- العقيدة الإسلامية
- /
- ٠1العقيدة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الجزاء الرباني منه ما هو معجل ومنه ما هومؤجل فمن المعجل للمحسن:
1- النصر والتأييد في الدنيا للمؤمنين:
وصلنا في الدرس الماضي إلى الحديث عن بعض القوانين، أو السنن التي سنّها الله سبحانه وتعالى فيما يتعلق باليوم الآخر، وكنت قد بيَّنتُ لكم من قبل أن الإيمان باليوم الآخر يأتي في الأهمية بالدرجة الثانية بعد الإيمان بالله، وفي أكثر آيات القرآن الكريم ذَكَرَ الله عزّ وجل الإيمان بالله، ثم ذكر الإيمان باليوم الآخر مقرونًا به، لذلك لا زلنا في الحديث عن بعض القوانين المتعلقة باليوم الآخر.
ذكرنا في الدرس الماضي أن أدنى الجزاء على الحسنة عشرُ أمثالها، وأعلى الجزاء على السيئة مِثْلُها، وهذا تفضل إلهي عظيم، وكأن الله سبحانه وتعالى يحب أن نربح عليه، هذا إن لم يكن هناك تفضَّل بالعفو بعد التوبة, إنّ مِن الجزاء ما هو مُعجّل، ومنه ما هو مؤجَّل، وهذا موضوع دقيق جداً، لأن بعض الناس قد يتساءلون: ما لفلانٍ يزداد قوة، و غنى مع أنـــه غارق في المعاصي؟ وما لِفلان يعاني الأمَرّيْن مع أنه مستقيم على أمر الله؟ الحقيقة أنّ الجزاء الرباني الذي هو أحد قوانين الحياة، منه ما هو معجل، ومنه ما هو مؤجّل، فلو تتبعنا آيات القرآن الكريم, لوجدنا أن الجزاء على الحسنة منه ما هو معجّل، ومنه ما هو مؤجّل، وأن الجزاء على السيئة منه ما هو معجّل، ومنه ما هو مؤجّل أيضاً، ونصوص القرآن الكريم، وأحاديث النبي الكريم تؤكّد هذه الحقيقة، فمِنَ الجزاء المعجّل في الدنيا أنواع كثيرة، من الرغائب المادية والمعنوية التي يَحْبُوها الله للمحسنين، مِن هذا الجزاء المعجّل النصرُ في الدنيا، والتأييد، والعز، قال سبحانه:
﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾
﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾
لا شك أن الإنسان المؤمن حينما ينتصر في الدنيا على أعدائه, يشعر بسعادة لا توصف، وقد ذكر ربنا سبحانه وتعالى هذا فقال:
﴿ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾
فمِن الجزاء المعجّل في الدنيا على الأعمال الصالحة, أنّ الله عزّ وجل يرفع شأن الإنسان في الدنيا فيعزّه، وإذا أعزّك الله عزّ وجل فلا أحد في الأرض يستطيع أن يذلك, قال الْحَسَنُ بْنُ عَلِيّ رَضِي اللَّه عَنْهمَا عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ:
" اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ إِنَّكَ تَقْضِي وَلا يُقْضَى عَلَيْكَ وَإِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ "
﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاًُ﴾
اجعلْ لربك كــل عِزّك يستقر ويثبـتُ
فإذا اعتززت بمَن يموت فإنّ عزك ميتُ
﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾
إذا ربطت نفسك بالحق، فأنت مع الحق، وأنت مع الحق العزيز، وإذا نصرك الله عزّ وجل ينصرك نصراً عزيزاً، لا مِنّةَ لأحد فيه عليك، قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾
﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾
الصفحة المشرقة من الأنبياء والصحابة دليل على صدق الله في تنفيذ وعده:
سيدنا يوسف أعزّه الله في الدنيا، فصار عزيز مصر، رأته جارية تعرفه عبداً في موكبه الملكي, فقالت: " سبحان من جعل العبيد ملوكاً بطاعته ".
سيدنا عمر, قال: " كنت عُميرًا، فأصبحت عمرَ، فأصبحت أمير المؤمنين ".
سيدنا عمر بن عبد العزيز, قال: " تاقت نفسي للإمارة فلما بلغتها تاقت نفسي للخلافة فلما بلغتها طاقت نفسي إلى الجنة ", لست مستبعداً إذا أخلصت لله عزّ وجل، واعتمدت عليه، واستقمت على أمره، وبذلت من أجله، وفعلت كل ما تملك من أجل رضاه, لأنه يرفع من شأنك في الدنيا قبل الآخرة، و ينصرك على أعدائك، ويؤيدك بنصره، ويجعل القلوب تميل إليك، فما أقبلَ عبد على الله عزّ وجل إلا جعل قلوبَ المؤمنين تهفو إليه بالمحبة، وهذا مصداقُ قول الله عزّ وجل مخاطباً سيدنا موسى:
﴿أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾
إذا ألقى الله عليك محبة منه، أحبك الخلق كلهم، فإذا ألقى الله على إنسان البغضاء، أبغضه أقرب الناس إليه، لذلك الكلمة الشهيرة:
إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟
سيدنا هود قال:
﴿ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً﴾
هذه المودة التي تنشأ بين العبد وبين ربه, لا يعرف طعمها إلا من ذاقها، لذلك, من الجزاء المعجّل في الدنيا النصر, والتأييد، والعز.
2- الشعور بالسعادة والطمأنينة:
الشعور بالسعادة والطمأنينة، فإن الله يعطي الصحة، والذكاء، والمال، والجمال لكثيرٍ مِن خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين، أتكون معه, وتشقى؟ معاذ الله عزّ وجل، أتستقيم على أمره، وتقلق؟ مَن قرأ القرآن الكريمَ انتفى مِن قلبه الحزن، وفي الأثر:
" لا يحزن قارئ القرآن "
لماذا الحزن؟ أتخشى الفقر، وأنت عبد الغني ؟ أتخشى أن تُخذل، وأنت عبد القوي؟ أتخشى أن تشقى، وأنت عبدُ مَن بيده ملكوت كل شيء؟.
لذلك في قلب المؤمن من السعادة, ما لو وزّعت على أهل بلدٍ لكفتهم, قال تعالى:
﴿ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾
ألا تقولون أنتم في صلواتكم: " اللهم صلّ على أسعدنا محمد " إنه أسعد الخلق قاطبة، فإذا كنت على دربه، و اقتفيت أثره فلا بد أن تسعد معه.
3- الشعور بلذة العلم:
ومن هذا الجزاء المعجّل, اللذة التي يشعر بها المؤمن حينما يعرف شيئاَ جديداً عن الله عزّ وجل، فإنّ لذة المعرفة لا يعرفها إلا العارفون، وقد تقول وأنت صادق: لو ملكت الأرض كلها لا يَعدُو هذا عندي فهم آية من كتاب الله، كلما ارتقيت في العلم درجة، شعرت بسعادة لا توصف, قال تعالى:
﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
حتى إن بعض العلماء, قالوا: إن الله عزّ وجل يخصّ الأنبياء بالمعجزات، ويخصّ الأولياء بالكرامات، وِمن أبرز الكرامات: العلم والحكمة، لأنّ كرامة العلم والحكمة لا تحتاج إلى خرق العادات، إنها وفق العادات، ووفق السنن.
4- البركة في الوقت والمال:
ومِن هذا الجزاء المعجّل في الدنيا, البركة في الوقت والمال, قال عليه الصلاة والسلام:
" من أخّر الصلاة عن وقتها أذهب الله البركة من عمره "
إن المؤمن يباركُ الله سبحانه وتعالى في وقته، أحصيت كتب أحد العلماء العارفين بعد وفاته، فكان مجموع كتبه " 230" كتاب، جمعت صفحاتها، وقسّمت على أيام حياته منذ ولادته، فكان نصيب كل يوم مِن التأليف تسعين صفحة, هذا هو العالم، العارف بالله، الذي عاش حياة مديدة، وترك مائتين وثلاثين مؤلفاً، لذلك, البركة في الوقت لا يعرفها إلا من أدركها، وكذلك البركة في المال الذي يتفضل الله به عليك، يُبارك لك فيه، فتسكن، وتتزوج، وتأكل، وتشرب، وترتدي ثياباً جديدة، وتزوِّج أولادك جميعاً بمالٍ قد يبدو قليلاً، وقد تجد إنساناً حصل المال من الحرام، فيدخل عليه مئات الملايين، وتذهب من حيث جاءت من دون أن يستفيد منها، فالبركة في الوقت والمال.
5- البركة في الزوجة والولد:
البركة في الزوجة والولد, يتزوج الرجل، فيبارك الله له في زوجته,
" عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: تَزَوَّجَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ فَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدًا وَكَانَ يُحِبُّهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبِتُّمَا عَرُوسَيْنِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِكُمَا فَقَالَ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا "
فمِن السُّنة الدعاء بالبركة لهذه الزوجة التي اقترنت بها، عسى الله أنْ يُبارك لك فيها، فتسعد بها، قال لي بعضهم: البيت يكون أحياناً قطعة من الجحيم، كل يوم في مشكلة، لأن البيت إذا بني على طاعة الله عزّ وجل، تولى الله التوفيق بين الزوجين، وإذا بني على معصية الله عزّ وجل، تولى الشيطان التفريق بينهما، مشكلات، خصومات، مشاحنات, تحديات، نفور، بغضاء، وتنتهي الأمورُ بالطلاق، وتشريد الأولاد، فهذا المحسن يبارك الله في ماله، وفي وقته، وفي زوجته، وفي أولاده، بين أن يكون لك ولد بار يرعاك إذا كبرت، وبين أن يكون لك ولد عاقّ لا يشفق عليك، وأنت في أوج قوتك, فكيف إذا بلغتَ مِنَ الكِبر عتياً؟ فالولد قد يكون بلاء مِن الله عزّ وجل، بين أنْ تسعد بزوجة، وبأولاد، وبمال، وبوقت، وبين أن يذهب الوقت لا بركة فيه، وكلكم يعلم ذلك، وحينما تبذل جزءًا مِن وقتك الثمين في حضور مجالس العلم, يبارك لك الله فيه، كيف ذلك؟ في ثانية واحدة ترتكب حادثاً بسيارتك, تقتضي سبعين أو ثمانين ساعة لتصليحها، من مكان إلى مكان، تبحث عن القِطَع، وعن الحاجات المفقودة وغير المفقودة، تستهلك الساعات الطوال بلا جدوى، لأنك ضننت على ربك بمجلس علم واحد، فلذلك حينما يقتطع الإنسان جزءاً من وقته الثمين لحضور مجالس العلم, يبارك الله له في وقته، فلا يذهب وقته سدى، ولا يُستهلك استهلاكاً رخيصاً, إذا اسْتُهْلِك الوقت استهلاكاً رخيصاً، أو ضاع الوقت توترت الأعصاب، وارتفع الضغط، وهذا كله مِن ذهاب بركة الوقت، كيف أنّك تزكي عن مالك بدفع مبلغ من المال, كذلك للوقت زكاة؟ فقد قال بعض العلماء: زكاة الوقت أن تقتطع منه وقتاً لطاعة الله، ولعبادة الله، ولمعرفة الله، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وعاقبه ذلك التوفيق في العمل, والبركة في العمر.
كم مِن مشروع ضخم باء بالفشل؟ فبعد ثلاث سنوات خسارة 800 ألف مثلاً، يا ضياع الوقت، يا ضياع المال, فالإنسان الذي يجود بوقته لله، كأن يبدأ بمشروع صغير ينمو، وينمو، وينمو، وهذا من علامات التوفيق, والآية الكريمة:
﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾
إن أي إنسان على وجه الأرض, لا يستطيع أنْ يحقق هدفاً ما, إلا بتوفيق الله، لذلك في الحديث الشريف, ومن عرف هذا الحديث الشريف غيّر مجرى حياته كلها
" من ابتغى أمراً بمعصية كان أبعد مما رجا، وأقرب مما اتقى "
وهذا حق، وهذا بعض الجزاء المعجّل في الدنيا.
الأدلة من الكتاب على تعجيل بعض الجزاء للمؤمنين في الدنيا:
والدليل القرآني على هذه الأقوال، وهذه المعاني, أن الله عزّ وجل يقول:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
كلام خالق الكون، وهذا كلام قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، قطعي التحقيق, قال تعالى:
﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾
التيسير شيء يخلقــه الله عزّ وجل، وليس حظاً، ولا صدفة، إنما هو من خلق الله عزّ وجل.
أما بعض الجزاء الرباني المعجل للمسيء في الدنيا:
1- ابتلاء المسيء بصنوف من العذاب والخزي:
وأما جزاء العقاب المعجّل في الدنيا, مِن هذا الجزاء صنوف العذاب والخزي، عضو صغير في جسمك, لو تعطل لقلب الحياة جحيماً, أحياناً آلام مستمرة، آلام مزمنة في الرأس أحياناً، دائماً يعيش في ألم، أحياناً شعور بالضيق، أعراض نفسية، فالله عزّ وجل يقلب حياته جحيماً, بصنوف العذاب المادي والمعنوي، قلق، وهم، وخوف، ويأس، وشعور بالقنوط، هذا قد يتصاعد، فينتهي بالانتحار.
إذا رجعت إلى القوانين الوضعية, تجد دائماً أن آخر مادة في القانون: من يخالف أحكام هذا القانون يعاقب بكذا وكذا وكذا، هذا عند علماء القانون اسمه المؤيد القانوني، وربنا عزّ وجل جعل الأمراض الوبيلة، والأمراض المستعصية، والذل الشديد، والخزي، والعار، والهموم، والأحزان، والخوف، والقلق، هذه كلها جعلها مؤيدات لشرعه الحنيف، إما أن تستقيم على أمر الله فتسلم، وإما أن تتحمل عواقب المعصية، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ:
" يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي أَمْرًا فِي الإسْلامِ لا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ قَالَ قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيَّ شَيْءٍ أَتَّقِي قَالَ فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانِهِ "
فمن البلاء المُعجّل في الدنيا, صنوف العذاب المادي والمعنوي، والعيش الضنك، حياة كلها شحناء، كلها بغضاء، حياة قاسية خشنة، مليئة بالأحزان، يجزي الله بها المسيئين، وأيضاً الإخفاق، والخسارة في المشاريع، وهذا العمل لم ينجح، وهذه الصفقة خسرت، وهذا الصديق تنكر له، وهذا الزواج لم ينجح، وانتهى إلى الطلاق، وهذا المحل بعد أن اشتراه وجد فيه مشكلة كبيرة لا تحل، فالفشل والخذلان شيء لا يعرفه إلا من ذاقه, ومنها المصائب، والبلايا الكثيرة، أعاذنا الله منها، ومنها مجانبة التوفيق في الأمور، ومنها الإذلال، والإهانة.
استغل رجل علمه استغلالاً لا أخلاقياً، فكان لا يبذل هذا العلم إلا بباهظ الثمن، والناس بحاجة إليه، أصابه مرض عضال، وكان يسكن بأرقى بناء، زوجته أَمرت أن يكون في القبو وحده، ووكلت خادمة ترعى شؤونه، وامتنعتْ عن اللقاء به، فكان يذكرها كل يوم مرات كثيرة، وتهمله، ثم أمرت أن يُنقل إلى مكان بعيد عن البيت، وبقي ثماني سنوات يعاني، وكان مشلولاً، مع ما كان يعانيه مِن الإهمال، والقذارة، وضيق النفس، والإذلال، ممّا لا يتحمله بشر, قال تعالى:
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾
إذا أدب ربنا عزّ وجل الإنسان أحياناً، فزوجته تقسو عليه، وابنه أقرب الناس إليه يقسو عليه كذلك، قال تعالى:
﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾
لا بد له أن يذوق السوء، ولا يعصمك من الله إلا الله، ولا ملجأ منه إلا إليه، هذا كله جزاء معجّل في الدنيا قبل الآخرة، حتى إن الله عزّ وجل يقول:
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾
جنة في الدنيا، وجنة في الآخرة.
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾
الأدلة القرآنية على أن الجزاء ما هو معجل للمحسن في الدنيا قبل الآخرة:
الأدلة القرآنية، التي تنص على أن الجزاء ما هو معجّل في الدنيا قبل الآخرة، وهي قوله تعالى:
﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾
في هذه الدنيا حسنة، ثم تقرأ:
﴿ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين﴾
إنّ الله كريم في الدنيا، وفي الآخرة, قال تعالى:
﴿للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين ﴾
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
كنت مرة في مزرعة، وهناك أحد الأصدقاء أطلعني على حبة قمح أنبتت خمساً وثلاثين سنبلة، أخذنا سنبلة، وفرطناها، فإذا فيها ما يعادل خمسين قمحة، ضربنا الخمسين بخمسة وثلاثين كان الناتج ألفاً وسبعمئة وخمسين قمحة، مِن قمحة واحدة, قال الله:
﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾
ربنا عزّ وجل في كل الأزمات، والشدائد، والمصائب الجماعية، والأعاصير، والفيضانات، والزلازل، والبراكين، في كل المصائب الجماعية ينجي الله المؤمنين، قال عز وجل:
﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾
﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
آيات أخرى تؤكد هذه الحقيقة, قال تعالى:
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾
الأدلة من الكتاب على تعجيل بعض العقاب للمسيء في الدنيا قبل الآخرة:
قال تعالى:
﴿فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾
عذاب الخزي والعار, شيء لا يحتمل, قال الله:
﴿لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾
الجوع من الفسق، والفجور، والانحلال، والتفلت، والاختلاط، وإذا رخصت لحوم البشر, ارتفعت أسعار لحوم الحيوان، ثمة علاقة عكسية بين لحوم البشر, ولحوم الضأن، فكلما غلت لحوم البشر, رخصت لحوم الحيوان، أما أن يكون لحم البشر مبتذلاً
" مائلات مميلات "
عندئذٍ تصعب الحياة، وتصبح شقاء,
" عبدي، كن لي كما أريد أكن لك كما تريد، كن لي كما أريد، ولا تعلِمني بما يُصلحك، فإذا سلّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد"
إذاً: فالجزاء على الحسنات أو السيئات قد يكون معجلاً، وقد يكون مؤجلاً، وقد ذكرنا بعض أنواع الجزاء المعجّل على الحسنات وعلى السيئات.
أنواع النعم:
1- نعم جزاء:
لدينا موضوع فرعي, له علاقة وشيجة بهذا الموضوع، فالنعم على ثلاثة أنواع: نِعم جزاء، ونِعم ابتلاء، ونِعم استدراج، فليست كل نعمة ينعم بها الإنسان نعمة جزاء على حسنات، فقد تكون هذه النعمة نعمة ابتلاء، وقد تكون هذه النعمة نعمة استدراج، فيجب أن تعلم علم اليقين أنّ هذه النعم التي أنت فيها هل هي نعم جزاء، أم نعم ابتلاء، أم نعم استدراج؟ فنِعم الجزاء, تكون ثواباً من الله تعالى للإنسان على ما قدم من حسنات، وهذا النوعُ تأييد رباني، وتشجيع مِن شأنه أن يدفع الإنسان بمضاعفة العمل الصالح، والتزام سلوك الصراط المستقيم في أمره كله.
أحياناً تجد الإنسان في الظروف الصعبة القاسية يُوفَّق في عمله توفيقاً لا يصدق، لأنه كان مستقيماً، وقد بذل, وضحى، وآثر رضوان الله عزّ وجل، فتأتيه الدنيا، وهي راغمة، هذه الدنيا التي جاءته وهي راغمة، إنما هي جزاء من الله عزّ وجل على إحسانه في الدنيا، وهذه النعم نِعم الجزاء، وغالباً ما تكون النعمة من جنس العمل الصالح، وكذلك من غضّ عينه عن محارم الله متّعه الله بها، من كفّ أذنه عن سماع الملهيات متّعه الله بها، من كفّ يده عن الحرام متّعه الله بها، من أنفق من ماله ابتغاء مرضاة الله ضاعف الله له ماله أضعافاً كثيرة، سيدنا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه سمع من بعض أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام, أنّ ماله قد يؤخره عن اللحاق بأصحابه، يا أبا ذر ربما دخلت الجنة حبواً، أيْ زحفاً، فقال رضي الله عنه: والله لأدخلنّها خبباً, أيْ هرولة، واللهِ ما منعت مالي مسكيناً ولا فقيراً، وماذا أفعل إذا أنفقت مئة في الصباح, فأعطاني الله ألفاً في المساء؟ ماذا أفعل؟ لذلك أحياناً كلما بذلت مِن المال, ضاعف الله لك أموالك أضعافاً مضاعفة، هذه نعمة الجزاء، فقضية الإنفاق شيء ثابت، قال تعالى:
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾
﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾
شيء قطعي, قال الله:
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾
2- نعم ابتلاء:
ومن النِعَم, ما هي نِعَم ابتلاء, قال الله:
﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ﴾
كلا, ليس هذا إكراماً، هذا ابتلاء، الغني يُبتلى بالمال، فماذا يفعل؟ أينفقه في طاعة الله؟ قد يأتي المال ابتلاء ليمتحن معدن الإنسان، هل يتغير بالمال؟ هل يتيه على الخلق؟ هل يستعلي عليهم؟ هل ينسى أيام الضيق والشدة؟ هل يحمله ماله على معصية الله، هل يحمله ماله على الفجور، هل يحمله ماله على أن يترك الصلاة أو الصيام؟ هل يحمله انشغاله بماله على أن يبتعد عن مجالس الذكر؟ هذا المال الآن هو ابتلاء وليس جزاء, لكن مال الابتلاء إذا أُنفق في طاعة الله انقلب إلى جزاء، ولا يكون مال الابتلاء نعمة إلا إذا أُنفق في طاعة الله.
3- نعم الاستدراج:
أما النوع الثالث، نعوذ بالله من هذا النوع: نِعَم الاستدراج, ترك 800 مليون، كلها جُمعت من القمار, خمس أو ست صالات قمار يملكها، قبل وفاته التقى ببعض أهل الله، فقال: ماذا أفعل؟ قال له أحدهم: لو أنفقته كله لا ندري ما النتيجة؟ البطولة عند هذه الساعة, قال الله:
﴿فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ﴾
هذا المال الثالث من نِعَم الاستدراج, قال الله:
﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً ﴾
﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ﴾
كلفنا العشاء 750 ألف ليرة في أثناء العرس، في الفندق الفلاني، قال الله:
﴿ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾
نِعَم الاستدراج: هي النعم التي يوليها الله للكافرين، والعصاة الموغلين في العناد لربهم، ومخالفتهم استدراجاً لهم لتهيئة الظروف التامة لحرية إرادتهم في الدنيا، حتى إذا أنزل الله بهم عقابه الشديد الذي يستحقونه لم يكن لهم عذرٌ عند ربهم, قال الله:
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾
هذا رود تشلز, كان من أغنى أغنياء اليهود، كان عنده مستودعات لسبائك الذهب، وكان ينتقل من عاصمة لأخرى، فدخل إلى بعض المستودعات، وأُغلق الباب عليه خطأً, مما جعله يصيح، ويصيح، ولا يستريح إلى أن مات جوعاً بين سبائك الذهب، جرح إصبعه، وكتب على الحائط قبل أن يموت, أغنى إنسان يموت جوعاً, قال الله:
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾
أنواع المصائب:
1- مصائب الجزاء:
أولاً: مصائب الجزاء: وهي المصائب التي تكون عقاباً من الله عزّ وجل للإنسان على ما اكتسب من السيئات، وفي هذا النوع عناية من الله بعبده ليتذكر فيتعظ، ويتوب إلى الله تعالى،
" ما من عثرةٍ، ولا اختلاج عرقٍ، ولا خدش عودٍ إلا بما قدمت أيديكم، وما يعفو الله أكثر"
هذه العقوبات, دليل محبة رب الأرض والسموات، فإذا أحب الله عبده عجّل له العقوبة، إذا كان عند أحدهم ثلاث أولاد، ولد ذكي مجتهد، وولد ذكي مقصر، وولد أبله، مَن يعاقب ؟ الولد الذكي المجتهد أمْره مقبول، والأبله لا أمل منه, فيصب الأب كل عقابه على الذكي المقصِّر, فهذا الذي ذكّره الله مراراً فلم يتذكر, فتحنا عليهم أبواب كل شيءٍ, وأما المؤمن المستقيم الشاكر فهذا موفق، حققّ الهدف من وجوده، على مَن ينصب العقاب؟ على هذا الذي عنده الإمكانيات الكبيرة، وهو مفرّط بها, قال الله:
﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
يقول الله تعالى:
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾
انظر المصيبة, جاءت نكرة، قال الله:
﴿من مصيبة﴾
أيّة مصيبة, صغيرة كانت أم كبيرة، مادية كانت أم معنوية، خطيرة أم حقيرة، قال تعالى:
﴿ من ﴾
لا ستغراق كل المصائب، قال تعالى:
﴿ فبما كسبت أيديكم ﴾
أبداً, قال تعالى:
﴿ويعفو عن كثير﴾
هذه مصائب الجزاء؟ إذاً: هذه المصائب عناية ربانية بالإنسان.
2- مصائب الابتلاء:
ثانياً: مصائب الابتلاء: هي المصائب التي يتعرض فيها أهل الطاعة ليبتلي الله بها صبرهم، فيرفع درجاتهم، ويزيد من حسناتهم, السيارة منطلقة، حمولتها 25 طناً فرضاً، وهي الآن تحمل خمسة أطنان، على كل طن مئة ألف ليرة أجرة، له خمسة أطنان، لكننا لا نقبل أن نُحمّله الخمسة فقط، فنحمله خمسة أخرى، حتى يتضاعف أجره، إنّه يتحمل, هناك مؤمنون يعرفون الله جيداً، وهم أهلٌ للتحمل، لذلك تساق لهم بعض المصائب في الدعوة كي يضاعف الله لهم أجرهم، وهذه مصائب لرفع الدرجات، لا علاقة لها بالجزاء.
يا أيها الأخوة، الذي أتمناه عليكم، وهذا من أدب المسلم, إذا ألّمت بنا مصيبة, يجب أن نتهم أنفسنا, ونتساءل: ما الذنب الذي اقترفته؟ أما إذا ألّمت بغيرنا مصيبة, يجب أن نُحسن الظن بهم، ونقول: هذه مصيبة لرفع الدرجات، أما مِن اللؤم، ومن الفجاجة أن تتهم الآخرين إذا أصابتهم مصيبة بأنها مصيبة جزاء، وأن تُحسن الظن بنفسك إذا أصابتك مصيبة، تقول: هذه ابتلاء، هيّ رفع درجات, لا، بالعكس يجب أن تقول: العكس, قل: لعل أخي له عند الله درجة عالية جدًا، فأراد الله أن يرفعها له، أما إذا ألّمت بك مصيبة," لا سمح الله وبنا ", فقل: لعلي مقصر، واتّهم نفسك دائماً، ونزّه أخاك دائماً، هذا هو الأدب، أمّا أكثر الناس فيبرئ نفسه، ويتهم أخاه, هذا من سوء الأدب، اسمع قوله تعالى:
﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ﴾
أنـت أديت حجاً في أيام القيظ الشديد، فهذا ابتلاء، وهذا رفع درجات، لم تتحمل الحر، لكن الله عزّ وجل كتب لك بهذا أجراً كبيراً، كان الصيام يصادف في أشهر الصيف الطويلة، تحملت منذ الظهر، وكِدت تسقط على الأرض من شدة العطش، هذا ابتلاء رفع درجات, قال الله تعالى:
﴿ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولانصب و لا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب الله لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾
فربنا عزّ وجل يحب أن يكرمنا, فيسوق بعض المصائب للمؤمن الصادق، ويتحمل في سبيل الله، فيرفع الله شأنه، قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إن عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ "
3 – مصائب التربية:
ثالثاً: مصائب التربية, قال تعالى:
﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
إنّ ربنا عزّ وجل, يقيض للإنسان الغافل، المُعرض، المُقصر, أمراً صعباً، ومشكلة خطيرة، يضيق عليه إلى أن يضجّ بالشكوى إلى الله عزّ وجل، فيتوب من ذنبه، احترق محل أحدهم، فقال: واللهِ بالمحل بضاعة بثلاثة ملايين، عندما كان ثمن البيت خمسين ألفًا، قال لي متهماً نفسه: لعلي بعت بعض الصفقات بشكل حرام أو غلط، ولعل الله جمعها كلها، وأحب أن يُطهر لي مالي, والله شيء جميل, بارك الله بك على هذا الظن الحسن، وسيدنا عمر, كان يقول: إذا أصابته مصيبة:
" الحمد لله ثلاثاً, الحمد لله إذْ لم تكن في ديني، الحمد لله إذْ لم تكن أكبر منها، الحمد لله إذْ ألهمت الصبر عليها "
هذه مصائب التربية.