- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
مراتب الهداية :
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السادس والثمانين من دروس مدارج السالكين, في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، وفي هذا الدرس نتحدّث عن مراتب الهداية .
1-مرتبة التكليم :
أعلى هذه المراتب على الإطلاق من حيث النوع: تكليم الله عز وجل لعبده يقظةً بلا واسطة، بل منه إليه ، وهذه أعلى مراتبه كما كلّم اللهُ موسى بنَ عمران صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى:
﴿ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ
أي لا يوجد اتّصال أشد وأقوى من أن يكلِّم اللهُ إنسانًا.
توضيح :
أيها الإخوة؛ هناك نقطة ينبغي أن تكون واضحةً لديكم: وهي أنّ الاختصاص ليس من لوازمه التفضيل، فلو أنّ ضابطًا كبيرًا يركب طائرة ويطير، لا يمكن أن يكون أعلى من قائد الجيش كلّه، مع أنّ هذا الضابط الطيار له اختصاص في الطيران، بينما قائد الجيش قد لا يطير، إلا أنّ مرتبة قائد الجيش أعلى من مرتبة الطيّار، فذكرتُ هذا التحفظ لأنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- سيّد الخلق قاطبةً، وحبيب الحق، وهو سيّد ولد آدم، وهو أعلى مخلوقٍ خلقه الله عز وجل، ومع ذلك لمْ يكلّمه، فالعلماء قالوا:
الاختصاص لا يقتضي التفضيل، أما من حيث طبيعة العلاقة بين الإنسان وخالقه، فأعلى درجة هي التكليم.
قال تعالى:
﴿
لم يقلْ هذا شكًّا في وُجوده كما يدّعي بعضهم، بل قال: هذا طمعًا في رؤيته بِدافعٍ من شوقه, فقال تعالى:
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) ﴾
وبيّن الله عز وجل أنّ أشد عذابٍ على الإطلاق: أن يُحجب الإنسانُ عن ربّه، قال تعالى:
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ﴾
هذه مرتبة من حيث نوع العلاقة هي أعلى مرتبة، لكنْ من اختصّ بها لا يُعد في أعلى مقام.
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَسِيلَةُ؟ قَالَ: أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ, لَا يَنَالُهَا إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ, أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ ))
لذلك نقول بعد الأذان, كما علَّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, في حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
(( مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ, وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ, آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ, وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ, حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ
))
متى يعلو مقام العبد عند الله؟ :
قال تعالى:
﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً (79) ﴾
ما علاقتنا بهذا الكلام؟ بِقَدْرِ قوّة اتّصالك يعلو مقامُك، وبقدْر إحكام اتّصالك يعلو مقامك عند الله تعالى بشكلٍ أو بآخر.
إذا كان هناك مركز كبير لتحويل الكهرباء، يتلقّى المدّ من خطّ توتّر عال, قوتُه ثمانون ألف فولط، هذا المركز يمكن أن يضيء مدينة -ولله المثل الأعلى-.
النبي -عليه الصلاة والسلام- من شدّة قربه من الله, يتلقّى من الله تعالى شيئًا لا يوصف، قال تعالى:
﴿ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) ﴾
قال علماء البلاغة: هذا هو الإيجاز الفني، قال تعالى:
﴿
هذه التغذية، أما الأخذ:
لذلك أنت قد تلتقي بإنسان صالح تقول: أنسَ قلبي به وشعرتُ بسعادة، قد تكون السهرة متواضعة، وفي بيت متواضع، والضيافة متواضعة، تقول: ما شعرنا بالوقت، وكان هناك سرور، لأنّ حال هذا الصالح انْعكس عليك، فشعَرْتَ بهذه السعادة, فكيف لو أُتيح لك أن تتّصل بنبيٍّ؟.
سيّدنا ربيعة خدم النبي -عليه الصلاة والسلام-, فلمّا أمره أن ينصرف إلى البيت مساءً, بقيَ نائمًا على عتبة باب النبي, من شدّة انجذابه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فإذا أُتيح لك اللّقاءُ برجل صالحٍ تقول: أنس قلبي به، لأنّك شعرت بقربٍ من الله تعالى، ولا شكّ أنّكم تعرفون هذه الحقيقة: فقد يتجلّى الله على أُناسٍ في مجلس ذِكْر كهذا المجلس، والملائكة تحفّهم, والرحمة تغشاهم، والسكينة تتنزّل عليهم, لأنّهم ذكروا الله عز وجل.
فالنبي -عليه الصلاة والسلام- لشدّة اتّصاله بالله تعالى, صار التجلّي الإلهي عليه كثيفًا، وأيّ إنسان يتّصل به بطريقة أو بأخرى؛ يذكره, ويذكر سنّته, ومواقفه, وشمائله, وأدبه الرفيع يذوب شوقًا إليه، وهذا الكلام تقريبٌ لقوله تعالى:
(( عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ: -وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ, فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ, قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ!؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ, فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا, قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَ اللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا, فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ, فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا . ))
الآن دقّقوا
(( فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ, لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ, وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ))
وأما نحن معاشر الأنبياء فتنام أعيننا ولا ينام قلبنا.
فإذا كنت أنت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- كان لك حالٌ مسعد، وإذا كنت عند صدِيق فلك حال مسعد، إذا كنت عند مؤمن كبير فلك حال مسعد، إذا كنت عند عارف بالله تعالى فلك حال مسعد، وإذا كنتَ مع موصول فأنت موصول، هذا معنى قول بعض علماء القلوب:
لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله، ويدلّك على الله مقاله.
ولا يستطيع المؤمن مهما سما وعلا أن يفعل شيئًا أكثر مِنْ ذلك، يدلّك على الله بكلامه، وينهض بك إلى الله بحاله، لذلك قالوا:
ألف إنسان، وكل إنسان يحضر محاضرة بقي فيها شهرين؛ معلومات, وأدلّة, وشواهد, وقصص, ومنطلقات, وموازنات، ألف محاضرة تلقى على واحد, يفوقُها أنّ واحدًا موصولا بالله يؤثّر في ألف، وألف ليسوا موصولين لا يؤثّرون في واحد، لذلك كانت حياة الأنبياء إعجازًا.
فهل يعقل من إنسان: يعيشُ ثلاثًا وستين سنة، جاءه الوحي في الأربعين، ثلاث وعشرون سنة عاشَ في بلادٍ قاحلةٍ, مجذبةٍ جافّة، لا رزع فيها، مع أُناسٍ بدْو رحّل، بعيدين عن الثقافة والعلم والحضارة والتفوّق، إنسان واحد في ثلاثة وعشرين عامًا يصنعُ معجزةً؟ مليار ومئتا مليون مسلم وقد مضى على إسلامهم أكثر من ألف وخمسمئة عامٍ، هذا معنى قول بعض علماء القلوب:
حالٌ واحدٍ في ألف أقوى من قول ألفٍ في واحد.
2- المرتبة الثانية مرتبة الوحي المختصّ بالأنبياء:
أعلى مرتبة من حيث النوع:
لماذا قيّدْتُ هذه الكلمة؟ ذلك لأنّ الوحي في القرآن على أربع مراتب، قال تعالى:
﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) ﴾
إذا توجّه الوحي إلى جماد فهو أمر تكوينيٌّ، لكنّ الله سبحانه وتعالى أوحى إلى النحل ، قال تعالى:
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ﴾
وحي الحيوانات هو وحي غريزي، أما حينما أوحى الله إلى أمّ أن أرضعيه، قال تعالى :
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) ﴾
هذا وحي إلهام، أما إذا قال الله عز وجل:
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا
هذا وحيُ نبوّة، فالوحي أمرٌ تكويني، أو أمرٌ غريزي، أو إلهام، أو إرسال رسول من الملَك إلى نبيّ من الأنبياء، فالمرتبة الثانية: قال تعالى:
﴿
3- المرتبة الثالثة:
قال تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) ﴾
4- مرتبة التحديث :
وهناك مرتبة رابعة اسمها مرتبة التحديث ، ونحن الآن دخلنا بمـراتب لا علاقة لها بالنبوّة؛ مرتبة التكليم، ومرتبة وحي النبوّة، ومرتبة إرسال الرسول، هذه المراتب الثلاث خاصّة بالأنبياء, الآن نزلنا إلى درجة تحت الأنبياء، هي مرتبة التحديث.
(( فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-, عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ, وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ, فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ))
من شدّة قربه من الله، فالله عز وجل يحدّثه بطريقة أو بأخرى، أرأيتم إلى مراتب الهدى؟ أما هذا المقطوع عن الله تعالى من أيّ مرتبة هو؟ المقطوع عن الله تعالى بِمَعصيَة، أو المحجوب بِعَيبٍ.
الدعاء الشريف: اللهمّ لا تقطعنا بِقَواطع الذنوب، ولا تحجبنا بقَبائح العيوب.
الخُلُق السيّءُ والعيبُ الذميمُ هذه تحجب والذنب يقطع، لذلك أشدّ شيءٍ على الإنسان أن يُحَجَبَ بِعَيبٍ قبيح، أو أن يقطع بذنبٍ قبيح
5- مرتبة التصديق :
العلماء قالوا: إنّ الصدّيق أعلى من المحدَّث ، المرتبة التي تأتي بعد الأنبياء هي مرتبة الصدّيقين، قال تعالى:
﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً (69) ﴾
السيّدة مريم كانت صدّيقة النساء، وسيّدنا أبو بكر كان صدّيق هذه الأمّة, أي إنسانٌ قريبٌ من مقام النبوّة، فكلّ ما يقوله النبي يصدّقه، لأنّه يراه, فمثلاً:
لو ذهب شخصٌ إلى بلدة، وعرف معالمها, وهو جالسٌ في مجلس إنسان, تحدّث عن هذه البلدة، يقول له: صحيح، صدقت، لأنّ الذي يقول هذا يعرفه، فمرتبة الصدّيقيّة هي أوّل مرتبة تأتي بعد مرتبة النبوّة، ومرتبة المحدّث تأتي بعدها، فسيّدنا عمر -رضي الله عنه- كان مُحَدَّثًا، كان يقول:
قال بعض العلماء: الصدّيق استغنى بكمال صدّيقيّته، ومتابعته عن التحديث والإلهام والكشْف, لكن لا تسمحوا لأحد أن يقول لكم: حدّثني قلبي عن ربّي بشيءٍ يخالف الشريعة, فكلّ ما مِن شأنه أن يكون إشراقًا أو إلهامًا أو كشفًا أو... أو ... فلا بدّ من أن ينضبِطَ بالكتاب والسنّة.
يُروى أنّ أحدهم في عهد العزّ بن عبد السلام رأى النبي -عليه الصلاة والسلام-, يقول له: إنّ في مكان كذا وكذا كنزًا فخُذهُ ولا تدفع زكاته، فجاء هذا الإنسان إلى العزّ بن عبد السلام، وقال: رأيتُ كذا وكذا, فقال: اذْهب إلى مكان كذا وكذا واحفِر وخُذ الكنز وادفع زكاته ، لأنّ فتوى النبي -عليه الصلاة والسلام- في حياته أبلغ من فتواه في منامك.
فأيّ منامٍ يُعزى إلى النبي يخالف الشريعة ينبغي ألاّ نصدّقه.
طرفة :
هناك طرفة يقولون: قام المسؤول الكبير في الأوقاف، وقال له شخصٌ: رأيت النبي -عليه الصلاة والسلام- البارحة وهو يهديك السلام، ويطلب منك أن أكون عندك في الوزارة موظَّفًا، وأن تعتني بي، فهذا المسؤول على جانبٍ من الذّكاء، قال: الساعة الثانية عشرة، فقال هذا المسؤول: وأنا رأيتهُ الساعة الرابعة بعدك، وقال لي: إنّه كذّاب فلا تصدّقه.
من أدقّ ما تعني به كلمة:
الذِّكْر في أيّ معنى ورد في القرآن الكريم، اسألوا أهل الوحي، نحن عندنا حقّ لا يأتيه الباطل أبدًا هو الوحي، فكلّ إنسان مختصّ بالوحي, متقنٌ له, ويعرف معاني كلام الله تعالى، ومعاني سنّة رسول الله:
6- المرتبة السادسة: هي مرتبة الإفهام .
هذه المرتبة يمكن أن تجتمع في وليّ وفي نبيّ ، قال تعالى:
﴿
(( عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ: أَخَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشَيْءٍ لَمْ يَعُمَّ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً, إِلَّا مَا كَانَ فِي قِرَابِ سَيْفِي هَذَا, قَالَ: فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً مَكْتُوبٌ فِيهَا: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ, وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ, وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ, وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا ))
إذًا: أن تفهم عن الله شيئًا ونصّ الوحييْن الكتاب والسنّة فهذه مرتبة، قال تعالى:
﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) ﴾
وفهمْت من هذا النصّ أنّ الله خلق في النفس الفجورَ، وخلق فيها التقوى من دون سبب منها, فأنت لم تؤتَ فهمَ كلام الله تعالى، أما إذا فهمْتَ معنى قول الله تعالى:
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) ﴾
على أنّ الله تعالى خلق الإنسان على جِبِلّة عالية راقية, بحيث إن فجرَت أو اتّقيْت تعرف معرفةً ذاتيّة من دون وسيط أنّها فجرَت أو اتَّقَتْ، هذا فهمٌ صحيح، وفهمٌ راقٍ لكتاب الله تعالى، قال تعالى:
سيّدنا عمر -رضي الله عنه- كتب كتابًا لأبي موسى الأشعريّ -رضي الله عنهما-, يقول فيه: الفهم الفهم فيما أُدليَ إليك.
فالفهم مرتبة عالية جدًّا يؤتيها الله عز وجل للصادقين، يفهم النصّ على ما أراده الله تعالى.
كنت أقول مرّة: لو قال لك إنسان: اسقن ماءً، فأنت قد تجتهد أن تأتيه بكأس فضيّة, نقشَ عليها آية الكرسي مثلاً أو بإبريق، أما أن تأتيه بخُبز فأنت ما فهمت كلامه، فقد تجتهد في الوعاء وفي الأسلوب. قال تعالى:
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) ﴾
إن أوتيتَ فهمًا لكتاب الله عز وجل, تفهم هذه الآية على أنّ الله عز وجل أكرمك بالاختيار وأكرمك بالتكليف وبِحَمل الأمانة، فلو ألغى هذه الكرامة، ألغى اختيارك وتكليفك وحمْلَكَ للأمانة, وأراد أن يجبرك على شيء، ما أجبرك إلا على الهدى، وهذا هو المعنى الصحيح، وليس المعنى الذي يتبادر إليه الذّهن، وهو أنّ الله تعالى ما أراد الهداية للبشريّة.
قال: فالفهم عن الله ورسوله عنوان الصدّيقيّة، وينشـــرُ الولاية النبويّة، وفيه تفاوُت بين مراتب العلماء، حتى عُدّ ألف لواحد، وواحد لألف، وهذا حسب الفهْم.
سيّدنا ابن عباس -رضي الله عنهما- كان شابًّا صغيرًا، قرأ قوله تعالى:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3) ﴾
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان عنده شيوخ الصحابة، وكان أحدَثَهُم سناً ابن عباس, فتألّموا على أنّ هذا الصغير ليس في مستوانا، وأدرك عمر اعتراضهم، فجمعهم وسألهم عن هذه الآية، فإذا ابن عباس -رضي الله عنه- الذي هو أحدثهم سناً يقول: إنّ نَعْوَة النبي -عليه الصلاة والسلام-, نُعِيَ النبي -عليه الصلاة والسلام- بهذه الآية:
7- وعندنا مرتبة سابعة هي مرتبة التبيين:
وقد تحدّثنا عن مرتبة التكليم, ومرتبة الوحي، ومرتبة إرسال الرسول، وعن مرتبة التحديث، وعن مرتبة التصديق، ومرتبة التفهيم، والآن ننتقل إلى مرتبة التبيين.
الإنسان حينما تتّضح الحقائق أمامه اتّضاحاً جلياً، يصبحُ طليقاً في بيانه، وكلّ إنسان يتعثّر في البيان, معنى ذلك: أنّ الحقيقة غيرُ واضحة أمامه، بشكلٍ مبسّط:
إنسان ألقى نظرة على ساحة عامّة, عيناه حادّتان والساحة قريبة منه، تجدهُ يصِف لك ما رأى بدِقّة متناهيَة، من أين جاء صوابه في الوصف؟ من رؤيته الصحيحة، ووُضوح الأشياء أمامه، أما إذا كان بعيدًا, قال تعالى:
﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى
قد لا تتّضح لديه الرؤية، فالذي يبيّن أسماء ربّنا الحسنى، وصفاته الفضلى، وأخلاق الأنبياء وكمالهم، وانسجام القرآن، وصحّة السنّة، وعلّة كلّ شيء، وحكمة كلّ شيء، فهذا الذي يبيّن, ينطلق من رؤية صحيحة، وأعلى أنواع العلم ما كان رؤيةً، والدليل قوله تعالى:
﴿
قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) ﴾
إنسان يركب مركبة، والطريق فيه حفر، وآكام، وتحويلات، وصعوبات، وصعود, ونزول, إنْ كان معه إضاءة شديدة، فكلّ شيء أمامه واضحٌ ولا يتعثّر.
فيا أيها الإخوة, قضيّة التبيين أساسها الوُضوح، ولنا متابعة لهذا الموضوع في درسٍ آخر.
و الحمد لله رب العالمين