وضع داكن
24-01-2025
Logo
العقيدة الإسلامية - الدرس : 28 - الموازنة بين النبوة والعبقرية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

الفرق بين النبوة والعبقرية وما شابه ذلك:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثامن والعشرين من دروس العقيدة.
وصلنا في الدرس السابق في موضوع الإيمان بالرسل إلى موضوع دقيق هو الموازنة بين النبوة والعبقرية، فأعداء الإسلام يصفون النبي عليه الصلاة والسلام بأنه عبقري، أي متفوق في ذكائه، واستطاع بما أُوتِي من عبقرية أن يجمع الناس حوله، هذا ادعاء أعداء الإسلام، ولكن النبوة شيء والعبقرية شيء آخر، والنبوة شيء، والمُلك شيء آخر، في موضوع الفرق بين النبوة والمُلك

(( دخل سيدنا عمر رضي الله عنه على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مضطجعاً على حصير أثّر في خده الشريف، فبكى عمر وقال: رسول الله ينام على الحصير وكسرى ملك الفرس ينام على الحرير؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا عمر إنما هي نبوة وليست ملكاً، النبوة شيء والمُلك شيء آخر، عن أنس بن مالك: أما ترضى يا عمر أن تكون الدنيا لهم والآخرة لنا؟ ))

[ صحيح الأدب المفرد:  حديث حسن صحيح  ]

الآن الفرق بين النبوة والعبقرية، الشيء الثابت أن الإنسان العبقري مهما كان ذكاؤه حاداً، مهما تكن قدراته كبيرة، هو إنسان نجد في كلامه بعض السقطات، لأن لكلّ جواد كبوة، ولكلّ حسام نبوة، ولكلّ عالم هفوة، فإذا كان الموضوع موضوع عبقرية فلا يخلو عبقري من سقطة في فكره أو في تعبيره، وهذا مما بُرِّئ منه النبي عليه الصلاة والسلام، أيضاً تاريخ العظماء في العالم يؤكد لنا أن هناك بعض السقطات الخُلُقية، فالمربي الكبير الذي درسنا عن نظرياته في الجامعة، هذا جان جاك روسو، له انحرافات خُلُقية شاذة، فكيف يَصْلح أن يوازن النبي مع العبقري؟
أحد علماء نفس الطفل يُعَدُّ أول عالمٍ في العالم، إن مُعظم كتبه تُدَرّس في أكثر جامعات العالم، قال عنه بعض من التقى به: إنك إذا حدثّته في موضوع آخر غير اختصاصه بدا لك وكأنه طفل، فالعبقري الذكي مهما ارتفع شأنه، مهما اتسعت قدراته، لابد من سقطة في فكره، أو في قوله، أو في عمله، وهذا لا يصلح أن يكون نبياً أو داعياً للخير بإذن الله، فالنبوة شيء والعبقرية شيء آخر.
كبار العلماء في العالم، فرويد، هذا من كبار العلماء في علم النفس، فسّر الحياة كلها تفسيراً جنسياً لدرجة أن ما جاء به من نظريات يدعو إلى الضحك والسخرية، فالأنبياء على حدّ زعمه مصابون بانحراف خُلُقي، لأنهم يرغبون أن يجلسوا مع الرجال لا مع النساء، هذا رأي هذا العالم الخبيث.
دارون جاء بنظرية تُغير معالم الكتب المقدسة، من أن أصل الإنسان قرد، وهذا مما ثَبَتَ بُطلانها، ولكن أراد بهذه النظرية أن يُهوّش على المسلمين وغير المسلمين عقائدهم الدينية.
إذاً العباقرة بمقياس البشر لابد من أن يكون في أفكارهم أو في أخلاقهم أو في أقوالهم سقطات، وهذه السقطات لا تجعلهم مؤهلين أن يُبَلّغوا الناس الشرع الإلهي، إذاً العبقرية شيء والنبوة شيء آخر.
 

العبقرية مبنية على حدود معينة أما النبوة فمبنية على التبليغ بما شرعه الله:


هناك شيء دقيق جداً أود أن أقوله لكم هو أن النبوة لو أنها عبقرية على حدّ قولهم، لو أن النبوة نوع من العبقرية كما يدّعي بعضهم فالإنسان هو الإنسان، ينظر إلى الشيء من وجهة نظرٍ خاصة، فإذا كان هذا العبقري ذا منبت طبقيّ فقير رأى الأمور بمنظار الفقراء، ولو كان هذا العبقري ذا منبت من نوع آخر رأى الأمور من زاوية معينة، فالإنسان يصعب أن يكون حيادياً، إذا نظر وإذا فكّر وإذا شرّع لا بد من أن ينظر إلى الأشياء من وجهة نظر خاصة، ولابد من أن ينحاز إلى جهة دون أخرى، ولابد من أن يرعى مصالح فئة دون أخرى، لو أن النبي إنسان عبقري لما كان شرعه كاملاً، فكل إنسان يتصرف بحسب واقعه، فالذي يملك الآن مثلاً سيارة يقول لك: الطرق ازدحمت، يجب أن يُحدّ من استيراد السيارات مثلاً لأن عنده سيارة، أما الذي لا يملك يرفض هذا التوجيه، لماذا؟ لأن الإنسان لا يخرج من واقعه، ولا من بيئته، فينظر إلى الشيء بحسب رؤيته له، هذا الإنسان مهما كان ذكياً ليس مؤهلاً أن يكون مُشَرعاً للناس، لأنه سينظر إلى كل شيء من زاويته هو، فيأتي شرعه منحازاً إلى فئة دون أخرى، ينطلق من وجهة نظر دون أخرى، يرعى مصالح فئةٍ دون أخرى، لكن النبي معصوم عن الخطأ، لأن الله سبحانه وتعالى عصمه، فالعبقرية لا علاقة لها بالنبوة، النبوة شيء والعبقرية شيء آخر، النبي إنسان اصطفاه الله سبحانه وتعالى ليُبلّغ الخلق شريعة ربّ العالمين، هذه الشريعة من عند حكيم خبير، من عند خالق لا من عند مخلوق، فلو أن الشريعة من عند مخلوق لحابت أناساً دون أناس، للحظت مصالح أناس دون أناس، لنظرت من وجهة خاصة دون وجهة خاصة.
إذاً ليس البشر مهما علا شأنهم مؤهلين أن يضعوا شرعاً لبني البشر، لابد من أن ينطلقوا في شرعهم من وجهات نظر خاصة متعلقة بوضع أو بآخر، فلذلك من الخطأ الفادح، ومن الضلال المبين أن تصف النبي بأنه عبقري، لا، هو نبي، هو إنسان اصطفاه الله سبحانه وتعالى، اصطفاه على علم، وعصمه عصمةً كاملة، عصم لسانه، وعصم أفعاله من أن تكون مجانبة للحق، لأنه سيشرع للناس من عند الله سبحانه وتعالى، فهذه الشبهة وهذه الفِرية التي يطرحها بعض أعداء الدين من أن محمداً عبقري، نقول: هو نبيّ مرسل وكفى، لأن العبقري لابد من سقطة في كلامه، ولابد من سقطة في أفكاره، ولابد من سقطة في سلوكه، وإذا أراد أن يُشرّع العبقري لابد من أن ينطلق من بيئته، أو من مصلحته، أو من منبته، أو من أشياء قد لا تصلح لكافة الناس، لكن النبي الله سبحانه وتعالى اصطفاه، وأهّله، وعصمه، وأوحى إليه شرعاً من عند الله، لأنه لا يصلح للتشريع إلا الخالق:

﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)﴾

[ سورة المُلك ]

 

التشريع البشري ناقص أما التشريع الرباني فهو تشريع كامل:


حينما شرّع الإنسان لنفسه، أكبر مثل أمامنا الأوربيون، رأوا أنفسهم كما يدّعي بعضهم أنهم آلهة الأرض، العلم هو كل شيء، فتقدم العلم عندهم تقدماً هائلاً، وأطلقوا للإنسان أن يفعل ما يشاء إرضاء لشهواته ونزواته، فحطّموا كل القيود، مبدؤهم مبدأ اللذة، اقتناص اللذة حيثما وجدت، وبأي ثمن، ماذا حلّ بهم؟ حلّ بهم مرض فتك بهم، تقطّعت أواصر القربى فيما بينهم، تحطّمت العلاقات الأُسرية المقدسة، تفتّت الأسرة، شاع الطلاق، لا يدوم الزواج في بعض البلاد الأمريكية أكثر من سنتين لشدة تفلت الزوجة والزوج من قيود الأخلاق، لذلك جاء صحفي إيطالي إلى دمشق فالتقى بقاض شرعي، وسأله سؤالاً عن نسبة الطلاق في بلادنا، فتح له السجلات، وأراه أن النسبة خمس وعشرون حالة بالألف، هذه النسبة كاد يُصعق لها لأنه في بعض البلاد الأوروبية نسبة الطلاق تزيد عن سبعين بالمئة، فالشيء الدقيق أن الله سبحانه وتعالى قال: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ .
أي إذا اشتريت سيارة، ومع هذه السيارة نشرة دقيقة تُوَضّح لك طريقة استعمالها، وطريقة قيادتها، وطريقة صيانة أجهزتها، ومتى يجب أن تزودها بالوقود والزيت، ومتى يجب أن تُغيّر بعض القطع المستهلكة استهلاكاً شديداً، أي إنسان مؤهل أن ينصحك في هذا الموضوع أفضل من صانع السيارة؟ ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ أريد أن أصل إلى حقيقة أن الإنسان أيّ إنسان مهما كان عبقرياً، مهما كان موضوعياً، مهما كان نزيهاً، ليس مُؤهلاً أن يضع تشريعاً للناس، لأنه لابد من كبوة، لابد من سقطة في خُلُقه، لو أن له انحرافاً خُلُقياً لغَفَل عن تشريع مضاد له، لو أنه يُحبّ شيئاً غير سليم لما نهى الناس عنه، لابد من سقطات في فكره أو في سلوكه أو في أقواله، ولابد من أن ينطلق في كل ما يقوله أو يفعله من وجهات نظر خاصة أو من بيئة أو من معطيات، لذلك العبقرية شيء والنبوة شيء آخر.
ولو أن الإنسان كان مطّلعاً أي مُحصلاً لعرف من خلال مطالعاته لسيرة عظماء العالم أنه ما من عظيم على وجه الأرض إلا له سقطات، أي هناك أخطاء كبيرة أحياناً، لكن النبي عصمه الله سبحانه وتعالى من الغلط بكل أنواعه، اصطفاه على علم، وأوحى له بالهدى، وأمره بالتبليغ، وعصمه من كل غلط، لذلك يُعَدّ ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام مَصدراً تشريعياً للناس.
في آخر نقطة بهذا الموضوع أنه يستحيل أن يُلمّ العبقري بكل جوانب الحياة، فهذا عبقريته عسكرية، وهذا عبقريته سياسية، وهذا عبقريته في الأخلاق، وهذا عبقريته في التشريع، وهذا عبقريته مثلاً في الفكر، وهذا عبقريته في النظريات المجردة، فكل عبقري نمت عبقريته في جانب من جوانب الحياة، لكن النبي لأن الله اصطفاه، ولأن الله أوحى إليه، فكل ما جاء به متوازن، يُغطي كل مناحي الحياة، كل نشاطاتها، كل اتجاهاتها، هذا من عظمة الأنبياء والرسل الذين اصطفاهم الله لنا.
 

العلاقة بين ما تأتي به النبوات وبين ما تأتي به الفلسفات:


الآن العلاقة بين ما تأتي به النبوات وبين ما تأتي به الفلسفات، لو اطّلعتم على تاريخ الفلسفة لوجدتم أن هناك نظريات مضحكة جاء بها الإغريق، جاء بها الرومان، جاء بها  الهنود، لو أنك عرضت هذه النظريات التي جاءت بها الفلسفات المتعددة لوجدت بوناً شاسعاً بينها وبين العدل والحق، لوجدت بينها اختلافاً كبيراً، لوجدت بعضها خُرَافياً، لوجدت بعضها مُنحرفاً، الدليل؛ اطّلعت في هذه الأيام على مقالة عنوانها: من غرائب المعتقدات، قلت: والله هذه المقالة تؤكد كيف أن البشر من دون وحي إلهي، من دون هدى رباني، يتيهون في ضلالات عمياء لا أول لها ولا آخر، فقال: في بلاد الهند ما يزيد عن أربعمئة ديانة، لنأخذ إحدى هذه الديانات وهي ديانة الهندوس، قال: إن القانون هناك يُحرّم قتل البقرة أو أكل لحمها، والجزاء هو السجن مدى الحياة، أي إذا سولت لواحد أن يذبح بقرة ليأكلها فعقابه السجن مدى الحياة، والبقرة تُترَك لتموت ولا يُؤكل لحمها، فإذا دهسها سائق من دون نية أو دون قصد فلابد أن يدخل السجن عاماً بأكمله، ويدفع غرامة تزيد عن ثلاثة آلاف روبّية، ويُضَاعف الجزاء إذا تكرر العمل، شعب يزيد تعداده عن سبعمئة وخمسين مليوناً، هذا النظام عندهم، عندما بَعُدوا عن شريعة السماء وقعوا في متاهة عمياء، قال: والناس هناك لا يمنعون البقرة من أكل حوائجهم، أي هناك فقرٌ شديد، فإذا دخلت البقرة إلى حانوت، وأكلت ما لّذ وطاب من هذه الفاكهة المعروضة، فإن هذا مما يُسعد صاحب الحانوت، ولو أنها أكلت كل ما في الحانوت من فواكه، وعاد هو إلى البيت طاوياً من الجوع، إنه سعيد جداً لأن بركة البقرة حلّت في حانوته، قال: بل يفرحون بذلك ويتركونها تعمل ما تشاء تيمُّناً وتبرُّكاً حتى ولو هلكوا جوعاً.
أحد الباحثين تقصّى حقيقة هذه العبادة، فقال سأل بعض الخبراء في هذه الديانة فقال: إننا نعتقد بوجود مشكلات كثيرة تأتي للإنسان بعد الموت، نعتقد بوجود مشكلات كثيرة تحلّ بالإنسان بعد الموت، وأن أمامنا أنهاراً لا نستطيع عبورها، فإذا وقفنا لنجتاز هذه الأنهار إلى الجنة كانت هذه الأنهار عقبة بيننا وبين الجنة، فتأتي البقرة ونُمسك بذنبها فتقودنا إلى الجنة، هذا سرّ اعتقادهم بالبقرة، لذلك نسجد لها ونحبها، لأنها تسبح بنا إلى عالم آخر، هذه من معتقدات الهندوس، ونحن نسجد مرة في السنة للكلاب، وخاصة كلاب الحراسة، ونعمل لها أطواقاً من الزهور نُعَلّقها في أعناقها، ولا نتعرض للكلاب بأذى أبداً، لماذا؟ قال: وسرّ هذا الاعتقاد أن هذا الكلب هو الذي يُدخلهم الجنة بعد الموت، كيف؟ قال: لأنه يحرس الجنة، الكلب يحرس الجنة، فإذا جاء هذا الهندوسي يوم القيامة، وكان قد أحسنَ لهذا الكلب في الدنيا، سجدَ لهُ، قلّده باقة من الزهور، أكرمه، أطعمه، فإن هذا الكلب يأخذ بيده ويُدْخله الجنة، لأن الجنة كما يزعمون تحت أقدام الكلاب، قال: فإنهم يحترمون الكلب، ويقدمون له المأكولات.
شيء لا يصدق سبحان الله! سبعمئة وخمسون مليوناً يعتقدون هذه العقائد، هذه الفلسفات، في غياب الوحي السماوي، في غياب الهدى الرباني، في غياب توجيه الله سبحانه وتعالى يهبط الإنسان إلى هذا الدرك من السُّخف، ومن الغباء، ومن الخرافة، ومن الدّجل، ومما لا نهاية لحصره، فلذلك لا يمكن أن نعتمد على الفلسفات وحدها، لأن الفلسفات وحدها قد تودي بنا إلى الهاوية، قد يأتي الإنسان الفيلسوف بنظريات مضحكة.
أبو العلاء المعري فيلسوف تسمعون به، شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، هذا حرّم اللحم على نفسه هكذا، غاب عنه أن هذا المخلوق إنما خُلِق من أجل الإنسان، وأنه إذا قدّم لحمه للإنسان سيسعد بهذا التقديم إلى الأبد، نظام دقيق، قال تعالى:

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)﴾

[ سورة الحج ]

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾

[ سورة الجاثية ]

﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)﴾

[ سورة النحل ]

حرّم على نفسه تناول اللحوم انطلاقاً من فلسفته الخاصة من أن هذا الحيوان إذا ذبحناه لنأكله فقد ارتكبنا جريمة، حرّم على نفسه الزواج، وكُتَب على قبره: هذا ما جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد، عدّ الزواج وإنجاب الأولاد جِناية، لو تركنا الفلاسفة يتحدثون على أهوائهم لوصلنا معهم إلى خرافات، وإلى سقطات، وإلى انحرافات ما أنزل الله بها من سلطان.
إذاً الفلسفات في غياب الدين أكثرها ينطوي على التناقض والتهافت ومخالفة الواقع، وينطلق من وجهات نظر متباينة، ومنطلقة من واقع محدد لا يصلح أن يُعمم على أهل الأرض، هذا أيضاً من سقطات الفلسفة.
 

الفلسفة لا تصلح إلا للعصر الذي تعيش فيه أما الدين فيصلح لكل زمان ومكان:


شيء آخر؛ ما يصلح في عصر لا يصلح في عصر آخر، أي الفلسفة الرومانية، تشريع حمورابي، الفلسفة الإغريقية، لا تصلح لهذا العصر، لأنها نبعت من بيئة معينة، لكن الدين الذي جاء به النبي من عند الله يصلح في كل زمان ومكان، لا يتغير، ينطلق من قيم ثابتة، من معطيات ثابتة، قال تعالى:

﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)﴾

[ سورة فصلت ]

فسّر بعض العلماء هذه الآية أن القرآن الكريم وما جاء به من حِكَم وحقائق لا يستطيع أهل عصره أن ينقضوها، ولا أهل العصور اللاحقة، أي كل الذي جاء به القرآن لم يستطع إنسان بعد ألف وخمسمئة عام أن ينقُض ما جاء فيه لأنه من عند الله، حينما قال ربنا عزّ وجل عن العنكبوت:

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)﴾

[ سورة العنكبوت ]

جاءت تاء التأنيث، الآن عرفوا أن التي تنسج البيت هي الأنثى، لو كان من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: نسج بيتاً العنكبوت، قال: نسج بيتاً، أي قام بهذا العمل الذكر لا الأنثى، وأثبت العلم خلاف ذلك، فمعنى هذا أن هذا الكتاب ليس من عند الله، ما من كلمة جاء بها، ما من حقيقة انطلق منها إلا الآن اكتشفوا أن العسل ألوان معروفة، لكن كل لون من ألوان العسل يشير إلى نوع من أنواعه، وأنّ كل نوع من أنواعه يشفي مرضاً معيناً قال الله:

﴿ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)﴾

[ سورة النحل ]

 

الشرائع السماوية أصلها واحد أما النظريات الفلسفية فحواها التنافس والاختلاف:


شيء آخر؛ الديانات السماوية لا تختلف عن بعضها بعضاً من حيث الأصول، الأصول واحدة، هذا يؤكد أنها جميعاً من عند الله، لذلك قال تعالى:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾

[ سورة الأنبياء ]

دعوة الأنبياء واحدة، فحوى رسالات الأنبياء واحدة، الحلال حلال والحرام حرام في كل رسالات السماء، بينما في النظريات الفلسفية تجد التناقض والتباين والاختلاف والزيغ والانحراف، هذا كله واضح في الفلسفات، وأما بحوث الفلاسفة في أمر الغيب فهذا ضرب من الحدس والتخمين، أي أنّى لهذا الفيلسوف أن يعلم الغيب؟ أن يعلم ما سيكون بعد الموت، أنّى له أن يعلم ما كنا عليه في عالم الأزل؟ أنّى لهُ أن يعلم تاريخ البشرية؟ لكن الأنبياء بما جاءهم من تشريع سماوي عرّفونا بعالم الأزل، وبتاريخ الأمم والشعوب، وبما ينتظر الإنسان بعد الموت من جنة أو نار، من برزخٍ، من حساب، من صراط مستقيم، من أشياء كثيرة، لولا أن الأنبياء جاؤوا بها لكنّا نحن في عمى عن هذه الحقائق.
 

القرآن كتاب هداية ورشد وليس كتاب علوم:


شيء آخر؛ قد يسأل سائل: لمَ لم يكن البشر بحاجة إلى أنبياء يحملون للناس المعارف والعلوم الكونية؟ يا ترى القرآن كتاب رياضيات؟ لا، كتاب فيزياء؟ كلا، كتاب كيمياء؟  كتاب فلك؟ كتاب علم نفس؟ كتاب علم اجتماع؟ كتاب علم جيولوجيا؟ لا، الكتب السماوية التي جاء بها الأنبياء ليست كتباً في العلوم، حكمة ذلك أن الإنسان بدافع من فطرته، وبدافع من الحاجات التي خلقها الله فيه، كلكم يعلم أن الإنسان فيه ثلاثة دوافع: دافع إلى البقاء، ودافع إلى بقاء النوع، ودافع إلى بقاء الذّكر، فبدافع البقاء نأكل ونشرب، وبدافع بقاء الجنس، بقاء النوع نتزوج ونتوالد، وبدافع بقاء الذكر نعمل أعمالاً لتُخلِّد أسماءنا، فكل إنسان ينطوي على هذه الدوافع، فبحكم هذه الدوافع يسعى لإعمار الأرض من أجل أن يأكل.
دققوا أيها الإخوة؛ لو أن دافع الجوع غير موجود في الإنسان لما وجدت على الأرض شيئاً، لماذا العمل؟ لا أحد يعمل، من ينسج لك هذا القميص؟ لا أحد، من يبني لك هذا البيت؟ لا أحد، من ينسج لك هذه السجادة؟ لا أحد، من يزرع لك النبات؟ لا أحد، يوجد دافع الجوع، دافع الجوع دفع الناس إلى العمل، والعمل يتبعه الخبرة، والخبرة تُعمّق العمل، فالإنسان بحكم دوافعه الفطرية سيتعلم العلوم الأرضية، لأن هذه العلوم الأرضية هدفها إعمار الأرض فقط، وهذه العلوم الأرضية لا تنفعه بعد الموت، تنتهي كل إنجازاتها في الحياة الدنيا، لذلك العلوم تتقدم بشكل طبيعي شئنا أم أبينا، لكن الناس بحاجة إلى أن يعرفوا ربهم، وأن يعرفوا مهمتهم، وأن يعرفوا علّة خلقهم، وأن يعرفوا هدفهم، فلذلك جاءت الكتب السماوية لا لتُعلِّمنا العلوم الأرضية والعلوم الكونية لأن الإنسان يبحث فيها، ويتقدم في مضاميرها بدافع ذاتي، وهذا ما يحدث، لكن الدين جاء ليُعرّف الإنسان بربه، جاء ليُعرِّفه بمهمته، جاء ليرسم له طريق السعادة، جاء ليطرح عليه أوامر الله عزّ وجل ونواهيه، لذلك هذا الذي يُجهد فكره ليقول لك: إن كل النظريات وكل العلوم في القرآن موجودة، هذه شحطة، القرآن كتاب هداية ورشد وليس كتاب علوم، لكن أحياناً يوجد لفتات إلى بعض العلوم، أصول العلوم مذكورة، الأصول وليست الفروع، فأن تبحث في القرآن الكريم عن فروع العلوم هذا شيء مستحيل، لأن هذا مُناقِض لمهمة هذا الكتاب المقدس الذي بين أيدينا، مهمته إرشادنا إلى ربنا، ربنا عز وجل قال:

﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)﴾

[ سورة الغاشية  ]

هناك البقر أيضاً، وهناك حمار الوحش، وهناك آلاف مؤلفة من الحيوانات، وهناك الأسماك، وهناك الثعابين، الله ذكر حيواناً واحداً، قال تعالى:

﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)﴾

[ سورة التين  ]

 قال: 

﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)﴾

[ سورة الشمس  ]

أي ذكر آيات لا على سبيل الحصر، على سبيل المثال، تكلم عن الماء فقال:

﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)﴾

[ سورة الحِجر ]

لَفَتَ نظرك أن تخزين الماء شيء مستحيل عليك، هل فكّرت في هذه النعّمة؟ أي لا تحاول أن تنساق مع بعض القائلين إن القرآن فيه كل شيء، بمعنى أن حتى فروع العلوم في القرآن، لا، القرآن أساسه كتاب هداية، كتاب يُلْفِتنا إلى الله سبحانه وتعالى، لكن فيه إشارات دقيقة، فيه صور دقيقة وإشارات دقيقة للعلوم التي بثّها الله في الأرض، من دون أن يكون فيه تفصيل كل شيء في أمور الدنيا، فلذلك بُنيت الشرائع على إصلاح النفوس، وعلى تعريفها برب السماوات والأرض، وحملها على الالتزام بتطبيق أوامره، واجتناب نواهيه.
لا زلنا في موضوع الأنبياء والرسل، وسوف نتابع هذا الموضوع إن شاء الله تعالى في درس قادم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور