وضع داكن
22-08-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 083 - منزلة التوكل -3- علاقة التوكل بحسن الظن بالله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

علاقة التوكل بالأخذ بالأسباب وبالتوحيد:


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثالث والثمانين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، ولا زلنا في منزلة التوكل.
تحدثت في الدرس الماضي عن علاقة التوكل بالأخذ بالأسباب، وبينت أنه لا يتناقض الأخذ بالأسباب مع التوكل، لأن التوكل محله القلب، والأخذ بالأسباب محله الأعضاء، ومتى نُقِل التوكل إلى الأعضاء كان التواكل، والتواكل دمّر الأمة الإسلامية، وما من موضوع المسلمون في أشدّ الحاجة إليه أكثر من أن يفهموا معنى التوكل، أن يأخذوا بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم يتوكلون على الله وكأنها ليست بشيء، يأخذ بالأسباب على أنها أسباب، وقد أُمِر الإنسان أن يأخذ بالأسباب، لكن قلبه معتمد على الله، مستسلم له، مُفوِّض له، راض بحكمه.
وبينت أيضاً علاقة التوكل بالتوحيد، وأن الإنسان إن ضَعُف توحيده ضَعُف توكلـه، أنت حينما تُدعى إلى أن تعتمد على زيد، وتتوهم أن الأمر بيد عُبيد، يضعف اعتمادك عليه، إذا دُعيت إلى أن تعتمد على زيد، وأنت متوهم أن الأمر بيد عبيد، لن تتوكل على زيد، لأن وهمك يُصَوِّر لك أن الأمر بيد عبيد، فكلما ضَعُف التوحيد ضَعُف التوكل، وكلما أيقن الإنسان أن الأمر بيد الله وحده، وأنه لا رافع ولا خافض، ولا مُعِزّ ولا مُذلّ، ولا معطي ولا مانع، ولا قابض ولا باسط إلا الله، جعل همه هماً واحداً فكفاه الله الهموم كلها، وعمل لوجه واحد فكفاه الله الوجوه كلها، هذا في الدرس الماضي.
 

علاقة التوكل بحسن الظن بالله:


أما في الدرس اليوم علاقة التوكل بحسن الظن بالله، ذكرت مرة فيما أذكر أن الإنسان في علاقاته مع بني البشر متى يدعو إنساناً؟ إذا كان موجوداً، ومتى يدعوه؟ إذا كان قريباً منه، ومتى يدعوه؟ إذا كان يسمعه، ومتى يدعوه؟ إذا كان قادراً على تلبية طلبه، ومتى يدعوه؟ إذا كان محباً له، فلمجرد أن تدعو الله عز وجل فأنت مؤمن بوجود الله، مؤمن بسمعه وبصره وعلمه، مؤمن بقربه، مؤمن بقدرته، مؤمن بمحبته، هكذا، فكيف يتوكل الإنسان على الله وهو سيئ الظن به؟
أضرب لكم مثلاً، أنت حينما تقرأ قوله تعالى: 

﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)﴾

[ سورة الأنبياء ]

بإمكانك أن تفهم هذه الآية كما ورد تفسيرها في بعض الكتب، أنّ نجارًا عنده لوحا خشب، وضــع لوحاً باباً لبيت الخلاء، وضــع لوحاً آخر باباً لقصر، ألك أن  تقاضيه؟ لا، لأن اللوحين ملكه، هذا كلام يُقال، ولكن ما قولك لو فهمنا قوله تعالى: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ أن أستاذاً أجرى امتحاناً، وصحَّح الأوراق وفق سُلم دقيق جداً، وعرض السُّلَّم على السبورة، ووزع الأوراق، فكل طالب تتبع ما كتب وما يستحق، فإذا بالعلامة أخذها دقيقة جداً، دون زيادة أو نقصان، فقال الأستاذ: هل من سؤال؟ كل الطلاب سكتوا، ما الذي أسكتهم؟ عدله، لِمَ لا تفهم قوله تعالـى هكذا؟ عدلُه أسكت الألسنة، أو هناك معنًى آخر هو أن الإنسان مقهور بالوسيلة، أنت ينبغي أن تكـون في حلب غداً، لابدّ من سيارة، فالسيارة وسيلة، والغاية حلب.
أنت مضطر إلى الماء لمزرعتك، لابدّ من حفر بئر، فحفر البئر وسيلة، والهدف استخراج الماء، أنت مضطر أن تأكل قمحاً، لابدّ من زرع القمح، الإنسان ضعيف، ومن أنواع ضعفه أنه مقهور بالوسائل، الإنسان لضعف بصره يستخدم الميكروسكوب، ولقصور بصره يستخدم التلسكوب، ولضعف يديه يستخدم المباضع، لا يستطيع بإصبعه أن يفتح بطن إنسان، لابد له من مشرط، فكل أداة يستخدمه الإنسان هي امتداد لأعضائه، أو وسيلة يتغلب بها على ضعفه، فالإنسان مقهور بالوسيلة، أما ربنا عز وجل لكمال قدرته كن فيكون، لا يوجد عند الله وسائل، فإذا إنسان تطفّل وسأل: لماذا فعل الله هكذا؟ كأنه يجعل الله عز وجل في صفة الإنسان، أي يحتاج إلى وسيلة ليحقق غاية، لذلك جاء الجواب من الله عز وجل: ﴿لا يُسْأَل عمَّا يَفعَل﴾ :

﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)﴾

[ سورة يس ]

الإنسان مقهور بالوسيلة، لكن الله عز وجل منزه، ولكمال قدرته أمره ينفذ فوراً.  

سوء الظن بالله وضعف التوحيد يُضعف التوكل: 


حتى إن بعض علماء التوحيد قالوا: كلمة كن تحتاج إلى وقت، هذه قالها الله للتقريب، كن حركتان، فيكون حركتان، معنى هذا هناك مسافة بين أمره وبين تحقيق أمره، قال هذا تقريباً لنا، أما ليس هناك زمن إطلاقاً بين أمره وتحقيق أمره، فبينما أن تفهم ﴿لا يسأل عما يفعل﴾ قد يضع إنسانًا أمضى حياته في طاعة الله في النار، لماذا؟ لأنـه ﴿لا يسأل عما يفعل﴾ ولماذا وضع إنساناً أمضى حياته في المعاصي في الجنان؟ لماذا؟ قال: لأنه ﴿لا يسأل عما يفعل﴾ فإذا توهمت أن الله هكذا فقد لا تتوكل عليه، سوء الظن بالله يُضعف التوكل، كما أن عدم الأخذ بالأسباب يتناقض مع التوكل، وكما أن ضعف التوحيد يُضعف التوكل، فإنّ سوء الظن بالله عز وجل يُضعف التوكل.
 

القرآن الكريم كله قواعد:


 أنت حينما تتعامل مع إنسان قوي ليس عنده قاعدة، ولا يُسأل عن أخطائه، قلّما تعتمد عليه، أما إذا كان هناك قواعد واضحة قال تعالى:

﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)﴾

[ سورة سبأ ]

قاعدة هذه.

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)﴾

[ سورة الشور ]

قاعدة هذه.

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء ]

قاعدة هذه.

﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)﴾

[ سورة الجن ]

قاعدة هذه، أي القرآن كله قواعد، بل إنني في هذه المناسبة أتمنى على كل أخ كريم أن يبحث في القرآن الكريم عن القواعد، أو عن السنن، أو بحسب مصطلح القرآن الكريم عن كلمات الله:

﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)﴾

[ سورة الأنعام ]

 

في القرآن قوانين المقدمات تُفضي إلى النتائج:


إذا تتبعت كلمات الله أي قوانينه، أو سننه في القرآن، هذه قوانين، المقدمات تُفضي إلى النتائج حتماً:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل ]

في أي بلد، وبصرف النظر عن أوضاع أي بلد، وبصرف النظر عن الشدة التي قد تحيط ببلد، وبصرف النظر عن تفلت الناس من منهج الله، ﴿من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة﴾ :

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾

[ سورة طه ]

التعامل مع الله سهل جداً، تعامل مع قوانيــن، لأن الله من رحمته جعل للتعامل معه قواعد، ليس بلا قواعد. 
 

الطرق التي رسمها الله لنا كي نصل إليه:


ذكرت البارحة في درس الأحد أن الله عز وجل رسم لنا كي نصل إليه ألف طريقٍ وطريق، منها الصدقة، قال: بَاكِرُوا بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ الْبَلاَءَ لا يَتَخَطَّى الصَّدَقَةَ،

(( عن أبي سعيد الخدري: صدقة السر تطفئ غضب الرب. ))

[ السلسلة الصحيحة: صحيح بمجموع طرقه: الطبراني في المعجم الكبير، والطبراني في المعجم الأوسط ]

الصدقة طريق، والدعاء طريق، والاستغفار طريق، والصلاة طريق، والصيام طريق، وبرّ الوالدين طريق، ورعاية الأيتام طريق، والطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، لأن الله يُحبنا، ويُحبّ أن يرحمنا، لذلك رسم لنا ألف طريقٍ وطريق، أما إنسان قوي قد لا تستطيع أن تصل إليه طوال حياتك، لا يوجد طريق إليه سهلة، أما ربنا عز وجل رسم لنا آلاف الطرق، فلذلك حسن الظن بالله، يحبنا، يريد أن يتوب علينا، خلقنا ليسعدنا:

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾

[ سورة هود ]

خلقنا ليُسعدنا، خلقنا ليرحمنا، خلقنا ليغفر لنا إذا استغفرناه، ليُعيننا إذا استعنا به، ليُجيبنا إذا دعوناه، ليعطينا إذا سألناه، ليتوب علينا إذا تبنا إليه، حسن الظن بالله يحملك على التوكل عليه:

﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)﴾

[ سورة المائدة ]

 

التوكل من لوازم الإيمان:


التوكل من لوازم الإيمان، ومن لم يتوكل على الله فهو بعيد عن الإيمان، فقال العلماء: على قدر حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه، وهذا ما دفع بعض العلماء إلى أن يفسروا التوكل بحسن الظن بالله، هناك ملمح لطيف في قول النبي عليه الصلاة والسلام وهو في مرض الموت، هكذا أذكر أنه قُدِّم له دواء لذات الجنب، مرض خطير، فقال عليه الصلاة والسلام: ذلك مرض ما كان الله ليصيبني به، من باب حسن الظن بالله، وأنا أقول لكم: مؤمن مستقيم الله يفضحه؟ يلبسه تهمة باطلة؟ يدمره؟ مستحيل، من باب حسن الظن.

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾

[ سورة الطور ]

بل إن بعض العلماء قال: الآيات التي هي موجهة إلى النبي عليه الصلاة والسلام هي بشكل أو بآخر بحسب إيمان المؤمن موجهة إليه أيضاً بالتبعية، فإذا قال الله عز وجل: ﴿فإنك بأعيننا﴾ وكل مؤمن على قدر إيمانه، وعلى قدر توحيده، وعلى قدر استقامته، وعلى قدر إخلاصه هو في عين الله عز وجل، يجب أن تعتقد أن الله لا يتخلى عنك، يجب أن تعتقد أن الله حينما قال:

﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)﴾

[ سورة التوبة ]

﴿لنا﴾ لم يقل علينا، فرق شاسع كبير بين أن تقول: ﴿قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا﴾ وبين أن تقول: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله علينا، الكلام الدقيق أن حُسنَ الظن بالله يدعو إلى التوكل عليه، إذ لا يُتَصور توكلٌ على من ساء ظنك به، ولا توكل على من لا ترجوه والله أعلم، إذاً أحدُ أسباب حسنِ التوكل حسنُ الظن بالله، أحدُ أسباب التوكل الصحيح التوحيدُ، أحدُ شروط التوكل الأخذُ بالأسباب.
 

العلاقة بين التوكل وبين استسلام القلب لله عز وجل:


هناك علاقة أخرى بين التوكل وبين استسلام القلب لله عز وجل، أنت لاحظ طفلاً صغيراً عمره أربع سنوات في بيت والده، يا ترى إذا ارتفع سعر الوقود السائل يصاب الطفل بالهم؟ يا ترى والده لا يملك مالاً انتهى راتبه بعشرين الشهر، الأب حمل همًّا كبيرًا، الطفل مرتاح، مرتاح تماماً، لا يهتم لطعام، ولا لشراب، ولا لتدفئة، ولا لثياب، همه عند والده، أي المؤمن من باب أولى ما دام الله عز وجل هو الغني الغنى المطلق، وهو القادر على كل شيء، وهو الرحيم، وهو اللطيف، وهو السميع، وهو المجيب، ينبغي أن يستسلم.
 

مهمة الإنسان تنتهي عند الطاعة:


هناك معنى سبحان الله! لو الناس تمثلوه لعاشوا سعداء، هذا المعنى أنك أنت عبد لك مهمة واحدة أن تطيعه فقط، الباقي ليس عليكه، قال تعالى:

﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)﴾

[ سورة الزمر ]

انتهت مهمتك عند الطاعة، يا ترى يعطيني؟ أنا لا علاقة لي هو حكيم، يعطيني كثيراً؟ لا أدري يعطيني قليلاً فأنا راضٍ، يعافيني؟ الحمد لله، يُمرضني؟ صابر على حكم الله، يعطيني زوجة من الدرجة الأولى؟ الحمد لله، من الدرجة العاشرة؟ الحمد لله، يعطيني أولادًا متفوقين؟ يا ربي لك الحمد، مقصرين؟ يا ربي أعنّ على تربيتهم، حالة الاستسلام رائعة، أي المؤمن لا همَّ له، همُّه اللهُ عز وجل، هو حكيم، وعليم، وسميع، ومجيب، وقريب، فحينما تضع همك في الله عز وجل يكفيك الهموم كلها، هذا يحتاج إلى استسلام، أحياناً طفل لا يملك ديناراً ولا درهماً ووالده مليونير، هل يشعر هذا الطفل بالفقر؟ قد يكون الأب من كبار أغنياء البلد الابن لا يملك شيئاً، العلماء قالوا: هذا الطفل غنيٌّ بغنى أبيه، لو لم تجد في جيبه ولا درهم هو غني، والآن أقول لكم: لو أن المؤمن فقير بالمعنى المادي هو غني عند الله، لأنه إذا سأله يعطيه، إذا دعاه يجيبه، إذا ابتهل إليه يلبّه، إن استغاثة يغثه، إن استنصره ينصره، إن استعان به يعينه، إن سأله يعطيه، إن تاب إليه يتوب عليه، فالمؤمن غني بالله عز وجل، هناك حالات من التعفف لا يمكن أن تُفسَّر إلا بحالة واحدة هي ثقة الإنسان بالله عز وجل. 

المؤمن عزيز:


ملك حجّ بيت الله الحرام، والتقى بعالم جليل، قال له: سلني حاجتك؟ أراد هذا الملك أو الخليفة أن يتقرب إلى الله في تلبية حاجة هذا العالم، قال له: والله إني لأستحي أن أسأل غير الله في بيت الله، التقاه خارج بيت الله، قال له: سلني حاجتك؟ قال له: والله ما سألتها من يملكها أفأسألها من لا يملكها؟ ثم ألح عليه، قال له: سلني حاجتك؟ قال له: أريد أن تدخلني الجنة وأن تنقذني من النار؟ قال له: هذه ليست لي، قال له: إذًا ليس لي عندك حاجة.
ما هذه العفة؟ اعتماداً على الله عز وجل، والمؤمن عزيز، حتى قال بعضهم: لا يوجد أجمل من إكرام الغني للفقير، والأجمل من ذلك تعفف الفقير عن مال الغني، ثقة بالله عز وجل.
 

التوكل هو استسلام القلب إلى الله وانجذابه إليه وقطع المنازعات:


ملك الملوك إذا وهب هذا بيت شعر، البيت أصله:

ملك الملوك إذا وهب             لا تسألن عن السبب

[ الشافعي ]

* * *

أنا عدلته:

مَلِكُ المُلُوكِ إِذَا وَهَـبْ   قُمْ فَاسَأَلَنْ عَنِ السَّبَـبْ

[ راتب النابلسي ]

* * *

اللَّهُ يُعْطِي مَنْ يَشَــاءُ فَقِفْ عَلَى حَــدِّ الأَدَبْ

[ الشافعي ]

* * *

الذي أعطاه يعطيك، والذي أكرمه يُكرمك، والذي قرّبه يقربك، والذي أعانه على حفظ كتاب الله يعينك أنت أيضاً، والذي يسأله يعطيه، لماذا تحب أن تكون تحت رحمة إنسان؟ كُنْ تحت رحمة الواحد الديان، فاستسلام القلب إلى الله، وانجذابه إليه، وقطع المنازعات هو التوكل، والله أيها الإخوة؛ في قلب المؤمن من التوكل ومن الاستسلام ومن الراحة ما لو وُزِّع على أهل بلد لكفاهم، وفي قلب غير المتوكل من القلق والخوف والضياع والتوتر ما لو وُزِّع على أهل بلد لأشقاهم.
 

على كل أخ ألا يقبل من إنسان شيئًا إلا بالدليل:


هناك كلمة أنا أُنكرها أشدّ الإنكار أن المؤمن المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المُغَسِّل، لا، ليس هذا صحيحاً، والدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام أمّر أنصارياً على بعض أصحابه، وقد ورد في السيرة أن هذا الأنصاري كان ذا دعابة، 

(( عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا، وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا، ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا، فَجَمَعُوا حَطَبًا، فَأَوْقَدُوا نَارًا، فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ، فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرَارًا مِنْ النَّارِ أَفَنَدْخُلُهَا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ خَمَدَتْ النَّارُ وَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ. ))

[ صحيح الجامع ]

أنا أنصح كل أخ لا تقبل من إنسان شيئًا إلا بالدليل، دين، ولا أن ترفض شيئاً إلا بالدليل، والكلمة القاطعة الحاسمة الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله، كان عمر وقّافاً عند كتاب الله، فالمريد لا ينبغي أن يكون كالميت بين يدي المغسِّل، أما مع الله يصح هذا، في يوم جاء مع الله، قال: المؤمن بين يدي ربه كالميت بين يدي مُغسِّله، ممكن، ممكن أن تكون هذه العبارة لعلاقتك بالله عز وجل، هو الحكيم، هو العليم، هو القوي.
 

ملمح لطيف في الآية التالية:


هناك ملمح لطيف لما ربِّنا عز وجل قال: 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)﴾

[ سورة الممتحنة ]

قُيِّدت معصية النبي في معروف، مرة كنت في الحج أو العمرة لا أذكر، حضرت درسًا في الحرم بين المغرب والعشاء، الذي يلقي هذا الدرس هكذا قال، قال: رجل مُحبّ لله عز وجل، قال له ابنه: إنني لا أحب اليقطين فقتله، أي قتله نهائياً، لأن النبي كان يحب اليقطين، حُبّه لليقطين ليس حكماً شرعياً، قضية شخصية، فإذا إنسان لم يحب اليقطين هذا لا شيء عليه، أنا والله استنكرت هذا الكلام، هذا منفر.
 

مهمة عدو الدين:


أحياناً تسمع أن ثلاثين رجلاً قتلوا بتركيا فرضاً، قال: حزب الله عز وجل، أي حزب الله مجرم؟ بالإعلام الغربي يوجد خُبث شديد جداً، أن دائماً كل شيء متعلق بالدين قتل، جريمة، لا، هذا ليس من الدين في شيء، فالإنسان أحياناً ينفر، يا ربي أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك؟ قال: أحبّ عبادي إليّ؛ تقي القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبني، وأحبّ من أحبني، وحبّبني إلى خلقي، قال: يا ربي إنك تعلم أني أحبك، وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي، دائماً عدو الدين يسعى جاهداً لتنفير الناس من الدين، أو لتشويه صورة المؤمن بشكل يدعو للنفور الشديد.
إذا كان الابن لا يحب اليقطين، لا شيء عليه، أما إذا ما صلى، إذا ما صام، هنا المشكلة، فدائماً الإنسان قبل أن ينطق يجب أن يقول كلاماً يُحَبب العباد إلى الله عز وجل، لذلك قال بعض العلماء: العوام لئن يرتكبوا الكبائر أهون من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، أهون بكثير، بل إن الله عز وجل حينما ذكر بعض المعاصي والآثام رتّبها ترتيباً تصاعدياً، بدأ بالفحشاء والمنكر، والإثم والعدوان، والشرك والكفر، وجعل في رأس هذه المعاصي:

﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)﴾

[ سورة الأعراف ]

كتب عليه الكفر قبل أن يُخلَق، وجاء إلى الدنيا وأجبره على أن يكون كافراً، أجبره على أن يزني، أجبره على أن يشرب الخمر، واستحق جهنم إلى الأبد، ما قولك بهذا الكلام؟

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)﴾

[ سورة الأنعام ]

عقيدة الجبر عقيدة أهل الشرك، فهناك كلام مُنفِّر، هناك من يقول كلامًا فيقطع الناس عن الله عز وجل، يُنَفِّرهم من الله عز وجل، يُبعدهم عن الدين.
 

الاستسلام لله لأن كلامه مطلق:


إذاً استسلام القلب لله، وانجذابه إليه، وأن يكون العبد بين يدي ربه كالميت بين يدي مُغَسِّله، اللهم-كما دعا النبي الكريم في الطائف-إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا رب المستضعفين إلى من تكلني؟ إلى أن يقول: إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، ولك العُتبى حتى ترضى، ‏لكن عافيتك أوسع لي، يجب أن تستسلم، لأن الله كماله مطلق، قال تعالى:

﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)﴾

[ سورة الأعراف ]

 

العلاقة بين التوكل والتفويض:


قال بعضهم: التوكل إسقاط التدبير، والاستسلام لتدبير الواحد الكبير، في غير الأمر والنهي طبعاً، وفوق الاستسلام هو التفويض، وهناك علاقة بين التوكل والتفويض، والتفويض هو روح التوكل، وهو إلقاء الأمور كلها إلى الله عز وجل، وإنزالها به طلباً واختياراً، لا كُرهاً واضطراراً، كتفويض الابن العاجز الضعيف المغلوب على أمره كل أموره إلى أبيه، العالم بشفقته عليه، ورحمته به، وتمام كفايته، وحسن ولايته، وتدبيره، فالابن الضعيف يرى أن تدبير الأب خير من تدبيره لنفسه، ورد في بعض الأدعية النبوية: اللهم خِرْ لي واختر لي، بربِّك! لو دخلت إلى صديق لك يبيع قطع الذهب والألماس، قال لك: لك عندي هدية، اختر من هذه القطع ما يعجبك، أنت ذكي جداً، قلت: لا والله، أنت اختر لي، إذا كان يحبك حباً جماً ماذا يفعل؟ أنت استعرت خبرته، واستعرت محبته وإخلاصه، فانتقى لك أغلى قطعة، لأنك قلت له: أنت اختر لي، قال لك: اختر قطعة من هذه القطع؟ قد يكون حجمها كبيرًا، لكن العيار ستة عشر، قد يكون حجمها صغيرًا فيها ألماس، ثمنها خمسة أضعاف، لما قلت له: اختر لي أنت، وهو يحبك، وهو كريم جداً، سوف يختار لك أغلى قطعة في محله، لأنك قلت له: خِرْ لي واختر لي، وأنت حينما تفوض، وحينما تستسلم، وحينما تُحسِن الظن بالله، وحينما تُوَحد، بعد أن تأخذ بالأسباب، وتوكلت عليه، سيأتيك أفضل من أي سعي وكد، من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين، لكن نحتاج إلى حُسن ظن بالله.
 

الرضا عن الله ثمرة من ثمار التوكل:


قال: إذا أخذت بالأسباب وكأنها كل شيء، وتوكلت على الله وكأنها ليست بشيء، ثم قَوِي توحيدك، وحَسُن ظنك، واستسلمت إلى الله، وفوضت أمرك إليه، قال: هذا ينقلك إلى درجة هي أروع درجة في الدين، درجة الرضا، راض عن الله:

﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)﴾

[ سورة التوبة ]

رجل يطوف حول الكعبة، قال: يا رب هل أنت راضٍ عني؟ كان وراءه الإمام الشافعي، قال له: يا هذا هل أنت راض عن الله حتى يرضى عنك؟ قال: يا سبحان الله! من أنت يرحمك الله؟ قال له: أنا محمد بن إدريس، قال له: كيف أرضى عنه وأنا أطلب رضاه؟ قال له: يا هذا إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله.
طبعاً إخوانا الكرام؛ أي إنسان حتى إذا كان ضعيف الإيمان، حتى إذا كان ضعيف الإيمان جداً، حتى إذا كان لا يوجد فيه إيمان إطلاقاً، إن أعطاه الله صحة يرضى عن الله، أعطاه الله مالاً يرضى عن الله، أعطاه الله عزاً، زوجة، أولاداً، مكانة، شيء بديهي، الناس لا يتفاوتون في هذا، لكن البطولة أن ترضى عنه وأنت مريض، أن ترضى عنه وأنت ضعيف، أن ترضى عنه وأنت فقير، أن ترضى عنه وفي بيتك مشكلة، وفي أولادك مشكلة، هنا الامتحان. 
بربكم هل رأيتم إنساناً واحداً يمتحن مركبة في طريق نازل؟ ممكن أن تلغي المحرك كله بالطريق النازل، تطفئه وتمشي، دراجة تنزل، لا تُمتحن المركبة إلا في الطريق الصاعد، والإنسان لا يمكن أن يُمتحن في الرخاء، لا يُمتحن إلا في الشدة،  والأنبياء الكرام وعلى رأسهم النبي عليه الصلاة والسلام مروا بمضائق صعبة جداً، وكل مؤمن صادق لابدّ من أن يمرّ بمضائق على قدر إيمانه.

(( عن أخت لحذيفة بن اليمان: أشد الناس بلاء الأنبياء، وأنا أشدهم بلاء ثم الأمثل فالأمثل. ))

[ الجامع الصغير ]

وطِّنْ نفسك، أنت راضٍ عن الله في الرخاء وفي الشدة، وفي المنشط وفي المكره، وفي إقبال الدنيا وفي إدبارها، بزواج أو من دون زواج، بدخل أو من دون دخل، بالصحة أو بالمرض، بإقبال الدنيا أو بإدبارها، أنت راضٍ عن الله، هذا المؤمن:

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23)﴾

[ سورة الأحزاب ]

أما ضعاف الإيمان قالوا:

﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)﴾

[ سورة الأحزاب ]

هؤلاء ضِعاف سقطوا، إذاً هذا الحال حال التفويض ينقلك إلى مرتبة الرضا عن الله عز وجل، والرضا عن الله عز وجل من أعلى الدرجات، بل هو ثمرة من ثمار التوكل.
 

من تجلّى الله على قلبه ملأه غنى وطمأنينة:


حدثني إنسان يعمل في فعل الخير، قال لي: دخلت على إنسان، حجمه المالي كبير جداً، لا بمئات الملايين، أقسم بالله ببضعة ألوف من الملايين، قال لي: شكا ليَ، وسخط عن حياته، البيت لا يعجبه، زوجته لا تعجبه، أولاده منزعج منهم، البلد لا تعجبه، قال لي: كدت أقع، هموم كالجبال، وأقسم لي أنه يملك بضعة ألوف من الملايين، قال لي: لحكمة أرادها الله عز وجل، في اليوم نفسه جاءتني امرأة محجبة تطلب مساعدة، سألتها عن مكان سكنها، قالت له: خارج دمشق، في داريا، قال لها، أنا عندي الآن في هذا المساء لقاء هناك مع جمعية خيرية، أخذ عنوانها، بعدما انتهى الاجتماع قال لهم: هناك امرأة يجب أن نزورها كي نتحقق من حالتها، فقاموا معه، قال لي: دخلنا إلى بيت، البيتُ تحت درج، المنطقة المنخفضة دورة مياه، الأعلى بقليل حمام، الأعلى غرفة، مع فتحة صغيرة سماوية، تحت درج، قال لي: البيت نظيف، ثلاثة أولاد كالزهور، لباسُهم نظيف، الزوج مريض، مستلقٍ على السرير، قال لي: شعرت كأن هذا البيت قطعة من الجنة، وازن بين من شكا له كل شيء، شكا بيته وشكا زوجته وأولاده وبلده ومنزعج، وضَجِر، وسئم، وهو يملك بضعة آلاف من الملايين، وووازن بين هذه المرأة المحجبة المؤمنة التي تطلب المساعدة، هي طلبت ألف ليرة في الشهر، هؤلاء الجماعة وجدوا أسرة فقيرة جداً، قالوا: ألفا ليرة، قالت له: لا ألف تكفي، نحن دخلنا يكفينا نريد فقط أجرة البيت، قال لي: أصرت على ألف واحدة، قال لي: بتاريخ عملي الصالح لم أجد بيت فيه عفة، وفيه نظافة، وفيه هدوء، وفيه رقة، وكأن هذا البيت قطعة من الجنة، الله عز وجل على كل شيء قدير، يسعدك من دون دنيا، ويشقيك وأنت في قمة مكانك في الدنيا، يُشقي الإنسان وهو غني، وقد يسعده وهو فقير، هذه السكينة تسعد بها ولو فقدت كل شيء، قال لي: بيوم واحد إنسان صار يشكو إلى درجة قال لي: والله بركت، معقول؟! امرأة تسكن تحت درج تطلب ألف ليرة بالشهر أجرة البيت وفي منتهى السعادة، فإذا ربنا عز وجل تجلَّى على قلب الإنسان، ملأه غنًى، ملأه طمأنينة، ملأه استقراراً، ملأه تفاؤلاً، فأن ترضى عن الله شيء عظيم.
 

بطولة الإنسان في المحنة:


لذلك: يا ربي لك الحمد والشكر والنعمة والرضا، بعد أن تقول: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد والشكر والنعمة والرضا، حمداً كثيراً طيباً مباركاً، أن ترضى عن الله هذا قمة الإيمان، تعرفه، ترضى عنه في كل ما يعطيك، بصراحة إنسان أصيب بمصيبة إذا لم يرض يشرب البحر، فقد مرتبة الرضا، بعد ذلك سيسكت قهراً، ماذا نفعل؟ كنت قل ذلك من الأول، قل: يا ربي لك الحمد، كنت نجحت أخذ مئة على مئة.
صدقوا أيها الإخوة؛ تأتي أحياناً مصيبة، تحليل، نسبة مرتفعة جداً، يقول لك الطبيب: القضة خطيرة، يا رب لك الحمد، إذا قلت: يا رب لك الحمد أنا راضٍ عنك نجحت، فإذا نجحت أزاح الله عنك هذا، إذا لم ترض ماذا تفعل؟ هناك كلمة قاسية جداً قال: ما بعد الصبر إلا المجرفة والقبر، إذا لم ترض هذا الحاضر، أما إذا رضيت ارتقيت عند الله عز وجل، بطولتك أن تقول وأنت في محنة: يا ربي لك الحمد، لأن المِحن هي في الحقيقة مِنح، فقط غير ترتيب الحروف، المحنة منحة، والشِّدة شَدة، شَدَّة إليه.
 

التوكل ينتهي بك إلى الرضا:


ذكرت لكم من مرات عديدة أن أخاً من إخواننا كان شارداً كثيراً، وكان مسرفاً على نفسه في المعاصي، لا صلاة، ولا صوم، ولا شيء إطلاقاً، وانحراف، ثم عرف الله عز وجل على أثر محنة قاسية جداً، مرِض مرضًا شديدًا، أدخله المستشفى، قال لي: وأنا على طاولة العناية المشددة بكيت، قلت له: يا رب أتحب أن ألقاك عارياً؟ أعطني فرصة كي أتوب إليك، منحه الله فرصة، لزم الدروس، أحكم صلاته، شعر أنه هو صار إنساناً آخر، قال لي مرة: أناجي ربي، قلت له: يا رب، كل هذه السعادة في القرب منك، لِمَ لَمْ ترسل لي هذا المرض قبل عشر سنوات؟ كل هذه السعادة، عندما يسوق الله شبح مصيبة يُقربك منه كثيراً، إذاً التوكل له علاقة، التوكل ينتهي بك إلى الرضا: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ .
 

كل ما يُبتلى به المؤمن تكفير وتقريب:


هناك معنى آخر: إذا الآن لم تكن راضيًا سوف ترضى:

﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)﴾

[ سورة الضحى ]

يرضيك فيما بعد، يقول الطبيب للمريض أحياناً: تحمّلنا قليلاً بعد ذلك ترتاح، نحن الآن بطور المعالجة، نرجو الله أن يُحسن ختامنا، نرتاح بعد ذلك إن شاء الله، أنا أقول لكم: الحزن خلّاق، الإنسان أبداً لا يرتقي بالرخاء، مال كثير، صحة، نوم للظهر، يكون بوضع يَقرف ويُقرّف، أما أحياناً الشدة تتألق فيها، الحزن خلّاق، الحزن يقربك من الله عز وجل، الحزن يدعوك إلى الاستسلام، الحزن يذيقك طعم القرب منه، هذا كلام قطعي.

(( عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ أَوْ أُمِّ الْمُسَيَّبِ، فَقَالَ: مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ أَوْ يَا أُمَّ الْمُسَيَّبِ تُزَفْزِفِينَ؟ قَالَتْ: الْحُمَّى، لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، فَقَالَ: لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ. ))

[ صحيح مسلم ]

كل ما يُبتلى به المؤمن تكفير وتقريب، ورد في الأثر القدسي: وعزتي وجلالي لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحبّ أن أرحمه، إلا ابتليته بكل سيئة كان عمِلها سُقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبة في ماله أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذّر، فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه، إذا كان الله عز وجل تفضّل علينا، وكنا على شفير القبر طاهرين نجونا، المؤمن حينما يرى مقامه في الجنة، وهو على فراش الموت، يقول: لم أر شراً قط، والكافر والعياذ بالله حينما يرى مكانه في النار يقول: لم أر خيراً قط، يكون ساكناً بأجمل بيت، مدعو إلى أكثر من ألفي دعوة، لم يترك مكاناً بالعالم إلا وقد زاره، نازل بمئة فندق خمس نجوم، يقول لك: لم أر خيراً قط.
سيدنا علي يقول: يا بني، ما خير بعده النار بخير، وما شرّ بعده الجنة بِشَر، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية.
 

كفاك على عدوك نصراً أنه في معصية الله:


قد يكون الإنسان عادياً في الدرجة الاجتماعية السفلى، لكنه هو عند الله كبير، لا توازن نفسك مع أحد، وازن نفسك مع منهج الله، إذا كنت مطيعاً لله أنت الأولي، أبداً، عامل، حاجب، ضارب آلة كاتبة، مُتعيّش، بائع متجول، إذا كنت مطيعاً لله قلامة ظفرك تساوي مليار إنسان مترف، قال تعالى:

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾

[ سورة إبراهيم ]

كفاك على عدوك نصراً أنه في معصية الله، إذً أنت بالطاعة نَمْ قرير العين، أنت الفائز:

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾

[ سورة الأحزاب ]

أرجو الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على أن نتمثّل هذه المنازل، ومن هذه المنازل منزلة التوكل.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور