- التربية الإسلامية / ٠1الحقوق
- /
- ٠6حق الطريق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
حق الطريق :
أيها الأخوة المؤمنون, لا زلنا في موضوع الحقوق، ولا زلنا في موضوع حق الطريق، وقد بيَّنت لكم في الدرس الماضي: أن من أول حقوق الطريق غض البصر، أما أحكام غض البصر على وجهٍ تفصيلي, فقد مر ذكرها في سورة النور بتفصيلٍ شديد، ولا داعي لأن تعاد مرةً ثانية, ولكن يعنينا من غض البصر: أنه مدرسةٌ يمكن أن تصل بصاحبها إلى الاتصال بالله عزَّ وجل، كأن الله سبحانه وتعالى جعل غض البصر مناسبةً, ليشعر المؤمن في اليوم الواحد عشرات المرات أنه مخلصٌ لله عزَّ وجل، ولعله بهذا الشعور وذاك الإخلاص يقبل على الله عزَّ وجل:
ومن غض بصره عن محارم الله, أورثه الله حلاوةً في قلبه إلى يوم يلقاه.
من الفتن التي تقع بها المرأة :
1-إظهار محاسنها للأجانب :
ماذا يقابل غض البصر؟ إذا كان المؤمنون قد أمروا بغض البصر، فماذا على المؤمنات أن يفعلن؟
هناك أحكامٌ عدَّة تتعلق بالمرأة، الله سبحانه وتعالى نهى النساء عامةً عن أن يتبرَّجن تبرج الجاهلية.
عرَّف العلماء تبرج الجاهلية بأنه: إظهار محاسن المرأة للأجانب.
مهما بالغت المرأة بإظهار محاسنها لزوجها, فهي في أعلى درجات الطاعة لربها، إذا بالغت المرأة المسلمة بإظهار محاسنها لزوجها، وكانت معواناً له على غض بصره, فهي في أعلى درجات الطاعة، أما إذا جهدت لتبرز محاسنها بطريقةٍ أو بأخرى لغير زوجها، للأجانب، لمن لا يجوز لها أن تبرُز أمامهم، لمن لا يجوز لهم أن ينظروا إليها، فهي في أدنى درجات المعصية، في أدناها دَرْكَاً، لذلك عندما قال ربنا عزَّ وجل:
﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ﴾
لو قال: ولا تبرجن, نهيٌ عن مطلق الزينة، قال:
﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾
المرأة الجاهلة هي التي تبرز محاسنها لغير زوجها .
2-فتنة اللسان :
فتنةٌ أخرى يمكن أن تقع بها المرأة ألا وهي فتنة اللسان.
صوت المرأة عورة، إذا ليَّنته، وكسَّرته، ورقَّقته، ونغَّمته, إنه عورة، ربما شفَّ عن محاسنها وهي محجبةٌ عن الذي يستمع إليها، حتى لو أن صوتها وصل إلينا من وراء حجاب, إذا كسَّرته، وليَّنته، ولوَّنته، ونغَّمته، فإنه عورةٌ وأية عورة، من هنا قال الله عزَّ وجل :
﴿إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾
كلمة: شكراً, فهناك كلمات تعبر عن الشكر والمودة من رجل لرجل معقولة جداً، أما من امرأةٍ لرجلٍ أجنبيٍ لا يحل لها، إنها حبائل الشيطان:
﴿إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾
﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ﴾
-سيدنا موسى، قول معروف، لو فتَّشت في اللغة العربية كلها, لن تجد كلمةً جادةً صارمةً موجزةً بليغةً كهذه الكلمة:
فأجابتا- :
﴿لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ﴾
قد يسأل: لمَ أنتما هنا؟ أين أبوكما؟ أين أخوكما؟ لتقطع باب الحوار :
﴿قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾
كلمة واحدة :.
﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ﴾
لو اكتفت عند هذا القول لسألها: لماذا يدعوني؟ ما المناسبة ؟:.
﴿قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾
انتهى الكلام :
﴿وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾
علِّموا نساءكم، علموا بناتكم، علموا أخواتكم، علموا من يلوذ بكم من النساء: أن يقلن قولاً معروفاً مع الأجانب.
شيء آخر: القصص التي تصف علاقة المرأة بالرجل، هذه القصص سُمِّيت فاحشة، لأن الإنسان بطبيعته، بطبيعة ما أودع الله فيه من شهوة، يميل إلى سماع هذه القصة، فإذا فشت هذه القصص بين المؤمنين، فكأنما فشت الفاحشة بينهم، لذلك هذا الأدب الرخيص، الأدب المثير، الأعمال الفنية المثيرة، أي عملٍ يستهدف إثارة الغرائز هذا محرم؛ ما حَرُم فعله حرم استعماله، ما حرم فعله حرم النظر إليه، ما حرف فعله حرم الحديث عنه, لذلك:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ﴾
أنت بدافعٍ تربوي قد تصف جريمةً أخلاقية، ولكن المؤمن يصفها بطريقةٍ أديبة، بطريقة لا تثير الغرائز، وقد توصف جريمةٌ أخلاقيةٌ بطريقةٍ أدبية تثير غرائز الإنسان، فلك أن تصف الرذيلة ولكن بطريقةٍ نشمئز منها لا بطريقةٍ نحبها.
هؤلاء الكُتَّاب الذي يصفون الرذيلة بطريقةٍ نحبها، هؤلاء كتابٌ يعملون على هدم المجتمع وهم لا يدرون أو يدرون، إن جيلاً من الشباب بأسره قد تنحط أخلاقه, بسبب هذا اللون من الأدب، لذلك الكِتاب يجب أن يحسن الإنسان اختياره، ما كل كتابٍ يقرأ، وما كل قصةٍ تقرأ، وما كل أدبٍ يقرأ، وما كل شعرٍ يقرأ، لذلك العلماء قالوا:
الشعر كلامٌ حسنه حسن وقبيحه قبيح.
الشعر كلام، هناك شعرٌ يصف النبي عليه الصلاة والسلام، يصف البطولة, تذوب نفسك بهذه البطولة، وهذا شعرٌ آخر يصف الرذيلة، فالمؤمن يجب أن يدقق فيما يقرأ.
3-فتنة الحذاء :
لو أن هذه المرأة لم تتكلم، هناك فتنةٌ أخرى، قد تسير سيراً بصوتٍ صارخٍ يلفت النظر إليها، قال تعالى:
﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾
فهذه الأحذية النسائية التي لها صوت حينما تمشي المرأة، كأن المرأة تقول: ها أنذا انظروا إلي, لو أنها مشت خلف الرجل, تلفت نظره إليها عن طريق هذه المِشية غير الإسلامية، فربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾
4-فتنة الطيب :
هناك فتنةٌ رابعة: فتنة الطَيْب، قال عليه الصلاة والسلام :َ
((الْمَرْأَةُ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ, فَهِيَ كَذَا وَكَذَا))
يَعْنِي زَانِيَةً .
امرأة تسير في الطريق بين الأجانب وقد استعطرت، لماذا استعطرت؟ من أجل أن تلفت النظر إليها.
وفي حديثٍ آخر:
((إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلا تَمَسَّ طِيبًا))
والنبي -عليه الصلاة والسلام- قال:
((طِيبُ الرِّجَالِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ, وَطِيبُ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ وَخَفِيَ رِيحُهُ))
الزينة مطلوبة من دون أن يكون لهذه الزينة رائحةٌ تلفت نظر الرجال .
5-فتنة التعري :
وفتنة التعرِّي هذه فتنةٌ كبيرةٌ جداً، جاء في الحديث الشريف:
((إِيَّاكُمْ وَالتَّعَرِّيَ فَإِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لا يُفَارِقُكُمْ))
والنساء الكاسيات العاريات اللائي وصفهن النبي -عليه الصلاة والسلام-
((المائلات المميلات, رؤوسهن كأسنمة البَخت المائلة, لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها))
ترتدي ثياباً شفافة، أو ترتدي ثياباً ضيِّقة، الثوب الذي يشفُّ عن لون البشرة، أو يشف عن حجم العضو, هذا ثوبٌ هدفه التزيُّن وليس ستر العورة.
فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال:
((نساءٌ كاسيات عاريات، مائلات مميلات, رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة, لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها))
يدنين عليهن من جلابيبهن:
بقي موضوعٌ حساسٌ جداً, سأقرأ لكم ما ورد في بعض التفاسير عنه، حينما قال الله عز وجل :
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾
قال العلماء: أن يرخين جانباً من خمورهن أو ثيابهن على أنفسهن. وهذا هو المفهوم من ضرب الخمار على الوجه، والمقصود به ستر الوجه وإخفاؤه، سواءٌ بضرب الخمار أو بلبس النقاب, أو بطريقةٍ أخرى غيرها، والمسلمات إذا خرجن من بيوتهن متستراتٍ على هذا النحو، علم أهل الريبة من الرجال أنهن شريفات، وجميع المُفسرين قد ذهبوا هذا المذهب في تفسير هذه الآية.
فيروى عن ابن عباسٍ -رضي الله عنه- قوله: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة, أن يغطين وجوههن من فوق الجلابيب.
وعن ابن سيرين قال: سألت عبيدة بن سفيان بن الحارث الحضرمي عن قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾
قال: فأخذ ثوبه فغطَّى رأسه ووجهه، وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه.
ويقول الطبري أيضاً في تفسير قوله تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ﴾
لا تتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن يُدنين عليهن من جلابيبهن، لئلا يعرض لهن فاسقٌ إذا علم أنهن حرائر بأذىً من قول.
ويقول العلامة أبو بكر الجصاص: في هذه الآية دلالة على أن المرأة مأمورةٌ بستر وجهها عن الأجانب، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج, لئلا يطمع فيها أهل الريب فيهن .
وقال العلامة النيسابوري في تفسير هذه الآية: كانت النساء في أول الإسلام على عادتهن في الجاهلية متبذِّلاتٍ، يبرزن في درعٍ وخمار من غير فصلٍ بين الحُرة والأمة، فأمرن بلبس الأردية وستر الرأس والوجوه، ذلك الإدناء –أدنى- أقرب إلى أن يعرفن أنهن حرائر، فإن التي سترت وجهها أولى بأن تستر كل شيءٍ في جسمها.
وقال الإمام فخر الدين الرازي: وكان في الجاهلية تخرج الحرة والأمة مكشوفاتٍ يتبعهن الزناة وقع التُهم، فأمر الله الحرائر بالتجلبب، وقوله تعالى :
﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ﴾
أي أنهن حُرَّات، لأن من تستر وجهها هو أولى؛ أي هي مظنة أن تستر كل شيءٍ في جسمها هذا المقصود.
شروط ملابس المرأة المسلمة:
الآن شروط الثياب التي يجب أن ترتديها المرأة المسلمة:
أولاً: أن يغطي الثوب جميع الجسم، ألا يشف ويصف ما تحته:
أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- :إن من أهل النار نساءٌ كاسيات عاريات ... إلخ.
ودخلت نسوةٌ من بني تميم على عائشة -رضي الله عنها- وعليها ثيابٌ رقاق، فقالت عائشة: إن كنتن مؤمناتٍ فليس هذا بثياب المؤمنات.
وأدخلت عليها امرأةٌ عروس -على السيدة عائشة- عليها خمارٌ رقيقٌ شفَّاف, فقالت: لم تؤمن بسورة النور امرأةٌ تلبس هذا الثوب.
الآن الشرط الثاني: ألا يحدد الثوب أجزاء الجسم وألا يبرز مفاتنه:
وإن لم يكن رقيقاً شفافاً كتلك الثياب التي جاءتنا عن الغرب، فأي ثوبٍ تلبسه المرأة لو كان سميكاً، إذا كان هذا الثوب يصف حجم أعضائها فكأنه يبرز أعضاءها كما هي .
من صفات ثياب المرأة المسلمة: ألا يكون مما يختص به الرجال كلبس البنطال، وألا يكون الثوب مما اختصت به النساء الفاجرات، أي أحدث الصرعات، هذه الثياب التي ترتديها المرأة الفاجرة لا ينبغي للمرأة المُسلمة أن ترتديها.
هذا مجمل ما ينبغي على المرأة المسلمة أن تفعله إذا خرجت من بيتها، لأن ثياب الإنسان في الإسلام جزءٌ من دينه، ولا سيما المرأة، قضية الثياب، ونوع الثياب، وشكل الثياب هذا متعلقٌ بدين المرأة، أما لها أن ترتدي لزوجها ما تشاء من دون قيدٍ أو شرط، مهما تفنَّنت المرأة في التزيُّن لزوجها, فهي في أعلى درجات الطاعة, أما إذا تفنَّنت في إظهار مفاتنها لغير زوجها بشكلٍ أو بآخر، فهي في أحط درجات المعصية، هذا ملخص هذا الموضوع.
سعد بن عبادة :
والآن إلى القسم الثاني من الدرس وهو سيرة أصحاب رسول الله عليهم رضوان الله .
الحقيقة: لا بدَّ من كلمة أقدم بها الحديث عن قصة سيدنا سعد بن عبادة، هذا الصحابي الجليل له مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موقفٌ صريح، هذا الموقف يعلمنا أشياء كثيرة، ولكن قبل أن نخوض في هذه القصة التي تتعلق بسيدنا سعدٍ بن عبادة, لا بدَّ من تمهيدٍ:
لماذا يجب أن نقرأ سيرة النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- مشَرع؛ أي أن أقواله، وأفعاله, وإقراره, وأحواله، وصفاته كلها تشريع، فأنت إذا قرأت ما في القرآن الكريم من أوامر ونواه، أنت لا زلت مفتقراً إلى أن ترى كيف وقف النبي الموقف الكامل في هذا الوضع, وكأن سيرة النبي -عليه الصلاة والسلام- فيها مواقف متنوِّعة جداً، بحيث أن هذه المواقف المتنوعة تغطي كل الأحوال التي يمكن لمؤمنٍ أن يتعرَّض لها.
مواقف نبوية:
1-الثبات على المبدأ :
فمثلاً: لو أن شاباً نال شهادة الطب، وعُيِّن طبيباً شرعياً مثلاً، وجاءته حالة وفاة جُرْمِي -قتل- فلو جاءه أهل أشخاص معينون, وعرضوا عليه مبلغاً طائلاً من المال, نظير أن يكتب أن الوفاة جاءت طبيعية، جاءه مبلغٌ كبير، هذا المبلغ يحل به كل مشكلاته.
النبي -عليه الصلاة والسلام- عرض عليه كفار قريش أن يكون أغناهم، عرضوا عليه أن يعطوه أجمل بناتهم، عرضوا عليه أن يسوِّدوه عليهم, هذا موقف.
فالإنسان له مبادئ، بعمله، بمهنته، بمواقفه، يتعرض لإغراءات شديدة جداً، أو يتعرض لضغوط؛ ضغوط أو إغراءات، فإذا اقتدى بالنبي -عليه الصلاة والسلام- في ثباته على مبدئه، تكون هذه السيرة قد قدَّمت له نموذجاً كاملاً, عليه أن يقفه عندما يتعرَّض لضغطٍ أو لإغراء، إذاً: أنت في مثل هذا الموقف تقف ما وقف به النبي عليه الصلاة والسلام.
2-العطف على البنات :
مثلاً: إنسان ولدت له بنت، العوام يقولون: البنت لها كنة, وربنا عزَّ وجل قال :
﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ﴾
النبي -عليه الصلاة والسلام- حينما ولدت له السيدة فاطمة، ضمها وشمها ....
هذا موقف، فإذا جاءك بنت قف موقف النبي -عليه الصلاة والسلام-: ريحانةٌ أشمها وعلى الله رزقها.
لعل الخير كله من هذا البنت، لعل خيرك كله من هذه الفتاة، هذا موقف .
3-موقف المؤمن إذا اتهم أهل بيته:
إنسان تحدث الناس حديثاً باطلاً عن أهله، حديث من نوع الزنا، هناك من يسكُت ولا يتأثر فهو الديوث، من هو الديوث؟ الذي يرضى الفاحشة في أهله، لا يغار على عرضه، أو يرضى الفاحشة في أهله، أو إنسان أحمق يذبح هذه المرأة, ويرتكب جريمةً, ثم يظهر أنها بريئة. هذا وقع.
في مسرحية لشكسبير شهيرة جداً، اسمه عُطَيل، توهم أن ديدمونة زوجته قد خانته فذبحها، فلما علم ببراءتها انتحر.
النبي -عليه الصلاة والسلام- تكلمت المدينة كلها عن زوجته السيدة عائشة، وقف الموقف الكامل .
4-علمك عند الفقر الصبر :
النبي -عليه الصلاة والسلام- أصابه الفقر، دخل عليه أحد أصحابه, وقد رآه مصفر اللون، فقال: بأبي أنت وأمي ما لك يا رسول الله؟
ذاق طعم الفقر، فإذا نصح الفقراء بالصبر يكون كلامه مقبولاً، لو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يذق طعم الفقر, ونصحنا بالصبر, لما صدَّقه الفقراء.
يا محمد, أتحب أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً؟ قال:
((لا يَا رَبِّ, وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا, أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ, فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ, وَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ وَشَكَرْتُكَ))
أي إذا ربنا عزَّ وجل قلَّب الأمور، امتحنك في الغنى فرآك سخياً، الآن سيمتحنك في الفقر، لماذا أنت مُضَّطرب؟ لماذا أنت يائس؟:.
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾
امتحنا هذه السيارة بالنزول فرأيناها جيدة جداً، الآن سنمتحنها بالصعود، لننظر قوة محركه، هل تحمى أم لا تحمى؟ فالله عزَّ وجل هو يمتحن الإنسان .
5-علمك الحلم :
أعرابي أثناء توزيع الغنائم قال:
((اعدل يا محمد. -فما هذا القول؟ يخاطب من؟ يخاطب سيد الخلق، حبيب الحق، كان بإمكان النبي أن يسحقه، أن يشير بقتله- فقال: وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ؟))
أعرابيٌ آخر جذبه من ثوبه حتى أثر ثوبه في عنقه الشريف، التفت إليه وتبسَّم, وما زاد عن ذلك.
-يعلمنا كظم الغيظ، وأنت في أعلى درجة من القوة، في أعلى درجة من التمكُّن، هذا جاهل.
اطمئن، رأى النبي مصدر أمنٍ له- فلما صلى قال:
((اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً -من هؤلاء- قال: لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعاً))
علَّمك الحلم، علمك الصبر .
سيدنا عمر كان ماشياً في المسجد ليلاً -فيبدو أنه داس على رجل إنسان خطأ، هذا الإنسان عصبي المزاج-, قال: أأعمى أنت؟ قال: لا, فقال له من معه: ماذا قال لك؟ فقال لهم: سألني فأجبته, وانتهى الأمر.
اقتدوا بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، فلا تغُرَّك قوَّتك إذا كنت قوياً، إذا كان بإمكانك أن تسحق هذا الضعيف, اقتد بالنبي -عليه الصلاة والسلام- اقرأ سيرته من أجل أن تقتدي به .
موقف الغني بالتسامح، موقف الفقر بالصبر والعفاف والتجمُّل .
6-علمك عند القهر الرحمة :
يا ترى: هل تجذبك رحمتك على التشفِّي من أعدائك؟.
النبي الكريم بالطائف حينما دعا ربَّه, فقال:
((اللهم أشكو إليك قلة حيلتي وهواني على الناس))
قف هذا الموقف الأخلاقي، جاءه جبريل, وبإمكانه أن يسحق هؤلاء المكذبين.
7-علمك عند النصر والقوة العفو :
ذاق طعم النصر، مكة التي ائتمرت على قتله، والتي أخرجته، والتي أهانت أصحابه وعذبتهم, و ...., سنوات طويلة, وها هو ذا يفتحها, وتحت إمرته عشرة آلاف سيف تتوهج بالشمس، لو أنه أشار إليهم لأبادوا أهل مكة، قال :
((ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً, أخ كريم وابن أخ كريم, فقال: أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم))
((اذهبوا فإنكم الطلقاء))
علمك العفو، علمك عند القهر الصبر والرحمة، وعلمك عند النصر والقوة العفو .
8-علمك الترفع عن السباب والترفع عن التشفي :
عمير بن وهب الذي توشَّح سيفه, وجاء ليقتل النبيعليه الصلاة والسلا، شعر عليه سيدنا عمر, فقيده بحمالة السيف، قال: أطلقه يا عمر, أطلقه، قال: اقترب يا عمير -بكل لطف ورقة- عفا عنه, وانقلب هذا الذي جاء ليقتله إلى أحب الناس إليه، علَّمك العفو .
سيدنا عكرمة حينما جاء مسلماً، قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه ....
علَّمك الترفُّع عن السباب، والترفع عن التشفي .
إنسان آخر جاء ليقتل النبي -عليه الصلاة والسلام- أمسكه عمر وجاء به إلى النبي، فقال سيدنا رسول الله: هل أعددتم له طعاماً؟
سيدنا عمر صُعِق، كأنه يتوقع أن يقول: اضرب عنقه يا عمر, قال:هل أعددتم له طعاماً؟ هكذا النبي.
9-هذا الموقف الكامل إذا فقد الابن :
أذاقه الله فقدان الابن بالوفاة, شيء صعب جداً، دمعت عينه، قالوا:
((أتبك؟ قال: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ, وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ, وَلا نَقُولُ إِلا مَا يَرْضَى رَبُّنَا, وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ))
هذا الموقف الكامل إذا قبض الابن.
كان يتفقَّد أصحابه، إذا أنت لك أخوان، لك أصدقاء، لك أصحاب، لك زملاء، لك أقارب.
في أعقاب معركة أحد, تفقد أصحابه, فلم يجد أحد أصحابه -سالم بن الربيع- تفقده وبحث عنه حتى عرف خبره.
10-سوى نفسه بأدنى جندي بالجيش :
سوى نفسه بأدنى جندي بالجيش.
في معركة بدر قال:
((كل ثلاثة على راحلة، وأنا وعليٌ وأبو لبابة على راحلة))
ركب النبي على الناقة، جاء دوره في المشي، توسلا إليه أن يبقى راكباً, قال:
((ما أنتما بأقوى مني على السير، ولا أنا بأغنى منكما عن الأجر))
اقتدِ بالنبي الكريم، سوّ نفسك مع أقل إنسان، هذا في الحرب .
11-هذا موقفه في السلم :
في السلم: عندما كانوا في نزهة, وأرادوا أن يذبحوا شاةً, هذا قال:
((علي ذبحها، وهذا: علي سلقها، وهذا: عليَّ سلخها، وقال: وعلي جمع الحطب, فقالوا: نكفيك، قال: لا، أعلم ذلك, ولكن الله يكره عبده متميزاً على أقرانه))
اقتدِ بالنبي الكريم، هذا موقف كامل.
12-كان يمشي في الأسواق ويتفقد أصحابه ويحمل حاجته بيده :
كان يمشي في الأسواق, ويحمل حاجته بيده، وقد تستوقفه امرأةٌ ضعيفة, وكان يقول:
((برئ من الكبر من حمل حاجته بيده))
هذا وسام شرف، حامل خضروات وفواكه، والحاجات لبيته، من أنت؟ أنت أعظم من رسول الله؟ هو في أعلى مقامات البشر، كان يمشي في الأسواق, ويتفقد أصحابه، ويحمل حاجته بيده.
13-معاملته مع الصبيان ومع أهل بيته :
وكان إذا رأى صبياناً يقول:
((السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا صِبْيَانُ))
تألفاً لقلوبهم.
وكان إذا دخل بيته بسَّاماً ضحاكاً، وكان يقول:
((أكرموا النساء، فو الله ما أكرمهن إلا كريم))
تسابق مرة مع السيدة عائشة -نبي هذه الأمة، قمة المجتمع، أول خلق الله، سيد الخلق، حبيب الحق- تسابق مع السيدة عائشة فسبقته -كانت صغيرة- قالت:
((فلما ركبني اللحم سبقني, قال:
هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ))
أصبحنا تعادل.
سألته مرة:
((كيف حبك لي؟ قال: كعقدة الحبل.
-أي عقدة لا تفك، فصارت كشفرة بينهم، فصارت تقول له من حين إلى آخر-: كيف العقدة؟ يقول: على حالها))
أي متينة، فكان في بيته وديعاً، لطيفاً، مؤنساً، متواضعاً، كان يكنس داره، ويرفع ثوبه، ويخصف نعله, وكان في مهنة أهله، هذا موقف.
قراءة السيرة فرضٌ لازم من أجل أن تعرف رسول الله، من أجل أن تقتدي به، من أجل أن تقتفي أثره، من أجل أن تتبع سنته، لأنه الإنسان الكامل.
14-معاملته مع الخلق :
كان يركب الحسن والحسين على ظهره, ويقول:
((نعم الجمل جملكما, ونعم العدلان أنتما))
معه مسواكان؛ واحد مستقيم، والثاني معوج، فقدَّم المستقيم لأحد أصحابه، انتقى المستقيم وقدَّمه، أكثر الناس يعطي الجيدة له والرديئة للآخر، أعطاه السواك المستقيم، هذا الموقف الكامل الذي يحب أن تقفه .
إنسان نزع له ريشة من على ثوبه، رفع يديه وقال:
((جزاك الله عني كل خير))
ريشة, ماذا فعل؟ ريشة نزعها من على ثوبه.
15-إكرامه للضيف :
عدي بن حاتم استقبله في البيت, ليس عنده إلا وسادة واحدة دفعها إليه، قال:
((اجلس عليها, عدي استحيا, قال: بل أنت, قال: بل أنت, قال: فجلست عليها وجلس هو على الأرض))
إكرام الضيف هكذا؛ تعلم إكرام الضيف، تعلم العلاقة مع الزوجة، العلاقة مع الصغار، العلاقة في الأزمات، في المواقف .
16-كان ينوه بفضل أصحابه :
كان ينوِّه بفضل أصحابه، فعن سيدنا الصديق قال:
((ما ساءني قط))
((ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر))
وعن سيدنا عمر قال:
((لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب))
سيدنا عثمان وصفه بأنه أحيا أمتي:
((أَلا أَسْتَحِي مِمَّنْ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلائِكَةُ؟))
وعن سيدنا علي قال:
((أنا مدينة العلم وعلي بابها))
وعن سيدنا أبي عبيدة قال:
((أَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ))
وعن سيدنا الزبير قال:
((حواري هذه الأمة))
وعن سيدنا سعد, قال:
((ارمِ فداك أبي وأمي))
وعن سيدنا معاذ, قال:
((والله إني أحبك))
فإذا أنت كنت تاجراً عندك محل، عندك معمل، موظف عندك موظفين، عندك موظف أخلاقه عالية, أسمعه كلمة ثناء من حين لآخر، يطمئن أنك عارف قدره، عندك موظف أمين، اثنِ على أمانته.
رجل دخل على الصلاة مستعجلاً, فأحدث جلبة وضجيجاً، فلما انتهت الصلاة قال:
((زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلا تَعُدْ ))
أثنى على حرصه، مع أنه أحدث جلبة وضجيجاً، قال: زادك الله حرصاً ولا تعد لمثلها.
قبل أن يوجهه ويلومه أثنى على حرصه، تعلموا. تدقيق بالحديث .
لذلك ينبغي أن نقرأ السيرة، لأن مواقف النبي -عليه الصلاة والسلام- هي المواقف الكاملة، وأتمنى عليكم أن تسألوا أنفسكم أحياناً: ماذا فعلت في حياتي اليومية اقتداءً بالنبي عليه الصلاة والسلام؟ في بيتك، في عملك، مع أصحابك، مع أخوانك، ماذا فعلت؟ ما الموقف الذي وقفت اقتداءً بالنبي؟ ما التصرف الذي تصرفت اقتداءً بالنبي؟ هكذا.
الحقيقة: نحن الآن أمام قصَّة، قصة يغلب على ظني أنكم تعرفونها جميعاً، ولكن المقصود ليس أحداثها بل تحليلها.
فالنبي -عليه الصلاة والسلام- حينما انتهى من غزوة حنين، وزَّع الغنائم, واهتم يومئذٍ اهتماماً خاصاً بالمؤلَّفة قلوبهم، وهم أولئك الأشراف الذي دخلوا الإسلام من قريب، ورأى النبي -عليه الصلاة والسلام- لحكمته أن يساعدهم على أنفسهم بهذا التآلف، فأعطى ذوي الحاجة من المقاتلين, أما أولو الإسلام المكين، المسلمون الأوائل الأقوياء، فقد وكلهم إلى إسلامهم، ولم يعطهم من هذه الغنائم شيئاً، وكان عطاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شرفاً يحرص عليه الناس جميعاً، لذلك تساءل الأنصار في مرارة: لمَ لمْ يعطهم النبي -عليه الصلاة والسلام- حظهم من الغنيمة؟ حدثت مشكلة، وجد تساؤل، وحشرجة، وضيق، وحُزن، ومشكلة أساسها الحرمان.
الحقيقة: الآن سنتعلم شيئاً مفيداً جداً في الحياة: أولاً كان من الممكن ألا تقع هذه الحادثة إطلاقاً؟
الله عزَّ وجل على كل شيء قدير، وكل شيءٍ وقع أراده الله، كان من الممكن: ألا تقع هذه الحادثة إطلاقاً؟ ولكن لماذا وقعت؟ وقعت لأنها تكشف حقائق النفوس، الإنسان له حقيقة، فهؤلاء الأنصار -رضي الله عنهم- في بأنفسهم تعلق بالغنائم، لولا هذه الحادثة لما ظهر هذا التعلُّق، فالواحد منا يكون مسلماً مؤمناً مستقيماً، دخله حلال، ضابطاً لجوارحه كلها، يصلي الصلوات بإتقان، ومع ذلك تأتيه مشكلة، فالله عزَّ وجل قال:
﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾
أي يعلم سرك وما خفي عنك، قد يكون هناك مرض نفسي خفي عنك، فربنا عزَّ وجل بهذا الظرف الصعب, ظهر على السطح هذا المرض، فعالجك الله منه، فارتقيت عنده, هذه قضية مهمة جداً، المؤمن يظن نفسه متوهماً أنه سليم معافىً، طاهر, لا, هناك أمراض كامنة، هذه الأمراض الكامنة لا تظهر على السطح إلا بحوادث نادرة، فهذا الحادث أراده الله عزَّ وجل، أرداه ليظهر على السطح حرص هؤلاء على الغنيمة أكثر من حرصهم على رضاء النبي عليه الصلاة والسلام، فكانت هذه الحادثة.
الإنسان بساعة الضيق، أو ساعة الحزن عن الدنيا، قد تغيب عنه عصمة هذا النبي العظيم ، قد تغيب عنه نزاهته المُطلقة، قد تغيب عنه حكمته البالغة، حينما وجدوا في أنفسهم على النبي -عليه الصلاة والسلام-, غابت عنهم عصمته، وغابت عنهم نزاهته، وغابت عنهم حكمته، لذلك من خلال هذه الحادثة: أراد الله عزَّ وجل أن يكشف عن حكمة النبي, وعن عصمته, وعن نزاهته.
شيء آخر: إن هذه القصة درسٌ عملي يتعلم به المؤمنون, كيف يقفوا الموقف الحكيم الأكمل إذا واجهتهم معارضة؟
النبي واجهته معارضة، هؤلاء الأنصار تألَّموا، فقد وجدوا عليه في أنفسهم: لماذا فعل هكذا؟ لماذا حرمنا من هذه الغنائم؟ لقد نصرناه؟ هذا التعلق بالغنائم طفا على السطح، عدم المعرفة الكاملة بالنبي -عليه الصلاة والسلام- طفا على السطح، النبي ينطوي على كمالٍ شديد ظهر هذا الكمال.
أنت مدير مدرسة، مدير معمل، موظف، معلم، نشأت حولك حركة ضدك، ما الموقف الأكمل الذي يجب أن تقفه؟.
النبي -عليه الصلاة والسلام- متى واجه هذا الموقف؟ هل في أول الدعوة؟ ليته كان في ذاك الوقت، واجه هذا الموقف وهو في أقوى ما يكون، في أقوى حالة يكونها، النبي كلكم يعلم ليس نبياً فحسب, هو رئيس هذه الدولة الإسلامية، نبيٌ، رسولٌ، يوحى إليه، معصوم، سيد الخلق، حبيب الحق، سيد ولد آدم، سيد الأنبياء والمرسلين، رئيس هذه الدولة، القائد الأعلى للقوات المسلحة عند المسلمين، واجه معارضة.
كان من الممكن: أن يسحقها نهائياً، وكان من الممكن أن يسحقها أدبياً، إذا ندد بهم بهؤلاء الذين وجدوا عليه في أنفسهم سحقهم، نبيٌ عظيم يندد بمن ينتقده بهذه الطريقة سحقهم، وكان من الممكن أن يتجاهلهم، بإمكانه أن ينهيهم كلياً، وبإمكانه أن يهدر اعتبارهم، وبإمكانه أن يتجاهلهم، وبإمكانه أن يعاتبهم, لم يسحقهم، ولم يهدر كرامتهم، ولم يتجاهلهم، ولم يعاتبهم لمصلحته، فماذا فعل؟.
سيدنا سعد بن عبادة -صاحب الترجمة اليوم- كان سيد الأنصار, سمع قومه يتهامسون بعضهم بهذا الأمر، فلم يرضه هذا الموقف، استجاب لطبيعته الواضحة المُسفرة الصريحة، وذهب من فوره إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وقال:
((يا رسول الله -سلك الطريق المباشر ، سلك الأسلوب الصريح، لا يوجد لف ودوران- قال:
يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار، قد وجدوا عليك في أنفسهم, لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك, وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء -أرأيتم إلى هذه الصراحة؟ أرأيتم إلى هذا الوضوح؟ أرأيتم إلى هذا الطريق المباشر؟.
أذكركم بأن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان في أعلى درجات القوة، وكان بإمكان أن ينهيهم، بإمكانه أن يهدر كرامتهم، بإمكانه أن يعاتبهم، بإمكانه أن يجمعهم, ويبين لهم فضله عليهم، كل هذا بإمكانه، ولكن ماذا فعل؟-
قال عليه الصلاة والسلام: وأين أنت من ذلك؟ -أي هل أنت معهم؟- فقال: ما أنا إلا من قومي -نعم أنا مثلهم- فقال عليه الصلاة والسلام: إذاً فاجمع لي قومك.
النبي -عليه الصلاة والسلام- تملَّى وجوههم الآسية، ابتسم ابتسامةً متألقةً -بعرفان جميلهم، وتقدير صنيعهم- وقال:
يا معشر الأنصار, مقالةٌ بلغتني عنكم -بلغني أنكم واجدون علي- وجدةٌ وجدتموها علي في أنفسكم، أما إنكم -الآن دقة الموقف، ماذا يقول لهم؟ أنا نبي هذه الأمة، لقد هديتكم إلى الله؟ لا, بل قال-:
أما إنكم لو قلتم فلصدقتم، ولصدقتم به -لو أردتم أن تقولوا هذا الكلام أنتم صادقون مصدقون- أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وعائلاً فآسيناك، وطريداً فآويناك.
-ماذا ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ ذكر فضلهم عليه، ذوبهم، ألم يكن بإمكانه أن يبدأ بفضله عليهم؟ ذكرهم فضلهم عليه-.
يا معشر الأنصار, -الآن جاء دوره- ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ -ألم تكونوا ضالين فهداكم الله بي؟- ألم آتكم عالةً فأغناكم الله؟ ألم آتكم أعداءً فألف الله بين قلوبكم؟ -روعة الموقف أنه بدأ بفضلهم عليه، وثنى بفضله عليهم، ذكَّرهم بعملهم، ذكرهم بنصرتهم، ذكرهم بتأييدهم، ذكرهم بإخلاصهم، ذكرهم بتضحياتهم، ذكرهم بإيوائهم له، فخجلوا-.
قالوا: بلى، الله ورسوله أَمَنُّ وأفضل, قال: أجيبوني يا معشر الأنصار, قالوا: بم نجبك يا رسول الله؟ -خجلوا- لله ورسوله المن والفضل, قال: يا معشر الأنصار, أوجدتكم في أنفسكم في لعاعةٍ -أي خشخيشة- تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ -أي ألا تعذروني؟ ألستم واثقين من حكمتي؟ ألستم واثقين من نزاهتي؟ ألستم واثقين من عملي الطيب؟- أوجدتم علي في لعاعةٍ من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم -اعتماداً على إيمانكم القوي، وعلى إسلامكم، وعلى طول باعكم في الدين، وعلى قدمكم- ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا أنتم برسول الله إلى رحاكلم؟ -ألا توفي معكم يرجعوا الناس بالشاة والبعير وترجعوا أنتم برسول الله إلى رحالكم؟ ألا يوفي معكم ذلك؟- فو الذي نفسي بيده, لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار, وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار, وبكى الأنصار حتى أخضلوا لحاهم -دموع نزلت من اللحى- وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً))
هذا موقف النبي -عليه الصلاة والسلام-, بإمكانه أن يدمِّرهم، بإمكانه أن يسحقهم، بإمكانه أن يهدر كرامتهم، بإمكانه أن يهملهم، بإمكانه أن يعاتبهم، بإمكانه أن يبيِّن فضله عليهم, ما فعل كل هذا، بل تألَّف قلوبهم، واسترضاهم، وبين فضلهم عليه, ثم فضله عليهم، وبين أنه معهم ولن يتركهم، لأنه بعد فتح مكة خاف الأنصار أن يستوطن النبي مكة، قال:
((الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ))
هذا هو الوفاء .
أي أنك إذا كنت بموقف قوي، واجهتك مشكلة، لا تسلك سبيل القوة، فهو سبيل فاشل، اسلك سبيل تأليف القلوب، اسلك سبيل التعطُّف، اسلك سبيل الرحمة، اسلك سبيل الاستلطاف، لا تنس فضل الناس عليك، هذه نصيحة، إذا فعلت مع الناس شيئاً يجب أن تنساه، أما إذا فعل الناس معك شيئاً لا ينبغي أن تنساه أبد الدهر .
هناك شيئان-: سيدنا سعد كان صريحاً، سلك الطريق المباشر -أسلوب اللف والدوران تركه، مباشرةً-: إن قومي وجدوا عليك في أنفسهم, أين أنت منهم؟ قال: ما أنا إلا من قومي.
عوِّد نفسك الصراحة، لا يكون لك موقفان؛ موقف معلن، موقف خفي، وجهان ولسانان، شيء يرضي وشيء لا يرضي، هذا الأسلوب لا يرضي الله عزَّ وجل، هكذا كان أصحاب النبي، وهكذا كان النبي.
فلذلك قراءة سيرة النبي -عليه الصلاة والسلام- حتمٌ واجب، من أجل أن تهتدي بهديه، وأن تقتفي أثره، وأن تتبع سنته، وأن يكون هذا الإنسان الكامل لك معلماً.
قال عليه الصلاة والسلام:
((إِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا))
موقف العطف واللين، موقف الحكمة، موقف عدم نسيان الفضل، هذا الموقف هو الذي يبقى مع الإنسان .