- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
العبادة هي كل شيء في حياة الإنسان .
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس السابع والتسعين من دروس مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ونحن على وشك الانتهاء من هذه الدروس، فإذا وصلت إلى المائة بتوفيق الله عزوجل ننتهي من هذه المجموعة من الدروس، أردت أن تكون الدروس الأخيرة تلخيصاً لهذه المجموعة من دروس مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، أعظم كتاب بين أيدينا كلام الله عز وجل، إليكم طائفة من الآيات الكريمة التي تبيِّن أن العبادة هي كل شيء في حياة الإنسان, خُلق ليعبد الله، والعبادة تشمل كل أوقاته, وكل أحواله, وكل حركاته وسكناته، بل إن أعلى مرتبة يصل إليها الإنسان على الإطلاق أن يكون عبداً لله، يقول الله عز وجل:
﴿ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) ﴾
هذا مقام الأنبياء، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) ﴾
في هذا العصر مفهوم التألّق، هذا المفهوم جاءنا من الغرب، الإيمان بالإنسان المتجبر القوي المتغطرس، الذي يعيش على أنقاض الآخرين، الذي يبني مجده على تدمير الآخرين، هذا الإنسان المتألق الذي جاء نموذجه من الغرب يتناقض مع العبودية، المسلم عبد لله، له منهج, وله كتاب، وله سنة، مقيَّد بالشرع، يعتقد ما في القرآن و يرفض ما يناقضه، يطبق ما جاء به النبي العدنان ويرفض ما يخالفه.
مفهوم العبودية .
أنا أؤكد على مفهوم العبودية: أنت لأنك مسلم فأنت عبد لله، ليس معنى أنك عبد لله أنك ضعيف، قد تكون قوياً بقوة الله، وقد تكون عليماً بعلم الله، وقد تكون شجاعاً بمدد من الله عز وجل، هؤلاء الذين عبدوا الله هم في أعلى درجات القوة، وفي أعلى درجات الحكمة، وفي أعلى درجات الشجاعة، أما حينما يعبد المرء شهوته، أو يعبد جهة دون الله عز وجل, يُذلّ أيّما إذلال, ويضعف أيما ضعف، لأنه ترك الله عز وجل فأوكله الله إلى نفسه، قال تعالى:
﴿ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وقال تعالى:
بماذا وصف الله أنبياءه ؟
وقال تعالى:
﴿
عباد الرحمن: أضيف العباد إلى الرحمن إضافة شرف، نحن أُضفنا في هذه الآية إلى الرحمن، كأن تقول: هذا من عندي، وهذا يخصّني، هذا منتمٍ إليّ، هذا محسوب عليّ، وقال تعالى:
﴿ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً (6) ﴾
عباد الله، وقال تعالى:
﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ
عبدنا، وُصف بأنه عبد لله، إذًا: الأنبياء العظام والمرسلون الكرام وصفوا بأنهم عبيد لله عز وجل، فمن نحن حتى نستنكف؟ وقال تعالى:
﴿
وقال تعالى:
﴿
وقال تعالى:
﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ
وقال تعالى:
﴿
وقال تعالى:
﴿
على محمد عليه الصلاة والسلام، وقال تعالى:
﴿
وقال تعالى:
﴿
نبينا عليه الصلاة والسلام، وسيدنا إبراهيم، وأيوب، وموسى، كلّهم عباد لله عز وجل.
لماذا يحب الناس المؤمن ؟
كيف تقول الآن: أعلى مرتبة علمية الدكتوراه مثلاً، فلان حاز لقب الدكتوراه، أنت وصفته بأعلى مرتبة علمية، في الدنيا إن أردت أن تصف إنساناً بأعلى مرتبة دينية, تقول: هو عبد لله، ولماذا يُحبُّ المؤمن؟ لأنه عبد لله, متواضع، يتواضع لكل الخلق، منصف لا يجحد، شكور لا يكفر, عفيف لا يفجر، صادق لا يكذب، وأمين لا يخون، لماذا يحب الناسُ المؤمنَ؟ لأنه اشتق من أسماء الله الحسنى كمالات عاش بها ، بل إن الآية الكريمة:
﴿
أنت لن تستطيع أن تدعو الله عز وجل, ولن تستطيع أن تتصل به, ولن تستطيع أن تقبل عليه إلا بكمال مشتق من كمال الله ، إن أردت أن تقبل على الرحيم وأن يقبلك الرحيم ينبغي أن تكون رحيماً، إن أردت أن تقبل على العادل ويقبلك العادلُ ينبغي أن تكون عدلاً، فتجد المؤمن منصفاً، يقول الحق ولو على نفسه، يكثر من كلمة أخطأت, واعذروني، لم أكن منتبهاً لهذا الموضوع فسامحوني، لا يركب رأسه، ولا يكابر، ولا يتعنت, ولا يبالغ، النفس البشرية تكره الصفات الخسيسة, وتحب الكمالات البشرية. قال تعالى:
﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) ﴾
علاقة الترابط بين العبودية لله وبين العزة :
وقال تعالى:
﴿
أرايتم أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما وُصف وهو في سدرة المنتهى, وهو في أعلى مقام وصله مخلوق على الإطلاق؟ قال تعالى:
﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) ﴾
هناك علاقة طردية، وهناك علاقة عكسية :
العلاقة الطردية أن شيئاً إذا تحرك نحو الأمام تبعه الثاني نحو الأمام، تتابع، أما لا علاقة العكسية الشيء إذا تقدَّم نحو الأمام تقدّم الثاني نحو الخلف .
فالعلاقة بين العبودية لله وبين العزة علاقة ترابطية، كلما ارتفع مستوى تعبُّدك لله عزوجل أعزّك الله.
الأنبياء العظام رأوا من العزّ ما لا يوصف، المؤمنون الكرام رأوا من العز ما لا يوصف, قال تعالى:
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ
إذا كانت عينُ الله ترعاك من يستطيع أن يطالك؟.
إذا كنت مع الله فمن عليك, وإذا كان الله عليك فمن معك؟.
مشكلة زوج :
كان يزورني شخص -توفي رحمه الله-, ظلم زوجتين اثنتين، تزوج الثالثة فكالت له الصاع عشرة أصوع، يأتي ويبكي من شدة ما تقسو عليه زوجته الثالثة، قال تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ
قد يتطاول عليك أقرب الناس إليك، قد يتطاول عليك من أنجبته أنت, ومن ربّيته أنت ، أما إذا كنت مع الله يأتي عدوُّك اللّدود فيخدمك، إن كنت مع الله خدمك عدوُّك، وإن لم تكن معه تطاول عليك أقرب الناس إليك.
المؤمن الصادق .
يقول عليه الصلاة والسلام كما في حديث:
(( عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : سمعتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول علي المنبرِ : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تُطْروني كما أَطْرَتِ النصارى ابنَ مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسولُه ))
مرة خطيب قال له كما جاء في حديث:
(( عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ, عَنْ قُتَيْلَةَ امْرَأَةٍ مِنْ جُهَيْنَةَ, أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ, وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ, تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ, وَتَقُولُونَ: وَالْكَعْبَةِ, فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا, أَنْ يَقُولُوا: وَرَبِّ الْكَعْبَةِ, وَيَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شِئْتَ ))
ما هذا القول: ما شاء الله وشئت!؟ والمؤمن الصادق لا يقبل أن يخضع الناس له خضوع العبيد، لا يرضى لأخ من أخوانه أن يرفعه فوق مقامه، هذا مقام الله عز وجل
مواقف من حياة الصحابة :
هل تصدق: أنه ما من علاقة بين اثنين على وجه الإطلاق كعلاقة سيدنا رسول الله وسيدنا الصديق، أعطاه ماله كله، قال:
(( وما عرضتُ الإِسلام على أحد إِلا كانت له كَبْوَة ، إِلا أبو بكر ، فإنه لم يَتَلَعْثَم في قوله ))
قال عليه الصلاة والسلام:
(( ما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر ))
وقع تحت يدي كتاب في فضائل الصحابة، مؤلف الكتاب أحصى ثلاثمائة حديث صحيح لرسول الله في الثناء على سيدنا الصديق، ومع ذلك حينما مات النبي عليه الصلاة والسلام ، ماذا قال الصديق؟ أتصور أن قلبه تفطّر، قال:
من كان يعبد محمداً فمحمد قد مات-هكذا محمد، لا كلمة نبي الله ولا رسول الله-, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت, أراد ترسيخ التوحيد.
سيدنا عمر عزل سيدنا خالدًا، فقال له: لِم عزلتني يا أمير المؤمنين؟ -أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين, حينما يعزل قائداً عسكرياً, معنى ذلك: أن هناك وِزراً قد ارتكبه سيدنا خالد، أراد أن يطمئن على نفسه-: يا أمير المؤمنين لِم عزلتني؟ فقال له: واللهِ إني لأحبُّك، لِم عزلتني؟ فقال له: واللهِ إني لأحبُّك، وللمرة الثالثة, قال له: لم عزلتني؟ قال: واللهِ ما عزلتك يا بن الوليد إلا مخافة أن يُفتتن الناس بك, لكثرة ما أبليت في سبيل الله.
توهَّم الناس أن معركة فيها خالد لا تُهزم، خاف على الناس من الشرك، أراد أن يرسِّخ التوحيد فعزل خالداً والنصر مستمر، من هو الذي ينصر إذًا؟ هو الله.
أرأيتم إلى أصحاب رسول الله, كيف كانوا على أعلى درجة من التوحيد؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يرسخ هذا المعنى، يقول:
(( أنا عبد ، آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد ))
وسيدنا عمر بن عبد العزيز كان عنده ضيف، والسراج انتهى زيته فانطفأ، فقام عمر وأملا المصباح زيتاً، فالضيف استحيا، قال له: أنا أتمنى أن أفعل هذا عنك، قال له: عندي خادم رأيته نائماً كرهت أن أوقظه، أما أنت فضيف، واستخدامك من اللؤم، قمت وأصلحت السراج وأنا عمر, وعدت وأنا عمر.
كان عليه الصلاة والسلام يخصف نعله, ويحلب شاته, ويرفو ثوبه، وكان يصغي الإناء للهرة, وكانت الجارية الصغيرة تأخذ بيده فتمشي فيلحقها إكراما لها، هكذا كان عليه الصلاة والسلام.
الخطاب الرباني لعباد الله الطائعين :
بل إن الله عز وجل بشّر عباده، فقال تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى
ثم يخاطب الله عباده الطائعين, قال تعالى:
﴿ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)﴾
أما هذا الشيطان الذي أراد أن يغوي بني آدم, قال الله له:
﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) ﴾
وقال تعالى:
﴿ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) ﴾
مصطلحات إسلامية :
بل إن النبي عليه الصلاة والسلام جعل الإحسان أعلى مراتب الإيمان، هناك الإسلام وهناك الإيمان وهناك الإحسان، وهذه مصطلحات, قال تعالى:
﴿
الإسلام أولاً, والإيمان ثانياً، وثم الإحسان، فما الإحسان؟
أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
أعلى درجات القرب: أن تكون محسناً، والإحسان أن تعبد الله, علة وجودك على وجه الأرض أن تعبد الله، قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
هنا نقطة دقيقة نحتاجها اليوم:
الإنسان له فورة، في البدايات يتألّق، ثم تخبو فورته, وتبرد همته, وتنقلب عباداته إلى عادات، الله عز وجل يقول:
﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) ﴾
يجب أن تعبد الله من المهد إلى اللحد، لأن الله عز وجل يقول:
﴿ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) ﴾
أهل النار:
﴿ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) ﴾
ما هو اليقين؟ الموت:
اليقين: هو الموت بإجماع المفسرين، فإذا قال الله عز وجل:
(( أمّا هو فقد جاءه اليقين ))
هناك تعليق لطيف لسبب تسمية الموت باليقين، لأنك تتيقن عند الموت من كل حقيقة جاء بها الأنبياء.
فرعون الذي قال:
﴿ فَقَالَ
والذي قال:
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي
أي إنسان يموت تُكشف له الحقائق التي جاء بها الأنبياء، ولكن تُكشف له بعد فوات الأوان، أما المؤمن تُكشف له في الوقت المناسب ، لذلك حينما قال الله عز وجل:
هناك في بعض العصور من يتوهم شطحاً: أنه من بلغ اليقين سقطت عنه التكاليف، قال:
من يقول بهذا فهو زنديق كافر.
لأنه أنا بلغت درجة من الرقي, لا أحتاج إلى صلاة، ولا إلى غض بصر، ولا إلى فعل المعروف، يجب أن تعبد الله حتى يأتيك اليقين, حتى يأتي الموت .
رؤيا عن الإمام أحمد بن حنبل :
يُروى أن الإمام أحمد بن حنبل قبل موته كان يقول: كلا بعد، كلا بعد، من حوله تعجب، ما معنى هذا الكلام؟ فلما توفي -رحمه الله تعالى- رآه بعضهم في المنام، قال: يا سيدي لِم قلت: كلا بعد؟ قال: جاءني الشيطان, فقال لي: لقد نجوت يا أحمد، قلت: كلا بعد، لا أنجو إلا حينما أموت على الإيمان، قال تعالى:
أنواع العبودية :
1-عبودية عامة :
العبودية عامة وخاصة، العامة: ما من مخلوق شاء أم أبى، آمن أم كفر، أقبل أم أدبر, صدّق أم كذّب إلا وهو عبد لله، واحد منا هل يدري متى سيموت؟.
قبل أيام لي صديق عمره أقل من خمسين سنة, لا يشكو شيئاً إطلاقاً، في أقل من عشر دقائق كان من الموتى، فهو عبد لله إذًا، هل يملك حياته؟ من منا يملك حياته؟ من منا يملك بقاء حركته؟
خثرة من الدم أقل من عشر الميليمتر المكعب، إذا تجمدت في بعض أوعية الدماغ شلّ الإنسان؛ لا نملك بقاء حركتنا, ولا نملك سمعنا, ولا نملك بصرنا، لا نملك نطقنا، ولا نملك ذاكرتنا.
رجل أحسبه صالحاً، ضعفت ذاكرته, دخل عليه ابنه, فقال له: من أنت؟
لا تملك قوتك، ولا سمعك, ولا بصرك, ولا ذاكرتك, ولا نطقك, ولا دسامات قلبك، ولا الشريان الأبهر ولا الشريان التاجي، ولا عمل الكليتين، من منا يملك جهازاً من أجهزته إذا تعطَّل؟ وأي جهاز إذا تعطل, دخل الإنسان في حياة هي كالجحيم لا يُطاق، إذًا نحن عبيد، نحن عبيد قهر، أي إنسان يتحرك لأن الله سمح له أن يتحرك، يتكلم لأن الله سمح له أن يتكلم, يأكل لأن الله سمح له أن يأكل، ينام لأن الله سمح له أن ينام، وفي أية لحظة يريد الله شيئاً آخر تتعطل أجهزته، إذًا هذه عبودية، ولكن هذه عبودية القهر، والإنسان الملحد لو تجمدت خثرة دم في دماغه فأصيب بالشلل، هذا الملحد هو عبد لله، هو في قبضة الله، هذه عبودية القهر، كيف عبّر عنه القرآن؟ عبّر عنها بكلمة عبيد، قال تعالى:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا
2-عبودية خاصة :
أما هذا الذي فكّر في خلق السموات والأرض, فعلم أن لهذا الكون إلهاً عظيماً, فاستقام على أمره, وأحبه, وأقبل عليه, وعمل الصالحات, وبذل الغالي والرخيص, والنفس والنفيس، هذا عبد آخر، هذا عبد الشكر، كل مخلوق عبد قهرٍ, والمؤمن عبد شكر، وكلمة عبد الشكر يُجمع على عباد، قال تعالى:
مثل بسيط:
جندي في قطعة عسكرية، طبعاً تحت أمر قائد القطعة، يأمره أن يجلس فيجلس, أن ينام فينام، أن يأكل فيأكل، أن يزحف فيزحف، تحت أمره، أما لو أن جنديا أحب قائده حباً جماً, ورأى في بعض الأيام ابنه على وشك الغرق, ألقى بنفسه وأنقذه، هذا المجنَّد له مكانة كبيرة جداً عند قائد الثكنة، لأنه قدّم شيئاً، أنقذ ابنه من الغرق وضحّى بحياته، فهذا هو في الحقيقة أمر قائد السرية نافذ فيه، لكن هذا العبد له مكانة كبيرة عند قائد السرية.
مجند غر التحق بلواء، بآمرية لواء، على رأس هذا اللواء لواء، قائد كبير، بحسب التسلسل العسكري لا يستطيع مجنّد غر أن يدخل على اللواء، هناك تسلسل، قدَّم طلباً وأعطاه لأعلى منه، بعد شهرين يسمح له بالدخول، أما لو أن هذا المجند رأى ابن قائد هذا اللواء يكاد يغرق فأنقذه، ألا يستطيع في اليوم التالي أن يدخل عليه من دون استئذان؟ قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
الطرق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق.
أتحب أن تلتقي مع الله؟ أن تتصل به؟ اعمل صالحاً.
يا موسى أتحب أن أكون جليسك؟ قال: كيف ذلك يا ربي؟ قال: أما علمت أنني جليس من ذكرني، وحيثما التمسني عبدي وجدني؟.
الفرق بين عبد القهر وبين عبد الشكر :
هناك عبد القهر وهناك عبد الشكر، عبد القهر تجمع على عبيد، وعبد الشكر تجمع على عباد، عبد القهر في قبضة الله، أما عبد الشكر تفكر في كونه, وآمن به, وأحبه, واستقام على أمره, واصطلح معه، أقبل عليه وسعد بقربه، لذلك قال الله تعالى: ( فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) أنت بعنايتنا ولطفنا.
مراتب العبودية :
1-المراتب العلمية :
للعبودية مراتب بحسب العلم والعمل، فأما مراتب العلم فمرتبتان: العلم بالله والعلم بأمره.
هناك آيتان، قال تعالى:
﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ
من أجل أن تعرف الله فاسأل به خبيراً، من أجل أن تعرف أمره ونهيه:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ
إن أردت أن تعرفه فاسأل به خبيراً، لذلك قال العكبري في كتاب إعراب القرآن الكريم:
تؤخذ ألفاظه من حفاظه, وتؤخذ معانيه ممن يعانيه.
لو أن امرأة عاقراً لا تنجب, وضعها مع زوجها خطر، على وشك أن يطلقها، كلما رأت أما تحتضن ابنها تذوب ألماً، ولأنها حُرمت هذه النعمة، هناك قصة لبعض الأدباء اسمها العاقر, فيها وصف دقيق جداً لمشاعر المرأة العاقر، لو أن هذه المرأة العاقر قرأت قصة العاقر, أنا متأكد أنها ستبكي, لأن ما يقوله مؤلف هذه القصة تعانيه هي، لأنه يعزف على أوتار قلبها، لأنه يضع يده على جرحها، ولأنه يصف تجربتها، ولأنه يحلل مشكلتها، فتأثُّر هذه المرأة العاقر بقصة العاقر كبير جداً, لأنها تعاني كل شيء يذكره الكاتب في هذه القصة، لو أن امرأة عندها أولاد كثُر, وقرأت هذه القصة لا تتأثر أبداً, هذا مثل تمهيدي.
الآن اجلس في المجلس, واستمع إلى كتاب الله، تجد رجلاً يبكي، ورجلاً آخر لا يبكي أبداً، وكأنه حائط، الذي بكى له مع الله تجربة، له مع الله معاناة.
مرة ذكرت حديثاً قدسياً لإنسان له عمل طيب جداً، له أعمال كالجبال في خدمة الناس ، إطعام جائعيهم، والعناية بمرضاهم، قلت:
ليس كل مصل مصليًّا، إنما تقبل الصلاة لمن تواضع لعظمتي، وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع, وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب، كل ذلك لي، وعزتي و جلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس
بكى بكاء خفت عليه، أن هذا الحديث أشعره بعمله الصالح، إذًا: كل هذا بترجيح أن معانيه تؤخذ ممن يعانيه، إذا كنت تعاني القرب من الله تذوب شوقا إليه، تبكي إذا سمعت كلامه، تتأثر إذا سمعت كلام نبيه، أما إذا كنت بعيداً، فقال تعالى:
﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى
فالعبودية لها مراتب بحسب العلم والعمل، مرتبة العلم مرتبتان: إحداهما: العلم بالله, تغطيها آية كريمة:
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ﴾
والشيء الثاني: العلم بالأحكام الجزائية المتضمنة الثواب والعقاب، كل معصية مع عقابها.
فصار هناك العلم بالله وبأمره ونهيه، العلم بالله بذاته وبأسمائه وصفاته وأفعاله و تنزيهه, والعلم بأمره ونهيه الصراط المستقيم والجزاء الذي يتوعد كل من يخالف هذا الصراط.
2-المراتب العملية :
أما المراتب العملية فهناك مرتبة لأصحاب اليمين، ومرتبة للسابقين المقربين؛ أما مرتبة أصحاب اليمين: أداء الواجبات وترك المحرمات، مع ارتكاب المباحات وبعض المكروهات، وترك بعض المستحبات، هذه مرتبة أصحاب اليمين، أي ناجح مقبول حول المعدل، أصحاب اليمين يؤدُّون ويدعون المحرمات، لكن يتوسّعون في المباحات، وقد يقعون في بعض المكروهات، وقد يتركون بعض المستحبات، أما السابقون السابقون أؤلئك المقربون, يقومون بالواجبات والمندوبات, ويدعون المحرمات والمكروهات, زاهدين فيما لا ينفعهم في معادهم, متورعين عما يخافون ضرره، قال تعالى:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)﴾
منهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات، هناك مرتبة شرف أولى، جيد جداً، وهناك مقبول ، فأهل اليمين مقبولون عند الله، والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم.
خاصة هؤلاء المقربون انقلبت في حقهم طاعات وقربات بالنية، إذا أكل ينوي بطعامه التقوية على طاعة الله، المباحات عندهم عبادات، بينما المنافقون عباداتهم آثام.
و الحمد لله رب العالمين