- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (005)سورة المائدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أي أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب وأي نهي يقتضي الترك :
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث من دروس سورة المائدة ومع قوله تعالى:
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾
أيها الأخوة، بادئ ذي بدء إن كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك، أي أمر يقتضي الوجوب، وأي نهي يقتضي الترك، إلا إذا كان أمر تهديد كقوله تعالى:
﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾
فليكفر لام الأمر، هذا أمر تهديد، أو إذا كان أمر إباحة.
﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾
أو إذا كان أمر ندب.
﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ﴾
التناقض بين الطبع و التكليف ثمن الجنة :
إن لم يكن هناك ندب ولا إباحة ولا تهديد فالأمر يقتضي الوجوب، وكيف أن الله أمرك أن تصلي والصلاة فرض، لأن الله أمرك أن تصلي، في قوله تعالى:
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾
كذلك الأمر بالتعاون فرض، أمر يقتضي الوجوب، وتعلمون أيها الأخوة أن في الإنسان طبعاً ومعه تكليف، وبديهي أن الطبع يتناقض مع التكليف، فإذا أمرك الله أن تصلي الصلوات الخمس وأول هذه الصلوات صلاة الفجر ينبغي أن تستيقظ وجسمك يطلب أن تبقى نائماً، فهناك تناقض بين الرغبة في النوم والاستيقاظ لصلاة الفجر وكما أن الله أمرك أن تغض البصر والنفس تميل إلى إطلاق البصر، فهناك تناقض بين الطبع وبين التكليف، وهذا التناقض بين الطبع وبين التكليف هو ثمن الجنة، وكيف أن الله أمرك أن تنفق المال والطبع يقتضي أن تأخذه وهذا التناقض بين الطبع وبين التكليف هو ثمن الجنة، وكيف أن الله أمرك أن تتعاون والطبع يقتضي الفردية، أن تؤكد فرديتك، أن تؤكد ذاتك، أن تعيش وحدك ويموت الناس، فالإنسان مكلف أن يتعاون وطبعه فردي، لذلك بقدر طاعتك لله تتعاون، وبقدر معصيتك له تكون فردياً، والمجتمعات الجاهلية مجتمعات فردية، الأنا مسيطرة، والمجتمعات الإسلامية مجتمعات تعاونية، مصلحة المجموع تغلب فردية الفرد.
أول شيء أيها الأخوة أن فعل تعاونوا أمر، وهذا أمر يقتضي الوجوب، وأن التعاون تكليف، يناقضه الطبع الفردي، فأنت حينما تقوم لتصلي وجسمك يميل إلى الراحة، حينما تغض البصر وأنت تميل إلى إطلاق البصر، حينما تغالب النوم وتستيقظ لتصلي هذا هو عند الله ثمن الجنة.
الإنسان مقهور أن يكون مع أخيه :
قال تعالى:
﴿وَتَعَاوَنُوا ﴾
أما كلمة (وتعاونوا) فعل أمر من عاونَ، عاون على وزن فاعل، صيغة مشاركة، وفي اللغة العربية صيغ المشاركة من أبرزها وزن فاعل، مثل: قاوم وقاتل ودافع، أي الفاعل يكون تارةً فاعل وتارةً مفعول به، لماذا الأمر بالتعاون؟ لمَ لم يقل: أعينوا؟ أعينوا الفعل من طرف واحد، لكن شاءت حكمة الله أن تتقن شيئاً في حياتك، وقد تتقن شيئين أو ثلاثة، لكن هذا الشيء الذي تتقنه محدود، أنت بحاجة إلى مليون خبرة، تتقن واحدة، أوضح مثل هذا الرغيف الذي تأكله صباحاً، اشتريته من البقال، البقال جاء به من الفرن، الفرن في الليل عجن الطحين، وخمر العجين، ورقق الأرغفة، ووضعها في الفرن، هذا الطحين جيء به من المطحنة، المطحنة أخذت القمح وغسلته، وهيأته، وطحنته، والمطحنة جاءت بالقمح من الفلاحين الذين زرعوه، لو عددت الذين ساهموا في هذا الرغيف الذي تأكله صباحاً، وفي طبق الطعام، هذه المداجن الكثيرة التي تأتي بالفراخ وتربيها، وتعتني بها، تدفئها، تطعمها، تعالجها من أمراضها، أنت بحاجة إلى مليون خبرة وحاجة، تتقن حاجة واحدة، من أجل أن ترتدي ثياباً هناك معامل للقماش، هناك معامل أصبغة لصبغ القماش، هناك معامل لغزل الخيوط، هناك من يحصد القطن، ثوب تلبسه يدخل في إعداده آلاف الأشخاص، من أجل أن تعالج ابنك عند الطبيب، هذا الطبيب درس ثلاثين سنة، علم التشريح، وعلم الفزيولوجيا، وعلم الأمراض، وعلم الأدوية، ثم التدريب العملي، ثم جاء بالدبلوم، ثم ماجستير، ثم دكتوراه، ثم بورد، درس من ثلاثين إلى خمس وثلاثين سنة حتى يستطيع أن يقول لك: أعطِ ابنك هذا الدواء، فالطبيب أتقن شيئاً، ومعلم ابنك في الرياضيات درس سنوات طويلة حتى أتقن الرياضيات، وعلمه المعادلات والجبر والهندسة وما إلى ذلك، وأستاذ الجغرافيا، وأستاذ التاريخ، وأستاذ الفلسفة، وأستاذ اللغة العربية، ثم الكليات المتنوعة في الجامعة، ثم من أجل أن تنتقل تحتاج إلى مركبة وهذا المعمل للمركبات عمره مئة عام، كل سنة فيه تحسين، فشبكة العلاقات العقل لا يصدقها، ستة آلاف مليون إنسان كل إنسان يتقن شيء ويسهم بشكل أو بآخر في تقديم هذه الحاجة، حينما تشرب كأس من الشاي هل تدري أنه لولا أن البحار تدفع الأجسام إلى الأعلى لما كان هناك سفن، ولا كان هناك ملاحة في البحر، بواخر تحمل آلاف الأطنان من الشاي تنقله من الهند إلى الشرق الأوسط، هذه البواخر الضخمة العملاقة بعضها يحمل مليون طن كيف صنعت؟ من صممها؟ كيف يقودها؟ كيف خطط لها؟ أنت فكر بكل شيء تستخدمه، أحياناً ترتدي قميص، هذا الزر الذي خيط معه له معامل أنشأته، هذا المقص الذي تقلم به أظافرك معامل صنعته، هذه الشفرة التي تستخدمها أحياناً، هذه الفرشاة التي تصنعها، معامل، أي أنت أمام مليون مِليون مليون حاجة وسمح الله لك أن تتقن حاجة أو أكثر، فأنت مقهور أن تكون مع أخيك، ابنك يحتاج إلى مدرسة، وانتقاله يحتاج إلى مركبة، والمدرسة يحتاج إلى من ينظف هذه المدرسة، وإلى من يعلم، وإلى من يدير المدرسة، وإلى من يراقب، ويحتاج الطفل إلى شيء يأكله في النهار، إذاً هناك من يبيعه الطعام، يحتاج إلى شيء يعينه على استذكار الدروس؛ يحتاج إلى آلة حاسبة فرضاً، أو إلى أجهزة كثيرة.
في الإسلام عبادات جماعية من أجل أن نكون مع المجموع :
إذاً، حينما قال الله عز وجل:
﴿ وَتَعَاوَنُوا ﴾
أي أن التعاون قدر أولاً، شئت أم أبيت إن لم تتعاون لا تعيش في الحياة، لكن شاءت حكمة الله أن يكون هذا القهر في الاجتماع طريقاً إلى الجنة، أنت من خلال وجودك مع البشر يمكن أن تكون صادقاً كما يمكن أن تكون كاذباً، يمكن أن تكون مخلصاً كما يمكن أن تكون خائناً، يمكن أن تكون متقناً ويمكن أن تكون غير متقن، يمكن أن تفي بوعدك أو لا تفي، يمكن أن تنجز عهدك أو لا تنجزه، فأنت مقهور بوجودك مع البشر، ولا يستطيع واحد في الأرض أن يعيش وحده، لذلك نجد في الإسلام عبادات جماعية، أنت حينما تصلي بالمسجد صلاة الجماعة تفوق صلاة الفرد بسبع وعشرين ضعفاً، والحج جماعي، والصيام جماعي، والصلاة جماعية، وأحاديث كثيرة جداً تأمرك أن تكون مع المجموع.
((عَلَيْكُمْ بِالْجَماعَةِ، وَإِيّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، فَإِنّ الشّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ))
((فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية))
أمرك أن تتعاون، والتعاون فعل مشاركة أي تعينه ويعينك، تقدم له خدمة ويقدم لك خدمة، تنصحه وينصحك، تمنحه ويمنحك، تعطيه خبرتك ويعطيك خبرته، أوضح مثل الإنسان يشعر بالاضطراب في صحته فيذهب إلى الطبيب، في هذا الموقف هو أدنى من الطبيب، وقد يذهب إنسان بمنصب رفيع جداً يشكو ألماً في قلبه يقف أمام الطبيب وهو متأدب، لأن الطبيب في هذا الموقف أعلى من المريض، الطبيب نفسه يسمع صوتاً غريباً في مركبته فيذهب إلى الميكانيكي، ويقف بأدب ويسأله ألهذه المشكلة حل أم لا بد من تغيير المحرك؟ في هذا الموقف الطبيب دون الميكانيكي، فأنت في النهار الواحد مئات المرات دون إنسان وفوق إنسان، باختصاصك أنت فوق، بغير اختصاصك أنت تحت، أحياناً تمسك تخطيط قلب أنت عالم كبير ودارس عقيدة وفقه ومواريث وعلم تفسير وعلم حديث وفقه مقارن وتاريخ التشريع الإسلامي وعندك فلسفة عميقة جداً تُعطى تخطيط قلب فلا تفهم منه شيئاً، أُمِّي، أنت أمام هذا التخطيط أُمِّي، والذي معه أعلى شهادة بأمراض القلب أمام آية أُمِّي، يقول لك: ما معنى هذه الآية يا أستاذ؟ حرت في معنى هذه الآية.
القيم التي جاء بها الدين هي الدين نفسه :
كل إنسان باختصاصه أستاذ، بغير اختصاصه طالب علم أو أُمِّي قد يكون، هكذا شاءت حكمة الله أن تكون الحياة متشابكة، لكن وأنت مقهور أن تكون في مجتمع ينبغي أن تكون صادقاً ليكون الصدق سبب دخول الجنة، ينبغي أن تكون متقناً ليكون الإتقان سبب دخول الجنة، ينبغي أن تكون أميناً لتكون الأمانة سبب دخول الجنة، ينبغي أن تكون مخلصاً ليكون الإخلاص سبب دخول الجنة، فهذه القيم التي جاء بها الدين هي الدين.
كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دون الله من الحجارة والأوثان ـ الآن دققوا ـ وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء.
أنت مقهور أن تكون مع المجموع، شئت أم أبيت، أحببت أم كرهت، فبين أن يكون هذا المجتمع طريقاً إلى الجنة وبين أن يكون هذا المجتمع طريقاً إلى النار، أنت بلقائك مع الناس إما أن يكون هذا اللقاء وهذا التعاون وفق منهج الله سبباً لدخول الجنة وإما أن يكون هذا التعامل مع الناس سبباً لدخول النار، فهذا الذي يعتدي، يأخذ ما ليس له، يكذب، يدلس، ينافق، يشتم، يوقع الأذى بالآخرين، هذا يمشي في دركات النار، وهذا الذي يصدق، ويؤتمن، ويحسن، وينصح، هذا في طريق الجنة، فالله عز وجل يقول:
﴿ وَتَعَاوَنُوا ﴾
لأنني أردتكم أن تكونوا مجتمعين، الشيء الدقيق أيها الأخوة، أن هذا التعاون ليس بين المؤمنين فقط، المطلق في القرآن على إطلاقه، ممكن تتعاون مع أي إنسان، فالتعاون شيء والود شيء آخر، ودك محبتك للمؤمنين، لكن تعاونك مع كل الخلق.
وجوب معاملة كل الناس بالعدل حتى ولو كانوا غير مسلمين :
قال تعالى:
﴿ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ﴾
﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ﴾
أنت مكلف أن تتعاون مع كل الناس، وعلاقات العمل لا شائبة فيها ما دام العمل منضبط بالمنهج الإلهي، ولا يوجد أي مخالفة شرعية، لك أن تتعامل مع أي إنسان، مع المسلمين ومع غير المسلمين، بل إنك إن تعاملت مع غير المسلمين ولم تكن عادلاً معهم وقعت في إثم كبير، لأن الله عز وجل يقول:
﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا﴾
مع من؟ مع من تكرهونهم، ولا يحملنكم بغض قوم عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا، العدل فوق الجميع، يجب أن تعامل كل الناس بالعدل.
سيدنا عمر له أخ قتله إنسان في الجاهلية ثم أسلم، انتهى، قال له: أتحبني؟ قال له: والله لا أحبك ـ ما في مجاملات هنا ـ قال له: هل يمنعك بغضك لي من أن تعطيني حقي؟ قال: لا والله، لا يمكن أن أمنعك حقك.
الود شيء والتعاون شيء آخر :
المسلم منفتح، المسلم متعاون مع كل الناس، هذا أمر موجه لكل البشر لا للمسلمين فقط:
﴿ وَتَعَاوَنُوا ﴾
أي سكان بلدة فيها عدة أديان فرضاً، المفروض أن يتعاونوا لصلاح هذه البلدة، لتأمين فرص العمل، لتأمين مصالح الناس، تأمين أغذيتهم، مساكنهم هذا مندوب أيضاً:
﴿ وَتَعَاوَنُوا ﴾
الود والحب شيء آخر، الود والحب للمؤمنين، لكن التعاون لجميع الناس:
﴿ وَتَعَاوَنُوا ﴾
الإنسان أحياناً لضيق أفقه، ولجهله بأحكام هذا الدين لا يتعاون إلا مع المؤمنين، طبعاً إذا قادني التعاون مع غير المؤمنين إلى معصية ممنوعة المعصية، أنت تمتنع لا عن التعاون تمتنع عن المعصية فقط، أما لو أن التعاون وفق منهج الله، أي لو أن بلدة بحاجة إلى مشروع وفتح باب للتبرع، ما الذي يمنع أن تسهم مع كل سكان هذه البلدة في إنشاء هذا المشروع الحيوي هذا ضمن الدين؟ والنبي عليه الصلاة والسلام حضر حلف الفضول، وحلف الفضول حلف ليس إسلامياً لكنه حلف يقوم على تحقيق العدل للمجتمع بأكمله، هذه العقلية لو ملكها المسلمون لكانوا في حال غير هذه الحال، أي أن يكون في الحياة مسلم وغير مسلم هذا واقع، وهذا الغير مسلم ما دام في قواسم مشتركة، ما دام هناك وسائل منهجية شرعية ينبغي أن نتعاون.
البر هو الفطرة :
قال تعالى:
﴿ وَتَعَاوَنُوا ﴾
على ماذا؟ هنا المشكلة، هذا الكلام كله عن التعاون هذا الكلام كله عن معنى التعاون، فعل أمر، وأمر يقتضي الوجوب، والمطلق على إطلاقه والصيغة مشاركة، تعينه ويعينك، لكن على ماذا أتعاون؟ عرف من المتعاون، الأمر موجه إلى المسلم، ومن الذي ينبغي أن تتعاون معه لكل الناس، والفعل مشاركة، لكن على ماذا؟ قال:
﴿ عَلَى الْبِرِّ ﴾
ما هو البر؟ البر بتعريف النبي صلى الله عليه وسلم التعريف الجامع المانع؛ البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه الناس، طبعاً إضافة الماء للحليب لا تكون أمام الشاري، مستحيل، تكون في غرفة سرية، إضافة الماء للحليب تكون بمعزل عن المشتري، إذاً هذا إثم، فأي عمل تفعله تحت ضوء الشمس ولا تخشى أن يلومك أحد عليه، أي فعل تفعله وأنت واثق أن الناس لن ينالوا منك هو البر، أي الفطرة، لمَ سمى الله المعروف معروفاً؟ لأن الفطرة السليمة تعرفه ابتداءً، ولمَ سمى الله المنكر منكراً؟ لأن الفطرة السليمة تنكره ابتداءً.
أنا لا أنسى ووقت مناسب جداً لسوق هذه القصة، سمعت من صديق لي أن محطة فضائية عرضت مقابلة مع شاب مجرم اغتصب أكثر من خمس عشرة فتاة ثم قتل كل هؤلاء الفتيات، حُكِم عليه بالإعدام، باحثة اجتماعية طلبت من النيابة العامة إجراء حوار مع هذا الشاب، فالذي جرى أنها سألته: أتقرأ وتكتب؟ قال: لا، جاهل، قالت له: أتصلي؟ قال: لا أعرف الصلاة، قالت له: أتعرف الفاتحة؟ قال: لا، قالت: هل شهدت أنه لا إله إلا الله في حياتك مرة؟ قال: ما هي الشهادة؟ قالت: لا إله، قال لها: كلمة كلمة، حتى أتقن لا إله إلا الله أكثر من دقيقتين، سقت هذه التفاصيل لتعلموا أنكم أمام إنسان لا يفقه شيئاً، كتلة جهل، فسألته: لمَ تغتصب هؤلاء الفتيات ثم تذبحهن؟ قال: من لباسهن، قالت له: وإذا رأيت فتاة محجبة؟ قال: والله الذي يتكلم معها كلمة أقتله، أرأيتم إلى هذا الجهل المطبق! هذه الفطرة، أن هذه إنسانة محجبة محترمة لا تثير غرائز الشباب، لا تثير عواطفهم ومشاعرهم، لا تعتدي على أحد، المرأة حينما تظهر مفاتنها تعتدي على من ينظر إليها، تعتدي عليه، تلجئه إلى الانحراف، هذا الشاب الجاهل المجرم المحكوم بالإعدام قال:: السبب من ثيابهن، فأنا خطر في بالي مصطلح جديد اسمه تحرش الفتيات بالشباب عن طريق الثياب فقط، فلما سألته: وهذه التي تراها محجبة؟ قال: من يكلمها كلمة أقتله، هذه فطرة، هذه إنسانة شريفة، هذه طاهرة، هذه امرأة لزوجها، لأولادها، لمحارمها، مفاتنها ليست لكل الناس، هي تعتدي في المجتمع.
التعاون يجب أن يكون على البر وعلى ما ترتاح له الفطر السليمة :
أيها الأخوة، صار معنى التعاون على البر، على ما ترتاح له الفطرة، على ما هو معروف من قبل الفطر السليمة، لو أنَّا أنشأنا بناء بشكل متعاون، ما في مانع، مقبول، لو أنشأنا جمعية خيرية، مقبول، لو أنشأنا جمعية لمكافحة التسول، مقبول، لو أنشأنا مستوصف دار أيتام، دار عجزة، لو أنشأنا مكتب لفرص العمل، جيد، لو أنشأنا مكتب للزواج جيد جداً، لو أنشأنا بناء على طرق السفر لينام فيه المسافرون، جيد، أي شيء تقبله الفطر السليمة وترتاح له النفس يجب أن نتعاون عليه، أرأيتم إلى هذا الشمول:
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ﴾
البر ما اطمأنت إليه النفس، ترتاح، في مشاريع رائعة، كل واحد منا فرضاً يكون في وليمة يشعر أن هذه الوليمة دفع ثمنها مبلغاً كبيراً جداً، وأن هذا الطعام لم يؤكل خمسه، فإذا أنشأت جمعية لجمع هذا الطعام الزائد، وإعادة تصنيعه بإضافة بعض المواد الأساسية، ثم وضعه في علب وتقديمه للفقراء، أليس هذا العمل رائعاً، هل يعترض أحد؟ أبداً:
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾
أيها الأخوة، البر الأعمال التي ترضاها الفطر السليمة، وتعرفها ابتداءً من دون تعليم، ألف عمل يقوم به إنسان ولا يتكلم أحد كلمة من مئة مليون، عمل طيب، لو أننا أنشأنا مستشفى، وجئنا بأطباء متخصصين لمعالجة الأمراض، جيد، لو فتحنا مدارس، لو نظمنا حياتنا، لو نظمنا أمورنا، لو جعلنا لكل شيء نظام دقيق نمشي عليه كي يعيش الناس براحة وسهولة وبيسر هذا هو المطلوب:
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ﴾
البر هو صلاح الدنيا أما التقوى فصلاح الآخرة :
لكن الدنيا محدودة، ستون سنة عشت حياة رائعة، بعد ذلك يوجد أبد، قال لك: والتقوى؟ التقوى طاعة الله عز وجل، يجب أن تبذل جهداً كبيراً جداً فضلاً عن صلاح الدنيا بصلاح الآخرة، أن تطلب العلم، أن تعلم العلم، أن تأمر بالمعروف، أن تنهى عن المنكر، أن تقوي ارتباط الإنسان بالله عز وجل، أن تشد همته إلى الله عز وجل هذا مطلوب، فكل إنسان يتعلم القرآن ويعلمه، يتعلم الفقه ويعلمه، يتعلم الحديث ويعلمه، يكون قدوة لغيره، يدعوك إلى الله عز وجل، إلى معرفته، إلى طلب العلم هذا أيضاً مشمول بهذا الأمر:
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ﴾
أي على صلاح الدنيا:
﴿ وَالتَّقْوَى ﴾
التقوى صلاح الآخرة، أي لعل الأجانب اقتصروا على صلاح الدنيا فقط، مجتمعات فيها تعاون كثير جداً والتعاون عندهم، يربون أبناءهم عليه في سن مبكرة جداً، حتى إنهم إذا أرادوا موظفاً من الشروط التي تلفت النظر أن يصلح للعمل ضمن فريق يتعاون، والبلاد المتخلفة ـ وهذا شيء مؤلم جداً ـ فضلاً عن أنها متخلفة أفرادها لا يتعاونون، يحطمون بعضهم بعضاً، فالتعاون رقي، والتعاون دين، والتعاون خلق، والتعاون حضارة، والتعاون قوة، ألا ترى إلى المسلمين ماذا حل بهم من فرقتهم، ومن عدم تعاونهم؟ ومن أن بأسهم بينهم، ومن أن كل واحد منهم يريد أن يعلو على الآخرين، أرأيت إلى هذه النتائج التي لا ترضي صديقاً ولا عدواً؟
الشياطين يتعاونون على الإثم والعدوان :
قال تعالى:
﴿ وَتَعَاوَنُوا ﴾
وفي آية أخرى:
﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾
تضعفوا:
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾
لكن الشياطين يتعاونون:
﴿ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾
يتعاونون على إفساد البشرية، سبعمئة مليون امرأة وطفل يعملون في الدعارة، سبعمئة مليون في العالم يعملون في الدعارة، وقد غرر بهم، هؤلاء يتعاونون على جلب أموال خيالية، وأول تجارة في العالم تجارة المخدرات، أربح تجارة، تحتاج إلى تعاون، إلى مراقبة الطريق، وإلى إخفاء المهربات بشكل ذكي جداً:
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾
مثلاً إنسان خرج إلى المطار ليسافر ورجله مكسورة، وهي مجبرة، وجاء من يتصل أن هذا المسافر على الطائرة الفلانية بالرحلة الفلانية مهرب مخدرات، فانتبهوا أوقفوه، كسروا الجبصين ما في شيء، فتشوه لا شيء أبداً، اعتذروا منه، ذهب بالرحلة الثانية، بالرحلة الثانية وضع المخدرات، أليس هذا عمل ذكي! عمل ذكي جداً، في تعاون على تهريب المخدرات، على إيقاع الفتيات الغافلات بفخ الدعارة، في تعاون على إيهام الشاري.
الإثم أن تنقطع عن الله عز وجل :
والله أخ قال لي: قبل يومين أناس يلعبون بالقمار على الرصيف، وهو ماشي قطع مسافة جيدة، يأتي إنسان ينبهه أن هذا مسكين أتى من بلاد بعيدة معه قرشين أخذوهم منه، وصف له وصفاً يدمى له القلب، وقابض قبضة، رجع حتى يسأله، اعتبروه شريك بالمقامرة وضربوه وأخذوا منه النقود، تمثيل، والآخرين تمثيل، أنا أتيت بحالات حادة طبعاً، لكن هناك مليون تعاون على الباطل، مليون تعاون على الإثم، مليون تعاون على العدوان، مليون تعاون على أكل الحقوق، مليون تعاون على تحقيق ربح غير شرعي:
﴿ وَلَا تَعَاوَنُوا ﴾
إله يقول:
﴿ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾
الإثم أن تنقطع عن الله عز وجل، يقول لك: أنا لا أؤذي أحد، كلام طيب، إيماني بقلبي أستاذ، لا أؤذي أحد أبداً، فعلاً لطيف ناعم، إذا خلا ارتكب كل المحرمات فيما بينه وبين نفسه، لم يفعل شيئاً، هذا إثم، أي هذا الأمر قطعك عن الله عز وجل، قطعك عن الذي خلقك، قطعك عن سبب التوفيق، أحياناً إنسان لا يؤذي أحداً لا يعتدي لكن هو يقع في الإثم، أي أحياناً أنت مهمتك الوحيدة أن تصلح هذه الأجهزة وتأتي بالمحطات البعيدة، هذا عملي، ماذا تفعل أنت بالمجتمع؟ تهيأ للناس بسهراتهم أن تأتيهم بأبعد المحطات ليغرقوا في الإثم، أليس كذلك؟
((إن روح القدس نفث في روعي إن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب))
واستجملوا مهنكم، أنا أبيع مثلاً طاولة زهر مربحة مئة بالمئة، لكن أنت تعين الناس على هدر أوقاتهم وإيقاع العداوة بينهم، من لعب النرد فكأنما غمس يده في دم خنزير ولحمه، فقد تبيع شيئاً محرماً، تصلح شيئاً محرماً، تتاجر بشيء محرم، تبيع شيء أنت لا تقبله، دار نشر، في كتب فيها ضلالات، أحدهم قال كلمة هي تبدو مستهجنة جداً: لئن تبيع الخمر أهون من أن تبيع كتاب فيه ضلالات، شارب الخمر يتوب، لكن هذا الذي اعتقد خطأ وسار على خطأ طوال حياته، هذا لا يتوب، أنت تقول: أنا أبيع كتاباً لا علاقة لي، لا، لك علاقة، تبيع كتاباً فيه ضلالات، تبيع كتاباً فيه شبهات، تبيع كتاباً يدعو إلى معصية، تبيع كتاباً يحلل الربا فرضاً، تبيع كتاباً يظهر الدين على أنه سلوك غيبي متخلف لا يتناسب مع العصر، تحت اسم مكتبة هذا لا يصح.
أي عمل ينشأ عنه معصية أو مخالفة هذا العمل له حساب عند الله عز وجل :
قال تعالى:
﴿ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾
أحياناً تجمع بعملك شباب وشابات، هل تدري ماذا يحصل بينهم من مخالفات شرعية؟ فالقضية لا ترونها تضيقاً، لا والله ولكن سلامة أيها الأخوة، إذا كان عملك ممكن أن ينتج عنه معصية، قد تقول: مطعم، أحل عمل المطعم؟ في زوايا إضاءة خافتة، من يأتي إلى هذا المكان؟ يأتي إلى هذا المكان من عنده شبهة، عنده مشكلة، فأنت يجب ألا تكون سبباً لمعصية، لمخالفة شرعية، لإثم، لعدوان:
﴿ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾
أي اتقِ أن تعصي الله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
أنا أستميحكم عذراً ذكرت بعض المهن لا على سبيل أنني أعد هذه المهنة محرمة لا، لكن أية مهنة، أية حرفة إذا لابسها حرام فالحرام هو الحرام لا الحرفة، أن تبيع طعام هذا عمل حلال مئة بالمئة، لكن إذا رافق بيع الطعام علاقات لا ترضي الله عز وجل فالذي جمع هؤلاء في مكان عليه مسؤولية، أي عمل ينشأ عنه معصية أو بعد عن الله أو مخالفة هذا العمل له حساب عند الله عز وجل:
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾
لكن لا يوجد نظام من دون ـ بالتعبير الفقهي ـ المؤيد القانوني، مثلاً قانون السير، اقرأ قانون السير: من يقود مركبة بلا شهادة تسحب الإجازة منه تسحب المركبة ويدفع مبلغ كذا، من يقف في مكان ممنوع، كل أمر ونهي فيه عقوبة، الله عز وجل قال لك:
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
يجب ألا نبني ثرواتنا على فساد أخلاق المجتمع :
إنسان صاحب دار سينما حدثني أحد أقربائه كان طالباً عندي، قال: كل ما كان الفلم فيه إثارة أكثر فيه أرباح أكثر، فكان يتعمد أن يأتي بالأفلام المثيرة جداً، والشباب ينخرطون بهذه الشهوة الحرام، وقد ينحرفون بعد الفلم ما لا يعلمه إلا الله، فجمع ثروة كبيرة جداً، وهو في مقتبل الحياة أصابه مرض خبيث، فقال لقريبه وهو تلميذه، قال له: جمعت أموالاً طائلة حتى أتمتع بخريف عمري فإذا أنا أموت بهذا السن، أيقن أنه ميت، ومات:
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
لا تبنِ ثروتك على فساد أخلاق المجتمع، لا تبنِ ثروتك على إفقار الناس، لا تبنِ ثروتك على إضلال الناس، لا تبنِ ثروتك على فساد ذات البين، والله هناك أعمال أيها الأخوة لا يعلمها إلا الله تفرق بين الزوجين، تفسد العلاقة بين الأزواج، تفسد العلاقة بين الآباء والأبناء، أعمال كثيرة جداً، مثلاً قد تعمل عملاً يجلب الشباب، من لا يجد معه يسرق، شيء ممتع وليس له فائدة إطلاقاً، ألعاب ما لها فائدة إطلاقاً، ممتعة، فهذا الشاب أنفق المال الذي معه، لم يكفه، أخذ من أمه، بعد ذلك أخذ من أبيه بإلحاح، بعد ذلك دون أن يعلموا، دخل بالحرام حتى تربح أنت، وعمل غير مجدٍ، اختر حرفة فيها نفع للناس، اختر حرفة تكون حلالاً مئة بالمئة، أنا لست متشدداً بهذا الموضوع ولكنني أضع النقاط على الحروف، الآن هناك حرف لا تعد ولا تحصى، أكثرها يبنى الربح فيها على فساد الأخلاق، أو على فساد العلاقات، أو على ضياع الشباب وانحرافهم.
أيها الأخوة، أتمنى على الله عز وجل أن تنقلب هذه الآية إلى سلوك يومي:
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
والمؤيد القانوني:
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
نجد قصصاً كثيرة جداً عن هذا الذي بنى مجده على أنقاض الناس، أو على فساد أخلاقهم، أو على فساد علاقاتهم، أو بنى ثروته على فقرهم، له نهاية عند الله سواء في الدنيا أو في الآخرة، ليس شرطاً في الدنيا لأن الله يعاقب بعض المسيئين ردعاً لبقية المسيئين ويكافئ بعض المحسنين تشجيعاً لبقية المحسنين.