- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
العبادة .
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثالث والتسعين من دروس مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، والموضوع متعلق بالعبادة، والعبادة علّة وجودنا على وجه الأرض، لقوله تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
والعبادة عند العــوام ضيِّقة جداً : أن تصلي, وأن تصوم, وأن تحج، وأن تؤدي الزكاة .
أما العبادة عند المؤمنين الصادقين : تشمل كل شيء، تشمل كل الأوقات، وتشمل كل الأماكن، وتشمل كل النشاطات، وكل الأعضاء، فكيانك بكل جزئياته متعلق بالعبادة .
فالقلب له عبادة، والعين لها عبادة, والأذن لها عبادة، واللسان له عبادة، واليد لها عبادة، والرجل لها عبادة، بل إن الإنسان حينما يفعل شيئاً أباحه الله له، يفعله في موضعه, ومع الشيء الذي سمح الله به, هو في عبادة، حينما نفهم العبادة فهماً واسعاً, نكون في المستوى الذي أراده الله لنا.
أرأيتم إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-, وهو في أقرب حالة مع الله, قال تعالى:
﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)﴾
أيها الإنسان, تبلغ أعلى درجة الرقي حينما تكــون عبداً لله، لأن الرب ربٌّ والعبد عبدٌ، العبد يغتني بافتقاره إلى الله, ويقوى بإعلان ضعفه، ويعلم بالشعور أنه لا يعلم، لأنك مفتقر إلى الله، تأتيك الإمدادات من الله عز وجل.
من عبادات الأذن :
لو أننا وقفنا وقفة قصيرة عند عبادة الأذن. قال:
من أولى عبادات الأذن الإنصاتُ للحق.
أن تصغي، والإصغاء عند الله عز وجل السماع الذي يعقبه التطبيق، والدليل قول الله عز وجل:
﴿
علامة الإصغاء: أن يُترجم الذي سمعتَه إلى سلوك، وإلا فليس هذا عند الله إصغاءً، لقوله تعالى:
﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)﴾
تسمع أنت حينما تستجيب، وتُسمى عند الله سامعاً؛ حينما تفعل، حينما تتحرك، والإيمان حركة, ليس في الإيمان سكون، الإيمان إيجاب، ليس في الإيمان سلب، الحالة السلبية الانسحاب والانزواء والتقوقع، هذه كلها صفات لا يقرها الإيمان, الإيمان حركة، ما إن تستقر حقيقة الإيمان في نفس المؤمن, حتى تُعبِّر عن ذاتها بذاتها، بحركة، الإيمان وقوف، والإيمان خروج من البيت، الإيمان مساعدة، الإيمان نصح، الإيمان دعوة، الإيمان أمر بالمعروف، الإيمان نهي عن المنكر، أما الوضع السلبي والانهزامي، وانسحب، وتقوقع، ولم يفعل شيئاً، هذا ليس من صفاء المؤمن، لذلك من عبادات الأذن: الإنصات إلى الحق، وأنت في درس العلم في عبادة، لأنك تتلقَّى العلم، والتلقِّي عبادة من أجلِّ العبادات، لأنك:
إن أردتَ الدنيا فعليك بالعلمِ، وإن أردتَ الآخرة فعليك بالعلم، وإن أردتَهما معا فعليك بالعلم، إن أردت النجاة فعليك بالعلم، وإن أردت السلامة فعليك بالعلم، وإن أردت السعادة فعليك بالعلم.
أنت مخلوق ميَّزه اللهُ بالعلم .
- ما من مخلوق في عالَم الأرض إلا ويفوق الإنسان.
- الحوت الأزرق وزنه مائة وخمسون طناً، أنت ما وزنك؟
- أعلم علماء الأرض الذي معه أعلى شهادة في الزلازل, لا يمكن أن يتنبَّأ الزلزال قبل وقوعه ولا بثانية، أما الحمار فيتنبَّأ بالزلزال قبل وقوعه بخمس عشرة دقيقة.
- للكلب حاسة شم تفوق شم الإنسان بمليون ضعف.
- الصقر يرى ثمانية أضعاف ما يراه الإنسان، الصقر وهو في علياء السماء, يرى السمكة تحت الماء، وينقضّ عليها .
- هناك حيوانات تبلغ سرعتها مائة وخمسة وعشرين كيلو متراً في الساعة .
- في أعماق المياه تعيش أسماك في خليج مريانة، هذا أعمق مكان في الأرض، اثنا عشر ألف متر تحت سطح الماء، خليج مريانة في المحيط الهادي .
- غوَّاصة مبنية من الفولاذ المصفَّح بعد مئتي متر تُحطَّم من ضغط الماء، وهذه السمكة تمشي وتسبح في خليج مريانة .
- ما من صفة مركبة في الإنسان إلا وفي الحيوان ما يزيد عليها، طب أسنان متفوق، هناك حيوانات إذا فسد أحد أسنانها نما مكانه سنٌّ جديد، أين هو طب الأسنان؟ .
- هناك حيوان لو قطعت يده لنمَت له يدٌ جديدة، هذا فوق طاقة البشر، هناك نوع من الديدان, لو قسمتها قسمين ينمو برأسها ذنَب ولذنَبها رأس.
إذًا: أنت كائن ميزتك الوحيدة العلم، العلم هي الحاجة العليا في الإنسان، أنت تؤكد أنك إنسان إذا طلبت العلم، فإذا عزفت عن العلم, تؤكِّد أنك لست من بني البشر.
ما هو الإصغاء عند الله؟ :
ومشكلة الناس اليوم: أنهم يعيشون لحظتهم, ويعيشون وقتهم من دون أن يدركوا ما سيكون بعدها، الإنصات، الإصغاء عند الله هو التطبيق، السماع والتطبيق، أما سماع بلا تطبيق فلا يكون، واليهود ماذا قالوا؟
قالوا: سمعنا وعصينا، أما المؤمنون قالوا: سمعنا وأطعنا، فالطاعة تؤكد سلامة السماع.
أيضاً: الاستماع لما أوجبه الله ورسوله, عليك أن تستمع إلى الشهادتين، أن تستمع إلى أركان الإيمان وأركان الإسلام، أن تستمع إلى تفسير القرآن، أن تستمع إلى بيان الحكم الفقهي، أن تستمع إلى سيرة سيد الأنام، فهذه الأذن ينبغي أن تستمع إلى الحق، لا إلى الغناء، والغناء ينبت النفاق.
ورد في الأثر: عن أنس بن مالك, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من استمع إلى قينة, صب في أذنيه الآنك يوم القيامة .
والآنك: الرصاص المذاب.
استماع القراءة في الصلاة، إذا جهـر بها الإمام، هذه من عبادات الأذن، واستماع خطبة الجمعة.
ذكر الله .
هناك إنسان أحياناً يجلس في خطبة جمعة ولا يفهم شيئاً، خاطــره يجول في تجارته، في بيته، في نزهته، في جمع ماله، يقول لك: واللهِ ما فهمت شيئاً، لكن الله عز وجل كتبها لي جمعة، لما ربنا عز وجل قال:
﴿
قال علماء التفسير: ذكر الله سماع الخطبة:
أدب المجلس .
أحياناً: تكون في جلسة والمتكلم يتلو قصة تعرفها، الأدب أن تصغي، ولو أنك تعرفها ، لأنه كان عليه الصلاة والسلام يصغي لمحدثِّه، وهذا من أدبه العالي، فتراه يصغي للحديث, بسمعه وقلبه ولعله أدرى به.
هذه القصة ينتفع بها طالب علم جديد، تعلمها أنت وغيرك لا يعلمها، إذا تكلمت يتكلم معك، يقول: هذه أعرفها، تحكي كلمة فيكملها، هذا من سوء الأدب.
ما يحرم سماعه .
يحرم استماع الكفر والبدع، مجلس يقال فيه كفر، يحرم عليك أن تجلس في هذا المجلس، قال: إلا هناك استثناءات، لأن الإنسان يجب ألا يمكِّن نفسه من سماع الكفر، لعله في ضعف فيتمكن، قال الشاعر:
عرفت هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا فارغا فتمكنَّا
لذلك حينمـا يجرون حواراً في بعض المحطات الفضائية, يأتون بملحِد ورجل مسلم, ويتحاوران ويكادان يتجاذبان ويختصمان، قال: هذا خطأ كبير ما فعله النبي، ذلك لأن كلام الملحد وحججه, قد تصادف قلباً فارغاً فتتمكن منه.
أنت مستحيل كأب أن تسمح لأولادك يشاهدون مناظر إباحية، من أجل أن يحتاطوا، قد يقعون في شراك هذه المناظر، فكما أنك لا ترضى لأولادك أن يشاهدوا شيئاً يفسد أخلاقهم، كذلك لا يمكن أن نسمح لطالب علم شرعي أن يشاهد شيئاً يفسد عقيدته.
ما يستثنى سماعه :
قال: هناك استثناء إلا أن يكون في استماعه مصلحة راجحة، إذا إنسان إيمانه قوي جداً, إذا استمع إلى الباطل بحث عن ردٍّ له، بحث عن حجة تدحضه، فحينما يستمع إنسان متفوق إلى بدعة، إلى مذهب وضعي، إلى فرية, إلى تزوير على الله عز وجل، إلى افتراء على الله وعلى رسوله، عنده ألف دليل ودليل على بطلان هذا, فقد يستمع العلماء الكبار ليردوا عليهم, أو ليشهدوا على قائلهم، أو ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، لأنه بضدها تتميز الأشياء. معنى ذلك: أن الإنسان قبل أن يقوى ينبغي أن يكون في حمية، أما بعد أن يقوى نقول له: أنت وربك.
يعني -واللهُ أعلم- الإنسان في البدايات ينبغي أن يكون له مرجعية واحدة، أو تغذية واحدة, أو منبع واحد، أو اتجاه واحد، أو جامع واحد، السبب: لا يوجد عنده في البدايات قدرة على التمييز، فلو نوّع المصادر سيفاجأ بما هو متناقض بين مكان ومكان, وفئة وفئة، قد يحتار.
الآن: ائت بمريض ذهب إلى طبيب, فقال له: أنت دواؤك الراحة، اذهب إلى الفراش واستلق، معه بوادر أزمة قلبية، لو ذهب هذا المريض إلى طبيب آخر, درس في جامعة أخرى, يقول له: المشي ضروري جداً لك، المشي يقوِّي القلب، تمزَّق المريض، فماذا يفعل؟ يحتار، أما لو اكتفى بطبيب موثوق بعلمه وبخبرته, وحافظ على توحيد التوجيه يرتاح.
نصيحة :
أنا أنصح الإخوة الكرام؛ طلاب العلم في البدايات أن يحافظوا على وحدة منهجهم، وعلى وحدة التلقي، وعلى وحدة المصدر حتى لا يكون هناك تناقضات توقعهم في حيرة, ولا يملكون الدليل على أيها أرجح، فلذلك يمكن أن تستمع إلى بدعة أو إلى كلام مناقض للشرع والدين دون أن تتأثر، بالعكس تحتقره، بالعكس تجد تناقضه، وتجد صفاقته، وتجد أنه هزيل غير متماسك، معك على نقيضه ألف دليل ودليل، أما طالب علم عوده رقيق، إدراكه ضعيف, وحجته ليست قوية، قد يستمع إلى كلام يلقيه كافر أو ملحد أو منحرف فيقنع به.
لو عرفت هذه الحقيقة لأنقذت مسلماً أو نصحت مسلماً، فالأصل ينبغي أن تستمع إلى القرآن, وإلى السنة, وإلى السيرة, وإلى الفقه, وإلى موجبات الإيمان, وإلى موجبات الإسلام، لكن محظَّر عليك أن تستمع إلى الكفر والبدعة والشرك وما إلى ذلك .....، إلا أن تكون هناك مصلحة راجحة.
هل يجوز الاستماع إلى صوت النساء الأجنبيات؟ :
يحرم الاستماع إلى صوت النساء الأجنبيات، ولا سيما إذا خضعن بالقول، قال تعالى:
﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ
فالمرأة إذا تكلمت كلاماً معروفاً جاداً, يمكن أن تستمع إليها من وراء حجاب، و الهاتف حجاب, أما حينما تليِّن كلامها، وتخضع بالقول، سماع صوت هذه المرأة أصبح محرماً ، ولا سيما إن لم تكن هناك حاجة إلى سماع صوتها، لذلك علَّمنا الله، فقال تعالى:
﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ
سيدنا موسى تكلم كلمة مختصرة جامعة مانعة لا تحتاج إلى تفاصيل:
الطبيب مثلاً لا بد أن يسأل المرأة: ما الألم الذي تشكين منه؟ والمحامي يسأل: ما الموضوع؟ والقاضي يسأل، والطبيب, والمحامي، والبائع: ماذا تريدين؟ لكن في الأعم الأغلب: حينما يكون الكلام واضحاً بنبرة جادة ليس معه خضوع ولا تكسُّر، هذا كلام لا يفتن.
قال: وكذلك استماع المعازف وآلات الطرب واللهو كالعود والطنبور ونحوهما، أي سماع الموسيقا، وهذا محرَّم.
ما الفرق بين السماع والاستماع؟ :
لكن كأن النبي -عليه الصلاة والسلام- فرَّق بين السماع والاستماع، أنت ماش في الطريق, وهناك مقهى, أو محل يبيع الأشرطة, وتصدح مكبِّرات الصوت ببعض الأغنيات، أنت سمعت هذه الأغنية, ولكن لم يكن لك مشيئة في سماعها، هذا هو السماع، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يعفو عن المؤمن في سماع ما لا يرضي الله، أما حينما تجلس في البيت, و تأتي بشريط غناء، وتضعه في المسجلة, فهذا هو الاستماع المحرم . عن أنس بن مالك, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من استمع إلى قينة, صب في أذنيه الآنك يوم القيامة ، والآنك: الرصاص المذاب. أحياناً: يذهب الإنسان في مركبة عامة إلى بلد آخر، وهو مضطر أن يسمع الأغاني, لأنه لا يملك تغييراً لهذا الواقع، هذا سماع، أما الاستماع فهو المحرم، أن تجلس وتستمع.
هناك رأي لطيف :
لو خشي الإنسان الفتنة من سماع هذا النغم, أو تلك الأغنية الأولى, أن يسد أذنيه, هذا رأي، إذا كانت أغنية يحبها في الجاهلية كثيراً، ثم تاب إلى الله توبة نصوحاً, فلما سمعها بعد أن تاب إلى الله, تحركت نفسه الأولى أن يتشاغل عنها، أو كما قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-:
أن يسد أذنيه؛ أي يحتاط بقليل من القطن.
وفي الحقيقة قالوا: يجب سدُّ الذريعة.
لم يقل: سد الأذن، سد الذريعة، أي يتحول من المكان إلى مكان آخر، والاستماع مستحب, أن تستمع إلى العلم, وإلى قراءة القرآن، وإلى ذكر الله عز وجل، وإلى الاستماع إلى كل ما يحبه الله ورسوله.
هناك نقطة دقيقة :
أحياناً هناك منشد يبتهل إلى الله عز وجل بكلام طيب وصوت شجي ، لا مانع، لكن كنت أقول مرة: إنَّ في الإرشاد إنشاداً، وإن في الإنشاد إرشاداً، الإنسان حينما يستمع إلى الحقيقة, وتأتي في مكانها الصحيح, وفي وقتها المناسب، وتكون هذه الحقيقة شفاء له ودواء يطرب له، أحياناً يكون هناك تساهل، هناك مشكلة، تأتي الآية ويأتي الحديث يوضِّح ، فيطرب الإنسان لحقيقة هو مفتقر إليها، أما حينما يستمع ابتهالاً ومديحاً لله جل جلاله أو لأنبيائه يطرب، لأن المؤمن يطرب للمعنى.
مرة ضربت مثلاً: قد تشرب شراباً نفيساً جداً في كأس غالٍ جداً، فإذا جمعت بين نفاسة الشراب وجمال الإناء فقد جمعت الحسنيين، الإنسان الذي يتكلم الحق بلغة فصيحة، بعبارة أدبية، بتعبير متين، بإشراق في التعبير، جمع الحسنيين، عمق المضمون, وجمال الأسلوب، مثلاً:
واحد أصيب بمصائب كثيرة، قد يقول: تكاثرت عليّ المصائب، هذا تعبير علمي، لكن من غير جمال، أما لو كان بعيداً عن الثقافة, يقول لك: تُضرب هذه المعيشة, هذا التعبير العامي ساقط، التعبير السليم: تكاثرت عليّ المصائب.أما هناك تعبير أدبي: يقول المتنبي:
بلاني الدهرُ بالأرزاء حتـى فؤادي من غشاءٍ من نبـالِ
فصرتُ إذا أصابتني سـهامٌ تكسّرت النصالُ على النصالِ
شبَّه المصائب بسهام مجتمعة على قلبه، اجتمعت لدرجة أنه لم يبق هناك مكان لسهم جديد.
مرة الشاعر نفسه قال يصف الحمى، قال:
وزائرةٍ كأنّ بها حيـــاءً فليس تزور إلا في الظــلام
بذلت لها المطارفَ والحشايا فعافتها وباتت في عظامــي
أبنتَ الدهر عندي كل بنـتٍ فكيف وصلتِ أنتِ من الزحام؟
المصيبة هي بنت الدهر، الدهر يلد المصائب.
أبنتَ الدهر عندي كل بنـتٍ فكيف وصلتِ أنتِ من الزحام؟
فهنا تعبير أدبي.
سمعت صوتاً سيئاً، تقول: هذا المغني سيء الصوت، هذا تعبير عادي، أما شاعر ساخر كالحطيئة, قال:
عواء كلبٍ على أوتار منتفةٍ وقبح قرد وفي استكبار هامان
وتحسب العين فكَّيه إذا اختلفا عند التنغُّم فكَّيْ بغلِ طــحَّانِ
أي أعطى صورة معبِّرة تماماً.
تعريف الأدب :
فالأدب هو التعبير المثير عن حقائق الحياة، تعبير عالٍ جداً، فأنت حينما تلقي الحقّ بأسلوب أدبي هذا أكمل شيء، المضمون حقّ، والشكل أدب، أما حينما تلقي الحق بلغة عامية, كأن تقدِّم شراباً نفيساً بإناء غير مقبول أبداً، وأحيانا تجد أديباً بعيداً عن الدين بُعد الأرض من السماء، عنده قدرة تعبيرية عالية، ولكن أفكاره منحطة جداً، يقول المتنبي:
أيَّ محل أرتقي وأي عظـيم أتقي
وكل ما قد خلق الله وما لـم يخلقِ
محتقر في هبتي كشعرة في مطرفي
موزونة؛ لكن المعنى كفر، البطولة: أن تأتي بمعانٍ صحيحة ودقيقة وعميقة بأسلوب أدبي راقٍ، الأقل من ذلك: أن تأتي بمعانٍ صحيحة ودقيقة وعميقة بأسلوب بسيط علمي، أما أن تأتي بمعانٍ ساقطة مهما ارتفع الأسلوب لا قيمة له، والدليل: قول الله عز وجل:
﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)﴾
والقصة الشهيرة: أن المتنبي حينما قال:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعتْ كلماتي من به صمــمُ
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلقُ جداها ويختصــمُ
فالخيل والليل والبيداء تعرفنـي والسيف والرمحُ والقرطاس والقلم
كان في طريقه من شيراز إلى الكوفة أو بالعكس، هجم عليه بعض أعدائه فولَّى هارباً ، فقال له غلامه: ألست القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفنـي والسيف والرمحُ والقرطاس والقلم؟
قال له: قتلتني قتلك الله، فعاد وقاتل حتى قُتل، قتل في الطريق، لأن الكلام سهل جداً, البطولة: أن تكون في مستوى الكلام.
ما يستحب من السماع وما هو المكروه منه؟ :
فلذلك -أيها الإخوة-: السماع المستحب: أن تستمع إلى العلم، وقراءة القرآن، وذكر الله، وأن تستمع إلى كل ما يحبه الله، والسماع المكــروه: أن تستمع إلى ما يُكره ولا يُعاقب عليه، أما أن تستمع إلى البدع وإلى الغناء وإلى ما يغضب الله، فهذا السماع المحرم، هذه الأذن سوف تُسأل عنها، قال تعالى:
﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
ومعنى الفؤاد هنا الفكر، العقل ، أحياناً الإنسان يفكر تفكيراً شيطانياً، أحياناً يفكر تفكيراً لإيقاع الأذى بالناس، قال تعالى:
هناك تكامل بين اللسان والأذن، اللسان ينطق والأذن تستمع.
(( سيدنا معاذ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رسول الله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ, فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ, وَيُبَاعِدُنِي عَنْ النَّارِ, قَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ, وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللَّهَ وَلا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا, وَتُقِيمُ الصَّلاةَ, وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ, وَتَصُومُ رَمَضَانَ, وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ, وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ, وَصَلاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ, قَالَ: ثُمَّ تلا
أنواع الكفر :
لا أبالغ إذا قلت: نصف المعاصي سببها اللسان، الغيبــة, والنميمـة، والبهتان، والسخرية, والاستهزاء, والكفر, والنفاق، والشرك، كلها من فعل اللسان ، حتى العلماء قالوا:
هناك كفر اعتقادي, وهناك كفر قولي، وهناك كفر عملي.
لو أن واحداً -والعياذ بالله- أمسك المصحف, وألقاه في الأرض, هذا كفر، لم يقل ولا كلمة، لكن هذا السلوك كفر، لو أن إنسانا اعتقد أن الله ليس على كل شيء قدير, هذا كفر اعتقادي، لو قال كلمة الكفر, فهذا كفر قولي.
أحد المنافقين قال مرة بينه وبين زوجته على مسمع من طفل صغير: لو أن محمداً صادقاً فيما يقول لكنا شرًّا من الحُمر، ولكنه كما يتوهم ليس صادقاً, هذا الطفل قال له: هذه كلمة الكفر, وذكر الطفل الحادثة للنبي عليه الصلاة والسلام.
فهناك كفر قولي, وكفر اعتقادي، وكفر سلوكي، فهذا اللسان قد ينطق بالكفر، وقد ينطق بالشرك، وقد ينطق بالبدعة, وقد يحضُّ على كبيرة، وقد يسهِّل معصية، وقد يرغِّب في الدنيا، وقد يثير فتنة، وقد يلقي شبهة, قد يدحض حقًّا، وقد يزيِّن باطلاً، شيء مخيف.
إذًا: اللسان والأذن متكاملتان.
هذه وظيفة اللسان :
وقد ورد أيضاً:
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قـَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ, وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ, وَلا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ من لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ))
لا بد من أن يستقيم اللسان، لا بد من أن يصدق اللسان، لا بد من أن ينضبط اللسان، الدين كله ضبط.
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بَأْسًا, يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ ))
كلمة واحدة، ولعلها إشارة تحبط عملك.
ضبط اللسان: قبل أن تتكلم بالكلمة تريث، قبل أن تفسد علاقة بين اثنين تمهل، لا تخبب امرأة على زوجها، وهو يحبها وتحبه، وراضية عنه، لا تكن شيطاناً يتكلم، والنساء أكثرهن شيطانة, تفسد علاقة المرأة بزوجها.
أحياناً الإنسان يخبِّب عبداً على مولاه، يخبب امرأة على زوجها، يفسد العلاقة بين اثنين، يلقي شبهة، يثير قضية، يدحض حقاً، ويزين باطلاً.
فاللسان أداة خطيرة جداً، والإنسان بكلمة يسقط، وبكلمة يرقى، الأنبياء جاؤوا بكلمة الحق، والملحدون والكفار جاؤوا بكلمة الباطل، قال تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)﴾
فكلمة الحق تطير في الآفاق وتؤتي أكلها كل حين، وكلمة الباطل ما لها من أصل، وما لها من قرار، لكن صاحبها يهوي بها إلى سبعين خريفاً في النار.
يجب أن نعلم علم اليقين:
أن كل عضو من أعضائنا, وأن كل حاسة من حواسنا, وأن كل جهاز من أجهزتنا, يمكن أن نعبد اللهَ به، والعبادة شاملة واسعة لكل أعضائنا وأجهزتنا، و كل أوقاتنا وأمكنتنا, وكل نشاطاتنا وأفعالنا.
و الحمد لله رب العالمين