- العقيدة الإسلامية
- /
- ٠1العقيدة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الفرق بين النبوة والعبقرية وما شابه ذلك:
وصلنا في الدرس السابق في موضوع الإيمان بالرسل إلى موضوع دقيق هو الموازنة بين النبوة والعبقرية, فأعداء الإسلام يصفون النبي عليه الصلاة والسلام بأنه عبقري، يعني متفوق في ذكائه، واستطاع بما أوتيّ من عبقرية أن يجمع الناس حوله هذا ادعاء أعداء الإسلام, ولكن النبوة شيء والعبقرية شيء آخر, والنبوة شيء والملك شيء آخر, في موضوع الفرق بين النبوة والملك,
" دخل سيدنا عمر رضي الله عنه على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مضجعاً على حصير أثّر في خده الشريف, فبكى عمر وقال: رسول الله ينام على الحصير وكسرى ملك الفرس ينام على الحرير, فقال النبي عليه الصلاة والسلام: " يا عمر إنما هي نبوة وليست ملكاً, أما ترضى أن تكون الدنيا لهم والآخرة لنا " ؟
الفرق بين النبوة والعبقرية, أن الإنسان العبقري مهما كان ذكاؤه حاداً، مهما تكن قدراته كبيرة, هو إنسان نجد في كلامه بعض السقطات, فإذا كان الموضوع موضوع عبقرية فلا يخلو عبقري من سقطة في فكره أو في تعبيره, وهذا مما بُريء منه النبي عليه الصلاة والسلام, أيضاً تاريخ العظماء في العالم يؤكد لنا أن هناك بعض السقطات الخُلُقية، فالمربي الكبير الذي درسنا عن نظرياته في الجامعة - جان جاك روسو - له انحرافات خلقية شاذة, فكيف يصلح أن يوازن النبي مع العبقري؟
أحد علماء نفس الطفل يُعدُّ أول عالمٍ في العالم, إن مُعظم كتبه تدرس في أكثر جامعات العالم, قال عنه بعض من التقاه: إنك إذا حدثّته في موضوع آخر غير اختصاصه بدا لك وكأنه طفل, فالعبقري الذكي مهما ارتفع شأنه، مهما اتسعت قدراته، لابد من سقطة في فكره, أو في قوله، أو في عمله، وهذا لا يصلح أن يكون نبياً أو داعياً للخير بإذن الله, فالنبوة شيء والعبقرية شيء آخر.
كبار العلماء في العالم " فرويد " هذا من كبار العلماء في علم النفس, فسّر الحياة كلها تفسيراً جنسياً لدرجة أن ما جاء به من نظريات يدعو إلى الضحك والسخرية, فالأنبياء على حد زعمه مصابون بانحراف خلقي، لأنهم يرغبون أن يجلسوا مع الرجال لا مع النساء رأي هذا العالم الخبير.
" دارون " جاء بنظرية تغيير معالم الكتب المقدسة: أن أصل الإنسان قرد وهذا مما ثبت بطلانها, ولكن أراد بهذه النظرية أن يُهوّش على المسلمين وغير المسلمين عقائدهم الدينية.
إذاً: العباقرة بمقياس البشر, لابد من أن يكون في أفكارهم أو في أخلاقهم أو في أقوالهم سقطات, وهذه السقطات لا تجعلهم مؤهلين أن يبلغوا الناس الشرع الإلهي, إذن العبقرية شيء والنبوة شيء آخر.
العبقرية مبنية على حدود معينة أما النبوة مبنية على التبليغ بما شرعه الله:
أن النبوة لو أنها عبقرية على حدّ قولهم, فالإنسان هو الإنسان ينظر إلى الشيء من وجهة نظرٍ خاصة, فإذا كان هذا العبقري ذا منبت طبقيّ فقير رأى الأمور بمنظار الفقراء, ولو كان هذا العبقري ذا منبت من نوع آخر لرأى الأمور من زاوية معينة, فالإنسان يصعب أن يكون حيادياً إذا نظر وإذا فكّر وإذا شرّع, لا بد من أن ينظر إلى الأشياء من وجهة نظر خاصة، ولا بد أن ينحاز إلى جهة دون أخرى, ولا بد من أن يرعى مصالح فئة دون أخرى, لو أن النبي إنسان عبقري لما كان شرعه كاملاً, فكل إنسان يتصرف بحسب واقعه, فالذي يملك سيارة يقول لك: الطرق ازدحمت يجب أن يحدّ من استيراد السيارات, أما الذي لا يملك يرفض هذا التوجيه لماذا؟ لأن الإنسان لا يخرج من واقعه, ولا من بيئته, فينظر إلى الشيء بحسب رؤيته له, هذا الإنسان مهما كان ذكياً ليس مؤهلاً أن يكون مشرعّاً للناس, لأنه سينظر لكل شيء من زاويته هو, فيأتي شرعه منحازاً إلى فئة دون أخرى، ينطلق من وجهة نظر دون أخرى, يرعى مصالح فئةٍ دون أخرى, لكن النبي معصوم عن الخطأ, لأن الله سبحانه وتعالى عصمه, فالعبقرية لا علاقة لها بالنبوة, النبوة شيء والعبقرية شيء آخر, النبي إنسان اصطفاه الله سبحانه وتعالى ليُبلّغ الخلق شريعة ربّ العالمين, هذه الشريعة من عند حكيم خبير, من عند خالق لا من عند مخلوق, فلو أن الشريعة من عند مخلوق لحابت أناساً دون أناس، لنظرت من وجهة خاصة دون وجهة أخرى.
فلذلك من الخطأ الفادح ومن الضلال المبين أن تصف النبي بأنه عبقري, هو نبي, هو إنسان اصطفاه الله سبحانه وتعالى, اصطفاه على علم وعصمة، عصم لسانه وأفعاله من أن تكون مجانبة للحق, لأنه سيشرع للناس من عند الله سبحانه وتعالى, فهذه الشبهة وهذه الفرية التي يطرحها بعض أعداء الدين من أن محمداً عبقري, نقول: هو نبيّ مرسل وكفى, لأنه لا يصلح للتشريع إلاّ الخالق:
﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾
التشريع البشري ناقص أما التشريع الرباني كامل:
أكبر مثل أمامنا الأوربيون رأوا أنفسهم كما يدعي بعضهم أنهم آلهة الأرض، العلم هو كل شيء, فتقدم العلم عندهم تقدماً هائلاً, وأطلقوا للإنسان أن يفعل ما يشاء إرضاء لشهواته ونزواته, فحطمّوا كل القيود, مبدأُهم مبدأ اللذة, اقتناص اللذة حيثما وجدت وبأي ثمن, ماذا حلّ بهم؟ تقطعت أواصر القربى فيما بينهم, تحطمت العلاقات الأُسرية المقدسة, تفتت الأسرة, شاع الطلاق, لا يدوم الزواج في بعض البلاد الأمريكية أكثر من سنتين لشدة تفلت الزوجة والزوج من قيود الأخلاق, فالشيء الدقيق أن الله سبحانه وتعالى قال:
﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾
إذا اشتريت سيارة, ومع هذه السيارة نشرة دقيقة توضح لك طريقة استعمالها، وطريقة قيادتها، وطريقة صيانة أجهزتها، ومتى يجب أن تزودها بالوقود والزيت، ومتى يجب أن تغير بعض القطع المستهلكة استهلاكاً شديداً, أي إنسان مؤهل أن ينصحك في هذا الموضوع أفضل من صانع السيارة ؟ قال تعالى:
﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾
أريد أن أصل إلى حقيقة: أن الإنسان مهما كان عبقرياً، مهما كان موضوعياً، مهما كان نزيهاً، ليس مؤهلاً أن يضع تشريعاً للناس, لأنه لا بد من كبوة، لا بد من سقطة في خلقه, لكن النبي عصمه الله سبحانه وتعالى من الغلط بكل أنواعه, اصطفاه على علم, وأوحى له بالهدى، وأمره بالتبليغ وعصمه من كل غلط, لذلك يُعد ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام مصدراً تشريعياً للناس.
كما يستحيل أن يُلم العبقري بكل جوانب الحياة, فهذا عبقريته عسكرية, وهذا عبقريته سياسية، وهذا عبقريته في الأخلاق، وهذا عبقريته في التشريع، وهذا عبقريته مثلاً في الفكر، وهذا عبقريته في النظريات المجردة, فكل عبقري نمت عبقريته في جانب من جوانب الحياة، لكن النبي لأن الله اصطفاه, ولأن الله أوحى إليه, فكل ما جاء به متوازن يُغطي كل مناحي الحياة, كل نشاطاتها، كل اتجاهاتها، هذا من عظمة الأنبياء والرسل الذين اصطفاهم الله لنا.
الفرق بين ما تأتي به النبوات وبين ما تأتي به الفلسفات:
العلاقة بين ما تأتي به النبوات وبين ما تأتي به الفلسفات, لو اطلعتم على تاريخ الفلسفة لوجدتم أن هناك نظريات مضحكة جاء بها الإغريق والرومان, لو أنك عرضت هذه النظريات التي جاءت بها الفلسفات المتعددة لوجدت فرقاً شاسعاً بينها وبين العدل والحق, لوجدت بينها اختلافاً كبيراً, لوجدت بعضها خرافياً, لوجدت بعضها منحرفاً, اطلعت في هذه الأيام على مقالة عنوانها " من غرائب المعتقدات " قلت: هذه المقالة تؤكد, كيف أن البشر من دون وحي إلهي, من دون هدى رباني يتيهون في ضلالات عمياء, فقال: في بلاد الهند ما يزيد عن أربعمئة ديانة, لنأخذ إحدى هذه الشرائع وهي ديانة الهندوس, قال: إن القانون هناك يُحرّم قتل البقرة أو أكل لحمها, والجزاء هو السجن مدى الحياة, فالبقرة تُترك لتموت, ولا يُؤكل لحمها، فإذا دهسها سائق من دون نية أو دون قصد, فلا بد أن يدخل السجن عاماً بأكمله, ويدفع غرامة تزيد عن ثلاثة آلاف, ويضاعف الجزاء إذا تكرر العمل، حينما بعدوا عن شريعة السماء وقعوا في متاهة عمياء, قال: الناس هناك لا يمنعون البقرة من أكل حوائجهم رغم ما يعانونه من فقرٌ شديد، فإذا دخلت البقرة إلى حانوت, وأكلت ما لّذ وطاب من هذه الفاكهة المعروضة، فإن هذا يسعد صاحب الحانوت، ولو أنها أكلت كل ما في الحانوت من فواكه, وعاد هو إلى البيت طاوياً من الجوع إنه سعيد جداً, لأن بركة البقرة حلت في حانوته، قال: بل يفرحون بذلك ويتركونها تعمل ما تشاء تيمناً وتبركاً حتى ولو هلكوا جوعاً.
أحد الباحثين تقصّى حقيقة هذه العبادة, فقال: سأل بعض الخبراء في هذه الديانة فقال: إننا نعتقد بوجود مشكلات كثيرة تأتي للإنسان بعد الموت, وأن أمامنا أنهاراً لا نستطيع عبورها, فإذا وقفنا لنجتاز هذه الأنهار إلى الجنة كانت هذه الأنهار عقبة بيننا وبين الجنة, فتأتي البقرة ونمسك بذنبها فتقودنا إلى الجنة, هذا سر اعتقادهم بالبقرة، لذلك نسجد لها ونحبها لأنها تسبح بنا إلى عالم آخر, هذه من معتقدات الهندوس, ونحن نسجد مرة في السنة للكلاب, وخاصة كلاب الحراسة, ونعمل لها أطواقاً من الزهور نعلقها في أعناقها, ولا نتعرض للكلاب بأذى أبداً، لماذا قال: سر هذا الاعتقاد أن هذا الكلب هو الذي يدخلهم الجنة بعد الموت, كيف؟ قال: لأنه يحرس الجنة، فإذا جاء هذا الهندوسي يوم القيامة, وكان قد أحسن لهذا الكلب في الدنيا، سجدَ لهُ، أكرمه، أطعمه، فإن هذا الكلب يأخذ بيده ويدخله الجنة, لأن الجنة كما يزعمون تحت أقدام الكلاب, قال: فإنهم يحترمون الكلب, ويقدمون له المأكولات, هذه الفلسفات, في غياب الوحي السماوي، في غياب الهدى الرباني، في غياب توجيه الله سبحانه وتعالى يهبط الإنسان إلى هذا الدرك من السخف، ومن الغباء، ومن الخرافة، ومن الدجل, فلذلك لا يمكن أن تعتمد على الفلسفات وحدها, لأن الفلسفات وحدها قد تؤدي بنا إلى الهاوية, قد يأتي الإنسان الفيلسوف بنظريات مضحكة، أبو العلاء المعري فيلسوف تسمعون به، شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء, هذا حرّم اللحم على نفسه هكذا, غاب عنه أن هذا المخلوق إنما خُلق من أجل الإنسان, وأنه إذا قدّم لحمه للإنسان سيسعد بهذا التقديم إلى الأبد, قال تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ﴾
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾
﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾
عدّ الزواج وإنجاب الأولاد جناية, لو تركنا الفلاسفة يتحدثون على أهوائهم لوصلنا معهم إلى خرافات, وإلى سقطات, وإلى انحرافات ما أنزل الله بها من سلطان.
إذاً: الفلسفات في غياب الدين أكثرها تنطوي على التناقض والتهافت ومخالفة الواقع, وتنطلق من وجهات نظر متباينة، ومنطلقة من واقع محدد لا يصلح أن يعمم على أهل الأرض هذا أيضاً من سقطات الفلسفة.
الفلسفة لا تصلح إلا للعصر التي تعيش فيه أما الدين يصلح لكل زمان ومكان:
تشريع حمورابي، الفلسفة الإغريقية، لا تصلح لهذا العصر، لأنها نبعت من بيئة معينة, لكن الدين الذي جاء به النبي من عند الله، يصلح في كل زمان ومكان, لا يتغير, ينطلق من قيم ثابتة, من معطيات ثابتة، ما جاء به القرآن الكريم، وما جاء به من حكم وحقائق، لا يستطيع أهل عصره أن ينقضوها, ولا أهل العصور اللاحقة، لأنه من عند الله، حينما قال ربنا عزّ وجل عن العنكبوت:
﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
الآن عرفوا أن التي تنسج البيت هي الأنثى، لو كان من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: نسج بيتاً, قام بهذا العمل الذكر لا الأنثى, وأثبت العلم خلاف ذلك، فمعنى ذلك أن هذا الكتاب ليس من عند الله, الآن اكتشفوا أن العسل ألوان معروفة, لكن كل لون من ألوان العسل يشير إلى نوع من أنواعه, وأن كل نوع من أنواعه يشفي مرضاً معيناً قال الله:
﴿ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
الشرائع السماوية أصلها واحد أما النظريات الفلسفية فحواها التنافس والاختلاف:
الشرائع السماوية لا تختلف عن بعضها بعضاً من حيث الأصول, هذا يؤكد أنها جميعاً من عند الله لذلك قال تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
دعوة الأنبياء واحدة، فحوى رسالات الأنبياء واحدة، الحلال حلال، والحرام حرام في كل رسالات السماء, بينما في النظريات الفلسفية تجد التنافس والتباين والاختلاف والزيغ والانحراف هذا كله واضح في الفلسفات، وأما بحوث الفلاسفة في أمر الغيب فهذا ضرب من الحدس والتخمين، أنى لهذا الفيلسوف أن يعلم الغيب, أنى له أن يعلم ما سيكون بعد الموت, أنى له أن يعلم ما كنا عليه في عالم الأزل، أنى لهُ أن يعلم تاريخ البشرية، لكن الأنبياء بما جاءهم من تشريع سماوي عرّفونا في عالم الأزل, وبتاريخ الأمم والشعوب, وبما ينتظر الإنسان بعد الموت من جنة أو نار، من برزخٍ، من حساب، من صراط مستقيم، من أشياء كثيرة, لولا أن الأنبياء جاؤوا بها لكنّا نحن في عمى عن هذه الحقائق.
لما لم تكن رسالة الأنبياء محملة بالمعارف والعلوم الكونية:
قد يسأل سائل: لما لم يكن البشر بحاجة إلى أنبياء يحملون للناس المعارف والعلوم الكونية؟ يا ترى القرآن كتاب رياضيات؟ لا, كتاب فيزياء؟ لا, كتاب كيمياء؟ لا، كتاب فلك؟ لا, كتاب علم اجتماع ؟ لا, الكتب السماوية التي جاء بها الأنبياء ليست كتباً علمية تحمل المعالم والمعارف الكونية, حكمة ذلك: كلكم يعلم أن الإنسان فيه ثلاث دوافع:
1- دافع البقاء.
2- دافع إلى بقاء النوع.
3- دافع إلى بقاء الذكر.
فبدافع البقاء نأكل ونشرب، وبدافع بقاء الجنس بقاء النوع نتزوج ونتوالد، وبدافع بقاء الذكر نعمل أعمالاً لتخلد أسماءنا, فكل إنسان ينطوي على هذه الدوافع, فبحكم هذه الدوافع يسعى لإعمار الأرض من أجل أن يأكل.
أيها الأخوة, لو أن دافع الجوع غير موجود في الإنسان لما وجدت على الأرض شيئاً, لماذا العمل؟ لا أحد يعمل, من ينسج لك هذا القميص؟ لا أحد, من يبني لك هذا البيت؟ لا أحد, من يزرع لك النبات؟ لا أحد, بدافع الجوع يدفع الناس إلى العمل, والعمل يتبعه الخبرة, والخبرة تعمق العمل, فالإنسان بحكم دوافعه الفطرية سيتعلم العلوم الأرضية, لأن هذه العلوم الأرضية هدفها إعمار الأرض فقط, وهذه العلوم الأرضية لا تنفعه بعد الموت, تنتهي كل إنجازاتها في الحياة الدنيا, لكن الناس بحاجة إلى أن يعرفوا ربهم, وأن يعرفوا مهمتهم, وأن يعرفوا علّة خلقهم, وأن يعرفوا هدفهم, جاءت الكتب السماوية لتعرف الإنسان بربه، جاءت لتعرفه بمهمته، جاءت لترسم له طريق السعادة، جاءت لتطرح عليه أوامر الله عزّ وجل ونواهيه, هذا الذي يقول لك: إن كل النظريات وكل العلوم في القرآن موجودة, هذه شحطة, القرآن كتاب هداية ورشد وليس كتاب علوم, لكن أحياناً في لفتات إلى بعض أصول العلوم وليست الفروع مذكورة, فأن تبحث في القرآن الكريم عن فروع العلوم, هذا شيء مستحيل, لأن هذا مناقض لمهمة هذا الكتاب المقدس الذي بين أيدينا, مهمته إرشادنا إلى ربنا:
﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾
﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴾
قال:
﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾
تكلم عن الماء فقال:
﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾
لَفَتَ نظرك أن تخزين الماء شيء مستحيل عليك, هل فكرت في هذه النعّمة؟ القرآن أساسه كتاب هداية، كتاب يلفتنا إلى الله سبحانه وتعالى, لكن فيه صور دقيقة وإشارات دقيقة للعلوم التي بثها الله في الأرض، من دون أن يكون فيه تفصيل كل شيء في أمور الدنيا, فلذلك بُنيت الشرائع على إصلاح النفوس, وعلى تعريفها برب السموات والأرض, وحملها على الالتزام بتطبيق أوامره, واجتناب نواهيه.
لا زلنا في موضوع الأنبياء والرسل, وسوف نتابع هذا الموضوع إن شاء الله تعالى في درس قادم.