- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
تمهيد :
أيها الأخوة الأكارم ؛ مع الدرس الثالث والثلاثين من دروس مدارج السالكين في منازل إيّاكَ نعبد وإيّاكَ نستعين ، وقبلَ أن نمضيَ في الحديثِ عن المفاضلةِ بينَ المطيعِ الذي لم يعص اللهَ عزّ وجل وبينَ العاصي الذي عصاهُ وتابَ من ذنبهِ ، قبلَ أن نمضي في المفاضلة بينَ هذين الرجلين أو هذين النموذجين , لا بُدَ من وقفةٍ في مناسبة النصفِ من شعبان ، ونحنُ في ليلةِ النصفِ من شعبان .
أيها الأخوة الأكارم ؛ من الثابت أنَّ هُناكَ مؤمنين ، وأنَّ هُناكَ سابقين , وأنَّ هُناكَ عُصاةً تائهين .
عاصٍ ، منحرف ، ضائع ، ضال ، تائه ، شارد , مؤمن ، مستقيم ، سبّاق إلى مرضاة الله عزّ وجل , هؤلاء النماذج الثلاثة حيالَ المناسبات الدينية لهم مواقف متباينة ، فالمقطوع عن الله عزّ وجل ، الخارجُ عن منهجهِ ، الشاردُ عن دينهِ ، الغارقُ في المعاصي ، هذه المناسبات الدينية كَليلةِ الإسراء والمعراج ، وليلة النصفِ من شعبان ، وليلة القدر , وما إلى ذلك من هذه المناسبات الدينية , هذا الإنسان الشاردُ لا يتأثّرُ بها إطلاقاً , لأنهُ في واد وهذه المعاني القدسيّة في وادٍ آخر ، ولكن بينَ المؤمن المُقتصد وبينَ المؤمن السابق مواقف متباينة حيالَ هذه المناسبات الدينية .
يعني البارُّ بوالديه الذي يقدّمُ لهُما آيات التعظيم والتوقير والإكرام والإحسان كـُلَ يوم ، إذا جاءَ عيدُ الأمِ مثلاً , هوَ كُلَ يومٍ عِندهُ عيدُ الأُم , في صبيحةِ كُلِ يوم يزور والديـه , ويسألهُما كُلَ حاجتهما , ويقدّمُ لهُما كُلَ ما يرغبانِ بهِ ، أمّا المُقصّر إذا جاءت مناسبة فهـذه المناسبة تُلفتهُ إلى واجبهِ ، لذلك المؤمن السابق كُلَ ليلةٍ عِندهُ هيَ ليلةُ النصفِ من شعبان , كُلُ أيامِ سَنتهِ رمضان ، كُلُ أيامِ رمضان ليلةَ القَدر ، لأنهُ أقبلَ على اللهِ عزَّ وجل , ووضعَ كـُلَ طاقاتهِ , وكُلَ إمكاناتهِ في سبيلِ الحق ، لكنَّ المُقتصد تأتي هذه المناسبات لتذكّرهُ ، لتشـوّقهُ ، لتزيدهُ عِلماً وعملاً ، فلا شك أنَّ الاحتفال بليلةِ الإسراء والمعراج , والاحتفال بليلةِ النصفِ من شعبان لها شأنُها في الدين ، لكن كُلما ارتقى الإنسان في مدارج المعرفةِ , مدارج القُربِ , كُلما اقتربَ من معاني هذه الأيام الفضيلة , ومن معاني هذه الأيام التي وردَ في حقِها بعض الأحاديث الشريفة .
قبلَ كُلِ شيء , ذكرتُ هذا في الخُطبة :
العبادات لها شأنُها عِندَ اللهِ عزّ وجل , لها شأنُها الكبير , وما دامَ لها هذا الشأنُ عِندَ الله , فلا بُدَ من أن يسبِقها تمهيد ، ما دامَ للعبادةِ شأنٌ كبيرٌ عِندَ الله عزّ وجل , إذاً : لا بُدَ من أن يسبِقها تمهيد ، فكما أننا نُصلي سُنّةً قبليّةً تمهيــداً للفريضة الأساسية , ونُصلي سُنّةً بعديةً ترميماً لِما فاتنا في الفريضة , فكأنَ السُنّةَ القبليّة تمهيدٌ وإعداد , والسُنّةَ البعديّةَ ترميمٌ وتلافٍ للنقص ، وكما أنَّ الحاجَّ يحجُّ من الميقات وبينهُ وبينَ الكعبةِ مراحلُ فِساح , من أجلِ أن يُهيئَ نفسهُ لهذا اللقاء الأعظم لقائهِ بربهِ جلَّ وعلا ، كذلكَ الشرعُ علّمنا أن نؤدبَ أبناءنا على الصلاةِ , والصيامِ , وتلاوةِ القرآنِ , وحُبِّ النبي عليه الصلاة والسلام قبلَ سِن التبليغ ، كذلك رمضان دورةٌ تدريبيّةٌ كُلَ عام عبادةٌ سنوية .
الإنسان في رمضان يقفزُ قفزةً نوعية ، لهُ مستوى في فهمهِ ، وفي عقيدتهِ ، وفي إدراكهِ ، وفي طاعتهِ ، وفي ورعهِ ، وفي صلاتهِ ، وفي تهجده ، وفي تلاوتهِ ، وفي إنفاقهِ ، كُل إنسان لهُ مستوى ، لهُ مكانة ، في رمضان لا بُد من أن يقفزَ قفزةً نوعيّة , فالعاصي يتوب , والتائب يزيد , والمُستزيد يتفوّق ، لا بُدَ من نقلةٍ في رمضان ، لكنَّ المُشكلة التي أتمنى على اللهِ جلَّ وعلا أن يقيّنا منها :
هوَ أنَّ عامةَ الناس كُلما جاءَ رمضان قفزوا قفزةً نوعية , فإذا انتهى عادوا إلى ما كانوا عليه , وطَوالَ حياتهم يرتفعونَ ثمَّ ينخفضون , يرتفعونَ ثمَّ ينخفضون , وهكذا ...
لكنَّ المؤمن الصادق إذا قفزَ قفزةً في رمضان , يستمرُّ عليها طوالَ العام , فإذا جاءَ رمضانُ آخر , قفزَ قفزةً ثانية , واستمرَّ عليها طَوالَ العام , فإذا جاءَ رمضانٌ ثالث قفزَ , وهكذا إلى أن يلقى اللهَ عزّ وجل , وهوَ في أعلى الدرجات .
لذلك الحقيقةُ الأولى : هوَ أننا إذا دخلنا في رمضان , ينبغي أن نقفزَ قفزةً نوعية , وهذه القفزة النوعية يجبُ أن نَثبُتَ عليها طَوالَ أيام السنة .
الآن ما علاقة النصف من شعبان برمضان؟
الحقيقة أيها الأخوة ؛ أنَّ الإنسان في رمضان يجبُ أن يصومهُ صياماً كاملاً من أولِ يومٍ حتى آخر يوم ، الانتقال المُفاجئ من مستوىً معين في العبادة إلى مستوىً متفوق , هــذا الانتقال لا بُدَّ لهُ من تمهيد , يعني نقطة هُنا ونُقطة هُناك ، لا بُدَّ من خطِ مائل يصعدُ من هذه إلى تِلك , هذا الخطُ المائل الذي يزدادُ حماس الإنسان فيه , ويُهيئ كُلَ شيء من أجلِ أن يقبلَ اللهُ صيامهُ ، نحنُ في شهرٍ تمهيدي شهر إعداد لرمضان , لهذا النبي - عليهِ الصلاةُ والسلام - كانَ يُكثر فيهِ من الدُعاء , ومن الصلاة , ومن القيام , ومن الأعمال الطيبة والأعمال الخيّرة .
على كُلٍ في هذا الشهر وفي ليلةِ النصف من شعبان تحوّلت القِبلة من بيت المقدس إلى بيت اللهِ الحرام .
سؤال :
لماذا أمرَ اللهُ من خلال السُنّةِ النبوية أن يتجهوا إلى بيت المقدس ؟
الجواب :
لأنَّ الكعبةَ المُشرّفة - وهذا اجتهادٌ في التفسير - كانت فيها الأصنام , وكانَ كُفّارُ قُريش يعتدّونَ بِها ويفتخرونَ ، فإذا توجّهَ إليها المسلمون , لعلَّ في هذا التوّجه ترسيخاً لهذه العبادةِ التي أنكرها القرآن الكريم , لذلك أُمرَ المسلمون إلى التوجّهِ إلى بيت المقدس , ريثما يستقرَ التوحيد فــي الجزيرة العربية , وريثما تتوطدُ دعائم الإيمان باللهِ عزّ وجل , فلمّا رَسَخَ التوحيد , واستقرّت النفوس , أُمِروا بالتوجهِ إلى بيت الله الحرام .
لذلك :
جاءت الآيات متتابعةً في دعوة المؤمنين إلى التوجّهِ إلى بيت الله الحرام ، في هذه الليلة نَزَلت الآيات التي تأمر المُسلمين بالتوجّهِ إلى بيت الله الحرام , ولِشدّةِ تعظيمِ أمرِ اللهِ عزّ وجل في مسجد في المدينة , كانَ أصحابُ النبي يُصلّونَ فيه في أثناءِ صلاتِهم , جاءَ من يُخبِرهم بِتحوّل القِبلة , فتحولوا من قِبلةٍ إلى قِبلة , وزُرتُ هذا المسجد قبلَ سنواتٍ عِدّةَ , فيه محرابانِ متعاكسان ؛ محرابٌ إلى بيت المقدس , ومحرابٌ إلى الكعبةِ المُشرّفة ، في الزيارة الثانية أُلغيَ محراب بيت المقدس , وبقيَ محراب الكعبة المُشرّفة .
على كُلٍ :
إذا ذكرتم ليلةَ النصفِ من شعبان , ففي هذه الليلة المُباركة تمَّ فيها تحويلُ القِبلةِ من بيت المقدس إلى بيت اللهِ الحرام , هذه واحدة .
النبي -عليه الصلاة والسلام- فيما ترويه الأحاديث الشريفة وفيما رواهُ النسائيُ , مـن حديثِ أسامةَ بنِ زيد قال : قُلتُ يا رسولَ الله : لم أركَ تصومُ من شهرٍ من الشهور ما تصومُ من شعبان ، فقالَ عليه الصلاة والسلام :
(( ذلكَ شهرٌ يغفُلُ عنهُ الناس بينَ رجبَ ورمضان, وهوَ شهرٌ تُرفعُ فيهُ الأعمالُ لربِّ العالمين, وأحبُّ أن يُرفعَ عملي وأنا صائم ))
وكانَ أصحابُ النبي صلى اللهُ عليه وسلم ورضي اللهُ عنهم ، إذا نظروا إلى هِلالِ شعبان , أكبّوا على المصاحفِ يقرؤونها , وأخرجَ الأغنياءُ زكاةَ أموالِهم , ليتقوّى بِها الضعيف والمِسكين على شهر الصيام .
أيها الأخوة ؛ إذاً :
فيما يبدو لكم من هذ الآثار القليلة : أنَّ شعبان تهيئةٌ لرمضان ، وأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كانَ يدعو ربهُ في شعبان ، لذلك خُصّت ليلةُ النصفِ من شعبان بالدُعاء .
الدعاء في الحقيقة : أداةُ اتصالٍ مباشرةٍ بينَ العبدِ وبينَ ربهِ .
لكنَّ هذا الدعاء الذي نسمعهُ أحياناً :
اللهم إن كُنتَ كتبتني في أُمِ الكتابِ شقيّاً محروماً مُقتّراً عليَّ في الرِزق , فأمح اللهم بِفضلِكَ شقاوتي وحِرماني وتقتيرَ رِزقي .
هذا الدُعاء لا أصلَ لهُ .
لم يَرِد لا عن رسول الله , ولا عن أصحاب النبي عليهم رِضوان الله ، نحنُ إذا دَعونا اللهَ عزّ وجل , ينبغي أن ندعوهُ بما دعا به النبي صلى اللهُ عليه وسلم .
يعني فِكرة الجبر :
أنَّ الإنسان خُلقَ كافراً , وكُتبَ عليه الكُفر من دونِ ذنبِ اقترفتهُ يداه , وسوفَ يدخُل النار شاءَ أم أبى , لأنَّ الكِتابَ سبقَ عليهِ بالكُفر ، هذه المعاني أيها الأخوة ليست من روحِ القرآن ، قال تعالى :
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾
الإنسان مخير .
لو قرأتَ القرآنَ الكريمَ كُلَهُ لوجدتَ أنَّ الإنسانَ فيهِ مُخيّراً :
﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً﴾
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
بل إنَّ بعضهم قال : مجرّدُ الأمرِ يقتضي التخيير .
أيُعقلُ أن تشُقَّ طريقاً عرضهُ 60 سم بعرضِ إنسانٍ تماماً , بحيثُ أنَ كتفيه يُلامسان جداري هذا الطريق , وأن تأمرهُ أن يتجهَ نحو اليمين أن يلزم اليمين ؟ أيُ يمين هذا !!؟ إذا كانَ الطريقُ ضيقاً بعرضِ السالِكِ فيه , فكيفَ تأمرهُ أن يلزمَ اليمين ؟ لمجرّدِ أن تأمرهُ فالإنسان خيّر ، لمجرّدِ أن تنهاهُ فالإنسـان مُخيّر .
هذه نقطةٌ دقيقةٌ جداً : لو أنَّ اللهَ عزّ وجل كما قالَ الإمامُ الحسن رضيَ اللهُ عنه : أجبرَ عبادهُ على الطاعة لَبَطَلَ الثواب ، ولو أنَّ اللهَ عزّ وجل أجبرَ عِبادهُ على المعصية لَبَطَلَ العِقاب , ولو أنه تركهم هملاً لَبَطَلَ الوعدُ والوعيد وكانَ ذلكَ عجزاً في القُدرة .
واحدٌ سألَ سيدنا عليّاً كرّمَ اللهُ وجهه قالَ : أكانَ مسيرُنا إلى الشام بقضاءٍ من اللهِ وقَدَر ؟ قالَ : ويحكَ ! لو كانَ قضاءً لازماً , أو قَدراً حاكماً , إذاً : لَبَطَلَ الوعدُ والوعيد, ولانتفــى الثواب والعِقاب , إنَّ اللهَ أمرَ عِبادهُ تخييراً ونهاهم تحذيراً , وكلّفَ يسيراً ولم يُكلّف عسيـراً , وأعطى على القليل كثيراً , ولم يُعص مغلوباً , ولم يُطع مُكرهاً , ولم يُرسل الأنبياءَ عَبَثاً , ولم يُنزّل الكُتُبَ لَعِباً .
الإنسان مُخيّر .
والأثر الذي تعرفونهُ جميعاً : رجل ضُبِطَ متلبّساً بِشُربِ الخمر, فاقتيدَ إلى عُمرَ بن الخطاب, ولمّا أرادَ إقامةَ الحدِ عليه قالَ: واللهِ يا أميرَ المؤمنين! إنَّ اللهَ قدّرَ عليَّ ذلك, فقالَ رضي الله عنهُ -وكانَ عالِماً بالكتاب والسُنّة- قالَ: أقيموا عليهِ الحدَّ مرتين؛ مرةً لأنهُ شَرِبَ الخمرَ, ومرةً لأنهُ افترى على الله, وقالَ: ويحكَ! إنَّ قضاءَ اللهِ لم يُخرِجكَ من الاختيارِ إلـــى الاضطرار.
ندم الكافر يدل على أن الإنسان مخير .
وحينما تُطالعونَ القرآن الكريم , تجدونَ أنَّ مُعظم الآيات تُبيّنُ نَدَمَ الكافر على كُفرهِ :
﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾
﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾
﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً﴾
﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾
هذه الآيات كُلُها تؤكدُ : ندَمَ الكافر على فعلِهِ السيء وعلى معاصيه ، لو أنهُ كانَ مُجبراً عليها ولا خيارَ لهُ في ذلك , أيُعقل أن يندمَ على ذلك ؟!!.
الإنسان مسير ومخير بآن واحد :
إذا قرأتَ القرآن الكريم تشعر أنكَ مُخيّر، مُخيّر فيما كُلّفتَ به طبعاً، في دائرةٍ أنتَ مُسيّر وفي دائرةٍ أنتَ فيها مُخيّر، وُلِدتَ من أبٍ فلانيٍ وأمٍ فلانيةٍ؛ في المكان الفُلاني, في الزمن الفُلاني, من أَسرةٍ فلانيةٍ, بوضعٍ مُعيّن, ببنيةٍ معينة, بوراثةٍ معيّنة, هذا كُلهُ أنتَ فيهِ مُسيّر, ولستَ مُحاسباً عنهُ إطلاقاً, وسيماً، ذميماً، ضعيفاً، قوياً، قصيراً، طويلاً، ذكيّاً، أقلَّ ذكاء، غنيّاً، فقيراً، هذه الحظوظ التي جاءتكَ من دونِ حولٍ مِنك, من دونِ طلب, إنكَ فيها مُسيّر ولستَ مُحاسباً عليها إطلاقاً, إنك مُخيرٌ فيما كُلّفتَ بهِ, والدليل قول الله عزّ وجل:
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾
ما هوَ الكسبُ ؟ أنت حينما تنبعثُ إلى طاعة الله عزّ وجل , حينما تتوجه إلــى طاعة الله عزّ وجل , هذا التوجّه إلى طاعة الله هوَ الكسب ، وحينما تتوجه إلى معصية الله عزّ وجل , هذا التوجه إلى معصية الله هوَ الاكتساب .
﴿فلها ما اكتسبت وعليها ما اكتسبت﴾
يعني : بشكلٍ أو بآخر لا بُدَّ من عُنصُرٍ مِنك ، هوَ الذي حددَ مصيركَ مِنكَ ، خيرُكَ فيكَ وشرُّكَ مِنكَ ، يعني الجنةُ محضُ فضلٍ والنارُ محضُ عدل , فإذا أردتَ أن تدخُلَ الجنة فبِفضل الله وكرمهِ , لكن إذا دخلَ إنسانٌ النار, فبِعملهِ السيء , وباختيارهِ السيء , وبتَبِعةِ عملهِ .
فالدعاء الذي لا يُوافق الكتاب والسُنّة , لا ينبغي أن نحفلَ بهِ , ادع بما دعا به النبي عليه الصلاة والسلام ، النبي عليه الصلاة والسلام وضّحَ وبيّنَ وفصّلَ , وحينما دعا يُستنبطُ من دعائهِ الشريف : أنَّ النفسَ البشريةَ :
﴿لها ما كسبت وعليه ما اكتسبت﴾
أمّا ما أنتَ مُسيّرٌ فيه , هذا موضوع دقيق جداً , إذا كان سابق لوجودك فهوَ لصالِحك ، وإذا كانَ تابعٌ لوجودِك فهوَ دفعٌ لثمنِ اختيارِك .
الفكرة دقيقة جداً : إن كانَ هذا الاختيار ، إن كانَ هذا التسييرُ سابقاً لوجودِك , لماذا خُلقت من فُلان وفُلانة , وبهذه الصِفات , وبهذه البُنى , وبهذه الإمكانات , وبهذه القُدرات ؟ هذا الخلق سابقُ لوجودِك , هوَ لمصلحتِك , وليسَ في إمكانِك أبدعُ مما أعطاك , كما قالَ الإمام الغزالي ، أمّا التسييرُ الذي يتمُ بعدَ وجودِك ودفعٌ لثمنِ اختيارِك , يعني الإنسان إذا اختارَ اختياراً صالِحاً , إذا اختارَ طاعة الله عزّ وجل , سيّرهُ اللهُ لِما فيه خير له الدنيا والآخرة ، وإذا اختارَ معصية اللهَ عزّ وجل , سيّرهُ الله لدفعِ ثمن اختيارِهِ ، سيّرهُ ليؤدبه ، سيرهُ ليقتصَّ منه ، سيّرهُ ليوقفهُ عِندَ حدهِ ، سيرهُ ليردعهُ ، فالتسييرُ الذي يأتي بعدَ اختيارك , هو لدفعِ ثمن اختيارِك , إمّا مكافأةً وإمّا عِقاباً ، والتسيير الذي يأتي قبلَ اختيارِك , إنما هوَ في مصلحة اختيارِك .
ما كانَ سابقاً لوجودِك اعلم عِلمَ اليقين أنهُ في مصلَحَتِك .
وما كانَ لاحقاُ لوجودِك إنهُ دفعٌ لثمنِ اختيارِك .
فلذلك : من أدق الآيات الكريمة , ومن أدق الصيّغ اللغوية التي تستعمل للنفي , هي صيغةُ ما كانَ لـِ :
﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾
ربُنا عزّ وجل في هذه الآية لم ينف عن ذاتهِ ظُلمَ العباد, بل نفى عن ذاتهِ كُلَّ ما حولَ الظُلم، اللهُ عزّ وجل لا يُريد الظُلمَ ولا يقبلهُ ولا يأمرُ بهِ ولا يوقِعهُ بينَ عِبادهِ.
كُنتُ قلتُ لكم سابِقاً هذا المثل: يعني فرقٌ كبير بينَ أن تقول فُلانٌ لم يسرِق هذه الدراهم, وفُلانٌ ما كانَ لهُ أن يسرِق, لم يسرِق نَفيُ الحدث, لكن ما كانَ لهُ أن يسرِق نَفيُ الشأن، ليسَ من شأنِهِ, ولا من طبيعتهِ, ولا من أخلاقهِ, ولا من قيمهِ, ولا يُريد, ولا يرضى, ولا يقبل, ولا يُقرّ, ولا يدعو, أبداً كُل هذه المعاني منفيةٌ عنه, فلذلك إذا قالَ اللهُ:
﴿ما كانَ اللهُ ليظلمهم﴾
إذا قالَ اللهُ:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾
﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾
((لا ظُلمَ اليوم إني حرّمتُ الظُلمَ على نفسي, وجعلتهُ محرّماً بينكم فلا تظّالموا))
إذاً: الآيات والأحاديث القدسية الشريفة واضحةٌ، قطعيةُ الدلالةِ, في أنَّ اللهَ عزّ وجل منزّهٌ عن الظُلم؛ أي:
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾
هذا الأعرابيُّ الذي قالَ لهُ النبي عليه الصلاة والسلام, الذي سألَ النبي, قالَ:
((عِظني وأوجِز، فقرأَ عليه الصلاة والسلام:
﴿فمن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيراً يره ومن يعمل مثقالَ ذرةٍ شراً يره﴾
قالَ: كُفيت، فقالَ عليه الصلاة والسلام: فَقُهَ الرجُل))
شعبان إعداد لرمضان :
إذاً: نعود إلى ليلةِ النِصفِ من شعبان, إنها بادئَ ذي بدءٍ: إعدادٌ للنفسِ كي تستقبلَ شهرَ الصيام, وهيَ في أوجِ إقبالِها على اللهِ عزّ وجل، وهيَ في أتمِّ استعدادٍ للدخولِ في هذا الشهر الكريم الشيء العظيم، الشيء المُقدّس, يحتاج إلى تمهيد, لكن الشيء التافه لا يحتاج إلى تمهيد، فهذا رمضان لعلَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى يُعتِقُنا فيه من النار، لعلَّ هذا الشهرَ الفضيل يرتقي فيه الإنسانُ: من حالٍ إلى حال، ومن درجةٍ إلى درجة، ومن منزِلةٍ إلى منزِلة، ومن قيّمٍ إلى قيّم، ومن نوايا إلى نوايا، ومن رؤيا إلى رؤيا، فما دامَ هذا الشهرُ الكريم يمكن أن يكونَ سبباً في ارتقائِكَ, لا بُدَ لهُ من تمهيد، التمهيد هوَ شهرُ شعبان؛ صيامٌ وإنفاقٌ وتلاوة قرآنٍ وعملٌ طيب.
يعني بالمَثل المادي: إذا أردت أن تقطعَ مسافةً بينَ نقطتين بسرعةٍ عاليةٍ, لا بُدَ من أن تتحركَ قبلَ نُقطة البدء, إذا بدأت الحركة عِندَ نقطة البدء, إلى أن تزدادَ سُرعَتُكَ, وتأخذَ سُرعتكَ القصوى, تكون قد قطعتَ مسافةً هدراً، فمن أجلِ أن تبدأَ السيرَ سريعاً من نقطة - أ - إلى نقطة - ب – لا بُدَ من التحرُك قبلَ - أ - هذا بشكلٍ أو بآخر ما يعنيه الإعدادُ لرمضانَ من شعبان.
الشيء الثاني : النبي عليه الصلاة والسلام كانَ يدعو اللهَ في هذا الشهر الفضيل .
والدُعاء فصلتُ عنهُ كثيراً في خُطبة الجُمُعة ، وذكرتُ أنَّ في القرآنَ الكريم ثلاثَ عشرةَ آية فيها كلمة قُل :
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾
ثلاثَ عشرةَ آية في القرآن الكريم فيها هذه الصيغة, إلا آيةً واحدة هي قولهُ تعالى:
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾
إذا فتحتم المُعجمَ المُفهرس على مادةِ سألَ تأتي آيات يسألونكَ, احصِ هذه الآيــات, ثلاثَ عشرةَ آيةً كريمةً, في كُلِ هذه الآيات كلمةٌ واحدة هيَ: قُل, هذه الكلمة كلمة قُـل, غابت في آية واحدة هي:
﴿وإذا سألكَ عبادي عني فإني قريب﴾
استفادَ العلماء من غياب كلمة: قُل في هذه الآية, أنهُ ليسَ بينَ العبدِ وبينَ ربهِ حِجاب, لا وسطاء, الدعاء وسيلةُ اتصالٍ مباشِر, أن يكونَ بينَ يديكَ هذا السلاح الخطير بإمكانِكَ أن تدعوَ اللهَ عزّ وجــل، واللهِ لا تستطيع أن تدخل على إنسان ذي أهميةٍ بسيطة إلا بموعدٍ قبلَ أسبوعين, وإلا بوقفةٍ لساعـاتٍ كثيرة على بابهِ، لكنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى يقول:
﴿وإذا سألكَ عبادي عني فإني قريب أُجيب دعوة الداعي إذا دعاني﴾
قد تقفُ ساعاتٍ على بابِ إنسان.
الترابط بين قوله وإذا سألك عبادي وقوله فمن كان يرجوا لقاء ربه:
ربُنا عزّ وجل يقول:
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾
هاتان الآيتان لا تُقدّران بثمن :
يعني إذا أردتَ أن تلتقي معَ الله عزّ وجل , اعمل عملاً صالحاً , وادخل إلى بيتٍ من بيوت الله , وصلي ركعتين , وانظركيفَ أنَّ اللهَ سبحانـهُ وتعالى يتجلّى على قلبِك ؟ وانظر كيفَ تنهمر دموعُك ؟ وانظر كيفَ تشعر أنكَ أسعدُ الناس ؟ هذا معنى قولِهِ تعالى :
﴿قُل إنما أنا بشرٌ مثلكُم يوحى إليَّ أنما إلهكم إلهٌ واحد فمن كانَ يرجو لِقاءَ ربهِ فليعمل عملاً صالحاً ولا يُشرك بعبادةِ ربهِ أحداً﴾
﴿وإذا سألكَ عبادي عني فإني قريب﴾
لكن ذكرت يوم الجمعة أنهُ :
﴿وإذا سألكَ عبادي عني﴾
أنتَ عن ماذا تسأل؟ قُل لي ما الذي تسألُ عنه, أقُل لكَ من أنت؟ ما الذي يعنيك؟ ما الذي يُقلِقُك؟ ما الذي تبحثُ عنه؟ ما الذي ترجوه؟ .
﴿وإذا سألكَ عبادي عني﴾
تسألُ عن حُطام الدُنيا، عن متاعِها، عن تجارتها، عن مكاسِبها، عن بيوتها، عـــن زوجاتِها، عن نِسائِها، أم تسألُ عن الله كيفَ أُرضيه؟ كيفَ يرضى عني؟ كيفَ أتقرّبُ إليه؟ كيفَ أُطيعهُ؟ كيفَ يقبلُني؟ كيفَ يُحبُني؟.
﴿وإذا سألكَ عبادي عني فإني قريب﴾
أيام بعض الأخوة يدعونَ دعاءً بصوتٍ مرتفعٍ وصياحٍ وضجيجٍ ورفعِ اليدين إلى السماء, ودُعاءٍ بليغٍ منمّقٍ، مُسجّعٍ، مدروسٍ، مُعدٍ إعداداً رائعاً، مع أنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى يقول عن سيدنا زكريا:
﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً﴾
بإمكانِكَ وأنتَ صامت، بإمكانِكَ وشفتاكَ مُطبقتان: أن تسألَ اللهَ في قلبِكَ شيئــاً، سِلاحٌ عظيمٌ بينَ يديك، يعني أنت من أجل أن تصل إلى شخص ذي أهميةٍ قليلة, تبذلُ جُهداً كبيراً، لكنَّ اللهَ جلَّ في عُلاه, تقول: يا رب, يقول لكَ: لبيكَ يا عبدي اسأل تُعط.
هذا الحديث الشريف الذي أتلوه على مسامِعكم, دائماً لو وقفنا عِندهُ وقفةً متأنية:
عَنْ َأَبِي هُرَيْرَةَ قَال, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
((إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الأَوَّلُ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ مِنْ تَائـِبٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ))
وأنتَ إذا قُلتَ: سَمِعَ اللهُ لِمن حَمِدَه؛ اللهُ يسمَعُكَ, سَمِعَ اللهُ لِمن حَمِدهَ, تفضّل, قُل له: يا ربي لكَ الحمد والشكر والنعمة حمداً كثيراً طيباً مُباركاً.
ليلة النصف من شعبان .
في الحديث عن ليلة النصف من شعبان :
حديثٌ عن الدُعاء , وعن قيمة الدُعـاء ، وكيفَ أنَّ الدُعاءَ سِلاح المؤمن .
ولكن قد تسأل هذا السؤال : يا رب المسلمون يدعونكَ ليلَ نهار في كُلِ مناسبة, وعَقِبَ كُلِ صلاة, وفي مناسباتِهم الدينية, وفي الخُطب, وفي الكلمات, وفي الاحتفالات, وفي عقودِ القِران, وفي المناسبات الحزينة، يسألونكَ أن تُهلِكَ أعداءهم, يا رب وأن .. وأن .. وأن .., والذي يراهُ الناظر: أنّ اللهَ عزّ وجل لا يستجيب.
الجواب في هذه الآية :
﴿وإذا سألكَ عبادي عني فإني قريب أُجيب دعوة الداعي إذا دعان﴾
قد يُصبحُ الدُعاءُ سلوكاً، قد يُصبِحُ الدُعاءُ عادةً لا معنى لها, ادع لنا يا سيدي فيدعو لك, الداعي والذي يؤمنُ على دُعائهِ في وادٍ آخر.
قال :
﴿أُجيب دعوة الداعي إذا دعان﴾
.
إذا دعاني حقيقةً، قد يدعوني الداعـي وهوَ متكئٌ على زيدٌ أو عُبيد معتمدٌ عليه، قد يدعوني الداعي وهوَ معتمدٌ على مالِه أو على جاههِ أو على قريبهِ أو على شيء في يدهِ, لكنهُ إذا دعاني حقّاً أُجيبهُ.
الله عزّ وجل يُعلّمُنا كيفَ يستجيبُ لنا؟ قال:
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾
يعني إذا آمنت بهِ تستجيبُ لهُ، فإذا استجبتَ لهُ ودعوتهُ يستجيبُ لكَ، هذه الآية قانون الدُعاء: آمن بهِ ثمَّ استجب لهُ ثم ادعهُ يستجب لك, فإذا حدثّتُكم عن دعاء النصف من شعبان, فهوَ الحديث عن الدُعاء, لأنه مُخُ العِبادة, يعني الإنسان يُصلي حتى يتصل، يصوم حتى يتصل، يَحُج حتى يتصل، يتصدّق حتى يتصل، يستقيم حتى يتصل، يعمل الأعمال الصالحة حتى يتصل، إذاً: الاتصال بالله هوَ كُل شيء, لأنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:
((الدُعاءُ مُخُ العِبادة))
يعني أعلى درجات الاتصال: أن تدعوهُ وأنتَ في ضائقة، أن تدعوهُ بدُعاءٍ حار, أن تدعوهُ وأنتَ تستغيثُ بهِ، لذلك قالَ النبي الكريم:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ))
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
((لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ))
ليسَ شيء أكرمُ على اللهِ من الدُعاء.
وأجمل ما في هذا الموضوع قولهُ تعالى:
﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً﴾
يعني لولا أنكم تدعونَ اللهَ عزّ وجل, اللهُ عزّ وجل لا يعبأُ بِكم, أي الدُعــاءُ علامة الإيمان، إذا دعوتَ الله معنى ذلك: أنَّ اللهَ موجود، وإذا دعوتَ الله معنى ذلك: أنــك مؤمنٌ بأنهُ يستمعُ إليك، وإذا دعوتَ الله معنى ذلك: أنكَ مؤمنٌ بأنهُ يستجيبُ لك، وإذا دعوتَ الله معنى ذلك: أنكَ مؤمنٌ بأنهُ قدير، إيمانُكَ بأنهُ موجود وبأنهُ سميعٌ وبأنهُ قديرُ وبأنهُ رحيمٌ دعاكَ إلى أن تدعوهُ، إذاً: دُعاؤكَ لهُ علامةُ إيمانِكَ بهِ, إذاً:
﴿ما يعبأُ بِكم ربي لولا دُعاؤكم فقد كذبتم فسوفَ يكونُ لِزاماً﴾
الدرس الثالث والثلاثين من دروس مدارج السالكين في منازل إيّاكَ نعبد وإيّاكَ نستعين:
مفاضلة بين المطيع والعاصي التائب .
عودةٌ إلى موضوعِنا المُقرر , وهوَ ما قالهُ بعضُ العُلماء :
في ترجيحِ الطائع الذي لـم يعصِ الله على الإنسانَ الذي عصى اللهَ ثمَّ تابَ منهُ , موضوع لطيف : على أنَّ كُل فريقٍ يحتجُّ بأنَّ الأول أفضلُ من الثاني.
أولاً :
قالَ بعضُهم : إنَّ أكملَ الخلقِ وأفضلُهم أطوَعُهم لله وهـذا الذي لم يعصِ فيكونُ أفضل .
إنسان لم يعصِ , وإنسان عصى وتاب .
الذي لم يعصِ أفضلُ من الذي عصى وتاب بشكل بديهي ، الذي عصى مضى وقتٌ من حياتِهِ , وهوَ في معصية , وهوَ في قطيعة , وهو في خسارة , فالذي يُرافِقهُ ولم يعص , هذا الوقت أمضاهُ في طاعة الله , استفادَ من الوقت , ومن عملهِ الصالح , ومن إقبالِهِ على الله , إذاً : الشخصُ الأول يُعدُّ أفضل .
العاصي في أثناء المعصية يمقُتهُ الله عزّ وجل .
الطائعُ في أثناء الطاعة يُحِبـهُ الله عزّ وجل .
إذاً :
بينَ أن يمضيَ وقتٌ وأنتَ في مقتِ الله , وبينَ أن يمضيَ وقتٌ وأنتَ في طاعة الله , بونٌ كبيرٌ بينهما , المُذنب حينما يُذنب قد يتوب وقد لا يتوب فهوَ مُغامر , وإذا عالجهُ الله بمصيبةٍ قد يستجيب وقد لا يستجيب ، وقد يستفيد وقد لا يستفيد ، ففي المعصيةِ مغامرةٌ كبيرةَ بل مقامرةٌ كبيرة .
يعني من يضمنُ لكَ أن تتوبَ من هذه المعصيــة ؟ هُناكَ أُناسٌ يُصرّونَ على ذنبِهم حتى الموت , أبداً .
إذاً :
الطائع في سلام , أما العاصي في مقامرة وفي مغامرة ، المُطيع أحاطَ نفســهُ بسياجٍ منيع من الطاعة , لكنَّ العاصي جعلَ في هذا السياج ثغرات كثيرة , من هذه الثغرات :
أتاهُ الشيطان فخرّبَ بنيتهُ الداخلية ، وخرّبَ صفاءهُ ، وخرّبَ إقبالهُ على الله عزّ وجل .
في نقطة دقيقة جداً : أجمعَ أصحاب رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم وهذه الفِكرةَ أقولَها لكم دائماً , والآن أقرأُها أولَ مرة على أنَّ كُلَ ما عُصي اللهُ بهِ فهوَ من جهل .
يعني لا يُمكن أن تعصي اللهَ عزّ وجل إلاّ وتُدمغ بأنكَ جاهل .
عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ :
((كَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا أَنْ يَخْشَى اللَّهَ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلا أَنْ يُعْجــَبَ بِعِلْمِه))
مهما تعلّمت , ما دُمتَ مُقيماً على معصيةٍ , فأنتَ لا تعرِفُ الله .
مقياسُ علِمِكَ : طاعتُكَ لا حذلقةُ لِسانِك , ولا طلاقة لِسانِك , ولا إجابتُكَ عن كُلِ مسألةٍ تُسألُ بِها .
مقياسُ عِلمِكَ الحقيقي : الذي يُنجيّكَ يومَ القيامة طاعتُكَ للهِ عزّ وجل .
فلذلك أجمعَ أصحابُ رسول الله على أنَّ كُلَ ما عُصي اللهُ بهِ فهوَ جهالة ، والجهالــةُ نوعان :
الجهالة نوعان :
جهالةُ عِلمٍ وجهالةُ سلوكٍ .
إمّا من الجهلِ وإمّا من السُفهِ، الإنسان إذا انحرف فهوَ سفيه، وإذا ارتكبَ معصيةً فهوَ جاهل، لذلك أعدى أعداء الإنسان هوَ الجهل, وربُنا عزّ وجل حينما قال:
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾
الجاهليةُ الأولى هيَ الجهلُ المُفضي إلى الجهالة, هذا الانحراف, الإنسان حينما يعصي يطمعُ العدوُ بهِ والعدوُ هوَ الشيطان، يعني إذا أنتَ لم تعص أبداً, الشيطان ييأسُ مِنك, لكِنكَ إذا بدأتَ خطوةً نحوَ المعصية, طَمِعَ فيكَ الشيطان, وطَمِعَ بمزيدٍ من المعاصي.
الشيء المُهم: أنَّ المعصية لا بُدَّ من أن تُكفّر, إمّا بمصيبة كي تُمحى بِها هذه المعصية، وإمّا بحسنةٍ كبيرة تُمحى بِها هذه المعصية، وإمّا بعذابِ قبرٍ، وإمّا بسكراتِ موتٍ، وإمــّا بعذابٍ في النار.
يعني هذه المعاصي كما قالَ النبي -عليه الصلاة والسلام- فيما يرويهِ عن ربهِ:
((وعزتي وجلالي, لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه, إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها, سقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبة في ماله أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء, شددت عليه سكرات الموت, حتى يلقاني كيوم ولدته أمه))
في درسٍ آخر إن شاءَ الله عزّ وجل نتحدّث عن فضلِ من وقعَ في مخالفةٍ ثمَّ تابَ إلى اللهِ عزّ وجل وقُبلِت توبتهُ، وكيفَ أنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى يرحمهُ ويقبلهُ؟ حتى يتوازن الوضع, إذا واحد لم يعص فهذا شيء جميل جداً، لكن إذا عصى وتاب وقَبِلهُ الله عزّ وجل لهُ عِندَ اللهِ شأنٌ كبير, لأنَّ اللهَ يفرحُ بتوبةِ عبدهِ.
أحياناً -ولله المثلُ الأعلى-: يكون في الأُسرة طِفلان أو شابان، شابٌ متفوقٌ في دراستهِ, وشابٌ آخر منحرف انحرافاً شديداً، المتفــوق والمستقيم ألِفَ والِداهُ أنهُ كذلك، لكن المُنحرف إذا عادَ إلى طريق الصواب, يُدخلُ على قلبِ والديهِ فرحاً لا حدودَ لهُ, لذلك:
((لا اللهُ أفرحُ بتوبةِ عبدهِ من الضال الواجد, والعقيم الوالد, والظمآن الـوارد))
والنبي -عليه الصلاة والسلام- حينما رأى امرأةً من السبايا رأت ابنها, فأقبلت عليه, ووضعتهُ على صدرِها, قال:
((لا اللهُ أفرحُ بتوبة عبدهِ من هذه بولدها))
أحاديث كثيرة تؤكد ذلك.
على كُلٍ؛ هذا في الدرس القادم إن شاءَ اللهُ تعالى, قيامُ ليلةِ النصفِ من شعبــان, يعني أن تُكثر فيها من الذِكرِ والدُعاءِ والصلاة.
وقالَ بعضُهم: إذا صليتَ قبلَ الفجرِ صلاة قيام الليل, أجزأتكَ عن قيام الليل عِندَ بعضِ العُلماء.
يعني شيء من قيام الليل وشيء من تِلاوة القرآن, هذا يجعلُكَ من الذين استجابوا للهِ ورسولهِ وأحيَوا ليلةَ النصِفِ من شعبان.