الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الخامس من دروس سورة المائدة، ومع تتمة الآية الثالثة وهي قوله تعالى:
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلْأَزْلَٰمِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(3)﴾
الدين هو دين الله-عزَّ وجلَّ-:
تتمة هذه الآية: ﴿ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾ ، الكلمات في هذه الآية تعني أن هذا الدين هو دين الله، في الأرض قوى كثيرة وبينها خصومات وبينها حروب وتنتصر هذه القوة مرةً وتلك مرةً، ولكن الدين له شأن خاص، هذا الدين هو دين الله -عزَّ وجلَّ-، فإذا كان الإنسان متمسكاً بدينه فالله معه وإذا كان معه فمن عليه، أي مستحيل أن يكون الدين طرفاً كأطراف الأرض، هذه فكرة خطيرة جداً؛ الدين ليس طرفاً من أطراف أهل الأرض، هذا الدين من عند الله -عزَّ وجلَّ-، فإذا كان الذين يتمسكون به يتمسكون به مخلصين وصادقين ومطبقين لا يمكن أن يهزموا، بدليل قوله تعالى:
﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَٰلِبُونَ (173)﴾
على مستوى المعارك والحروب لا يمكن أن يهزموا.
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَٱنتَقَمْنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ (47)﴾
﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًٔا ۚوَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ (55)﴾
أي أن يكون هذا الدين طرفاً من أطراف قوى الأرض يفوز مرةً وينهزم مرةً من غير سبب من المتمسكين به فهذا مستحيل، لكن أحياناً لا ينتصر المسلمون؛ إما لخلل في عقيدتهم، أو لخلل في استقامتهم، لخلل في عقيدتهم كيوم حنين:
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍۢ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْـًٔا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25)﴾
ولخلل في استقامتهم كيوم أحد، إذ لم ينتصر المؤمنون لأنهم عصوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أما لو تصورنا ليس هناك خللٌ في العقيدة، ولا خطأ في السلوك، وهؤلاء متمسكون بهذا الدين فهذا الدين لا يُوازى مع قوى الأرض، خالق الأكوان هو الذي يرعاه ويؤيده وينصره، فإذا كنت مع الله كان الله معك، طبعاً هذا المعنى القتالي، المعنى العقائدي: لا يمكن أن يأتي العلم أو التطور بشيء يناقض ما جاء به القرآن إلى أن ييأس الذين كفروا أن يستطيعوا تقويض دعائم هذا الدين.
لا تطور في الأرض ينقض الدين:
الحقيقة -أيها الإخوة- شدة الضغط على الدين في هذه الأيام من قِبل العالَم كله لأنه دين الله، لأنه متغلغل في أعماق الإنسان، أعداء الدين الألداء أيقنوا أنه لا سبيل لمواجهة هذا الدين؛ لذلك غيروا خططهم فجعلوا أبرز خططهم تفجيره من داخله؛ اصطناع اتجاهات منحرفة إن في العقيدة أو في السلوك ودعمها، وعرضها على الناس على أن هذا هو الدين، فأي اتجاه منحرف في الدين، منحرف في العقيدة أو في السلوك ترى من يرعاه من أعداء الدين، يرعونه لا حباً بالدين ولكن حباً في تفجيره من داخله، فكلمة ﴿ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾ هذه معركة مع الدين خاسرة، للتقريب: إنسان لا يستطيع بأي شكل أن يواجه دولةً، أضعاف مضاعفة، قوى، جيوش، طيران، بحرية، برية، أجهزة، إنسان واحد لا يتمكن أن يواجه دولة، فكذلك للتقريب: جهة في الأرض مهما علت، مهما عظمت لا تستطيع أن تواجه دين الله -عزَّ وجلَّ- إلا بأساليب ملتوية، إلا بتفجيره من داخله، أو باصطناع اتجاهات منحرفة في العقيدة والسلوك وعرضها على الناس على أنها هي الدين، قد ينجح أعداء الدين بمعركة إعلامية فيصورون أهل الدين على أنهم إرهابيون، أو على أنهم مجرمون، أو على أنهم قتلة، وقد يصطنعون مثل هذه المواجهات اصطناعاً، والحقيقة التاريخ الحديث يكشف خطط جهنمية لأعداء الدين قد لا تُصدق، فحينما يقول الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ (46)﴾
فأنت إذا كنت مع الدين وكنت صادقاً، ومستقيماً، ومخلصاً، يجب أن تتأكد وأن تطمئن إلى أنه لن - لن لتأبيد النفي - لن يظهر تطور في الأرض ينقض الدين؛ ذلك لأن الكون خلْق الله -عزَّ وجلَّ-، ولأن القرآن الكريم كلامه، ولأن العقل مقياس أودعه فينا، ولأن الفطرة جبلة جُبلنا عليها، فكل هذه الأطراف مِن عقل إلى واقع، إلى فطرة، إلى جبلة، إلى كون؛ هذه مِن أصل واحد هو الله -عزَّ وجلَّ-، فتوافق قوانين الكون مع قوانين القرآن الكريم توافق تام، وتوافق قوانين الفطرة مع قوانين القرآن الكريم توافق تام، وتوافق مبادئ العقل مع مبادئ الكون والقرآن توافق تام، يجب أن تطمئن، يحضرني في هذه المناسبة أن إنساناً في فرنسا كان رئيس وزارة، وهو من أرقى عوائل باريس، وله سمعة طيبة، ولم يُضبط بمخالفة للقوانين، وهو في سن السبعين انتحر، أذكر أنني قرأت حول هذا الخبر أن مئة باحث وصحفي أرادوا تعليل سبب انتحاره فلم يهتدوا، لا يوجد اختلاس، ولا فضيحة، ولا أي مشكلة، إنسان متوازن، ذكي، من أرقى العوائل، متوازن جداً، لماذا انتحر؟ إلا أن صحفياً واحداً كشف السر، هذا أمضى سبعين عاماً وهو يعتقد أنه لا إله، فلما اكتشف أنه كان مُضللاً، وكان غائباً عن الحقيقة سبعين عاماً احتقر نفسه، لو عاش مسلم مئة سنة مستحيل أن يظهر شيء في الأرض ينقض إسلامه، مستحيل، بالعكس كلما تقدم العلم وكلما تطورت الأمور أكدت حقائق هذا الدين لأنه دين الله، هذه نعمة -أيها الإخوة- لا تعدلها نعمة؛ أنك مطمئن أنه لن يظهر في الأرض تطور علمي أو اكتشاف علمي ينقض ما تعتقده، بينما إذا اعتنقت مذهباً أرضياً أو اتجاهاً أرضياً فقد تُفاجأ أنك على خطأ ولو أمضيت باعتقاده سنوات وسنوات، هذا معنى قوله تعالى: ﴿ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾ معركة رأوها خاسرة، هذا الدين الذي أكرمنا الله به كم مؤامرة دُبّرت عليه؟ والله آلاف المؤامرات، كم فِرقاً ضالة ظهرت كي تحيده عن مساره الصحيح؟! ظهرت وانقرضت وبقي الدين شامخاً، هذا الدين دين الله، كم إنسانًا ادعى أنه أتى بقرآن آخر؟ الآن ببعض المواقع المعلوماتية هناك كلام عن قرآن ليس في كتاب الله -عزَّ وجلَّ-، يكفي أن تقرأه لا تملك إلا أن تضحك فقط، لا تملك إلا أن تضحك لأن هناك فرقاً كبيراً بين كلام الله وبين كلام خلقه، أي محاولة حاولها الطرف الآخر لمحو هذا الدين، في بلاد إسلامية في الشمال جاء رجل أراد إلغاء الإسلام كليّاً، وعمل أشياءً تفوق حد الخيال؛ لا آذان، ولا قرآن، ولا مسجد، ولا شيء ينتمي إلى الدين، حتى الحروف غيَّرها، إذا سافرت إلى هذه البلاد تجدها بلاداً مسلمة، وكل ما فعله -هذا الذي أراد إلغاء الإسلام- لم يُجدِ إطلاقاً، فالنقطة الدقيقة هذا دين الله، لا تستطيع جهة في الأرض مهما تكن قويةً أن تلغيه، يجب أن ييأس الذين كفروا من إلغاء هذا الدين ﴿ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ ﴾ .
إن كان الله معك فمَن عليك؟ وإذا كان الله عليك فمَن معك؟
الآن -أيها الإخوة- هذه المحاولات التي تجري لتغيير مناهج المسلمين، لقمع نشاطاتهم، لتجفيف منابع الخير فيهم، هذه المحاولات لا تنجح لأنه لا يُعقل ولا يُقبل أن يسمح الله لجهة في الأرض أن تفسد على الله خطته في هداية الخلق مستحيل، الله -عزَّ وجلَّ- فعال لما يريد، بيده كل شيء، كُن فيكون، زُل فيزول، أيسمح الله لجهة في الأرض قوية -بلغت قوتها ما بلغت- أن تلغي الدين في الأرض؟ أن تحول بين الناس وبين هدايتهم؟ هل تستطيع جهة أرضية أن تفسد على الله هدايته لخلقه؟ مستحيل، لكن الله لحكمة أرادها يسمح لهؤلاء الأعداء أن يتكلموا فقط، لن ينالوكم إلا أذى، لكنك ينبغي أن تطمئن إلى أن هذا الدين دين الله، ولن تستطيع قوة في الأرض أن تمحوه، سيدنا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- كان مهاجراً من مكة إلى المدينة وقد أُهدر دمه، ووضعت مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، وتبعه سُراقة فإذا بأقدام الخيل تغوص في الرمل حتى لامس بطنها الرمل، وعلم سُراقة أن هذا الإنسان الذي أمامه والذي أراد قتله ممنوع منه، قال له النبي الكريم -وهذه قصة ثابتة في التاريخ- قال له: يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ ما هذا الكلام؟! إنسان ملاحق، مهدور دمه، مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، يقول لسراقة الذي يتبعه: سوف أصل إلى المدينة، وسوف أنشئ دولةً، وسوف أحارب أكبر دولتين في العالم، وسوف أنتصر عليهما، وسوف تأتيني كنوز كسرى، ويا سراقة سوف تلبس سواري كسرى، لولا أنه رسول الله ويرى أن الكون كله بيد الله، وأن الفعل كله فعل الله، وأنه لا ناصر إلا الله، ولا معطي إلا الله، ولا مانع إلا الله، يقول هذا الكلام؟ يتورط بهذا الكلام؟ لو لم يكن رسول الله لكان متورطاً، ما هذا الكلام؟ وفعلاً وصل إلى المدينة، وأسس دولةً، وفتح البلاد، وفي عهد عمر جاءت كنوز كسرى وطلب سراقة، وألبسه بيده سواري كسرى، وقال: "بِخٍ بخٍ، أُعيرابي من بني مدلج يلبس سواري كسرى"، وتحقق وعد الله -عزَّ وجلَّ-.
أيها الإخوة؛ يجب أن تطمئن أنك لست مع جهة أرضية تقوى وتضعف، لا، أنت مع خالق الأكوان، لست مع جهة أرضية تتقدم وتتأخر، تزيد وتنقص، تقوى وتضعف، تغتني وتفتقر، لا، أنت مع خالق الأرض والسماوات، فإذا كان الله معك فمَن عليك؟ وإذا كان الله عليك فمَن معك؟ إخواننا الكرام؛ المؤمن يتمتع بمعنويات عالية جداً.
﴿ وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(139)﴾
وفي تاريخ المسلمين من أدلة أن هذا الدين دين الله وأن الناصر هو الله ما لا يُعد ولا يُحصى، المسلمون حينما فتحوا الأرض كانوا قلةً؛ أربعون ألفاً يواجهون ثلاثمئة ألف وينتصرون عليهم، إذا كنت مع الله كان الله معك، ومهما تصورتم ضعف المسلمين الآن وضعف قوتهم وقلة حيلتهم، مهما تصورتم هَوان المسلمين على بقية الناس، فمثلاً يموت إنسان وتُتهم جهة أنها أسقطت هذه الطائرة، ديته خمسمئة مليون ليرة سورية سوف تُدفع بعد أيام، كل إنسان مات في هذه الطائرة يأخذ خمسمئة مليون، أي أن ديته عشرة ملايين دولار، والآلاف المؤلفة الذين قُتلوا في حروب، وفي أعمال بلا ثمن، مهما تصورتم ضعف المسلمين وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس، ومع ذلك الله -عزَّ وجلَّ- لا يتخلى عنهم، ولكن نحن في محنة مع أنفسنا أيها الإخوة، إذا كنت مع الله كان الله معك، إذا كنت مع الله أنت أقوى جهة في الأرض.
﴿ ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوٓاْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَٰفِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوٓاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ۚ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۗ وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)﴾
﴿ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ﴾ بالكون هناك جهة واحدة ينبغي أن تخشاها هي الله، الله وحده ينبغي أن تخشاه، لا يخافن العبد إلا ذنبه ولا يرجون إلا ربه، فكأن الله يطمئن المؤمنين أنتم إذا كنتم معي لا تخافوا من أية جهة، فلا تخشوهم واخشوني إن كنتم مؤمنين، تصور حلبة مركبات كهربائية وأصحابها يصطرعون، وهناك إنسان بيده قطع التيار، مهما احتدم الصدام بحركة من هذا الإنسان يقف التيار الكهربائي، انتهى كل شيء؛ هذا مثل صارخ، حلبة مواجهة بين سيارات كهربائية في بعض الألعاب، فإذا قُطع التيار توقف كل شيء، فالأمر بيد الله -عزَّ وجلَّ-.
﴿ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾ أي يئسوا من أن ينتصروا على هذا الدين؛ إما انتصار عقائدي أو انتصار ميداني، هناك انتصار علمي أحياناً، قد يأتي إنسان بفكرة تروج لها بعض الصحف والمجلات وهي تضرب الدين في بعض مبادئه، هذا الشيء الذي ظهر ليكون مأخذاً على الدين يتلاشى وحده، سمعتم قبل سنة تقريباً -أنا سميتها فقاعة إعلامية- بموضوع الاستنساخ، أين الاستنساخ الآن؟ ماذا جرى؟ فقاعة وانتهت، لم يظهر حتى الآن شيء يمكن أن يزحزح قناعة المسلمين عن حَرْف في القرآن الكريم، كلما تقدم العلم جاء بكشوف تبين عظمة هذا القرآن وأنه من عند الواحد الديان.
ثم يقول الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا﴾ فالإكمال نوعي والإتمام عددي، أكملت لكم دينكم فلا زيادة، وأتممت عليكم نعمتي فلا نقص، لا يوجد في الدين زيادة ولا فيه نقص، أو مجموع القضايا التي عالجها الدين تامٌّ عدداً، طريقة المعالجة كاملة نوعاً، هذا الدين لا يُستدرك على الله فيه شيء، وأن القضية لم تذكر استدركناها على الله! الإله كماله مطلق: ﴿ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا﴾ أي اليوم أكملت لكم دينكم فلا نقص، إذاً أي إضافة إلى الدين يُعدُّ بدعةً، وأي زيادة يُعدُّ بدعةً، هذا دين الله، لكن هناك من يقول ويتحدث عن التجديد في الدين، كلمة ممكن أن نتداولها ولكن بشرط؛ التجديد: أن ننزع عن الدين كل ما علق به مما ليس منه هذا هو التجديد، أن ننزع عن الدين كل ما علق به مما ليس منه، أما أن نضيف شيئاً فهذا عمل خطير، أو أن نحذف شيئاً فهذا عمل أخطر، لا زيادة ولا حذف لأنه دين الله، ولأن الله عِلْمه مطلق وخبرته مطلقة، فإذا أضفنا كأننا نتهم الله بأنه أنقص شيئاً في الدين أكملناه نحن، وإذا حذفنا كأننا نتهم الله -عزَّ وجلَّ- بأنه زاد في الدين شيئاً ينبغي أن نحذفه، فلا زيادة ولا نقصان، ولكن التجديد يعني أن ننزع عن الدين كل ما علق به مما ليس منه؛ هذا معنى ﴿ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا﴾ فطوبى لمن وسعته السنة ولم تستهوه البدعة، ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبياً ورسولاً.
هذه الآية -أيها الإخوة- أصل بأن هذا الدين كماله مطلق، ولعلماء العقيدة كلمات لطيفة في هذا الموضوع: الأصل في الأشياء الإباحة، ولا يحرّم شيء إلا بالدليل، والأصل في العبادات الحظر، ولا تُشرّع عبادة إلا بالدليل، لا زيادة ولا نقص، الزيادة بدعة والنقص بدعة، والبدعة ضلالة والضلالة في النار، البدعة التي هي ضلالة هي البدعة في الدين، أما لو كبّرنا الصوت هذا بدعة ولكن لا علاقة لها لا بالعبادات ولا بالعقائد، هذه بدعة في اللغة لا شيء فيها يحكمها الشرع، فإذا كانت مباحةً أبيحت، وإذا ابتدعنا شيئاً محرماً فمحرمة، ابتدعنا شيئاً واجباً فهي واجب.
البدعة نوعان: بدعة في اللغة، وبدعة في الدين، في الدين لا زيادة ولا نقص ﴿ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا﴾ ، في الدين يوجد التزام بالنص الذي جاء به القرآن، وبشرح هذا النص الذي ورد عن النبي العدنان، فهذا هو مبدأ كبير من مبادئ عقيدة المسلم؛ لا يقبل زيادة ولا نقصان، الزيادة اتهام بالزيادة، والنقصان اتهام بالنقصان، فلا نزيد ولا ننقص.
معنى آخر: الإتمام عددي، أي عدد القضايا التي عالجها الدين تام عدداً، والإكمال نوعي طريقة معالجة الدين للموضوعات التي عالجها كاملة نوعاً، فالمعالجة كاملة والعدد تام، فلا زيادة في العدد ولا نقص، ولا معالجة أعمق ولا معالجة أطول، المعالجة كاملة والعدد تام ﴿ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا﴾ ، هذه الآية أصل في أن هذا الدين لا يُضاف عليه شيء ولا يُحذف منه شيء، وحينما تضيف أو تحذف إنك تتهم الله وهو الكامل، الذات الكاملة تتهمها إما بزيادة لا مسوغ لها أو بنقص ضروري أن نستكمله، وهذا بحق الله -عزَّ وجلَّ- وبحق كماله مستحيل على الله -عزَّ وجلَّ- ﴿ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى﴾ ، لكن هناك بدعة في اللغة، يمكن أن نكبّر الصوت في المسجد ولم يكن على عهد رسول الله، هذا لا علاقة له بالدين هذا له علاقة بالدنيا، يمكن أن نكيّف الجو في المسجد، يمكن أن نحسّن الإضاءة في المسجد، يمكن أن نأتي بماء ساخن في الشتاء وماء بارد في الصيف، هذه بدع لكنها بدع لغوية، وهناك بدع موقوفة على طريقة استخدامها، فكما أن هذا الجهاز يكبّر الصوت كذلك يكبّر صوت المغني، فهذا متوقف على نوع استخدام هذا الجهاز، إذاً ﴿ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا﴾ .
لكن الله يعلم أن هناك حالات قد تعتري الإنسان، هذا الإنسان كائن يأكل فإذا مُنع عنه الأكل لسبب أو لآخر وأشرف على الموت جوعاً له أن يأخذ بالمحظورات، الضرورات تبيح المحظورات: ﴿فَمَنِ ٱضْطُرَّ﴾ المضطر، ﴿فِى مَخْمَصَةٍ﴾ أي في حالة جوع شديد، طبعاً علاقة نهاية مع أولها: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ ، قال تعالى: ﴿فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ﴾ في حالة جوع شديد يفضي به إلى الموت، الجوع الذي ينتهي بصاحبه إلى الموت، ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ﴾ أي يأكل من لحم الميتة وهو كاره، المتجانف: المائل، غير مائل إلى أكل هذا اللحم لكنه مضطر، ﴿فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ﴾ في حالة جوع شديد، ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ﴾ غير مائل لإثم، ﴿فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لأن الله -سبحانه و تعالى- يقول:
﴿ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَٰفِرِينَ (286)﴾
وهو الذي خلقنا ويعلم حاجتنا إلى الطعام، ففي حالات قد تكون نادرة جداً؛ إنسان ضل الطريق وكاد يموت من الجوع فلم يجدْ إلا دابة ميتة، هل بإمكانه أن يأكل منها؟ نعم، يأكل عند الضرورة الشرعية التي يُخشى بها الموت، أو فَقْد أحد الأعضاء، أو التعذيب الذي لا يُحتمل، أو فَقْد المال كله، هذه بعض بنود الضرورة الشرعية؛ في مخمصة وغير مائل، الذي يترك المعاصي ثم تُتاح له فيفرح ليس هذا، يأكل وهو متألم أشد الألم: ﴿ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ الله -عزَّ وجلَّ- يعفو عنه لأن الحياة مُقدَّمة على كل شيء، رأس مال الإنسان حياته، فهذا مِنْ دفع الحرج عن المؤمنين، في حالات نادرة جداً بإمكانه أن يأخذ بالذي حرّمه الله عليه للضرورة القصوى الشرعية وكُرْه هذا الشيء، يوجد شيء آخر: العلماء قالوا: الضرورة تقدر بقدرها، فإذا كاد أن يختنق بغصة في حلقه ورأى كأساً من الخمر فشرب منه كمية قليلة جداً دفعت هذه الغصة لا ينبغي أن يشرب كل الكأس؛ الذي يسمح له أن يمرر هذه الغصة، فالضرورة تقدر بقدرها، والضرورات الشرعية تبيح المحظورات، وهذا الأصل في كتاب الله.
الملف مدقق