله، وهذا غض البصر من عبادات الإخلاص، إذا أنفقت المال من دون أن يعلم أحد بهذا الإنفاق, فهذا إنفاق الإخلاص، وإذا غضضت البصر عن محارم الله من دون أن يعلم بهذا أحد، فهذا الغض عبادة الإخلاص. النبي -عليه الصلاة والسلام- قال-:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِي اللَّهم عَنْهم-, عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
((إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ، فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلا الْمَجَالِسَ, فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلامِ, وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ))
بالمناسبة: ما كان الله ليعذِّب قلباً بشهوةٍ تركها صاحبها في سبيل الله .
فأنت إذا غضضت البصر لم ينشغل قلبك بهذه الشهوة، الله أجل وأكرم من أن يعذِّبك بهذا الغض، بل تجد حلاوته في قلبك .
الحكمة من غض البصر:
هناك أحاديث كثيرة سوف ترد معنا في هذا الموضوع، ولكن أريد من هذا الموضوع الوقوف عند حكمة غض البصر:
الله سبحانه وتعالى قال:
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
أي يمكن أن تأخذ أمر الله بضعفٍ، بتراخٍ، بليونةٍ، بشكلٍ معتدل, من دون تمسكٍ شديد، يمكن أن تأخذ أمر الله بيسرٍ، لكن ربنا عزَّ وجل قال :
﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾
أي قوةٌ في التطبيق، حزمٌ في التنفيذ، اندفاعٌ إلى طاعة الله، وقوفٌ عند الشبهات، وقوفٌ عند ما حرَّم الله، هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
الإنسان منطقي، والإنسان يحب ذاته، هكذا فُطِر، لا يوجد إنسان إلا وهو مفطورٌ على حب وجوده، وحب سلامة وجوده، وحب كمال وجوده، وحب استمرار وجوده, حب الوجود، وسلامة وجوده، وكمال الوجود، واستمرار الوجود، يحب أن يعيش حياة طويلة، والدعاء الشهير: الله يطوِّل عمرك, فأجمل دعاء يسمعه الإنسان أطال الله عمرك، والنبي الكريم قال لرجل سأله:
((أي الناس خير؟ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ))
فالإنسان يحب طول البقاء.
فلماذا يؤمن الإنسان؟ حينما يؤمن بالله عزَّ وجل, تصبح الحياة الآخرة امتداداً للحياة الدنيا، معنى هذا: أنه ما مات:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ﴾
فالله عزَّ وجل فطرنا على حب الخلود, فالإنسان إذا آمن, أصبح خط بيانه صاعداً صعوداً مستمراً، ولو جاء الموت يبقى الخط صاعداً.
إذاً: لماذا الإسلام دين الفطرة؟ أنت مفطورٌ على حب الخلود، فإذا آمنت بالله، واستقمت على أمره، وعملت فيما يرضي, شعرت أن حياتك الدنيا وحياتك الآخرة متصلتان، وأن هناك استمرار، وأن الموت عمليةٌ صغيرةٌ جداً، تبديل ثياب فقط، أنت أنت؛ سعادتك، إقبالك، سرورك، طمأنينتك، أنت أنت.
متى تستقر النفس البشرية؟ :
لذلك: النبي -عليه الصلاة والسلام- عندما خير بين أن تكون له زهرة الدنيا وبين أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى, قال:
((بَلِ الرَّفِيقُ الأَعْلَى))
وعندما قالت ابنة سيدنا بلال: واكربتاه يا أبت, قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم, غداً ألقى الأحبَّة محمداً وصحبه.
الإنسان مفطور على حب البقاء، وعلى سلامة البقاء، وعلى كمال البقاء، وعلى وجود البقاء، وسلامة هذا الوجود، وكمال هذا الوجود، واستمرار هذا الوجود، فإذا آمنت بالله وآمنت بالآخرة اطمأنت نفسك، إذاً أنت لست أنت, والموت على طرفي نقيض.
الموت عُرس المؤمن.
الموت فرحة المؤمن.
كلام النبي الكريم، كلام سيد المرسلين, الذي لا ينطق عن الهوى:
((لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ؛ فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ))
فما قولك: أن الشيء الذي ترتعد منه فرائص الناس, أن الموت الذي يهز كيان الإنسان، أن الموت الذي يعد أكبر مصيبةٍ عند أكثر الناس، ما قولك: أن هذا الشبح المخيف يغدو عند المؤمن شيئاً مقبولاً مسعداً؟ لذلك الإسلام دين الفطرة، فلن تستقر النفس، لن تهدأ، لن تطمئن، لن تسعد إلا إذا سارت على منهج ربها.
مقومات الإنسان:
وقلت لكم البارحة أيضاً أو قبل البارحة: إن ربنا عزَّ وجل أعاننا على أنفسنا بالفطرة، فطر الإنسان فطرةً عالية، فالإنسان إذا انحرف، إذا اعتدى، إذا كذب، إذا خان, يشعر بانقباض شديد، ما هذا الانقباض؟ إنه إحساس الفطرة السليمة، فربنا عزَّ وجل علَّمنا بالعقل، وعلَّمنا بالكون، وعلَّمنا بالقرآن، وعلَّمنا بالسنة، وعلَّمنا بالفطرة، وعلَّمنا بالدعاة، وعلَّمنا بالإلهام، والفطرة أحد هذه المصادر الأساسيَّة في توجيه الإنسان إلى الصواب.
فغض البصر يتناقض مع الشهوة.
النقطة الدقيقة: أن أوامر الشرع تعتمد على العقل، بينما الشهوات تتناقض مع العقل، من تناقض العقل مع الشهوة يكون رقي الإنسان.
فأحياناً يتوافق العقل مع الشهوة, الإنسان لا يرقى، هو جائع والطعام موجود، والطعام طعامه وهو في بيته، فإذا أكل حتى شبع, لا يشعر أنه فعل شيئاً عظيماً يرضي الله عزَّ وجل، العقل توافق مع الشهوة، أنت جائع, والطعام موجود، والطعام حلال، وأنت تأكل هذا الطعام لتقتات به، فتوافق العقل مع الشهوة ربما أدَّى إلى الشُكر، أما أن ترقى بهذا العمل, إنك لا ترقى به, أما إذا عاكست شهواتك، إذا جاء الأمر العقلي يتناقض مع الشهوة التي أودعها الله في الإنسان, هنا يكون الرقي، فمثلاً:
الإنسان بكظم الغيظ يرقى، الإنسان بالصبر يرقى، الإنسان بغض البصر يرقى، الإنسان بحفظ السر يرقى، لأن الإنسان يتمنى أن يحكي قصص الناس، شيء ممتع جداً، إذا وجد الإنسان في مجلس, وسمع قصَّة ممتعة، ومثيرة جداً، وإذا تكلَّم فيها فضح أخاه الإنسان، الشهوة تدعوه إلى أن يحكي هذه القصَّة، ولكن العقل يأمره أن يسكت عنها، إذا كان وجد في مجلس فيه اختلاط، شهوته تدعوه إلى هذا المجلس، شيء ممتع، لكن عقله يمنعه من ذلك.
لذلك ربنا عزَّ وجل قال:
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾
إيمانٌ، وعملٌ، ودعوةٌ، وصبر، الصبر ربع الإيمان، ربع الفلاح, لماذا؟ لأن الصبر معناه: أن كثيراً من أوامر الدين يحتاج إلى ضبط النفس، ويحتاج إلى كبت الشهوة، ويحتاج إلى تحكيم العقل لا الشهوة، فأنت بالصبر ترقى.
النبي الكريم عندما سُئل عن الإيمان, قال:
((الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ))
بل هناك حديثٍ آخر: الإيمان هو الصبر.
الإيمان كله صبر.
فغض البصر من حق الطريق، إذا كنت في الطريق، وبالطبع الأجر يختلف، إذا كنت في عهد أصحاب رسول الله الأجر طفيف جداً، النساء كلهن متحجِّبات، طاهرات، عفيفات، تقيَّات.
ربنا وصف المؤمنات فقال :
﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً﴾
إذا كان الطريق فيه نساء مؤمنات، عفيفات، طاهرات، مطيعات، محتشمات، صادقات، مُحْصنات, الأجر طفيف جداً، أما الأجر متى يعلو جداً؟ حينما يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر, أما إذا كان الطريق مليئاً بالمتفلِّتات الملعونات، إذا كان الطريق ممتلئاً بمثل هؤلاء, عندئذٍ يرتفع سعر غض البصر، سعر باهظ جداً؛ بالسيارة، بالطريق، بأي مكان, نساءٌ كاسياتٌ عاريات، مائلاتٌ مميلات، لذلك غض البصر في آخر الزمان أجره كبير جداً، والقاعدة الشهيرة:
الثواب على قدر المشقَّة.
أي قد أراد الله عزَّ وجل أن يجعل لك مناسباتٍ عديدةٍ كل يوم كي ترقى بها إليه، من هذه المناسبات غض البصر.
الحقيقة: الآية الكريمة :
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾
الفؤاد هنا بمعنى الفكر، من فَأَدَ أي قيَّد، أي السمع والبصر والفكر كل أولئك كان عنه مسؤولاً.
الدعاء الشهير: ومتعنا اللهمَّ بأسماعنا وأبصارنا وقوَّتنا ما أحييتنا, واجعله الوارث منا.
((عَيْنَانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ؛ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ, وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))
يوجد عفَّة، المؤمن عفيف، لو أن امرأةً تمشي أمامه لَقَصَّرَ عنها أو لتجاوزها، لو أنه دخل إلى مصعد وفيه امرأةٌ, يخرج لأنه لا يحل له أن يكون معها في مصعدٍ واحد، في مناسبات يبدو لك الإيمان صريحاً واضحاً، وهذا يرضي الله عزَّ وجل، أودع فيك هذه الشهوة وهو ينظر إليك, بركان لكن ومع ذلك ضبط نفسه، لكن لن يضيع عند الله شيء، وزوال الكون أهون عند الله عزَّ وجل من أن يضيع مؤمناً عفَّ قبل الزواج، هذا له مكافأة عند الله، شاب في مقتبل الحياة, الشهوة فيه مستعرة كالبركان، ومع ذلك غضَّ بصره عن محارم الله، وتوجَّه إلى المسجد ليتعرَّف إلى الله، وضبط مشاعره, هذا ممن يحبهم الله:
((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ؛ ...... وَرَجُلٌ دعته امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ, فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ))
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾
فسماع المنكر فيه معصية، سماع المعصية معصية.
القاعدة الشهيرة: ما حَرُمَ فعله حرم استماعه وحرم النظر إليه.
وفي الحديث الشريف:
((النظرة سهم مسموم .
-هذا من بلاغة النبي عليه الصلاة والسلام، سهم مسموم، لو أنه سهمٌ عادي لفعل فعله في موضعٍ واحد، ولكنه لأنه مسموم, هذا السُم يسري في كل أنحاء الجسد، لذلك الذي يُطلق بصره في الحرام تصبح حياته متسمِّمة، دراسته فيها شرود، عمله التجاري لا يوجد فيه تركيز، مأخوذٌ بمن يطلق إليهنَّ بصره، دراسته ضعيفة، نشاطه متخاذل، مَيله للراحة، لأن الشهوة تَشُل قِوى الإنسان.
الحقيقة: هناك سر في تفوُّق المؤمنين في كل مجال، بغض بصرهم عن محارم الله، نفوسهم صافية، وقلبهم فارغ, فإذا أقبلوا على عملٍ أبدعوا فيه، أما هؤلاء الذين ينغمسون في الشهوات إلى قمة رؤوسهم, هؤلاء لا يملكون التركيز، لا يملكون التوفيق، لا يملكون العمل الدؤوب ..-:
النظرة سهم مسموم من سهام إبليس . -
((إبليس طَلاع رَصّاد .
-إبليس ذكي، والذكاء وحده ما له قيمة، والذكاء قوة بالإنسان.
والنبي الكريم يقول:
((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ))
القوة قوة، والمال قوة، والذكاء قوة، والعلم قوة، بمعناها المطلق، ربنا عزَّ وجل قال:
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾
قد تكون القوة قوة علم في آخر الزمان، قد تكون القوة قوة مكيدة، القوة قوة سلاح، قوة تدريب، قوة تخطيط، قوة ماليَّة.
على كلٍ؛ القوة مُطلق على الشيء الذي له تأثير بليغ فيما حوله:
((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ.. -القوة وحدها خَطِرَة، الذكاء وحده خطر، أما النبي الكريم ربط القوة بالإيمان, فقال-: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ))
ما هما البابان اللذان يأتي منهما الشيطان للمؤمن؟ :
النظرة سهم مسموم من سهام إبليس -لعنه الله- فمن تركها خوفا من الله, آتاه الله عز وجل إيمانا يجد حلاوته في قلبه))
فهم الإيمان هنا تلك الوجهة إلى الله عزَّ وجل، فالإيمان بالأساس تصديقٌ وإقبال، والكفر تكذيبٌ وإعراض، فالذي يطيع الله عزَّ وجل يقبل عليه، سمَّى النبي -عليه الصلاة والسلام هذا الإقبال إيماناً, قال-:
((النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ... -إبليس طلاع رصّاد -ذكي- وما هو بشيء من فخوخه -الفخوخ جمع فخ- بأوثق لصيده في الأتقياء من النساء))
أي أن النساء فخٌ خطير من أفخاخ إبليس، وهو واثقٌ من أن هذا الفخ لن يخطئ، لذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- قال:
((اتَّقُوا النِّسَاءَ))
وقال:
((النساء حبائل الشيطان))
وكل رجل فيه نقطتا ضعف هما: المال والنساء، يستطيع عدوه أن يأتيه من هذين البابين، فإن كان مؤمناً حصَّن نفسه من باب النساء بغض البصر، ومن باب المال بالورع-: النظرة سهم مسموم من سهام إبليس -لعنه الله- فمن تركها خوفا من الله, آتاه الله عز وجل إيمانا يجد حلاوته في قلبه))
وعلى كلٍ؛ الله عزَّ وجل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أي أن أدق النظرات المختلسة لامرأةٍ لا تحل لك هذه يعلمها الله عزَّ وجل، ويحاسب عليها، وكلَّما تشدَّدت في غض البصر, شعرت أنك ترضي الله عزَّ وجل، وأن الطريق إلى الله سالك.
طبعاً: الحقوق كثيرة ولا زلنا في هذا الحق، الآية والحديث :
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾
بالمناسبة: بالإسلام لا يوجد حرمان, فما من شهوةٍ نهاك الله عنها إلا وجعل لهذه الشهوة طريقاً مشروعاً، قناةً نظيفةً، فإذا منعك من إطلاق البصر، إذا منعك من الزنا, سمح لك بالزواج، إذا منعك من الكسب الحرام, سمح لك بالكسب الحلال، إذا منعك من شيء فهناك بدائل أخرى، بل إن العلماء يقولون استنباطاً من قوله تعالى:
﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾
إن نسبة الممنوعات إلى المباحات نسبةٌ ضئيلةٌ جداً جداً جداً.
أي أنك إذا غضضت بصرك عن محارم الله، وتركت هذه الممنوعات في الأطعمة والأشربة، وسلكت في الطريق الصحيح فأنت مع الله عزَّ وجل .
أمين الأمة أبو عبيدة:
وإلى قصة صحابي من أصحاب رسول الله -رضوان الله عليهم- أمين هذه الأمة: أبو عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه وأرضاه، وهو من العشرة المبشَّرين بالجنَّة .
النبي -عليه الصلاة والسلام- أمسك بيمينه, وقال عنه:
((لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ))
-أمين هذه الأمَّة، أمين أمَّه وليس أمين سر إنسان-.
سيدنا عمر حينما أراد أن يستخلف عنه خليفةً قُبَيْلَ وفاته, قال هذه الكلمة: لو كان أبو عبيدة بن الجرَّاح حياً لاستخلفته، فإن سألني ربي عنه, قلت: يا رب, استخلفت أمين الله وأمين رسوله.
أبو عبيدة بن الجرَّاح له لقبٌ شهير: ساقط الثنيَّتين.
-وسوف ترون بعد قليل كيف سقطت ثنيَّتاه؟ أسنانه الأماميَّة-.
النبي -عليه الصلاة والسلام- أرسله في غزوة ذات السلاسل مدداً لعمرو بن العاص، وجعله أميراً على جيشٍ فيه أبي بكرٍ وعمر، كان طويل القامة، نحيف الجسم، معروق الوجه، خفيف اللحية، ساقط الثنيتين، وسقوط ثنيتيه وسام شرفٍ يفخر به يوم القيامة.
أسلم هذا الصحابي الجليل على يد أبي بكر الصديق في الأيام الأولى للإسلام، وهاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية، وعاد ليقف إلى جوار النبي -عليه الصلاة والسلام- في معركة بدرٍ، ومعركة أحد، وبقية المشاهد كلها.
منذ أن بسط يمينه مبايعاً رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-، وهو لا يرى في نفسه، وفي أيامه، وفي حياته كلها, سوى أمانةً استودعه الله إياها, لينفقها في سبيله, وفي مرضاته، -أي أن نفسه أمانة بين يديه استودعه الله إياها لينفقها في سبيل الله، كأن هذا الصحابي الجليل تفهَّم ملياً معنى قوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾
باع نفسه لله، وكلمة النبي -عليه الصلاة والسلام- :
((أَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ))
في إحدى المعارك وقد بلغ القتال ذروته، أحاط بأبي عبيدة طائفةٌ من المقاتلين، وكانت عيناه كعادتهما تحدِّقان كعيني الصقر في موقع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، هو يقاتل ولكن عينه على رسول الله، هذا الحب الذي بين الصحابة وبين النبي -عليه الصلاة والسلام- شيءٌ لا يصدَّق، حتى إن أبا سفيان قال: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً.
-شيءٌ ليس له سابقة في التاريخ، وليس له مثيل، كيف أحب هؤلاء الأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام؛ وهو يحارب, ويقاتل الفرسان، وقد تحلقوا حوله، وانكفؤوا عليه، وعينه على النبي عليه الصلاة والسلام-.
وكاد أبو عبيدة يفقد صوابه، إذ رأى سهماً ينطلق من يدي مشركٍ فيصيب النبي، وعمل سيفه في الذين حوله وكأنه مائة سيف، حتى فرَّقهم عنه، وطار -لم يقل المؤلِّف: سار، ولا أسرع، ولا ركض- صوب النبي -عليه الصلاة والسلام- فرأى دمه الذكي يسيل على وجهه، ورأى الرسول الأمين يمسح الدم بيمينه, وهو يقول:
كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَبُوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ بِالدَّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ؟ .
-جاء ليدعوهم إلى ربهم، جاء ليهديهم، جاء لينقذهم، جاء ليسعدهم، جاء ليدلَّهم على الجنَّة ، جاء ليجعلهم أُناساً صالحين، جاء ليكون لهم أباً وأماً، خضَّبوا وجه نبيهم-.
مسح النبي -عليه الصلاة والسلام- الدم بيمينه, وهو يقول :
كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَبُوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ بِالدَّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ؟ .
سيدنا أبو عبيدة رأى حَلْقتين -بالمناسبة حَلَقَة غلط وصوابها حَلْقة بتسكين اللام-, رأى حلْقتين من حِلَقِ المغفر الذي يضعه النبي فوق رأسه, قد دخلتا في وجنة النبي, -أي حلقتين من هذا المغفر الذي يضعه النبي على رأسه, قد دخلتا في وجه النبي- فلم يُطق صبراً، واقترب يقبض بثناياه -بأسنانه- على حلقةٍ منهما, حتى نزعها من وجنة النبي، حينما نزعها سقطت ثنيَّته الأولى، ثم نزع الحلقة الأخرى فسقطت ثنيَّته الثانية.
وما أجمل أن ندع الحديث لسيدنا أبي بكر -رضي الله عنه- يصف لنا هذا المشهد .
قال: لما كان يوم أحد، ورُمي النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى دخلت في وجنته حلْقتان من المغفر، أقبلت أسعى إلى رسول الله, وإنسانٌ قد أقبل من قِبَل المشرق يطير طيراناً، فقلت: اللهمَّ اجعله طاعة -خاف أن يكون عدواً آخر- حتى إذا توافينا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا هو أبو عبيد بن الجرَّاح قد سبقني، فقال: أسألك بالله يا أبا بكر أن تتركني فأنزعها من وجه النبي, فتركته، فأخذ أبو عبيدة بثنيَّته إحدى حلقتي المغفر, فنزعها, وسقط على الأرض، وسقطت ثنيَّته معه، ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنيَّته الأخرى فسقطت, فكان أبو عبيدة في الناس أهتم؛ أي ساقط الثنيَّتين.
في يوم نجران سألوا النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يبعث معهم من يعلِّمهم القرآن والسُنَّة والإسلام, وفد نجران من اليمن, جاء النبي مسلماً -عليه الصلاة والسلام-، وسألوا النبي أن يبعث معهم من يعلِّمهم القرآن والسنة والإسلام, وقال عليه الصلاة والسلام :لأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجلا أَمِينًا .
-أمين على شرع الله، أمين على كتاب الله، أمين على سنة رسول الله، لا يفتي بالهوى بل يفتي بالحق- وسمع الصحابة هذا الثناء من النبي -عليه الصلاة والسلام-، فتمنَّى كلٌ منهم لو يكون هو الذي يقع عليه اختيار النبي، فتصير هذه الشهادة الصادقة من حظِّه، النبي تلفَّت، قال :
لأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجلا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ.
يقول عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه-: ما أحببت الإمارة قط حبي إيَّاها يومئذٍ -أي في هذه اللحظة أحببتها حباً لا يوصف, رجاء أن أكون صاحبها- فرُحت إلى الظهر مهجِّراً -أي صلى الظهر مع النبي- فلما صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- الظهر، سلَّم, ثم نظر عن يمينه وعن يساره، فجعلت أتطاول ليراني -لعلَّه يختاره- فلم يزل يتلمَّس ببصره, حتى رأى أبا عبيدة بن الجرَّاح فدعاه, فقال: اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه, فذهب بها أبو عبيدة.
أي إنها كانت من نصيبه:
﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾
هنا العمل:
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾
هنا التنافس:
﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾
هنا الفرح، وهنا العمل، وهنا التنافس .
كلكم يعلم: أن سيدنا عمر بن الخطاب حينما تسلَّم الخلافة, أصدر أمراً بعزل سيدنا خالد، -والمؤرِّخون يذهبون مذاهب شتَّى في تفسير هذا العزل، مع أن هناك روايةً دقيقة توضِّح حكمة هذا الخليفة الراشد من عزل هذا القائد الناجح- فلمَّا جاءه سيدنا خالد قال: يا أمير المؤمنين لمَ عزلتني؟ قال له: والله إني أحبُّك, -هذا جوابه- أعاد عليه: لمَ عزلتني؟ قال: والله إني أحبُّك, قال: لمَ عزلتني؟ قال: والله ما عزلتك -يا أبا سليمان- إلا مخافة أن يُفتتن الناس بك لكثرة ما أبليت في سبيل الله.
-عزلتك إنقاذاً للتوحيد، لأن الله هو الناصر، فالناس توَّهموا أن كل معركةٍ يقودها سيدنا خالد, لا بدَّ من أن ينتصروا، مع أن الله هو الناصر، أراهم درساً عملياً، سأعزله وسيبقى النصر، إذا كان الله معكم فلا بدَّ من أن ينصركم.
الحقيقة: كان سيدنا خالد يقود معركةً فاصلةً كبرى، واستهلَّ أمير المؤمنين عهده بتولية أبي عبيدة مكان خالد، الآن دقِّقوا كيف يعامل الصحابة بعضهم بعضاً؟.
سيدنا أبو عبيدة معه أمر تعيين، يستطيع في أي ثانية يبرزه لسيدنا خالد، ويقول له: تفضَّل، تنحَّ جانباً وهات القيادة, سلمني إياها, هذا موقف، هذه الطاعة, وهذا أمر سيدنا عمر-.
قال: لم يكد أبو عبيدة يستقبل مبعوث عمر في هذا الأمر الجديد حتى استكتمه الخبر، -طبعاً أبو عبيدة يحارب مع سيدنا خالد- جاء مبعوث سيدنا عمر معه كتاب تعيين سيدنا أبي عبيدة قائداً للجيش وعزل سيدنا خالد -ماذا فعل هذا الصحابي الجليل، هذا الأمين؟-.
استكتمه الخبر, فقال له: إياك أن تذيع هذا الخبر في الناس, وكتمه هو في نفسه، طاوياً عليه صدر زاهد فطنٍ أمين، حتى أتم القائد خالدٌ فتحه العظيم، حتى انتهت المعركة الحاسمة الكبرى، وانتهت بالنصر، وانتهى كل شيء، وآن إذٍ تقدَّم إليه في أدبٍ جليل بكتاب أمير المؤمنين، ويسأله خالد: يرحمك الله أبا عبيدة, ما منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب؟ -لماذا تأخَّرت إلى الآن-؟ فيجبه أمين الأمَّة: إني كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا نريد، ولا للدنيا نعمل، كلنا في الله أخوة.
-بالمناسبة: عندما قال ربنا عزَّ وجل :
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾
هذه إنما أداة قصر؛ أي لا تجد أخوَّةً في أي مجتمعٍ، أخوةً صادقةً، مخلصةً، فيها المودة، والنصيحة، والحب، والوفاء إلا بين المؤمنين.
والشيء الثاني: أن أخوة النسب تجمع على أخوة، بينما أخوة الصداقة تجمع على أخوان، الله عزَّ وجل قال:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾
أي في أعلى درجة من درجات القرب, هكذا فعل معه-.
ويصبح أبو عبيدة أمير الشام، وتحت إمرته أكثر جيوش الإسلام, طولاً وعرضاً، عتاداً وعُدداً، فما كنت تحسبه حين تراه إلا واحداً من المقاتلين، وفرداً عادياً من المسلمين, وحينما ترامَى إلى سمعه أحاديث أهل الشام عنه، وانبهارهم بأمير المؤمنين بأمير الأمراء، جمعهم وقام فيهم خطيباً، -اسمعوا ماذا قال-؟ قال:
أيها الناس, إني مسلمٌ من قريش -أنا مسلم عادي- وما منكم من أحدٍ أحمر ولا أسود يكبرني بتقوى إلا وددت أني في إيهابه.
-أي إذا واحد سبقني في التقوى, أتمنَّى أن أكون مكانه، هذا منتهى الورع، منتهى التواضع، منتهى معرفة الذات-.
الآن: سيدنا عمر يزور الشام ويسأل مستقبليه: أين أخي؟.
-سيدنا رسول الله عندما بعث سيدنا عمر للحج, قال له:
((لا تَنْسَنَا يَا أُخَيَّ مِنْ دُعَائِكَ))
النبي سأل سيدنا عمر الدعاء- فقال: أين أخي؟ قالوا: من؟ قال: أبو عبيدة, ويأتي أبو عبيدة فيعانقه أمير المؤمنين عمر, ثم يصحبه إلى داره، دار أمير الأمراء في الشام، دار القائد العام للجيوش الإسلاميَّة, يصحبه إلى داره, فلا يجد فيها إلا أثاثاً بسيطاً؛ جلد غزال، وقِدر ماء، ورغيف خبز، وسيفاً معلَّقاً في الحائط.
ويسأل عمر, وهو يبتسم: ألا اتخذت لنفسك مثل ما يصنع الناس؟ " فيجيبه أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين هذا يبلِّغني المقيل، هو للدنيا وعلى الدنيا كثير.
حينما جاء الخبر -خبر وفاته- بكى سيدنا عمر, وقال: لو كنت متمنياً ما تمنيت إلا بيتاً مملوءاً برجالٍ من أمثال أبي عبيدة.
لاحظوا شيئين كيف عامل النبي؟ هذا الحب الذي لا يوصف، هذا التفاني، هذه التضحية، حب رسول الله، اسمعوا ما قال العلماء: "
حب رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- هو عين حب الله، وعين حب الله حب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
لذلك قال الله عزَّ وجل:
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾
الله سبحانه وتعالى جعل حبَّ النبي عين حب الله، وجعل حبَّه عين حب النبي .
النقطة الثانية: هذا الموقف الحكيم، هذا الموقف اللطيف مع سيدنا خالد, كان بإمكانه أن يبلِّغه قرار العزل والتعيين في أثناء المعركة، وأن يتسلَّم الإمارة منه بشكلٍ يلفت النظر, ولكن كتم الخبر حتى انتهت المعركة, لأنه لا يعمل للدنيا بل يعمل لله، هذا سر نجاح أصحاب رسول الله عليهم رضوان الله .