- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
منزلة الأمل :
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثامن والثمانين من دروس مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، والدرس اليوم منزلة الأمل .
الأمل في الدنيا مهلكة، والأمل في الآخرة رحمة، يقول الله عز وجل:
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾
شتَّان بين مَنْ يعِده اللهُ وعدًا حسناً، وبين من ينطبق عليه قول الله عز وجل:
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾
الأمل في الدنيا مهلكة، والإنسان يفكر أن يعيش عمرًا مديدًا، وأن يبني بيوتًا، وأن يمتِّع نفَسه بمباهِج الحياة، وأن يكون كزيد أو عُبيد، وأن يشتري مركبة, وأن يؤسس عملاً، وأن يعيش في مكان جميل، الأمل في الدنيا مهلك، ولكن الأمل نفسه إذا كان في الآخرة فهو مسعد، لأن الأمل في الآخرة يمتص كل متاعب الدنيا.
أراد إنسانٌ أن يجري مداخلة في موضوع ذكرته، كلمة مداخلة كلمة حيادية .
قلت: المؤمن سعيد .
قال لي: لا واللهِ ليس سعيداً، هو مثل الناس تماماً، يصيبه ما يصيبهم, ويقلقه ما يقلقهم، ويتعبه ما يتعبهم .
خرجت من مداخلته بمثل، قلت له:
تصور إنسانًا عنده ثمانيةُ أولاد، وله دخل محدود جداً، أربعة آلاف، وبيته بالأجرة، وعنده دعوى إخلاء، كيف يعيش هذا الإنسان؟ هذا الدخل ماذا يفعل به؟ لو أن لهذا الإنسان عمًّا لا ينجب أولاداً، يملك خمسمائة مليون, مات في حادث فجأة، هذه الثروة الطائلة لهذا الابن الأخ الفقير, بحكم القوانين والأنظمة وبراءة الذمة لا يستطيع أن يأخذ من إرث عمه قرشاً واحداً قبل سنة، لماذا هو في هذه السنة من أسعد الناس، مع أنه لم يتمكَّن أن يأخذ قرشاً واحداً، ولا أن ينال لقمة طيبة، ولا أن يرتدي ثوبًا جميلاً؟ الذي أسعده هو الأمل، كلما رأى بيتاً جميلاً يقول: هذا سأشتريه، و كلما رأى مركبة فارهة قال: هذه سأقتنيها, دخل في الأمل، فالأمل مسعد، قال تعالى:
ما الذي يسعد المؤمن, وما الذي يمتص كل همومه؟ :
وعد الله له بالجنة، والجنة وعدٌ حقٌّ من قِبل الحقِّ، فيها ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلبِ بشرٍ، لا همّ ولا حزن، ولا ولد عاق، ولا زوجة سيئة، ولا مغص, ولا التهاب, ولا ورم خبيث، ولا دسام قلب, ولا شريان قلب مسدود، ولا قسطرة, ولا أزمة، ولا أزمة نقود، هناك جنة عرضها السموات والأرض، لهم ما يشاؤون فيها، الدنيا دار عمل، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ (6) ﴾
أما الآخرة فدارُ جزاءٍ ، الدنيا دارُ تكليف، والآخرة دارُ تشريف ، الدنيا دارُ عمل، والآخرةُ دارُ أملٍ، الدنيا دار التزام ، والآخرة دار جزاء.
فالأمل منزلة يتمتع بها المؤمنون، ولكن الأمل عند المؤمنين في الآخرة، بينما أهل الدنيا يتأملون في الدنيا، هذا الذي استلقى على ظهره, وفوقه قِدر عسل، وقال: سوف أبيع هذا العسل، وسوف أشتري غنماً، والغنم يتوالد، وسأغدو إنساناً غنياً, وسوف أتزوج، وأنجب أولادًا، وإذا عصاني ولدٌ ربَّيته، فرفع عصاه وضرب فانكسرت القدر وسالت فوقه، هكذا أهل الدنيا يأتيهم ملك الموت في أحرج الأوقات.
قصة رمزية :
إنسان كان ضائق النفس أراد أن ينتحر، من شدة فقرِه ويأسه من الحياة، جاءه ملك الموت فقال له: أنا أدلك على حرفة تغتني بها، اعمل طبيباً، قال له: ماذا أفعل؟ قال له: إن رأيتني أقف إلى رأس المريض فإياك أن تعالجه، لأنه سيموت قطعاً، اهرب، وإن وجدتني أمام رجلي المريض فعالجه، فلا بد من أن يشفى، أي شيء تعطيه إياه سيُشفى به، قال الشاعر:
إِنَّ الطَّبِيبَ لَهُ عِلْمٌ يَدُلُّ بِـــهِ إِنْ كَانَ لِلنَّاسِ فِي الآجَالِ تَأْخِيرُ
حَتَّى إِذَا مَا انْتَهَتْ أَيَّامُ رِحْلَتِـهِ حَارَ الطَّبِيبُ وَخَانَتْهُ الْعَقَاقِيــرُ
فهذا نفّذ وصية ملك الموت, واشترى محفظة، ووضع فيها سوائل ملونة، فإذا دعي إلى مريض، إن رأى ملك الموت عند رأسهم يعود راجعاً، إن رآه عند قدميه يعالجه، هذه النقطتان قبل الطعام، هذه بعد الطعام، يتفنن في وصفاته، لأن المريض سوف يُشفى، ذاع صيتُه، وتألق نجمُه, وزاد دخلُه، وعاش في بحبوحة، وإذا بِبِنْتِ الملِك تَمرضُ، فاستُدْعِي هذا الطبيب الألمعي المشهور الذي ما مِنْ إنسان عالجه إلا وشُفي على يديه، لأنه على اتفاق مع ملك الموت، فهذا الملك لشدة تُّعلقه بابنته, قال: من يعالجْ لي ابنتي ويشفِها أجعلْه وليًّا للعهد، دخل على هذه البنت المريضة، فإذا ملَكُ الموت عند قدميها، فكاد يختل توازنه من شدة الفرح ، عالجها كما هي العادة وشُفيت شفاءً تامًّا, والملِك نفّذ وعده, وجعله ولي العهد، وصار ملكاً، ويومَ عرسه وزواجه وتسلمه منصب ولي العهد, جاءه ملك الموت، قال له: الآن، قال: الآن؟ قال له: لو أنك أخذتني وقتها لكان أيسر لي.
فأهلُ الدنيا يصعدون, ويصعدون، ويصعدون، وهم في أعلى نقطة يسقطون، هذا هو الأمل في الدنيا، قد تعتني ببيتك، ويوم الانتهاء من كسوته يأتيك الأجل، يوم نيله الدكتوراه يأتيه الأجل، يوم زواجه يأتيه الأجل، يوم رواج تجارته يأتيه الأجل، فمن كان أملُه في الدنيا فهو هالك.
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَطًّا مُرَبَّعًا, وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ, وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ, وَقَالَ: هَذَا الْإِنْسَانُ, وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ, أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ, وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ, وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ, فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا, وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا ))
الأمل المهلك :
كنت أدرس في ثانوية، ونشأ عندي ساعة فراغ، فدخلت على مدير الثانوية, أجلس عنده هذه الساعة, وكان صديقي، شكا لي همه وضجره، وقال: أنا سأسافر إلى بلاد شمال أفريقيا لأدرِّس هناك خمس سنوات، كان هناك نظام اسمه نظام الإعارة، يبدو أنه هيّأ موافقة، وقال لي: لن آتي في أيام الصيف إلى بلدي، أمضي صيفية في فرنسا وإسبانيا وبريطانيا وإيطاليا، أربعة بلاد، أريد أن أشاهد معالمها؛ ريفها، متاحفها، طبيعة الحياة فيها، بعد خمس سنوات أعود إلى بلدي, وأقدِّم طلبا للتقاعد، وآتي بمبلغ لا بأس به, أفتح به محلاً تجاريًّا, أبيع فيه التحف، عندئذ يكبر أولادي ويتسلمون العمل مكاني، وآتي بعد الظهر ساعة أسمر فيها مع أصدقائي، وتابع الحديث، والساعة انتهت، وقد حدثني فيها عن عشرين سنة قادمة، فودَّعته و ذهبت إلى درسي، ثم ذهبت إلى بيتي ظهراً، وعندي عمل في مركز المدينة مساء، ذهبت إلى هذا العمل, وأردت أن أذهب إلي بيتي مشياً، نظرت إلى أحد الأعمدة -أعوذ بالله!- نعيه في اليوم نفسه، واللهِ الذي لا إله إلا هو في اليوم نفسه رأيتُ نعيَه.
هذا هو الأمل المهلك، فالإنسان يحلم, ويأتيه مَلَكُ الموت, فيلغي كل آماله، وكل شطحاته وتصوراته, الأمل في الدنيا مهلك، أما إذا علّق الإنسان أمله في الآخرة وعمل للآخرة ، وقدّم مَاله أمامه سره اللحاق به، وعلّم العلم، وبذل من ماله الشيء الكثير، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وتعلم القرآن وعلّمه، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب, وآوى الغريب، ولزم دروس العلم, وخدم المؤمنين، واتصل برب العالمين، هذا ماذا يفعل؟ هذا عَقَدَ أمله في الآخرة.
حال المؤمن :
إنسان يحج أو لا يحج، يسمحون له أو لا يسمحون له، قدم طلباً للسفارة فأعطوه الموافقة, ويوم أخذ الموافقة صار في الحج، هو لا يزال في دمشق، صار في مكة والمدينة، يذهب إلى المدينة أولاً أو إلى مكة، مع أي فوج يذهب ، أم يذهب وحدي، أرأيت إلى هذا الإنسان؟ لأنه عقد أمله بالحج، فصار في الحج، لذلك قالوا: المؤمن يعيش في الآخرة وهو في الدنيا.
سألوا مرة طالباً, نالَ الدرجة الأولى على مدارس البلد كلها في الشهادة الثانوية: ما سرُّ هذا التفوق؟ فأجاب إجابة رائعة, قال: لأن لحظَة الامتحان لم تفارق مخيلتي أبداً.
المؤمن الصادق يعيش في الآخرة، هو من أبناء الآخرة، يعيش في جنة قبل أن يصل إليها، فلذلك قال تعالى:
﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)﴾
في الدنيا، لقد عاش في الجنة وهو في دنياه.
هذا أمل المؤمن :
مرة حدثني إنسان, فقال لي: عندي سفرة إلى بلد بعيد، لما أخذت الموافقة, كنت هناك فوراً نفسياً وشعوريًّا، فالمؤمن له أمل في الآخرة، أمله أن يرحمه الله، ويعفو الله عنه، وأمله أن يدخله الجنة، وأمله أن يكون مع الصديقين والنبيين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، هذا الأمل ينسيه كل متاعب الدنيا، فهذه مرتبة، ولكن بشرط أن يكون هذا الأملُ متوجِّهًا إلى الآخرة، قال تعالى:
﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)﴾
وأنت في الدنيا وازن بين بيت وبيت.
الفرق بين مراتب الدنيا وبين مراتب الآخرة :
حدثني أخ كان في مؤتمر في الهند، قال لي: رأيت شيئاً لا يصدق، قال لي: بيت قطعة من النايلون، مع قطعة من قماش، مع قطعة من كرتون, متران في مترين، والأرض تراب، قال لي: هذا بيت، وهناك بيت في القاهرة, ثمنه واحد وعشرون مليون دولار، ألف مليون ليرة سورية، هذا بيت وهذا بيت، قال تعالى:
قال لي أحدُهم: هناك حنفية تساوي ثمن بيت، فإذا بيت مساحته أربعمائة متر، كلّف مئات الملايين, يشبه بيتاً مساحته خمسون متراً ثمنه مائة وخمسون ألف، قال تعالى:
الفرق بين اللذة والسعادة .
هناك نقطة إنسان سألني: ما الفرق بين اللذة والسعادة؟.
قلت له: أين الثرى من الثريا؟.
فالإيمان يهيئ لك سعادة، بينما الدنيا تقدم لك لذة، وفرق كبير بين اللذة وبين السعادة، ولا أمل إلاّ أن تعقد الأمل على الله عز وجل.
قالوا:
لذلك هذه السكينة التي يلقيها الله في قلب عبده المؤمن، فيسعد بها ولو فَقَدَ كلَّ شيء، وإذا حُجِبتْ عنه هذه السكينةُ يشقى بفقدِها ولو ملك كلَّ شيء، هذه السكينةُ إحدى ثمار الإيمان اليانعة، فالمؤمن يُلقِي اللهُ في قلبه السكينةَ، وتحفُّه الملائكةُ، وتغشاه الرحمةُ، ويهديه اللهُ إلى سواء السبيل.
أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا وأن يلهمنا الخير.
و الحمد لله رب العالمين