وضع داكن
19-04-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 036 - حوار حول السلوك إلى الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

تمهيد.

 أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس السادس والثلاثين من مدارج السالكين, وأُريد في هذا الدرس أن نقفَ وقفةً متأنيّةً, ولا سيّما ونحنُ في رمضان, حولَ السلوكِ إلى اللهِ عزّ وجل، وصلنا إلى موضوع التوبة, وقبلَ أن ننتقلَ من التوبةِ إلى موضوعٍ آخر, أردتُ أن أقفَ وقفةً متأنيّةً حولَ السلوك إلى الله عزّ وجل.
 الحقيقة دينُ الله عزّ وجل واسعٌ جداً, يعني كما تعلمون:
 بابُ العقائد بابٌ كبير.
 وبابُ العباداتِ بابٌ أكبر.
 وبابُ المعاملاتِ بابٌ خطير.
 وبابُ الأخلاقِ والفضائل لا يُستهانُ بهِ.
 ولكن ينبغي للمؤمن دائماً أن يضعَ يدهُ على جوهر الدين، ينبغي للمؤمن أن يضعَ يدهُ على الشيء الخطير في الدين، فحينما يلتبسُ عِندَ المؤمن ما هوَ من الدين أساسيٌ وما هوَ ثانوي، الأمور حينما تختلط ولا يُميّزُ المُسلم بينَ جوهر الدين وبينَ فروعهِ أو ثانوياتهِ, عندئذٍ يقعُ فيما يُسمّى بالخيطَ العشواء، فقد يستهلكُ عُمرهُ كُلهُ في شيء, لا يستأهلُ هذا الوقتَ الثمين, ولا هذا الجهدَ البليغ، في شيء اسمهُ السلوك إلى الله عزّ وجل, يمكن أن تُصلّي, ويُمكن أن تصومَ رمضان, ويُمكن أن تَحُجَّ البيت, ويُمكن أن تقرأَ كِتابَ فِقه، ولكن أتمنى على كُلِ أخٍ كريم, أن يسألَ نفسهُ هذا السؤال:
 هل وضعتُ يدي على جوهر الدين؟
 يعني هل وصلتُ إلى الله؟
 اللهُ سبحانهُ وتعالى مصدرُ الكمال، مصدرُ الجمال، مصدرُ القوة، قويٌ قوي، جميلٌ جميل، كامِلٌ كامل, واحدٌ في كمالِهِ، واحدٌ في صِفاتِهِ، واحدٌ في ذاتِهِ، فإذا وصلتَ إليه, لا ينبغي أن تكونَ شقيّاً أبداً، أمّا لو أنَّ الإنسان أخذَ من الدينِ جوانب وأغفلَ جوانب, طريق الوصولِ إلى الله عزّ وجل أصبحَ غيرَ سالك، وما لم يسلُك الإنسان إلى اللهِ عزّ وجل, فلن يشعر بهذه السعادة التي وُعِدَ المؤمنونَ بِها.
الآن:
 على سبيل السؤال والجواب, لأنني أرى أن المحاورة, وطرحَ السؤال, وتلقّي الجواب, شيء يبعثُ في نفسِ المُستمع الحيويةَ والنشاط.

 ما هي الوعود التي وعدَ الله بِها المؤمنين في القرآن الكريم؟

بعض الوعود...

الوعد الأول: الحياة الطيبة.

 تعريف الحياة الطيبة: الحياة التي لا يعتريها شقاء.
 المؤمن هل تصيبهُ متاعب في الدنيا وهموم؟
 يعني سؤال دقيق.
 حياة طيبة, يا ترى المؤمن يمرض؟ يفتقر؟ المؤمن يُعاني من متاعب اجتماعية؟
 ما دُمتَ تقول: أنَّ اللهَ عزّ وجل وعدَ المؤمنَ بحياةٍ طيبة، أنا أُريد الآن أن أعرف ما الحياة الطيبة؟ لأنهُ في ضوء التعريف تتضح أُمور كثيرة جداً.
 أنا أقول لكم: الحياة الطيبة أن تشعُرَ أنكَ وفقَ المنهج الصحيح, وفي طاعةِ الله عزّ وجل, ولِتأتكَ المتاعب ما شاءت، سِرُّ السعادة أن تشعر أنَّ خالِقَ الكون يُحِبُك, وأنَّ خالِقَ الكون أنتَ في الطريق إليه وعلى منهجهِ وعلى طاعتهِ، هذا الشعور يمتصّ أي شعور مُتعب في الحياة الدُنيا، لأنهُ قد تقول: لو أنَّ الحياة الطيبة مالٌ وفير, قد ترى غنيّاُ غِنىً فاحِشاً, هل هوَ في حياة طيبة؟ هل هوَ في شقاء؟
 لذلك كما قالَ بعض الأخوان: الإنسان إذا أقبلَ على الله عزّ وجل, واتصلَّ بهِ, وشَعَرَ بالسكينةِ, هذه هيَ الحياة الطيبة.
 لذلك: لو يعلم المُلوكُ ما نحنُ عليه, لقاتلونا عليها بالسيوف.
 المؤمن يحيا حياةً نفسيةً من أسعدِ الحيوات, حياة نفسية.
 يعني مثلاً من مشاعر الحياة النفسيّة:
 الخوف شعور مُدمّر، القلق شعور مُدمّر، الإحباط شعور مُدمّر، القهر شعور مُدمّر، الشعور بأنَّ هُناك ظُلم عام, وأنَّ خصمَكَ بإمكانهِ أن يُدمِّرَكَ وأمرُكَ بيدهِ, هذا شعور كبير جداً, لذلك الإنسان إذا عاشَ حياةً طيبة، أي لا يعتريهِ شعورٌ مُدمّر، شعورهُ كُلُهُ صحيّ، شعور الطمأنينة والثِقة بالله عزّ وجل، والشعور أنَّ الله راضٍ عنه، هذه الحياة الطيبة قد يعتوِرُها فقرٌ أحياناً وضيقٌ أحياناً ومرضٌ وما إلى ذلك ......، لكنَّ الإيمان يمتصُّ كُلَ هذه المتاعب, هذا وعد.

الوعد الثاني: الاستخلاف في الأرض والتمكين والأمن.

 الاستخلاف والتمكين والأمنُ, لو أننا سلكنا إلى اللهِ عزّ وجل السلوكَ الصحيح ووصلنا إليه, لاستحققنا وعدَ اللهِ عزّ وجل، حينما تجد في الكتاب الكريم وعداً إلهياً للمؤمن, وحينما لا تجد هذا الوعدَ مُحققاً, بِم تُفسّر ذلك؟
 الوعد الأول: الحياة الطيبة.
 الوعد الثاني: الاستخلاف والتمكين والطمأنينة.
 حينما لا تجدُ وعدَ اللهِ مُحققاً, كيفَ نُفسّر ذلك؟ أنَّ هُناك تقصير, مستحيل أن تتهِمَ الله عزّ وجل في أنهُ أخلَفَ وعدهُ, هذا مستحيل، كمالُهُ مُطلق، بقيَّ التفسير الوحيد هوَ: أنني أخلفتُ وعدي مع اللهِ حتى عاقبني بعدمِ تحققِ وعدهِ معي:

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾

[سورة النور الآية: 55]

 على العِباد أن يعبدوا اللهَ عز وجل, سُئِلَ النبي عليه الصلاة والسلام: ما حقُّ اللهِ على العِباد؟
 بماذا أجاب.
 أن يعبدوه ولا يُشرِكوا بهِ شيئاً.
 فلمّا سُئِل فما حقُّ العِباد على الله عزّ وجل؟
 الجواب: أن لا يُعذّبَهم.
 إذاً: كأنهُ هُناكَ وعد من طرف العِباد, وفي جزاء من طرف اللهِ عزّ وجل, فلو أنَّ العِبادَ أخلّوا بوعدِهم, لكانَ اللهَ عزّ وجل يُقابِلُ إخلالهم بوعدِهم بعدمِ تحقيقِ وعدهِ لهم بالمُقابل, حيثُ ما تجد أنَّ وعدَ اللهِ عزّ وجل ليسَ مُحققاً فاتهم نفسك, هذا وعدٌ ثانٍ.

الوعد الثالث: المؤمن معافى من الخوف والحزن.

 قال تعالى :

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾

[سورة فُصلت الآية: 30]

 المؤمن مُعافى من الخوف, ومُعافى من الحُزن، الحُزن لِما مضى لا يحزن على ما فاتَهُ والخوف لِما سيأتي، لا يخافُ من مجهول ولا يحزنُ على ما فاتهُ, هذا وعدٌ ثالث.

﴿أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا﴾

 طيب ماذا على العِباد؟

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَـةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا﴾

 لا خوفَ ينتظركُم, ولا حُزنَ يأكُلُ قلوبَكم على ما فاتكم, هذا وعد ثالث, لكن كأنَّ الإشارة أنَّ الذي يقول: ربُنا الله فقط هذا لا يكفي, لا بُدَّ من أن يكونَ معَ الإيمان باللهِ عزّ وجل استقامةٌ على أمرهِ، والحديث الذي تعرفونهُ.

(( ليسَ الإيمانُ بالتحلّي ولا بالتمنّي, ولكن ما وقرَ في القلب, وأقرَّ بهِ الِلسان, وصدّقهُ العمل))

[ ورد بالأثر]

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾

 الاستقامةُ دليلً صِحةِ الإيمان, وإذا كانَ هُناكَ خَللٌ في الاستقامة, فهُناكَ خَللٌ في الإيمان.

الوعد الرابع: المؤمن لا يقع في حيرة مدمرة.

 سؤال: المؤمن هل يقع في حيرة مُدمّرة؟!
 الجواب: لا!!! قال تعالى:

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾

[سورة العنكبوت الآية: 69]

﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾

[سورة النحل الآية: 9]

 يعني: على اللهِ أن يُبيّنَ لنا سبيلَ القصدِ.

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾

 وقد فسّرَ العُلماءُ هذه الهِداية بأنها هِدايةُ التوفيق، هُناكَ هِدايةٌ عامّة وهِدايةُ الوحيِ وهِدايةُ التوفيق، فالإنسان إذا عَرَفَ اللهَ عزّ وجل, واستعانَ بهِ, وَفقَهُ, وكُلُ دروسِنا تحتَ قولِهِ تعالى:

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾

[سورة الفاتحة الآية: 5]

الوعد الخامس: ما بعد الموت.

 هذا وعد بعدَ الموت قال تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً﴾

[سورة الكهف الآية: 107-108]

 هذا وعد ما بعدَ الموت، لكن وعد في الدنيا، قال تعالى:

﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً﴾

[سورة طه الآية: 112]

 الفرق الدقيق بينَ الظُلمِ وبينَ الهضمِ.
 يعني الظُلمُ:
 أن تُؤخذَ بذنبٍ لم تفعلهُ, أو أن يؤخذَ البريء بجريرةِ المُذنب, هذا هوَ ظُلمٌ.
 أمّا الهضمُ:
 أن يُنتقصَ من أجرك.

﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا﴾

 تجد المؤمن يقول لكَ: الحمدُ لله, يشعر أنَّ اللهَ عزّ وجل أعطاهُ سؤلَهُ, وأنَّ اللهَ أكرمهُ, وأنَّ اللهَ جلَّ في عُلاه رَحِمَهُ, وأنَّ اللهَ أكرمَهُ.

﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا﴾

 قال تعالى:

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾

[سورة الزلزلة الآية: 7-8]

 هذه الآية لها معانٍ كثيرة, من معانيها:
 نفيُ الظُلمِ عن الله عزّ وجل، إذا أردتَ أن تنفي الظُلم عن الله عزّ وجل, تأتي بهذه الآية, تقول لهُ:

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾

 نُريد وعود لله عزّ وجل.

الوعد السادس: من يتقي اللهَ يجعل لهُ مخرجاً.

 قال تعالى:

﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾

[سورة الطلاق الآية: 2-3]

 تقوى الله عزّ وجل دائماً تهديكَ إلى سواءِ السبيل، هذه الآية لو فرضنا قرأناها في سياقِها العام، ما معناها؟
 جاءت آيةً بينَ آيات الطلاق، كيفَ من يتقي اللهَ يجعل لهُ مخرجاً؟
 من اتقى اللهَ في إيقاع الطلاق السُنيّ, يجعل اللهُ لهُ مخرجاً في إرجاعِ زوجتهِ إليه.
 اليوم سُئلتُ هذا السؤال: ساعة غضب, قالَ لها: بالطلاق بالثلاثة, هذا طلاق بدعي, اللهُ عزّ وجل قال: الطلاقُ مرتان، قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً﴾

[سورة الطلاق الآية: 1]

 تبقى عِندكَ في البيت وتعتد وهيَ في بيتك، فالعدّة ألغيتها أنت, والطلاق مرتان ألغيتها, فخالفتَ شرعَ اللهِ في الطلاق, عندئذٍ تجد أنَّ الأمور أصبحت ضيّقة عليك، أمّا لو طبقّت الطلاق السُنيّ, لرأيتَ أنَّ هُناكَ مخرجاً شرعيّاً, لإرجاعِ زوجَتِكَ إليك, هذا.

﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾

 هذه في السياق، لو نزعناها من السياق, وقرأناها وحدها, ماذا يحصل؟
 هذا من إعجاز القرآن الكريم, أنَّ كُلَّ آيةٍ لها معنىً, وهيَ في السياق, ولها معان كثيرة جداً, بعيدة عن السياق.
 من يتقِ اللهَ في كسبِ المال: يجعل لهُ اللهَ مخرجاً من إتلافِهِ، من ضياعِهِ، من مصادرتهِ، من ذهابِهِ.
 من يتقِ اللهَ في معاملة الزوجة: يجعل اللهُ لهُ مخرجاً من الشقاء الزوجي، الشقاء الزوجي شقاء كبير، من اتقى اللهَ في معاملة الزوجة.
 من اتقى اللهَ في اختيار زوجتهِ: يجعل اللهُ لهُ مخرجاً من تطليقِها.
 هذه الآية يُمكن أن تُطبّقَ على آلاف الحالات.
 من اتقى اللهَ في التوحيد: جعلَ لهُ اللهُ مخرجاً من الشِرك.
 من اتقى اللهَ بالإيمان: جعلَ اللهُ لهُ مخرجاً من الكُفر.
 من اتقى اللهَ في كلامِهِ: جعلَ اللهَ لهُ مخرجاً من تجريحِ الناسِ لهُ. إذاً:

﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾

 مرَّ معنا من أسبوع, علاقة الصلاة بالرِزق:

﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾

[سورة طه الآية: 132]

 يعني لا نسألُكَ رِزقاَ، معنى ذلك: من صلّى وأمرَ أهلهُ بالصلاةِ, فاللهُ سبحانهُ وتعالى يرزُقهُ رِزقاً حسناً.

متى يقطف العبد وعود الله؟

 يعني أن تَصِلَ إلى الله عزّ وجل، أن تقطِفَ هذه الوعود:
 اللهُ وعَدَكَ بحياة طيبــة, وعَدَكَ برِزق وفير، وعَدَكَ أن يُدافِعّ عنك، وعَدَكَ بالاستخلافِ في الأرض، وعَدَكَ بالتمكينِ بالأرض، وعَدَكَ بالطُمأنينة.
 كُلُ هذه الوعود متى تنالُها؟
 إذا سلكتَ إلى اللهِ عزّ وجل, لذلك:
 مدارجُ السالكين إلى الله, في إيّاكَ نعبدُ وإيّاكَ نستعين، هذه الفاتحة الذي جعلها اللهُ عزّ وجل أُمَّ القرآن, وجعلها مِفتاح السُوَرِ كُلِها.

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾

[سورة الفاتحة الآية: 1-7]

الحمد لله.

 نبدأ بالحمدُ للهِ, لأنَّ هذه الفاتحة نقرؤها كُلَّ يوم, وفي كُلِّ صلاة, وفي كَلِّ رَكعة, وقد يقول النبي عليه الصلاة السلام:
 عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ))

 فالحمدُ للهِ ماذا تعني؟
 النعمة قائمة، النِعمةُ مُعترفٌ بِها، النِعمةُ يُحِسُها الناسُ جميعاً، ولكن أيها الإنسان, ما تنعُم بهِ من نِعم, إنما هيَ للهِ عزّ وجل, تعزوها للهِ.

رب العالمين.

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾

 العالمين جمع عالم, والعالم تقول: عالم الإنسان، عالم الحيوان، عالم النبات، عالم المجرّات، عالم الفضاء، عالم الأسماك، عالم الأطيار، عالم الحشرات.
 فربُّ العالمين، كلمة رب ماذا تعني؟
 الربُّ هوَ المُمِدُ بِكُلِّ الحاجات, والربُّ فوقَ ذلك, هوَ الذي يُعالِجُ النفوس، ففي إمداد مادي, وفي معالجة نفسية, فأقرب اسم من أسماء الله عزّ وجل للإنسان هوَ: اسمُ الرب، يا ربي، يعني:
 يا من تمُدني بكُلِ حاجاتي, ويا من ترعى شؤوني، ويا من تُعالِجُني، ويا من تُكرِبُني.

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾

 إذاً: هوَ ربُّنا, وربُّ آبائنا الأولين, وربُّ من بَعدَنا, وربُّ من قَبلَنا, وربُّ الحيوان, وربُّ النبات, ربُّ العالمين, الحمدُ للهِ ربِّ العالمين, يعني أقرب اسم من أسماء الله الحُسنى للمخلوقات هوَ كلمة رب.

الرحمن الرحيم.

﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾

 الرحمن الرحيم, لمّا ربنا قال:

﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾

[سورة الأعراف الآية: 156]

 هذه الآية كيفَ نفهَمُها فهماً دقيقاً؟

﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾

 بالأرض, أليسَ هُناك مصائب؟ أليسَ هُناك أمراض وبيلة؟ أليسَ هُناك فيضانات؟ أليسَ هُناكَ شحُّ السماء؟ أليسَ هُناك زلازل؟ براكين؟ صواعق؟ صقيع؟ تلف محاصيل؟ شِقاق زوجي؟ عذاب منوّع.
 فكيفَ نجمعُ هذا مع قولِهِ تعالى:

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾

 أنــتَ مخلوقٌ للآخِرة, فإذا حِدتَ عن طريق الآخِرة, لا بُدَّ من أن يدفَعَكَ اللهُ إليها شِئتَ أم أبيت, من هُنا تنشأُ المتاعب, المتاعِبُ أساسُها حَيدانُ الإنسانِ عن طريقِ الآخِرة، حيدانهُ عن طريق الجنة، يأتي اللهُ عزّ وجل ويسوقُ لهُ من الشدائد.
 الرحمن: رحمنُ الدُنيا والآخرة, فمن أجلِ الآخرة يُضيقُ علينا في الدُنيا.
 أمّا الرحيم: تعني العطاء, تعني حينما يرحمُنا اللهُ عز وجل, حينما يُعطينا ما نحتاجهُ؛ من طعامٍ وشرابٍ, وأُنسٍ ودِفءٍ, وأهلٍ وأولادٍ ومأوىً, فالرحيم تعني العطاء، لكنَّ الرحمن تعني أنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى أعدَّ هذا الإنسان لحياةٍ أبديّةٍ, وحينما يَحيدُ عن هذا الهدف الكبير, يسوقُ لهُ من الشدائد من قِبَلِ اسمِ الرحمن, ويؤكدُ هذا قولُ الله عزّ وجل:

﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً﴾

[سورة مريم الآية: 45]

 الرحمن يُعذّب من أجلِ الآخرة.

مالك يوم الدين.

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ, مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾

 ما معنى مالِكِ يومِ الدين؟ يوم الجزاء والحِساب, اللهُ عزّ وجل مالِكُ هذا اليوم.
 في معنى مفهوم مُخالِف من هذا المعنى, الآن أنتَ في شيء تملِكُ, وعندما نموت يملِكهُ الله عزّ وجل, الاختيار, أنتَ الآن مُخيّر, أمّا إذا قالَ اللهُ عزّ وجل:

﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾

 انتهى اختيارُكَ نهائياً, ولم يبق إلا أن تُحاسَبَ على ما قدمت يداك, مالِك, أنتَ الآن تملك أن تُصلّي أو أن لا تُصلّي, تملِك أن تصدُق أو أن لا تصدُق، تملِك أن تذهبَ إلى الحج أو أن لا تذهب، تملِك أن تكونَ وفيّاً أو خائناً، تملِك أن تكونَ مُحسِناً أو مُسيئاً، أنتَ الآن مُخيّر, لكن حينما يأتي مَلَكُ الموت, انتهى الاختيار, وخُتِمَ العمل, وبقيَ الجزاء.

إياك نعبد.

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ* إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيـنُ﴾

 فيها قِصَر, ما دامت قد قُدّمت إيّاكَ على نعبدُ, معناها لا نعبُدُ إلا إيّاك، لو أنَّ الله عزّ وجل قال: نعبدُ إيّاكَ يا رب, هذه ليسَ فيها قِصَر, نعبدُ إيّاك ونعبدُ غيرَك، أمّا حينما قالَ اللهَ عزّ وجل: إيّاكَ نعبُدُ, أي إلا نعبُدُ إلا إيّاك، لا نعبُدُ سِواك.

ما هي العبادة؟

 العبادة: كيفَ العبادة؟ الناس لا يُطيعون الله عزّ وجل، هذه الأوامر معروفة أوامر الله عزّ وجل بينَ أيدي الناس, يسمعونَ كلامَ اللهِ صباحَ مساء، قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

[سورة التحريم الآية: 8]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾

[سورة البقرة الآية: 278-279]

﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾

[سورة النور الآية: 30]

 أوامر اللهِ عزّ وجل تُتلى على الناسِ صباحَ مساء وهم لا يعبدونهُ, لا يعبدونهُ لأنهم لا يعرفونهُ.
 إذاً العبادة:
 أولاً: معرفة.
 وثانياً: طاعة.
 لن تطيعهُ قبلَ أن تعرِفهُ.

 ربنا عزّ وجل لمّا أمركَ أن تعبُدهُ, ماذا قال؟:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾

[سورة البقرة الآية: 21]

 وقال:

﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾

[سورة هود الآية: 123]

 ما أمَرَكَ أن تعبدهُ إلا بعدَ أن طمأنَكَ أنَّ الأمرَ كُلَهُ عائدٌ إليه:

﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾

 إيّاك نعبدُ, الإنسان كأنهُ مالِك شيء, قال: وحتى يكون في حجمِهِ الحقيقي.

ما معنى: إياك نستعين؟

 قال: وإيّاكَ نستعين, يعني أنتَ لا تملِك إلا أن تنبَعث إلى عبادته، لا تملك إلا أن تنطلق إلى عِبادته، لا تملك إلا أن تختار أن تعبُدهُ، ولكنَّ القوةَ التي يجب أن تنالها من أجلِ أن تعبُدهُ, بيدِ الله عزّ وجل, هذا ما قالهُ النبي عليه الصلاة والسلام:
 ألا أُنبؤكم بمعنى لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله؟: لا حولَ عن معصيتهِ إلا بهِ, ولا قوةَ على طاعتهِ إلا بهِ.

ما معنى كلمة: اهدنا؟

﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾

 إذا الإنسان يعرف الصِراطَ المستقيم, ما معنى كلمة اهدِنا؟ هذا الطريق واضح، في عِدّة حالات, إنسان يعرفُ الصِراطَ المستقيم, فكيفَ نفهم معنى دُعائِهِ اهدِنا؟ إذا كُنتَ لا تعرف معنى الصِراطَ المستقيم, فالدُعاء يعني أن تطلب من الله عزّ وجل: أن يُبيّن لكَ الصِراطَ المُستقيم، فإذا كُنتَ تعرفُ الصِراطَ المُستقيم, فالدُعاء يعني أن تتبِعَ الصِراط المستقيم.
 فإذا كُنتَ مُتبّعاً للصراط المستقيم, ماذا يعني الدُعاء؟ لا تعرف, يا ربي عرّفني، تعرف, يا ربي أعنّي، تعرف وتُطبّق, يا ربي ثبتني.
 فاهدِنا الصِراطَ المستقيم, لها ثلاث معان:
 إمّا يا ربي عرّفني.
 أو أعني على التطبيق.
 أو ثبتني على هذا التطبيق.
 فالمؤمن وهوَ يُصلي لهُ شأن معَ الله عزّ وجل, فإذا كان اهتدى, يا ربي أعني على أن أُطبق ما أعرف، وإذا كان فيما يبدو مستقيماً, يا ربي ثبتني على صِراطِكَ المستقيم.

من هم الضالون والمغضوب عليهم؟

﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾

 من هم الضالون؟ الضال هوَ الذي ما عَرَفَ الحق.
 لكنَّ المغضوب عليهم: هم الذينَ عَرَفوا الحق وحادوا عنه.
 يعني إنسان عَرِفَ ولم يُطبّق, فالذي ما عَرف هوَ الضال, والذي ما طبّق هوَ المغضوب عليهم, وفي كِلا الحالين:
 الإنسان إذا لم يعرف فهوَ ضال, وإذا عَرَف ولم يُطبّق, فهوَ مغضوب عليه.

الخلاصة.

 إذا قُلتَ:

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرَّحْمَن الرَّحِيمِ* مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ* إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّــاكَ نَسْتَعِينُ* اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾

 أنتَ مُكلّفٌ في ماذا؟ بالصلاة، أنتَ مُكلّف أن تقرأ سورة، ثلاث آيات أو سورة قصيرة، يعني بحسب شعورك الإيماني, هذه الآيات لماذا تُتلى عليك؟ لماذا تشعر أنَّ أحداً يتلوها عليك، أو ما علاقَتُها بالفاتحة؟.
 أنتَ حينما طلبتَ من اللهَ أن يهديَكَ الصِراطَ المستقيم, جاء الجواب:
 يا عبدي هذا هـــوَ الصِراطَ المستقيم.
 فالقرآن الكريم كُلُهُ هوَ الصِراط المستقيم، فإذا تلوتَ آياتِ الأمرِ عليكَ أن تأتمر، وإذا تلوتَ آياتِ النهيِ عليكَ أن تنتهي، وإذا تلوتَ آياتِ الوعدِ عليكَ أن ترجو ما عِندَ الله، وإذا تلوتَ آياتِ الوعيد عليكَ أن تخافَ ما عِندَ الله، وإذا تلوتَ آيات الأحكام الشرعيّة عليكَ أن تُطبِقها، وإذا تلوتَ الآيات الكونية عليكَ أن تعتبرَ بِها، وإذا تلوتَ آيات التاريخ والأخبار عليكَ أن تتعِظَ بِها, هذا معناه, فالإنسان إذا صحت صلاتهُ, صحَّ دينهُ, وصحَّ عملهُ, الفاتحة تكونُ هكذا, والتلاوة بعدها تكون على هذه الشاكِلة.
 ما دُمنا في مدارج السالكين, في مراتب إيّاكَ نعبدُ وإيّاكَ نستعين, هذا درسٌ فاصِلٌ بينَ درسين، الخضوع: يعني حينما جاءكَ الأمرُ بعدَ الفاتحة: أن تَغُضَّ بَصركَ عن محارِم الله ، أو حينما جاءكَ الأمرُ بعدَ الفاتحة: أن تقولَ للناسِ حُسناً، وحينما جاءكَ الأمرُ بعدَ الفاتحة: أن تقولَ قولاً سديداً يُصلح لكَ اللهُ عملَك، وحينما جاءكَ الأمرُ بعدَ الفاتحة: أن تزن بالقِسطاس المستقيم, وأن لا تقف ما ليسَ لكَ بهِ عِلم، الله أعطاك مجموعة كبيرة من الأوامر, والنواهي, والحقائق, والقواعد, والقوانين, والآيات الكونية, فأنتَ إذا رَكعت, ينبغي أن تُعلِنَ عن خضوعِكَ لهذا الأمر, فالركوع خضوعٌ للهِ عزّ وجل، والسجود؟.
يعني أنتَ خضعت, ولكنكَ فقيرٌ إلى الله عزّ وجل, أنتَ ضعيف، عبّرَ عن هذا سيدنا يوسف, حينما قال:

﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾

[سورة يوسف الآية: 33]

 فأنتَ في الركوعِ تخضع, وفي السجود تطلبُ العونَ من اللهِ عزّ وجل:

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾

من معاني الصلاة:

1-الصلاة قرب وذكر.

 هذه الصلاة بماذا عرّفها النبي عليه الصلاة والسلام؟ أو بماذا عرّفها القرآن؟ هذه الصلاة أن تقرأَ الفاتِحة وأن تركع وأن تسجد، أن تقرأَ الفاتحة وسورة, وأن تركع وأن تسجد, هذه الصلاة بماذا وصفها القرآن؟ بأنها قُرب، عملية مناجاة أو عملية قُرب, لقولِهِ تعالى:

﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾

[سورة العلق الآية: 19]

 لها وصف آخر: الصلاة ذِكر، أنتَ إذا صليت إنكَ تذكُرُ اللهَ عزّ وجل:

﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾

[سورة طه الآية: 14]

 إذاً أول واحدة: الصلاة قُرب وذِكر.

2-الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.

 أيضاً: يعني ممكن أن ترى إنساناً يُصلي وهو غشاش، كلامهُ فاحش، يخون العهد، يكذب، مستحيل:

﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾

[سورة العنكبوت الآية: 45]

 آليّةُ النهي كيفَ تتم؟ لماذا الإنسان قبل الصلاة الصحيحة: يكذب, ويَغُش الناس, ويتعدّى, فإذا صلّى صلاةً صحيحة, كما قالَ اللهُ عزّ وجل:

﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾

 آليّةُ النهي، هوَ أولاً: النهي مستويات، النهي البسيط أنهُ أنتَ تلوتَ القُرآن, فأمركَ اللهُ عزّ وجل أن تَغُضَ بصَرَكَ, وترغب أن تُطيع اللهَ عزّ وجل, فغضضتَ بَصَرَك, هذا نهي أولي.
 حينما تقرأُ أمرَ اللهِ أو نهّيَهُ, وأنتَ راغبٌ أن تُطيعهُ, وها هوَ ذا الأمر بينَ يديـــك, فإذا طبقّت هذا الأمر, فأنتَ مُريدٌ, أن تطلُبَ رِضاءَ اللهِ عزّ وجل عن طريقِ طاعتهِ، في مستوى أرقى من هذا, أول نهي هوَ أنتَ عَرفتَ أمرَ اللهِ, ورَغِبتَ في طاعتهِ, فتركتَ إطلاقَ البصر في مستوى أرقى, إنكَ حينما تتصل باللهِ عزّ وجل, يقذِفُ في قلبِكَ النور ، وهذا النور الذي يقذِفهُ في قلبِك, يُريكَ الحقَّ حقّاً, والباطِلَ باطلاً، يجوز حينما لا يكونُ هذا النورُ في قلبِك, وتُحِبُ أن تُصلي, تُجاهِدُ نفسكَ وهواك، لكن حينما يقذفُ اللهُ في قلبِكَ النور، حينما ترى الحقَّ حقّاً فتتبِعهُ, وحينما ترى الباطِلَ باطلاً فتجتنبهُ، الآن تنتهي أنت لا لأنكَ حريصٌ على طاعة اللهِ عزّ وجل فقط، بل لأنكَ حريصٌ على طاعتهِ, وحريصٌ على سلامتِكَ ، رأيتَ الخيرَ في طاعةِ الله, ورأيتَ الشرَّ في البُعدِ عنه.
 إذاً النهي نهيين: إمّا نهي تعرّفي وإمّا نهي عن طريق إلقاءِ النورِ في قلبِ المؤمن،
 إذاً: الصلاة قُرب وذِكر ونهيٌ عن الفحشاءِ والمُنكر.

3-الصلاة خشوع.

أيضاً والصلاةُ خشوع, خشوع:
 أن تشعر أنكَ بينَ يدي الله عزّ وجل, تقفُ في حضرتهِ، الخشوع في الصلاةِ: من فضائِلِها أم من فرائِضِها؟ من فرائِضِها, فالصلاةُ من فرائِضِها الخشوع.

4-الصلاة دعاء.

 حينما قالَ اللهُ عزّ وجل:

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾

[سورة البقرة الآية: 186]

 ثمَّ يقول:

﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾

[سورة غافر الآية: 60]

 الدُعاءُ عِبادة, والصلاة أول العِبادات، الصلاة مناجاة ونور، الصلاة قُرب, وذِكر, ونهي, ودُعاء, ومُناجاة.
 وكما وردَ عن النبي عليه الصلاة والسلام: الصلاةُ مِعراجُ المؤمن, يعرجُ بِها إلى اللهِ عزّ وجل.

5-الصلاة وعي :

 صلاتُكَ أن تعقِلَ عن اللهِ عزّ وجل: ليسَ للمرءِ من صلاتهِ إلا ما عَقَلَ مِنها.
 هذا حديث، والآية التي تؤكدهُ:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً﴾

[سورة النساء الآية: 43]

 معناها: الصلاة وعي.

6-الصلاة طهور :

 أيضاً: الصلاة طَهور، والحقيقة: طَهور نفسي، يعني: الإنسان المشاعر المرضية في نفسه؛ حِقدُهُ، دناءتهُ, قذارتهُ، طمعهُ، أنانيتهُ، استعلاؤهُ، كُلُ هذه المشاعر السُفلى في الإنسان تطهر في الصلاة.
 قالَ: الصلاةُ طَهور.
 عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ قَالَ:

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ, وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأانِ أَوْ تَمْلأُ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ, وَالصَّلاةُ نُورٌ, وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ, وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ, وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ, كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا))

[أخرجه مسلم في الصحيح, والترمذي والنسائي في سننهما]

 وقال: الصلاة عهد.

7-الصلاة ميزان :

 في معنى آخر للصلاة: يعني أحياناً الإنسان يفعل شُبُهة، يا ترى صح أو خطأ أيجوز؟ قال: ليسَ فيها شيء, فلان سألناهُ, فقال: ليسَ فيها شيء، حينما يقع في هـذا التساؤل, الميزان عِندهُ هو اتصالُهُ باللهِ عزّ وجل، فإذا شعرتَ بالحِجاب بينكَ وبينَ الله، إذا شعرتَ بالخجل, فهذا العمل سيء, والصلاة كانت ميزاناً لكَ.
 الصلاةُ ميزان فمن وفّى استوفى.
 من وفّى للصلاةِ شروطها, استوفى من الصلاةِ حظوظها.
 أيضاً: يعني أنتَ العمل الذي تستطيع أن تُقبِلَ على اللهِ بهِ حتماً صحيح، أمّا العمل الذي تخجل بهِ منَ اللهِ عزّ وجل هذا حتماً سيء, فالصلاة هيَ الميزان: الصلاةُ ميزان فمن وفّى استوفى.
 الصلاة عِمادُ الدين, وعِصام اليقين, وسيدةُ القُرُبات, وغُرّة الطاعات, ومِعراجُ المؤمنِ إلى ربِّ الأرضِ والسموات.

8-الصلاة فيها معنى الصيام ومعنى الحج ومعنى الزكاة ..... :

 قالَ بعضُهم: في الصلاة معنى الصوم, ومعنى الحج, ومعنى الزكاة, ومعنى الصلاة، الصلاة فيها صلاة وصوم وحج وزكاة.
 الإنسان وهوَ في الصلاة, الصائم يتكلّم, ويضحك, ويمشي, وينام, ويغتسل, ويتكلّم حديث عشر ساعات, وهوَ صائم, أمّا الإنسان حينما يُصلّي ممنوع أن يلتفت، ممنوع أن يُفكّر بِما يُقال حولهُ, فأعلى درجات الصيام هيَ الصلاة فيهِ, وهوَ يُصلي أن يضجع, أو إذا بكيَ ابنهُ يقول لهُ: اسكت أثناء الصلاة؟ لا يقدر أن يُكلّمهُ، فالصلاة من أعلى درجات الصيام، صيام عن الطعام والشراب, إذا واحد يوجد في فمهِ حبة حُمص, لا يقدر أن يأكُلها خلال الصلاة.
 إذاً: الصلاة فيها معنى الصيام, عن كُل شيء, وحتى عن الكلام المُباح, وحتى عن رد السلام، إذا المُصلّي رد السلام فصلاتُهُ فَسُدت.
 أيضاً: ليسَ هُناكَ كسبٌ للمال إلا ببذل الوقت, فإذا اقتطعتَ من وقتِكَ للصلاةِ, فالوقتُ الذي هوَ أصلُ المالِ, أنتَ بذلتهُ للصلاة ففيها معنى الزكاة, أنتَ أنفقت من أصل المال وهوَ الوقت، معنى الحج القِبلة، ومعنى الصلاة الاتصال.
 لذلك: الحج يسقط، والصوم يسقط، والزكاة تسقط، طبعاً: إمّا فقير أو مُسافر، والشهادة تُعلن مرةً واحدة في العُمر، لكنَّ الصلاة هيَ الفرضُ المُتكرر الذي لا يسقُط بحال.
 أردت أن ننتقل إلى دروس أخرى, وأن نقف وقفةً متأنيّةَ عِندَ السلوك إلى الله, وفي قِمةِ السلوك إلى الله عزّ وجل: أن تُصليَّ صلاةً صحيحةً مقبولةً عِندَ اللهِ عزّ وجل.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور