وضع داكن
28-03-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 082 - منزلة التوكل -2- علاقة التوكل بالأخذ بالأسباب
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

منزلة التوكل :


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثاني والثمانين من دروس مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، والمنزلة التي كنا فيها في الأسبوع الماضي منزلة التوكل، ونستمر في هذا الدرس إن شاء الله على هذه المنزلة.

 

تمهيد :


أيها الإخوة الكرام؛ لا بدّ من ربط التوكل بالأخذ بالأسباب، ولا أبالغ إذا قلت: إن هذا الموضوع خطير، ذلك أن مشكلة العالم الإسلامي هو أنه فهم التوكل قعوداً، وكسلاً، وتواكلاً,   ونسي أن الأخذ بالأسباب جزء من الدين، وأن المؤمن الصادق يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء, ويتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، وأن عالم الغرب أخذ بالأسباب واعتمد عليها فأشرك، وأن عالم الشرق لم يأخذ بها فعصى، والأخذ بالأسباب والتوكل على الله عز وجل كلاهما شرط لازم غير كاف، وهذا الدرس تحتاجونه في كل دقيقة من دقائق حياتكم، في كل وقت، في الصباح والمساء, في العمل وفي البيت، قد تأخذ بالأسباب وتنسى الله، وتظن أن هذه الأسباب وحدها كافية لتحقيق الهدف، وقعت في الشرك الخفي وأنت لا تدري، فإذا تابعت هذا الموقف لا بد من أن يؤدبك الله, فمع أنك أخذتَ بالأسباب يبطل فعلها، ويصاب بخيبة أمل  ويصعق، ما الذي حصل؟ إنه أله الأسباب، واعتمد عليها, ونسي الله عز وجل، ولا تقل: أن هذا شيء بعيد.

إن أصحاب النبي -عليهم رضوان الله- وهم على ما هم عليه من قرب من الله عز وجل, توهموا بعد فتح مكة أنهم أقوياء وأنهم كثر، فاعتمدوا على كثرتهم وقوتهم, وقالوا: لن نغلب من قلة، فجاءت غزوة حنين, قال تعالى: 

﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ﴾

[ سورة التوبة ]

وفيهم النبي عليه الصلاة والسلام ، وكنت أقول لكم دائماً: نحن في درسين بليغين؛ درس بدر ودرس حنين :

1- درس بدر افتقر أصحاب النبي إلى الله عز وجل فتولاهم الله .

2- ودرس حنين قالوا: نحن, اعتمدوا على قدرتهم، وعلى قوتهم، وعلى عددهم، فتخلى الله عنهم.

وهذا الدرس يقع كل يوم مع كل مسلم، إن كنت مدرساً تعد الموضوع إعداداً جيداً، وتظن أن هذا الإعداد وحده كافٍ لإنجاح الدرس، وتنسى أن تقول: يا رب إني تبرأت من حولي وقوتي وعلمي، والتجأت إلى حولك وقوتك وعلمك, إن كنت طبيباً, تعتمد على علمك, وتنسى أن تتوكل على الله، إن كنت مهندساً، إن كنت موظفاً، إن كنت تاجراً، تستخدم خبرتك في التجارة، وتنسى أن تقول: يا رب هيئ لي صفقة رابحة, فحينما تنسى أن تدعو الله عز وجل, وتعتمد على خبرتك، وعلمك، وقوتك، ومالك، وأسرتك, وعلى من حولك، وعلى من فوقك، وعلى من تحتك، وعلى أتباعك، يتخلى الله عنك، هذا درس بليغ.

 

معانة المؤمن :


بل إن أكثر شيء يعانيه المؤمن: هو أنه يأخذ بالأسباب ويخيب ظنه لأنه اعتمد عليها، ولا يأخذ بالأسباب ويخيب ظنه لأنه لم يأخذ بها، موقف دقيق، طريق ضيق، عن يمنيه واد سحيق وعن يساره واد سحيق، إن أخذت بالأسباب واعتمدت عليها وقعت في واد الشرك ، وإن لم تأخذ بها وقعت في واد المعصية، ولعل الشيء الذي يحتاجه المسلمون اليوم، وقد تألب عليهم كل الناس، وكل الشعوب, وواجهوا حرباً عالمية ثالثة، إنما هم محتاجون إلى أن يأخذوا بالأسباب, ويتوكلوا على الله, فلو توكلوا ولم يأخذوا بالأسباب لا يستحقون نصر الله عز وجل، ولو أخذوا بالأسباب ولم يتوكلوا لا يستحقون نصر الله عز وجل، النصر يحتاج إلى إعداد, وهو أخذ بالأسباب، وإلى إيمانٍ, وهو توكل على الله. 


قال العلماء: من نفى الأسباب فتوكله مدخول . ما معنى هذا الكلام؟ :


أي فيه خلل, توكله غيــر صحيح، وهذا عكس ما يظهر من رأي السذج من الناس،  كل وسمِّ الله لا تغسلها، لا يضر مع اسمه شيء، ابنه مرض الله هو الشافي، هذا كله كلام جهل مطبق، خذ ابنك إلى الطبيب، واختر طبيباً جيداً، واشترِ الدواء الجيد، ونفذ تعليمات الطبيب بحذافيرها, وبعدها قل: يا رب أنت الشافي، لا شافي غيرك، إن قلت أنت الشافي ولم تعالج ابنك، لست مطبقاً لمنهج الله، وإن عالجت ابنك ونسيت أن تقول: يا رب أنت الشافي, لم تكن مطبِّقًا لمنهج الله، يجب أن تعالجه، وأن تفتقر إلى الله، يجب أن تأخذ موقفاً علمياً, إن لم تأخذ موقفاً علمياً لا تعد مطبقاً لمنهج الله عز وجل.

إن نفاة الأسباب: من ينفي سببًا لا يستقيم لهم توكل البتة، وإن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه، فهو كالدعاء الذي جعله الله سبباً في حصول المدعو به.

إنِ اعتقد الإنسانُ أن توكلَه لا قيمة له، يقول: المقدَّر كائن  توكلت أو لم أتوكل، المقدر كائن أخذت بالأسباب أو لم آخذ، الشافي هو الله، تداويت أو لا، هذا كلام مرفوض كلياً، وكلام غير صحيح، وغير شرعي، وغير أصولي، ولا يقبل، والله عز وجل جعل الدعاء أحد الأسباب.

هل هناك إنسان يشبع من دون أن يتناول الطعام؟ أو إنسان ينجب من دون أن يتزوج ؟ أو إنسان يقطف ثمرة من دون أن يزرعها؟ هذا مستحيل، فإن الله جعل النبات سببه إلقاء البذرة في الأرض، وجعـل خروج الماء من الأرض بسبب حفــر البئر، وجعل إنجاب الولد بسبب الزواج, وجعل الشبع بسبب تناول الطعام، وجعل الري بسبب شرب الماء، فلو قلت: هذا الري مقدر من الله عز وجل شربت أم لم أشرب، ومقدر لي أن أشبع أكلت أو لم آكل، لماذا أنت في أمور الطعام والشراب، وحفر الآبار، واستنبات النبات، وإنجاب الأولاد، تعتمد على الأسباب، ولا تعتمد عليها في شؤون حياتك كلها؟ أعداء الدين يأخذون على المسلمين تواكلهم، بينما المؤمن الصادق يأخذ بكل الأسباب ويتوكل على الله.

 

مقولة لعمر خلدها التاريخ :


سيدنا عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ- مر بقرية, فوجد أن كل الفعاليات فيها بيد غير المسلمين، فعنفهم تعنيفاً شديداً، فقالوا: -كما يقول الآن: من أخرج الله من أرضهم ثروة طائلة فعاشوا في بحبوحة كبيرة, يقول لك: الله عز وجل سخر لنا هؤلاء، يركبون مركباتهم، ويستخدمون آلاتهم، ويتنعمون بكل وسائل الحضارة اليوم على أنها من صنع الكفار، ونحن مكرمون عند الله، سخرهم الله لنا، هذا كلام يقوله الجاهل-.

قال عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ-: كيف بكم إذا أصبحتم عبيدًا عندهم؟ أدرك بعمق إيمانه وصواب نظرته, أن المنتج قوي والمستهلك ضعيف.

قبل أشهر تقريباً, قرأت خبرًا طريفًا عن أضخم شركة صوتيات في اليابان, هي شركة سوني, توفي صاحب الشركة، فقبل أن يموت قال كلاماً فيه مغزى، قال: حينما احتلت أمريكا بلدنا وقهرتنا أردت أن أنتقم منها، أتقنت صنعتي إلى درجة أنها غزت أسواق أمريكا، وأن هذا البلد الكبير القوي المتحكم, اشترى من أجهزتي وصناعتي أكثر مما باع العالم كله من هذا الشراب المعروف, هذا نوع من أنواع القوة.

إذا أتقنا عملنا، أتقنا صناعتنا، اكتفينا بزراعتنا، لم نكن عالة على أحد، أكرمنا الله عز وجل, أما قولنا: سخرهم الله لنا، هذا كلام مضحك، نحن مستهلكون، والمستهلك فقير جداً، والمنتج قوي وغني، فتعمير محرك طائرة, يكلِّف خمسة ملايين دولار, والدولار بخمسين ليرة سورية, فالحاصل 250 مليون ليرة سورية، محصول قمح كم دونم؟ تعمير محرك واحد، هم يأكلون ثروتنا إن هم اشتروا منها بأبخس الأسعار، وينهبوننا ثانية إذا هم باعونا، قد نبيعهم ثرواتنا بأرخص الأسعار, جاءت فترة على دول النفط باعوا نفطهم بأقل من كلفته، برميل النفط بـ 6.5 دولار، وبيع بـ 8  كلفته 8.5, فإذا باعونا التكنولوجيا نشتريها بأثمان خيالية، بأرقام فلكية، لأنهم منتجون ونحن مستهلكون، نحن كمسلمين يجب أن نعي المشكلة، هم يريدوننا أن نبقى مستهلكين، وهذا يعجبهم, يأخذون ثرواتنا بأقل الأثمان، ويبيعوننا بضاعتهم بأعلى الأثمان، لأننا متوكلون، نحن لنا الله، هذا كلام مضحك، اعقل وتوكل.

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ لرَسُولَ اللَّهِ: أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ, أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ ))

[ أخرجه الترمذي في سننه ]

كل واحد منا بحرفته، يجب أن يكون الأول، أن يتقن، أن يعمــل ليلاً نهاراً، أنت مسلم, أنت سفير المسلمين, صاحب الحرفة أتقنها، وإتقان العمل جزء من الدين.

(( إن الله يحب من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه. ))

فإذا أتقنت عملك ارتقيت، لماذا أنت تعيش في الدنيا؟ من أجل عمل صالح, وهل من عمل صالح أعظم من أن تتقن عملك، وأن تنفع به المسلمين؟ .

في مجالات نصدر، المصدر المسلم غير متقن، وغير صادق، وغير مخلص، يبيع بضاعة عينات، ويقدم لهم بضاعة أخرى، فنصدر مرة واحدة، وتغلق الأسواق في وجوهنا، هذا هو التواكل.

إن كُتّاب السيرة حينما يذكرون: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قبيل معركة بدر، رفع يديه إلى السماء حتى كاد رداءه ينزاح من كتفه، يقول: يا رب, إن تهزم هذه الجماعة، أو هذه الفئة، لن تعبد بعد اليوم، لماذا كان النبي قلقاً؟ أنجح تفسير لهذا القلق: أنه خشي أن يكون مقصراً في الأخذ بالأسباب، أنت حينما تأخذ بالأسباب, وتتوكل على الله, الله عز وجل لن يخيبك، أما نحن فأعمالنا غير متقنة، نرجئ ونسوِّف ونستهلك.

الإنسان الشرقي في أوربا, اسمه: أي بي أم, أمّا إن شاء الله, تعني لا يحقق وعده، ويتهرب من تحقيق وعده بكلمة: إن شاء الله, التي لم يعُد مفهومها إسلاميًا، لأنه يسوِّف ويماطل، إن شاء الله، معناها لا يدفع, أما إذا عقد العزم على إنجاز ما وعد, فإنه يقول: إن شاء الله تعالى، إن أبقاني الله حياً، يقولها بطريقة إسلامية صحيحة:

﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (24) ﴾

[ سورة الكهف ]

لكن يستخدمها المسلمون للتنصل من أداء الحقوق، تأتي غداً, إن شاء الله آتي، معناها لن آتي، اسمه آي، إن شاء الله، بكرة, تأجيل، كله تأجيل، الشيء بين يديه، أعطني هذه المعلومة غدًا، ب الأم، لا بأس, ماذا حصل؟ قصرنا وأتلفنا المادة وخسرنا المناقصة, ماذا حصل؟ يسمونه أي بي أم، هذا من تقصير المسلمين، أما المؤمن: أولاً: لا يسوف، ولا يستخدم كلمة إن شاء الله إلا كما أرادها الله عز وجل، ولا يسمح لنفسه أن يكون سبباً في ضياع المال.

عليه الصلاة والسلام توضأ من قعبٍ، من إناء، ففضلت فيه فضلة, فقال عليه الصلاة والسلام: ((ردوها في النهر ينفع الله بها قومًا آخرين)) .

حفاظًا على الماء، عقيدة ربما آمن بها بعضُ الناس، يقولون: إن التوكل والدعاء عبودية محضة، لا فائدة لهما إلا ذلك، ولو ترك العبد التوكل والدعاء, ما فاته شيء مما قدر له، هذا الكلام مرفوض، فإنّ الله جعل التوكل سببًا للعطاء، وجعل الدعاء سببًا للإجابة,  وبالمناسبة: 

ما أمرك أن تتوكل عليه إلا ليعينك، ما أمرك أن تستعين به إلا ليعينك، وما أمرك أن تكون معه إلا ليكون معك، وما أمرك أن تدعوه إلا ليجيبك، وما أمرك أن تعبده إلا ليكرمك، هذا شيء دقيق.

 

من سنن الله في خلقه :


أنه قضى بحصول الشيء إذا فعل العبد سببه، فمن لم يأت بالسبب امتنع المسبب، هذا قانون.

فالولد يأتي بعد الزواج، والشبع يأتي بعد الأكل، والري يأتي بعد الشرب, والحج يأتي بعد السفر، إنسان لا يتحرك، ولا يسأل، ويدعـو الله أن ييسِّر له حجَّة، وهو يقــول: ومقتدر وقادر، لا يتحرك ولا يسعى، دخول الجنــة تحتاج إلى إسلام، وإلى إيمان، وإلى طاعة للواحد الديان، فكل إنسان ترك الأخذ بالأسباب حرم المسبب، وإنّ الله عز وجل لا يمكن أن يستجيب لإنسان قاعد: يا رب ارزقني، يا رب أعطني، يا رب ارفع شأني، يا رب علمني، أما حينما تقوم وتتحرك, فحينها يستجيب الله عز وجل لك.

أضرب مثلاً: مركبة توقفت، ترفع يديك إلى السماء: يا رب لا تقطعني، يا رب أصلحها لي, يا رب أنت الواحد الأحد، هذا لا يجدي، افتح غطاء المحرك، وابحث عن سبب التوقف، وقل: يا رب ألهمني العلة، فإنّ الله يعينك، ما دمتَ آخذًا بالأسباب فإنّ الله يعينك، فلا يستجيب الله للداعي إلا إذا تحرك في الأخذ بالأسباب، والعوام لهم كلمة لطيفة: عبدي قم أقم معك.

أرأيت إلى الطير التي ضرب الله بها مثلاً في التوكل, تغدو من العش خماصاً, وتعود بطاناً؟ لقد تحركت، وخرجت من عشها، والحركة بركة، تحرك، وابحث، واسأل، واطرق الأبواب، ولا تقل: أُغلِقت في وجهي.

(( إِنَّ اللَّهَ تَعالى يَلُومُ على العَجْزِ، وَلَكِــنْ عَلَيْكَ بالكَيْسِ, فإذَا غَلَبَكَ أمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ ))

 

حكم من يترك الأخذ بالأسباب؟ :


هناك من يترك الأخذ بالأسباب, ويقول: إذا كان قد قضى لي, وسبق في الأزل حصول الولد والشبع والري والحج ونحوها، فلا بد من أن يصل إلي، تحركت أو سكنت، تزوجت أو تركت, سافرت أو قعدت، وإن لم يكن قد قضى لي, فلن يحصل لي أبداً, فعلت أو تركت، هذا كلام مرفوض.

ولقد سمعتُ مرات عديدة من بعض الأشخاص المرضى, يقولون : إذا الله كاتـــب لي الشفاء أشفى, عولِجت أو لم أعالج، وإذا كتب الله لي المرض سأمرض، عولِجت أو لم أعالج، هذا كلام مرفوض, وهو منتشر بين العوام لا بين طلاب العلم.

يقول أحد العلمـاء: هل يعد هذا من العقلاء؟ بل إن البهائــم أفقه منه، فإن البهيمة تسعى بالهداية العامة بالسبب، تذهب لتشرب، تبني عشاً كي يقيها الحر والقر.

 

من شروط التوكل :


وقال بعض العلماء: التوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بهــا المطلوب، ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل.

الآن: التوكل أحد شروطه الأخذ بالأسباب، التوكل والدعاء يلتقيـان أحد شروطهما الأخذ بالأسباب، ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب, صار الأخذ بالأسباب أحد شروط التوكل، ومن تمام التوكل ألا تركـن إليها، أن تأخذ بها دون أن تركن إليها، وعبادتي الشهيرة تأخذ بها وكأنها كل شيء، وتتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، في الدراسة، في التجارة، في السفر، في الصحة، في الزواج.

خطـب امرأة فوافق, وقال قبل الرضى بها: هي نصيبي، اسأل عنها، ربما يمثِّلون دور الأتقياء، وربما يكذبون أو يدلِّسون، وقبل أن تقول: هي لي، واللهُ كتبها زوجًا لي, ابحث وتحرَّ, لعلك تجد في هذه الزوجة حقائق مُرّة.

إن أروع ما قرأته في تفسيره قوله تعالى: ( الطيبون للطيبات ) قال: ينبغي أن يكـون الطيبون للطيبات، هذا معنى، يعني احرصوا أن يكون الطيبون للطيبات، يعني أمرًا تكليفيًا  وليست أمراً تكوينياً، يجب أن تجتهد، وأن تسأل، وأن تحقق، وأن تدقق، وأن تتمهل، قبل أن تبرم وإلا تندم, إنّ الله أمرك أن تأخذ بالأسباب، وجعلك خليفتــه في الأرض، وأعطاك حرية الحركة، وقال لك: استشِر واستخِر وارجع إلى أهل الذكر:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) ﴾

[ سورة النحل ]

وقال لك: 

﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً (59)﴾

[ سورة الفرقان ]

هكذا المسلمون بعامة، والمسلمون في بلاد الشرق بخاصة، في أمسِّ الحاجة إلى أنْ يعلموا أن التوكل شيء، والأخذ بالأسباب شيء آخر، وأنهما لا يتناقضان، بل يتكاملان، بل إنه من شروط التوكل أن تأخذ بالأسباب.

 

لطائف :


أحياناً طفل يرسب في صفه، ويقصِّر في دراسته، مباشرة يقول الأب: هذا لا يصلح للدراسة, كن حكيما عالِج سبب تقصيره، هيئ له أستاذًا خاصًّا، اجلس معه قليلاً، حبب إليه المدرسة، خذ بالأسباب. 

أنا أعرف امرأة, طموحها أن يكون ابنها طبيباً، رسب في البكالوريا, فأخذت بكل الأسباب, رسب عددًا من المرات ولم تيأس إلى أن أصبح طبيباً، كل قضية لها أسباب، كره المدرسة، غيِّر له المدرسة، كره الأستاذ, وفِّق بينهما، ارفعْ معنوياته، كل شيء له سبب.

معلم عنده طفل مشاكس مشاغب, بحث فوجد أمه مطلقة، سلوكه الشاذ بالمدرسة سببه أن أمه مطلقة، يفتقد للعطف والحنان, وعوضه المعلِّم بطريقة أو بأخرى، كلف والده أن يأتي بهدية للصف، تقويم يعلق، وانضبط الابن, كل شيء له حل، لما يكون تفكيرك تفكيرًا سبباً تتفوق، وعندما يكون تفكيرك تواكلاً وإرجاء, تكون الأمور كلها جامدة. 

لفت نظري في الشعوب الأخرى دأبُها على العمــل، وإتقانها له، ويؤلمني في بلاد المسلمين عدم إتقانها للعمل وميلها إلى الراحة.

النبي -صلى الله عليه سلم- قال: 

(( اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا ))

[ أخرجه ابن ماجه في سننه ]

في سفرتي الأخيرة إلى أمريكا، وكان شروق الشمس على الساعة الثامنة، في الخامسة والنصف الطرقات مزدحمة بالناس الذاهبين إلى العمل، عندنا للحادية عشرة لا توجد حركة,   والمحلات التجارية مغلقة، ولا دائرة، هل هذا من الإسلام؟ أين قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (( اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا )) فإذا برمج الإنسانُ نفسَه؛ رتَّب أموره، سجل مواعيده، ومنجزاته, تفوَّق، نحن بحاجة إلى نظام، بحاجة إلى أن نأخذ بالأسباب، معنا الحقُّ وغيرنا معه الباطل، على باطلهم يتفوقون ، وعلى حقنا نقصر.

 

لا يستقيم توكلُ العبد حتى يصحَّ له التوحيدُ:


إذا رأيت الأمرَ بيد زيد أو عُبَيدٍ، وتوكلتَ على من ليس بيده الأمر، فهذا من ضعف التوحيد، ورأيت أن الأمرَ بيد فلان، فلا تأخذ بالأسباب، ولا تتوكل على الله، ولكنْ تتجه إلى فلان، فلان عبد ضعيف فقير، وهذا مما يتناقض مع التوكل لأنه الشرك الخفي.

كل إنسان يتعامل مع أشخاص على أنهم يرفعون أو يخفضون، يعطون أو يمنعون, يسعدون أو يشقون، ويعتقد أنهم كذلك، فإنّ توكله ضعيف، لك قريب قوي، فتعلِّق الأمل عليه، ولا تسأل اللهَ ذلك، بل نسيت الله عز وجل، هذا هو الشرك الخفي، لذلك لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له التوحيد، بل التوحيد حقيقة التوكل، والله عز وجل وحده هو المعطي والمانع, والرافع والخافض, والمعز والمذل وحده، فأي توحيد اختل ميزانه, اختل معه التوكل، فأنت إن أيقنت أن الله بيده الأمر كله تتوكل عليه، أما إن توهمت أن الأمر بيد غيره تتوجه إلى غيره.

 

حقيقة التوكل :


وقال العلماء: حقيقة التوكل توحيد القلب، فما دامت فيه علائق الشرك, فالتوكل معلول ومدخول، وعلى قدر التوحيد يكون التوكل، فالعبد متى التفت إلى غير الله عز وجل, أخذ الالتفات شعبة من شعب قلبه، فنقص من توكله على الله، بقدر ذهاب تلك الشعبة, ومن هنا ظننا الظن: أن التوكل لا يصح إلا برفض الأسباب.

أنت مؤمنٌ وموحِّدٌ وترى أن الأمر كله بيد الله، ولكن الله جعل لكل شيء سببًا، تتوسَّط فلانًا، وتكتب استدعاءً، وتقدِّم اعتراضًا، وترفع مذكرة، وتقيم دعوى, وتأخذ بالأسباب كلها، هذا التوكل صحيح، إياك ثم إياك أن تتوهم أن الأخذ بالأسباب يتناقض مع التوكل، لا والله، أما التوكل يتناقض مع الشرك الخفي، الإنسان حينمــا يشرك مع الله جهة قوية, عندئذٍ ينسى الله عز وجل ولا يتوكل.

التوكل محله القلب، والأخذ بالأسباب محله الجوارح، فإذا عكس الأمر انتهى التوكل، التوكل مكانه القلب، فأنت تأخذ بالأسباب وقلبك معلق بالله، أما الذي لا يأخذ بها وقلبه معلق بغير الله هذا فقد ركني التوكل.

التوكل لا يتم إلا برفض الأسباب عن القلب، وتعلق الجوارح بها, الأعضاء والجوارح مكان الأخذ بالأسباب، القلب مكان التوكل، هذه نقطة ثانية.

 

علاقة التوكل بالتوحيد؟ :


النقطة الثالثة: علاقة التوكل بالتوحيد: أنت تتوكل ويصح التوكل إذا أخذت بالأسباب.

سيدنا عمر سأل أناسًا فقراء: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، فقال رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ: كذبتم، المتوكل من ألقى حبة في الأرض ثم توكل على الله.

مرة رجل وجد بالطواف في أثناء الحج لوزة، رفع عقيرته ونادى: من صاحب هذه اللوزة؟ سمعه عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ-، وكان يكره التظاهر، قال له: كلها يا صاحب الورع الكاذب.

إن شاء الله في درس قادم نتابع موضوع التوكل, والحمد لله رب العالمين.

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبة وسلم.

و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور