- العقيدة الإسلامية
- /
- ٠1العقيدة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
طبيعة الوحي:
أنهينا في الدرس الماضي موضوع الكرامات, واليوم ننتقل إلى موضوع الوحي, وقد عرفتم فيما سبق أن الرسل عليهم الصلاة والسلام يُبلّغون رسالات الله, وأوامره ونواهيه, وسائر ما يكلفهم به تبليغهم للناس, ولكن لابد من سؤال: هؤلاء الرسل الكرام كيف يتلقون الرسالة عن الله؟ الإجابة الفاصلة هي عن طريق الوحي, فالوحي بحسب اللغة: يدل على الإيماء و الإشارة السريعة, والإعلام الخفي, و الكلام الخفي, وإلقاء المعنى في النفس, و الإلهام سواء أكان الإلهام بدافع الغريزة أم بإشراقات الفطرة, عندنا لكل مصطلح تعريفان: تعريف لغوي وتعريف شرعي, فالتعريف اللغوي بحسب ما جاء في المعاجم وأمهات اللغة, وأما التعريف الشرعي فهو التعريف الذي اصطلح عليه العلماء والفقهاء، فلا يمكن أن نفسر الأعمال المعقدة البالغة التعقيد التي يفعلها الحيوان، وهو حيوان لا يدرك ولا يعقل إلا عن طريق الغريزة، ولذلك فمن معاني الوحي الإلهام, إلهام الغريزة, قال تعالى:
﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً﴾
وهذا المعنى اللغوي ورد في القرآن الكريم, وهناك حيوان اسمه نقّار الخشب, يقف على شجر السنديان, ويدخل منقاره في جذع الشجرة, ليلتقط دودة في داخلها فيأكلها, فكيف عرف أنها في هذا المكان؟ لا بد من إلهام إلهي, وكيف عرف هذا الطائر أن الدودة على ارتفاع متر؟ فلا بد من تفسير علمي لإدخال المنقار، فعنده مادة تذيب الخشب، ويدخل منقاره إلى داخل الجذع فيلتقط الدودة التي تعيش في داخل الجذع, وهذه قضية وحي, وبناء الأعشاش، واهتداء الحيوانات إلى طعامها، وسيرها في أعماق البحار، وقيام الحيوان بأعمال بالغة التعقيد، فهذا عن طريق الغريزة أو عن طريق وحي الغريزة أو كما قال الله عزّ وجل:
﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾
هناك آية كريمة أخرى تؤكد هذا المعنى، قال تعالى:
﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾
الوحي في الشرع: إعلام الله رسولاً من رسله أو نبياً من أنبيائه ما يشاء من كلام أو معنى, فهذا تعريف الوحي الشرعي بطريقة تفيد النبي أو الرسول العلم اليقيني القاطع بما أعلمه الله به, فالأحاديث الشريفة الصحيحة وحيّ غير متلو لقوله تعالى:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى﴾
وفي الأحاديث الشريفة أوحى الله لنبيه بالمعنى، أما في القرآن الكريم بالمعنى والمبنى، صياغةً ولفظاً, بينما الأحاديث الشريفة المتواترة أجمع علماء الأصول على أنها وحيُ غير متلو استنباطاً من قوله تعالى:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
أحياناً قد تأتيك إشارة من إنسان أو إعلام خفي أو وحي بالمعنى اللغوي, ولا تدري بالضبط ماذا يريد؟ وهناك نقطة مهمة جداً في الوحي بطريقة تفيد النبي أو الرسول العلم اليقيني القاطع بما أعلمه الله به, وموضوع العقيدة، هو موضوع التشريع، والعقيدة لا يمكن إلا أن تكون قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، لأنها عقيدة, و لو أنّ الإنسان اعتقد خلاف ما يريد الله عزّ وجل لكفر, وإذا كفر دخل النار, ولا بد من أن تكون النصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة, ولا يقبل في العقيدة من النصوص إلا ما كان قطعي الثبوت قطعي الدلالة, والقرآن الكريم قطعي الثبوت في كل آياته، قطعي الدلالة في آياته المحكمة، ظني الدلالة في آياته المتشابهة، فالقرآن تؤخذ العقيدة منه، وتبين لكم من دروسنا الماضية أن كل حقائق العقيدة إنما هي مأخوذة من آيات الله عزّ وجل، فماذا ينبغي لك أن تعتقد إذ هناك دليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة من كتاب الله أولاً, ومن الأحاديث الشريفة الصحيحة المتواترة, وأحاديث الآحاد يبنى عليها أحكام شرعية, ويُعمل بها, لكن العقيدة لا تثبت إلا بالأحاديث المتواترة, لأن الإنسان لو اعتقد خلاف ما أراده الله عزّ وجل لكفر.
المعنى الشرعي للوحي يتجلى فيه عدة أمور:
1- الوحي هو إعلام من الله المحيط علمه بكل شيء:
1- العنصر الأول: أن الوحي هو إعلام من الله المحيط بكل شيء علماً، وما دام الإعلام من الله سبحانه وتعالى فعلمه مطلق, قال الله:
﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾
﴿عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾
﴿الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾
﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾
﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾
وما دام الوحي من عند الله ففيه الحقيقة المطلقة، فمستحيل أن يكون في الوحي الإلهي سواء أكان نصاً ومعنى كالقرآن الكريم، أو معنى كالحديث الشريف، إلا أن يكون هذا الكلام حقيقياً وحقاً مئة بالمئة, لأن الموحي هو الله وهو علام الغيوب.
2- حالة الرسول أثناء تلقي العلم من الوحي:
2- العنصر الثاني: أن الرسول أو النبي يتلقى هذا العلم الإلهي, وهو مستجمع كامل شعوره الفكري والوجداني حول ما يلقى إليه من علم, ودون أن يكون لإرادته واختياره تدخلٍ في مضمون ما يُلقى إليه، فإنسان بكامل قواه العقلية والشعورية والوجدانية, وبكامل اليقظة والانتباه والوعي والإدراك والفهم والفطنة, يتلقى من الله عزّ وجل هذه الحقائق وهذا الكلام وهذه المعاني, الوحي حقٌ مطلق, أي من عند علم الله المطلق, أما علم الإنسان نسبي, تقول: فلان عالم كبير, ومع ذلك قد يغلط, وبعد الأنبياء لا يوجد إنسان معصوم, وربنا عزّ وجل قال:
﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
وأهل الذكر ليسوا أنبياء, إنهم العلماء، والعلماء ليسوا معصومين, فالعالم يتكلم بتسع وتسعين حقيقة, ويغلط بواحدة, والغلــط وارد, أما الأنبياء, فمعصومون عصمة تبليغ, وعصمة فعل إذ في أفعالهم لا يغلطون, قال تعالى:
﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ﴾
وفي أقوالهم التي يبلغونها عن الله عزّ وجل معصومون عصمة تامة, لأن النبي قدوة, ومُشرع بآن واحد، فأقواله وأفعاله تشريع, يجب أن يأخذ بها الناس من بعده، وما يبلغه عن ربه أيضاً تشريع, يعني ما يبلغه عن ربه قرآن, قال تعالى:
﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ﴾
فإذا قال لك شخص: أنا لا أغلط, قُل له: أنت كاذب، بعد الأنبياء لا يوجد أحد لا يغلط، فالإمام مالك رضي الله عنه, كان يُسأل مئة سؤال، فيجيب عن عشرة, ويقول في الباقي: لا أدري, وهذا الذي يفتي بما لا يعلم, يجعل من نفسه جسراً إلى جهنم, سوف يحاسبه الله حساباً شديداً، فقل: لا أدري وافتخر بها, هذا دين, و لو أن رجلاً طلب من آخر نقــل رسالة شفوية, فأغلب الظن أنه يبالغ, أو يقلل من أهمية بعض مضامينها، أما النبي عليه الصلاة والسلام لا دخل لإرادته ولا لاختياره في تعديل أو زيادة أو حذف أو إنقاص ما يوحى إليه في المضمون, وفي اللفظ إذا كان اللفظ معنياً بالوحي, الوحيّ قرآن فلا حركة، ولا ضمة، ولا فتحة، ولا تاء ولا واو أبداً, قال الله:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾
3- علم الوحي حينما يقع في نفس الرسول لا يتردد إليه أي شك:
3- العنصر الثالث: أن ما يُلقى بالوحي من كلام أو معنى يقع في ذات الرسول أو النبي مركز العلم اليقيني القاطع بصحة التلقي عن الله, ومعنى العلم اليقيني القاطع, لو فرضناه في آلة ضخمة تحتوي فيها زراً مكتوب عليه التشغيل، فالتشغيل كلمة, ترى هل هي صحيحة أم لعل أحداً قد كتبها وليس لها علاقة بالتشغيل؟ فلو أنك كبست هذا الزر واشتغلت الآلة, وهي ضخمة جداً, تشعر أن كلمة التشغيل يقينية, قطعية, صحيحة مئة في المئة, فالنبي مؤمن أيضاً, معنى مؤمن, أي مؤمن بأن هذا الذي أوحي إليه هو كلام الله عز وجل, قال تعالى:
﴿ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ﴾
مؤمن إيماناً قطعياً بحيث لا يعتري نفسه أدنى شك أو تردد في ذلك, فالمضمون حق, لهذا يقول الله عزّ وجل مخاطباً سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم, قال الله:
﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ﴾
فهذا الوحي أيها النبي الكريم ليس بدعاً, بل جاء من قبل إلى الأنبياء التالية أسماءهم, قال الله:
﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ﴾
وقوله تعالى في صفة نطق الرسول صلى الله عليه وسلم, قال الله:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
من أجل أن أُؤكد لكم أن إرادة الرسول واختياره لا يتدخلان أبداً في الوحي قال تعالى:
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾
أي هذه الآيات فيها تضييق لحريتنا غيّرها لنا, أو عدّلها, أو بدلها, قال الله:
﴿ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ﴾
لا يمكنني أن أبدله، و لا أقدر أن أزيد، ولا أحذف، ولا أُعدّل، أنا مجرد وسيط أمين, ومن معاني أنه أمين, أي أمين على وحي السماء, قال الله:
﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾
الآيات تؤكد ليس هناك تدخل في مضمون الوحي.
آية ثالثة:
﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾
فهذا الوحي للملائكة، والآن يُبين المؤلف أن الوحي الذي يوحي الله به إلى أنبيائه عن طريق الملائكة, فهناك رسل وهناك رسل للرسل, قال تعالى:
﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾
فأوحى الله إلى عبده جبريل ملك الوحي الأمين, الوحي نفسه الذي أوحاه جبريل إلى محمد خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام, و من هذا نستنبط أن الله هو الموحي, وأنَّ الموحى إليهم من البشر مصطفون بالنبوّة, وأن وسيلة الإعلام الإلهي للملائكة أو البشر إنما هو الوحي, وإن ظاهرة الوحي بوصفها ظاهرة إنسانية أمرٌ يشترك في الشعور به جميع الأنبياء والرسل, وعن طريقه يتلقون الإعلامات الإلهية, وليس محمد صلى الله عليه وسلم بدعاً فيهم بل كغيره، وأن ما يلقى به قد يكون كلاماً ملفوظاً أو مكتوباً, وقد يكون معاني يمكن التصرف بأدائها بألفاظ من عند النبي، وهذه الأحاديث القدسية والأحاديث الشريفة، وأنه لا تدخل لإرادة النبي, واختيار المصطفى في الوحي في مضمونه أو لفظٍ ما يلقى إليه بالوحي.
كيف كان ينزل الوحي على رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟
كيف كان ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
" عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ"
فالله عزّ وجل لطيف, قال تعالى:
﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ﴾
وفيما يلي نتحدث عن كيفية تلقي رسول الله عليه الصلاة والسلام للوحي:
1- أول ما بدىء به رسول الله عليه الصلاة والسلام الرؤيا الصادقة التي تأتي مثل فلق الصبح, وهذه الرؤيا إرهاص للوحي وتمهيد له، وسر ذلك التمهيد, لأن نزول الوحي بصورته الحقيقية لما له من وقع شديد على النفس البشرية.
2- ثم أُنزل عليه الملك جبريل على غير ميعاد سابق له, وذلك حين كان النبي عليه الصلاة والسلام في غار حراء يتعبد الله, ويتأمل في عظيم ملكوته قبيل الرسالة فغطّه ثلاث مرات, وهو يقول له: اقرأ, ويجيب النبي عليه الصلاة والسلام: ما أنا بقارئ، فقال له:
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾
3- ثم فتر عن النبي عليه الصلاة والسلام الوحي مدة قيل: إنها قرابة ثلاث سنوات, واشتد وقع ذلك عليه, وكان لذلك حكمة عظيمة تتضمن إشعار النبي عليه الصلاة والسلام بأن الحادث الأول لم تجلبه الرياضة الروحية التي كان يمارسها في غار حراء, وإنما هو الاصطفاء الرباني, ولو كانت القضية رياضة روحية, ورأى هذا المَلَكْ العظيم, لظن نفسه أن هذا من كسبه, لا.
4- جاء جبريل العظيم من دون ترقبٍ، وهو يسير في أحد شعاب مكة, يقول عليه الصلاة والسلام:
" عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْد ِاللَّهِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَجَئِثْتُ مِنْهُ رُعْبًا فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَدَثَّرُونِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) إِلَى ( وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ ) قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلاةُ وَهِيَ الأَوْثَانُ "
5- ثم تتابع الوحي بعد ذلك بأحواله الهادئة نسبياً.
أحوال نزول الوحي على رسول الله عليه الصلاة والسلام:
وإليكم ما وصفه به النبي عليه الصلاة والسلام جاء في صحيح البخاري رضي الله عنه:
" عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجلا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا "
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن الوحيّ كان ينفث في روعه صلى الله عليه وسلم فيعي رسول الله ما يقول.
وورد أن الصحابة الكرام كانوا يسمعون للوحي عند نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم دوياً كدوي النحل.
ويستخلص من هذه الأخبار الصحيحة أنّ من أحوال الوحي حينما يُنزل عليه أو يُلقي على قلبه قولاً شديداً ثقيلاً يسمع فيه الرسول صوتاً متعاقباً متداركاً كصوت الجرس في صلصلته, وأنّ من أحوال الوحي أن يأتيه المَلَكْ جبريل عليه السلام بصورة إنسانٍ فيكلمه بمثل كلام الناس إلى غير ذلك من أحوال، وأما حالة النبي عليه الصلاة والسلام فقد وصفتها لنا السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت:
" وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا "
وقد ورد أن راحلته صلى الله عليه وسلم كانت تبرك به إلى الأرض إذا نزل عليه الوحي وهو راكب, وقد نزل عليه الوحي مرة فكانت رجله الشريفة قريبة من رجل سيدنا زيد فثقلت عليه حتى كادت ترضّها، و يبدو أن الوحي له وقع شديد على النبي عليه الصلاة والسلام, قال الله:
﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾
وفي مضمونه, شيء عظيم أن سيد الملائكة جبريل ينزل ليوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام بما يريد الله أن يوحي به إليه.
أنواع الوحي:
1- الوحي الذي يكون بلا كلام مسموع:
ينقسم الوحي إلى ثلاثة أنواع أخذاً من قوله تعالى في سورة الشورى:
﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾
هذه الآية بينت أن هناك أنواعاً ثلاثة للوحي:
1- الوحي الذي يكون بلا كلام مسموع: وذلك بالإلقاء في القلب, وهو يشمل ما كان مثل صلصلة الجرس, والنفث في الروع, والإلهام, والرؤية. وتحقيقه أن يخلق الله في قلب الموحى إليه المعصوم، علماً ضرورياً لإدراك ما شاء الله إدراكه من كلامه تعالى, وهذا نوع مباشر, وهذا النوع هو ما أشار إليه بقوله في الآية:
﴿ إلا وَحْيًا ﴾
أي وحياً مجرداً عن الوساطة, ويكون ذلك بقذف الكلام أو المعاني في القلب قذفاً مباشراً، ويفيد الرسول علماً قطعياً ضرورياً بأن ذلك من عند الله، ومن أمثلة هذا النوع ما كان لسيدنا إبراهيم عليه السلام في الرؤيا:
﴿إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾
هذا وحي مباشر، وما كان لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء في اليقظة هذا هو النوع الأول وحي مباشر, وإلقاء في القلب.
2- ما كان بسماع الكلام الإلهي ولكن من غير رؤية للمتكلم:
2- ما كان بمثابة إسماع الكلام الإلهي من غير أن يرى السامع من يكلمه, كأن يخلق الله الأصوات, ومن هذا النوع ما كان لسيدنا موسى عليه السلام حين مناجاته ربه في جانب الطور، وقد يشترك بسماع هذا النوع غير الموحى إليه كما سمع السبعون من بني إسرائيل حين مضوا إلى الميقات ما سمعه موسى عليه السلام, وهذا الوحي من وراء حجاب, وهذا النوع الثاني هو ما أشار إليه الله تعالى بقوله:
﴿ أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ﴾
أي وحياً من وراء حجاب بوساطة خلق الله الأصوات كما ذكرنا، أو بصورة أخرى يختارها الله جلّ وعلا.
3- ما يكون بواسطة إرسال ملك ترى صورته ويسمع كلامه:
3- ما كان بوساطة إرسال ملك تـــُرى صورته المعينة ويُسمع كلامه كجبريل عليه الصلاة والسلام فيوحي إلى النبي ما أمره الله أن يوحي إليه, وهذا النوع هو الغالب من أنواع الوحي بالنسبة إلى الأنبياء, فغالب أحوال الأنبياء عليهم السلام أن يكون الوحي إليهم بوساطة رسلٍ من الملائكــة، وأكثر المثقفين يقولون: كلمة بواسطة هذه غلط, و صوابها بوساطة, لأن الشيء الواسط المتوسط بين شيئين، أما الأداة أو الوسيلة فيُقال لها بوساطة.
خلاصة الدرس:
تحدثنا عن حالة الوحي بالنسبة للنبي عليه الصلاة السلام, كيف جاءه أول ما جاءه ثم انقطع؟ ثم كيف كان يتتابع عليه؟ وكيف كانت أحوال النبي عليه الصلاة والسلام وأحوال صحابته وأحوال ناقته حينما ينزل الوحي إليه؟ وتحدثنا عن تعريف الوحي اللغوي, وعن تعريفه الشرعي, وكيف أن الوحيّ وسيلة إعلام من الله عزّ وجل لأنبيائه ورسله.