- العقيدة الإسلامية
- /
- ٠1العقيدة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
المرحلة الثانية من مراحل اليوم الآخر وهي ما بعد الموت:
1- عالم البرزخ:
أيها الأخوة، وصلنا في الدرس الماضي في موضوع اليوم الآخر إلى المرحلة الثانية من مراحل ما بعد الموت، ألا وهي البرزخ، وتحدثنا عن الساعة، وهي نهاية الحياة الدنيا، وبداية الحياة الآخرة، وهناك مرحلة بين الدنيا والآخرة, وهي مرحلة انتقالية سماها القرآن الكريم البرزخ، قال تعالى في سورة المؤمنون:
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
ففي هذه الآية تصريح بأن ما بين الموت، وبين البعث مرحلة زمنية اسمها البرزخ.
أحوال البرزخ:
1- عذاب القبر ونعيمه:
فماذا في البرزخ؟ في البرزخ نعيم مقيم، أو عذاب أليم، لو أن قاضيًا أصدر حكماً بالإعدام، ماذا يوجد بين إصدار الحكم وتنفيذه؟ حالة من الشقاء النفسي، هذا الذي يصدر في حقه حكم بالإعدام، إلى أن يُطبق عليه الحكم يموت كل يوم ميتتين أو ثلاثًا، وكلما وُضِع المفتاح في الباب يظن أنهم جاؤوا لينفذوا فيه حكم الإعدام, فما الذي يؤكد أن في البرزخ نعيم، أو عذاب أليم؟ الآية التالية من سورة الجاثية، وهي قوله تعالى:
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾
فموت هذا ليس كموت هذا، وحياة المؤمن غير حياة الكافر، المؤمن حياته طمأنينة، فيها رضاء، واستسلام، وتوكل، وتفويض، و تسليم، وسعادة, وتفاؤل، موعود بجنة عرضها السموات والأرض، أمّا حياة الكافر فيسودها القلق، والقهر، والشعور بالحرمان، وخوف الفقر، أو خوف المرض، أو خوف المصيبة، فشتان حينئذٍ بين حياة المؤمن وحياة الكافر، هذا لا شك فيه، هذا شيء نعرفه جميعاً، ونعيشه، لكن الآية تشير إلى هذا, والدليل:
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾
فالتسوية بين الفريقين المذكورين في الممات مستحيلة.
الأدلة الواردة من الكتاب والسنة على عذاب القبر ونعيمه:
يقول الله عزّ وجل في شأن آل فرعون في سورة غافر:
﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾
فرعون، ومن معه منذ ستة آلاف عام، وإلى يوم القيامة يعرضون على النار غدواً وعشياً، ستة آلاف عام اضربوها بثلاثمئة وخمسة وستين يوماً، ثم اضربوا الناتج باثنين، ينتج عدد مرات عرض فرعون ومن معه على النار, قال الله:
﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾
هذه الآية أصلٌ في عذاب القبر، لذلك ربنا عزّ وجل يقول:
﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾
﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾
أصحاب اليمين أنفسهم طليقة، بينما أهل النار أنفسهم رهينة بأعمالهم.
أحاديث للنبي عليه الصلاة والسلام كثيرة، وصحيحة تؤيد عذاب القبر، أو نعيمه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
" إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "
الإنسان له مقعد بعد الموت، فإما أن يكون هذا المقعد مقعد أهل الجنة، وإما أن يكون هذا المقعد مقعد أهل النّار، يجلس عليه إلى أن يبعثه الله يوم القيامة.
عن عبد لله ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بقَبْرَيْنِ, فَقَالَ:
" إِنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا هَذَا فَكَانَ لا يَسْتَنْزِهُ مِنْ بَوْلِهِ وَأَمَّا هَذَا فَإِنَّهُ كَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ "
وما من شيء يفتت العلاقات الاجتماعية، ويفّرق بين الأهل, وبين الزوج وزوجته، والأخ وأخيه، والأب وابنه, والأم وابنتها مثل النميمة، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ, قَالَ:
" كُنَّا فِي الْبَحْرِ وَعَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الْفَزَارِيُّ وَمَعَنَا أَبُو أَيُّوبَ الأنْصَارِيُّ فَمَرَّ بِصَاحِبِ الْمَقَاسِمِ وَقَدْ أَقَامَ السَّبْيَ فَإِذَا امْرَأَةٌ تَبْكِي فَقَالَ مَا شَأْنُ هَذِهِ قَالُوا فَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيـْنَ وَلَدِهَا, قـَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأحِبَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "
فأي تفريق بين متحابين، بين زوجين، بين أخوين، بين شريكين، بين جارين، بين موظفين، بين زميلين، التفريق بينهما جرم كبير عند الله عزّ وجل, لذلك كانت النميمة هي السلاح الفعال لتفتيت المجتمع، قال عليه الصلاة و السلام:
" لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ "
يقول الله سبحانه وتعالى:
ِ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾
وفي معنى آخر:
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾
أي أصلح أنت كل علاقة بين اثنين لست أنت أحدهما، أصلحْ بين أخويك، أصلح بين جيرانك، أصلح بين أولادك، أصلح بين بناتك، فالآية دقيقة جداً:
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾
تلاحظون أن كل الذي ذكرته من تعريف البرزخ، ومن عذاب أهل الكفر في القبر، ومن نعيم أهل الجنة في القبر, مؤكَّدٌ بآيات قرآنية، وبأحاديث صحيحة رواها البخاري ومسلم.
هل عذاب القبر ونعيمه جسماني وروحاني معاً, أي على النفس والبدن ؟
كيف يكون العذاب؟ وما طبيعة هذا العذاب؟ هل هو عذاب مادي؟ هل هو عذاب نفسي ؟ هذا لا نعرف عنه شيئاً، لأننا في هذه الموضوعات ليس لنا إلا أن نؤمن بالخبر الصادق الذي ذكره الله عزّ وجل، وما سوى الخبر الصادق مِن التحليلات، والزيادات، والإضافات هذا كله لا يقدِّم، ولا يؤخر، بل إن علماء العقيدة قالوا: أي زيادة في المغيّبات عن الخبر النصّي فهي زيادة ظنية، ليس لها مستوى اليقين.
لذلك, كيف يكون العذاب؟ كيف يكون النعيم؟ هذه أمور غيّبها الله عنا، ولكن الشيء المطلوب أن يكون عملك صالحاً، حتى تعرف معرفة يقينية بعد الموت كيف يكون النعيم؟ لكن أنا حتى أقرب لك الموضوع, أقول: أحياناً تأوي إلى فراشك، وأنت في حالة عادية، ترى رؤيا لا تحب أن تستيقظ من شدة السرور بها، تشعر إن رأيت النبي عليه الصلاة والسلام بالسعادة التي تحصلها من هذه الرؤيا سعادة لا توصف، إن رأيت أصحاب رسول الله، إن رأيت من تحبهم مِن المؤمنين، إن رأيت نفسك قد وصلت إلى آمالك، وإن الله عزّ وجل قادر على أن يسعدك سعادة ملموسة حقيقية، وأنت في فراشك، وبالمقابل فإنّ الله سبحانه وتعالى قادر على أن يذيق الإنسان في أثناء النوم مِن ألوان العذاب، ومن ألوان الخوف، ومن ألوان الاضطهاد، ومن ألوان القلق ما لا سبيل إلى وصفه، يسمونها كوابيس، واللهُ عزّ وجل جعل النوم مثلاً لنا، كيف يمكن أن يعذَّب الإنسان عذاباً شديداً من دون أن يكون للجسد أثرٌ فيه, في النوم؟ لكن عذاب الآخرة عذاب مادي قولاً واحداً، وعذاب نفسي، قال تعالى:
﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾
طبيعة العذاب في القبر, لم يرِد فيها نص قرآني يوضح طبيعته، لكن العذاب موجود، والنعيم موجود، وطبيعة العذاب، وطبيعة النعيم تُترك إلى حينها.
2- بيان سؤال منكر ونكير مع الدليل:
سؤال القبر من قِبَل الملكين منكر ونكير، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الإنسان المكلف إذا مات, جاءه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما المنكر، ويقال للآخر النكير، فيسألانه الأسئلة التالية:
من ربك؟ قد يقول أحدكم: الجواب سهل, أقول: الله ربي.
ما دينك؟ الإسلام ديني.
ماذا تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم, أي سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؟ هو نبي الرحمة.
لكن الحقيقة, هذه اللغة التي تستخدمها في الدنيا لا تستطيع أن تستخدمها في القبر، فأنت في القبر لا تنطق إلا بلغة الحال، فمَن كان دينه الدرهم والدينار في الدنيا، إذا سُئل: ما دينك؟ يقول: الدرهم والدينار، والذي كان دينه في الدنيا الشهوات إذا سُئل؟ يقول: النساء، والذي كان دينه الإفساد بين الناس إذا سُئل؟ يقول: ديني الإفساد بين الناس, لذلك, ليس هناك كذب في الآخرة, فطبيعة اليوم الآخر, لا تحتمل تزييف الحقائق، ولا تغيير الحقائق, قال الله:
﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
لذلك طلب أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن تدركه الوفاة, قميص النبي عليه الصلاة والسلام ليكفَّن به، فقالوا: لِمَ طلبت هذا القميص؟ قال: إذا قال لي الملكان: من ربك؟ أقول: الله ربي، وما دينك؟ أقول: الإسلام ديني، ما تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ أقول: هذا قميصه، لكن بعض المنافقين الذين كانوا يجلسون إلى جنب النبي عليه الصلاة والسلام، وكانوا رأس الفتنة في المدينة، حينما جاءتهم المنية, قال عليه الصلاة والسلام: الآن استقر في جهنم حجر كان يهوي فيه سبعين خريفاً، وقد طلبوا قميص النبي، وأعطاهم النبي قميصه، وقال:
" وما يغنيكم قميصي من عذاب الله "
أي كن موضوعياً، تعلق بجوهر الدين, فلو أنك ارتديت قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن في المستوى المطلوب، لما نفعك هذا القميص.
أما المؤمن فيجيب عليها بما آمن به في الدنيا مِن حق، يعرض عليه مقعده من الجنة، بعد أن يُعرض عليه مقعده من النار، لو لم يكن قد مات مؤمناً، وذلك تثبيتًا لقلبه، وتنعيماً له، ويُفسح له مد نظره، أي أن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران، وأما المنافق والكافر, فيقول: هاء, هاء, لا أدري، فيُقال له: لا دريت ولا تليت, ويُضرب بمطارق من حديد، يصيح منها صيحة يسمعها مَن يليه غير الثقلين، أي يسمع صيحته مَن يليه من الملائكة والموتى غير الإنس والجن، كما يضيق عليه تعذيباً له، فيختلف عليه القبر، حتى تختلف أضلاعه معه. فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
" إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ "
فالإنسان بعد الموت يرى كل شيء، ويسمع كل شيء، فأنا أعتقد أن روح الميت ترفرف فوق النعش، ترى المشيعين واحداً واحداً، ترى مَن يبكي، ومن لا يبكي، ترى من يعلن عن حزنه، ومن لا يعلن، ترى أن فلانًا، وفلانًا كانا يتحادثان في الجنازة.
وقد قال أصحاب النبي عليه الصلاة السلام عقب معركة بدر الكبرى، وقد توجه إلى قتلى بدر يخاطبهم: يا عقبة بن شيبة، يا أمية بن خلف، يا فلان، يا فلان، يا فلان، هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً، لقد كذبتموني، وصدقني الناس، وأخرجتموني، وآواني الناس، وخذلتموني، ونصرني الناس، فدهش أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وقالوا:
" يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تُكَلِّمُ قَوْمًا جَيَّفُوا فَقَالَ مَا أَنْتُمْ بِأَفْهَمَ لِقَوْلِي مِنْهُمْ أَوْ لَهُمْ أَفْهَمُ لِقَوْلِي مِنْكُمْ "
لذلك عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام:
" الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولانِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الـرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ لا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلا الثَّقَلَيْنِ "
وقد حدثتكم من قبــل, عن أن أول ليلـة يوضع الميت فيها في قبره أنها أصعب ليلة، تصور إنسانًا يسكن في بيت، ينام على فراش وثير، عليه ملاءة بيضاء، ناصعة كالثلج، وقد تكون معطرة أحياناً، يجلس إلى طاولة ليتناول الطعام، وعلى هذه الطاولة ما لذّ وطاب، حوله زوجته وأولاده، قد يأتيه ضيف يعظمه، ويبجله، وقد يُدعى إلى سهرة، إلى ندوة، إلى نزهة، فما قولكم إذا سُحب هذا الرجل, ليوضع في حفرة لا نور فيها، ولا دفء، ولا اتساع ؟ لذلك, الإنسان حينما يوضع في قبره أول ليلة,
" يقول الله عزّ وجل: عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت "
إنك صائر إلى الله عزّ وجل، فالمفروض عليك أن تحسن علاقتك به من الآن.
جاء في حديث آخر, أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَوْ قَالَ أَحَدُكُمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لأحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ وَالآخَرُ النَّكِيرُ فَيَقُولانِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ "
هناك قصة رمزية: أن إنسانًا غنيًا وافته المنية، خاف أولاده من هذه الليلة الأولى التي يوضع فيها في القبر، فرأوا إنساناً فقيراً معدماً، وعرضوا عليه أن ينام هذه الليلة مع أبيهم، ويعطونه مبلغاً كبيراً، وهذا فقير, محروم، بائس، رضي بالعرض، فنام إلى جنب هذا الميت الغني، جاء الملَكان، فرأوا منظراً غريباً، العادة يُدفَن واحد في القبر، والآن هناك اثنان, فقال أحدُهم للآخر: أرى اثنين، فارتعب الرجل، فحرّك قدمه، فقال: وأيضاً أشاهده حياً، فلنبدأ به، أجلساه، وكان له حبل قد ربط ثوبه به، فسألاه: مِن أين لك هذا الحبل؟ فقال: وجدتها، أين وجدتها؟ قال: في بستان، كيف دخلت إلى هذا البستان؟ استأذنت من صاحب البستان؟ سؤال وراء سؤال، ثم انهالوا عليه ضرباً، فلما جاء الصباح خرج من هذا القبر، وهو لا يلوي على شي، ويقول: أعان الله أباكم.
فلذلك, موضوع عذاب القبر شيء مخيف، وهناك حديث آخر, أخرجه البخاري ومسلم عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أن النبي عليه الصلاة والسلام, قال:
" (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ "
الأحاديث في هذا الباب متعددة، يكمل بعضها بعضاً، وعلى كل الأسئلة معروفة لدينا، الأسئلة قد سربت إلينا، ما علينا إلا أن نعد للإجابة عن هذه الأسئلة، والإجابة لا تكون بلسان المقال، بل بلسان الحال.
2- النفخ في الصور, وله حالتان:
1- النفخة الأولى:
هنالك النفخة الأولى، والنفخة الثانية, كل هذه الحقائق، وكل هذه المعلومات مأخوذة من كتاب الله سبحانه وتعالى، ولقد أخبرنا الله تعالى بأنه ستحدث نفختان في الصور، وعندها يكون إنهاء النظام القائم في الحياة الأولى، وقد جاء التعبير عن وقت هذا الإنهاء بالساعة، أي لدينا أول نفخة تنتهي بها الحياة الدنيا، ويُصعق كل مَن عليها، ولو فرضنا أنه أتى يوم القيامة، والناس في بيوتهم، وفي الشوارع، وفي الطرقات، وفي محلاتهم التجارية، وفي النزهات، وفي المصايف، وبعضهم على البحر، وآخرون على الجبل، فكيف يموت هؤلاء؟ يموت الناس كلهم دفعة واحدة بهذه النفخة الأولى, قال الله:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾
ما من عاطفة على وجه الأرض أشد, وأبلغ من عاطفة الأم على ابنها، ولا تكون هذه العاطفة في أعلى درجاتها إلا في أثناء الإرضاع، لم يقل الله عزّ وجل: يوم ترونها تذهل كل مرضع, بل قال:
﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾
لو قال الله عزّ وجل: كل مرضع، لقصد المرأة المرضع التي هي في طور الإرضاع، أي بعد أن تولد، خلال أيام ثدياها يدران الحليب، نقول: هذه امرأة مُرضع، لأن كل صفة خاصة بالنساء لا تؤنث، تقول: معلم ومعلمة، لماذا تؤنث المعلم، لأن في الحياة معلم ومعلمة, عامل وعاملة, حامل وحاملة, فما دامت الصفة يشترك بها الذكر والأنثى تؤنث عندئذٍ، أما إذا انفردت الأنثى بصفة ما، فهذه الصفة لا تؤنث، تقول: امرأة بكر، وامرأة ثيب، وامرأة طالق، وامرأة حامل، فكل صفة خاصة بالنساء لا تؤنث, بل تذكر، أما الفرق بين امرأة حاملة, وامرأة حامل فهو فرق دقيق، الرجل يحمل مع المرأة، فإذا قلت: امرأة حاملة، أي على ظهرها، وإذا قلت: امرأة حامل، أيْ في بطنها, قال تعالى:
﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾
هي في الأساس مرضع, لأن المرأة الآن تحمل الغلام، وتضعه على صدرها، وهذا بإمكانه أن يفعله الرجل، إذًا: هذه مرضعة، فالأم في أثناء إرضاع ابنها لشدة الخوف تذهل عنه، ولا تلقي له بالاً:
﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾
قال تعالى:
﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ﴾
عن ابن عباس رضي الله عنه, قال: الراجفة هي النفخة الأولى.
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾
هذه النفخة الأولى, يصعق لها من في السموات والأرض, هذه النفخة, نفخة الصعق التي تنهي الحياة على وجه الأرض.
2- النفخة الثانية:
أما النفخة الثانية: وهي نفخة البعث إلى الحياة بعد الموت، وقد جاء التعبير عن الوقت الذي يحدث فيه البعث العام إلى الحياة بعد الموت بالساعة، قال تعالى:
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ﴾
لدينا في هذه الجملة, لون بلاغي اسمه الجناس، الجناس: تشابه كلمتين في اللفظ، واختلافهما في المعنى, قال تعالى:
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ﴾
يقيني بالله يقيني، هذا جناس، يقيني بالله، أي إيماني بالله يحفظني، ويدل على حدوث النفخة الثانية قوله تعالى في سورة النازعات:
﴿تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ﴾
عن ابن عباس, قال: الرادفة هي النفخة الثانية، وقوله تعالى في سورة الزمر:
﴿فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾
النفخة الثانية هي: إذا هم قيام ينظرون، وهذه النفخة جاءت تسميتها في القرآن بالناقور، قال تعالى:
﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ﴾
وقد ورد أن الملك الموكل بنفخ الصور تنفيذاً لأمر الله هو إسرافيل عليه السلام، كما سبق ذلك في مبحث الإيمان بالملائكة, قال تعالى:
﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾
﴿إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾
استثناهم من الموت بهذه النفخة، لأن الله يتولى قبض أرواحهم بدون نفخة الصور، كإسرافيل الموكل بالنفخ فيه، طبعاً:
﴿إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾
الموكل بهذه النفخة يميته الله عزّ وجل مباشرة، حتى ملك الموت, يقول له: مُت يا ملك الموت، من دون نفخة، قال الله:
﴿إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾
وبالنفخة الثانية يبعث الله الناس إلى الحياة الثانية, ليتم فيها نظام الجزاء الأكمل بالثواب أو بالعقاب، أما وضع الكون بعد البعث, فقد جاء وصفه في قوله تعالى في سورة إبراهيم:
﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾
البطولة أن تكون في هذا الموقف مع الفائزين، أو مع الناجين، أو مع الناجحين.
وفي درس قادم إن شاء الله تعالى نتابع الحديث عن البعث واليوم الآخر، نتحدث عن الدنيا والآخرة، وأن البعث ممكن عقلاً، وأن البعث حقيقة لا شك فيها، وعن الحياة في اليوم الآخر، حياة مرافقة للتجسد المادي، إلى ما هنالك من بحوث في الإيمان باليوم الآخر.