وضع داكن
28-03-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 077 - منزلة البرق
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

منزلة البرق .


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السابع والسبعين من دروس مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، والمنزلة اليوم منزلة البرق .

 

تمهيد :

 

كتقديم لهذه المنزلة: العبد أحياناً يطيع ربه فيكرمه، وفي أحيان أخرى يكرمه فيطيعه، فالله عز وجل خبير بالنفوس، أحياناً يكون سير المؤمن طبيعياً، تبرق له ومضات من أنوار الله عز وجل، فيمتلئ قلبه سعادة، ويشعر أنه يحب الله حباً شديداً، فهذه البوارق التي تلوح أمامه قد تدفعه إلى السير الحثيث في طريق الإيمان، وقد يسأل أحدكم: ما دليل هذه المنزلة في كتاب الله؟ أقول: وهل يغيب عن الوجدان قوله تعالى:    

﴿ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) ﴾

[ سورة طه ]

كم سمعت من أخ كريم, دخل مسجداً, شعر براحة لا توصف, استمع إلى شريط, وجد أنه اهتدى إلى نفسه فعرفها، هذه معونة من الله, الأمور قد تكون أقل من ذلك، ولكن ربنا عز وجل حينما يعلم صدقك وإخلاصك، وحينما يرى أن لك مطلباً عالياً، يجذبك إليه بطريقة أو بأخرى، الله عز وجل يملأ قلب المؤمن سعادة، يملأ قلبه طمأنينة، يملأ قلبه راحة، يملأ قلبه غنى, يشعره أنه في رعاية الله وحفظه، طريق الإيمان يحتاج إلى جهد كبير، والذي ينسيك هذا الجهد ثمرات هذا الطريق.

الحقيقة: الإيمان كله قيود .

المؤمن مقيد، والإيمان قيد الفتك ولا يفتك مؤمن، في كل حركة، وفي كل سكنة، في بيتك، في فراشك، مع أهلك, مع أولادك، في أثناء استحمامك، في أثناء سيرك, في بيعك، في شرائك, في سفرك، في إقامتك، في علاقاتك، في أفراحك، في أتراحك، في منازل دقيقة، افعل ولا تفعل، يجوز ولا يجوز, حرام وحلال، ينبغي ولا ينبغي، فحياة المؤمن كلها قيود، والقيود سميتة مجازية، هي في الحقيقة حدود، حدود لسلامتك لا قيود لحريتك.

انظر إلى إنسان يطبق منهج الله عز وجل, تراه رافع الرأس دائماً، تراه يعيش في نفسية ملك، لأنه حر, لا مأخذ عليه، لا إنسان يهدده بتهمة مالية، لا إنسان يهدده بتهمة أخلاقية, لا إنسان يهدده بتهمة سياسية، لأنه طبق منهج الله فأصبح حراً:

كن للحق عبــــداً فعبد الحق حــــر

قد تجد إنساناً درجته متوسطة في الحياة، أو ربما كان في الدرجات الدنيا، ولكنه رافع الرأس، غني بالله، راض عن الله، فهذه البارقة، لولا أن الله يجعل لك من أنواره بروقاً تبرق أمامك، لما أقبلت على هذا الدين، الله جل جلاله: 

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) ﴾

[  سورة الحجرات ]

فالإيمان محبب، أنت لما تخطب ود الله، الله يقابلك بأضعاف مضاعفة من الود، قد لا تراه بعينك، ولكن تشعر به في قلبك، تشعر أنك في عين الله، تشعر أنك في حفظ الله، تشعر أن الخلق كلهم ممنوعون أن يصلوا إليك، تشعر أن لك معاملة استثنائية، هذه من البروق التي تجلبك إلى الله عز وجل، كما أنك تخطب ود الله, الله عز وجل يكافئك على هذا الإخلاص, بعطاء من نوع خاص، بعطاء عز على أهل الأرض جميعاً على أهل الأرض الشاردين، قد يعطي الله المال لمن يحب ولمن لا يحب, وقد يعطي الصحة لمن يحب ولمن لا يحب, وقد يعطي الذكاء لمن يحب ولمن لا يحب، وقد يعطي الجمال لمن يحب ولمن لا يحب، ولكن هذه السكينة التي هي تملأ قلب المؤمن، والتي تبرق أنوارها أمام عينيه، لا يعطيها إلا لمن يحب:

إن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين.

من آيات القرآن الكريم التي تهز مشاعر المؤمن، حينما خاطب الله سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام , قال له: 

﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) ﴾

[ سورة طه ]

 الله عز وجل اشترى من هؤلاء السابقين أنفسهم, وباعوها بيعاً صحيحاً، اشترى أنفسهم وأموالهم، الله اشترى وقتهم, اشترى طاقاتهم، اشترى قدراتهم، اشترى اهتماماتهم، اشترى فراغ وقتهم:

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) ﴾

[ سورة التوبة ]

هؤلاء السابقون السابقون، لهم عند الله شأن كبير، لا تشفق لحالهم، أشفق أنت على حالك. 

قال: مرة عالم شاب أقبل الناس عليه إقبالاً شديداً، فأثار حسد الخبراء، الحسد موجود، يبدو أنهم كادوا له, وطعنوا به، واستسهلوا أن يصغروه أمام الناس, فجاءه أحد الناصحين، قال له: والله يا فلان إنني أشفق عليك مما يقوله عنك الناس، قال: هل سمعت مني عنهم شيئاً؟ قال: لا، قال: عليهم فأشفق، عليهم فأشفق.

المؤمن حينما خطب ود الله عز وجل، وملأ الله قلبه سعادة وطمأنينة، لا تشفق عليه أشفق على نفسك .

أهل الدنيا بموازين الدنيا السخيفة يقيموا بها أهل الإيمان ، فقد تجد إنساناً من أهل الدنيا، من أهل اليسار، يسأل مؤمناً: كم دخلك؟ فإذا ذكر الحقيقة قال له: كيف ترضى به؟ كيف تعيش به؟ أنت الآن تقيسه بمقياس مادي سخيف, لو أنك قست نفسك بميزانه لكنت دون الصفر، هذا يعرف الله، هذا يعرف منهج الله, هذا يسعى لمرضاة الله:

اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم, فأقرر أعيننا من رضوانك.

إذا تباهى الناس بدنياهم، بقصورهم، بمزارعهم, بمركباتهم، بأرصدتهم المكدسة، بأولادهم النجباء، بزوجاتهم الحسناوات, تباهى أنت برضوان الله، لأن هذا الرضوان هو الذي يبقى بعد الموت، أما هذه الدنيا العريضة تنتهي في ثانية واحدة، الذي جمعه الإنسان في عمر مديد, يخسره في ثانية واحدة.

 

البرق مبدأ في طريق الولاية التي هي وراثة النبوة :


إذاً: ( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً ) فهذه النار التي رآها موسى عليه السلام ، كانت مبدأ في طريق نبوته .

والبرق كما قال العلماء: مبدأ طريق الولاية التي هي وراثة الأنبياء.

وليست الولاية بالمعنى القرآني: أن يكون الإنسان نصف مجنون شكله رث، هذه معانٍ لا علاقة لها بالولاية القرآنية:

﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) ﴾

[ سورة يونس ]

وعلى كلٍ منا أن يكون ولياً لله، والبرق مبدأ في طريق الولاية التي هي وراثة النبوة.

 

تعريف البرق :


 يعني قال بعض العلماء الراشدين: البرق نور يقذفه الله في قلب العبد ويهديه له، فيدعوه بهذا البرق إلى دخول طريق الإيمان طريق الصادقين.

ما الذي يدفع الإنسان إلى بيت الله؟ إلى إنفاق ماله؟ إلى إنفاق وقته؟ إلى خدمة المؤمنين؟

أحياناً فتاة فيها مسحة جمال تبرق لشاب, فينسى دراسته, وينسى مستقبله، وينسى عمله، وقد ينفق عليها كل ثروته، وهي فتاة من خلق الله، فكيف إذا لاح لك من أنوار الله لائح؟:

فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي

رأوه لما وليت عنا لغيرنــــــا

ولو سمعت أذناك حسن خطابنــا

خلعت عنك ثياب العجب وجئتنـــا 

 ولو ذقت من طعم المحـبة ذرة

عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنـــا

ولو نسمت من قربنا لك نسـمة

لمــت غريـباً واشــتـياقاً لقربنا

ولو لاح من أنوارنا لك لائــح

تــركت جميـع الكائـنات لأجلــنا

قد يقول أحدكم: ليس في هذه الأرض كلها أسعد مني, وذلك عندما يكون في ساعة من ساعات الوصال مع الله، بساعة من ساعات القرب, بساعة من ساعات المناجاة، في ساعة من ساعات السكينة، قد تشعر أنك ملكت الدنيا، أنك في أعلى مرتبة في الدنيا, إذا سمح الله لك أن تتصل به, عندما يحفظ الإنسان حدود الله جيداً، يقف ليصلي، فتأخذه الخشية في الصلاة، تصبح الصلاة متعته الوحيدة، وصدق رسول الله: 

(( أرحنا بها يا بلال ))

 

من صفات العبد الذي برقت له أنوار الحق : 


هذا الذي اندفع مع بوارق أنوار الله عز وجل، ما صفاته؟

العبد الذي برقت له أنوار الله عز وجل يستكثر القليل من عطاء الله، إذا سلمه يقول: ربي لك الحمد, يشكر الله على أي عطاء إلهي.

كان عليه الصلاة والسلام إذا خرج لقضاء حاجته يقول: الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني, وأبقى لي ما ينفعني. 

1- كانت تعظم عنده النعمة مهما دقت .

إذا ارتدى ثوباً, إذا نظر إلى المرآة, يقول: يا رب كما حسنت خلقي فحسن خلقي.

نعمة السلامة، ونعمة الصحة، ونعمة أمن, لك مأوى, وبيت, وأولاد، هذه نعم كثيرة، فعلامة هذا الذي برقت له أنوار الله عز وجل: أدق النعم سيعظمها، والشارد عن الله عز وجل أجل النعم يستصغرها, أنت من خوف الفقر في فقر، من خوف المرض في مرض، توقع المصيبة مصيبة أكبر منها.

أول علامة من علامات منزلة البرق: من برقت أمامه أنوار الله عز وجل فهام بها: هذا تعظم عنده النعمة مهما دقت، إذا نظر بعينيه، إذا سمع بأذنيه، إذا ضحك، يتلو قوله تعالى: 

﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) ﴾

[ سورة النجم  ]

أحياناً: وأنت قاعد مع أهلك, طفل صغير يملأ البيت فرحاً وضحكاً, وخبر مؤلم يقلب الحبور والفرح ترحاً، إذا ضحكت اشكر الله، واذكر قوله تعالى: ( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى )    عشرات وعشرات، بل مئات من الرجال على مكانتهم يبكون، الله يبكي، يبكي الرجال، والرجال قلما يبكون، لكن إذا أصابهم قهراً وضيم, تسألهم عن حالهم فيكون الجواب الدموع، إذا الله عز وجل سمح لك أن تضحك فاشكر الله عز وجل, فهذه من نعم الله الكبرى، وجدت أمامك زوجتك، زوجة تحصنك عن الحرام فهذه من نعم الله.

أتألم كثيراً من رجل لا يقدر نعمة الزواج، ومن امرأة لا تقدر نعمة الزوج، وأية امرأة لا تشكر زوجها, وهي لا تستغني عنه, لا تروح رائحة الجنة، نعمة الولد، دائماً يتشكى من أولاده, وقد أنعم الله عليه بهم، وإنسان يدفع كل ما يملك ليأتيه ولد، لذلك:

اللهم أرنا نعمك بكثرتها لا بزوالها.

إذاً: هذا الذي برقت له أنوار الحق من صفاته: أنها تعظم عنده النعمة مهما دقت.

رجل قدم بيتاً ثميناً لعمل خيري، فأقيم لهذا المحسن حفل تكريم، وكل هؤلاء الخطباء أثنوا على إحسانه وكرمه, إلا واحد لفت نظره لشيء، قال له: أيها المحسن الكريم, كان من الممكن أن تكون أحد المنتفعين من جمعيتنا، وكان من الممكن أن تقف في صف طويل ومعك هويتك، من أجل أن تأخذ بضع مئات من الليرات كل شهر، ولكن الله عز وجل جعلك تعطي ولا تأخذ, فمن يعطي يجب أن يذوب لله شكراً.

فهذا الذي برقت له أنوار الحق من صفاته: أنه تعظم عنده النعمة مهما دقت.

كأس الماء ثمين جداً. 

مرة إنسان توفي -رحمه الله- أصيب بفشل كلوي، قال لي مرة: الممرضة صرخت صوتاً قالت: لا تشرب ماء كثيراً هذا الأسبوع الآلة معطلة، إذا كانت أجهزتك سليمة، الكليتان تعملان بنظام فاحمد الله، لو كان في فشل كلوي لا تستطيع أن تشرب, لأن الآلة معطلة، ومعك ثماني ساعات مضجع على السرير، مرة باليد اليمين, ومرة باليسار، مرة بالأرجل  ثماني ساعات وانتظار، والكلية الصناعية لا تصفي إلا ثمانين بالمئة فقط من عمل الكلية الطبيعية، ويبقى بعض حمض البول, وهذا يسبب ضيق وسرعة تأثر، وردود فعل قاسية جداً هذه واحدة.

الصفة الثانية : احتقاره لنفسه .

الصفة الثانية ممن برقت أمامه أنوار الحق، فدخل في منزلة البرق: احتقاره لنفسه، فإن المحبة إذا تمكنت من العبد, يعني يزدري نفسه: يا ربي من أنا.

مرة نور الدين الشهيد، كان في معركة حاسمة مع الكفار سجد لله, -هكذا سمعت أو قرأت, ما أدري ما صحة هذا الكلام!؟-, قال: يا رب من هو الكلب نور الدين حتى تنصره؟ انصر دينك يا رب.

يعني إنسان بهذه المكانة العلية، يواجه قوى البغي والعدوان, بنفسه في تواضع شديد، يا رب لا تنصرني، انصر دينك، أنا لا شيء, فكلما تضخمت الأنا, معناها في بعد عن الله، كلما صغرت النفس, معنى أنت أمام حضرة الله, لا شيء أمام ملكوت الله, لا شيء.

علامة التفوق: أن تستصغر نفسك أمام الله عز وجل فهذه الصفة الثانية، لا كبر أبداً، في تواضع, ولنا في رسول الله أسوة حسنة, يوم قام يجمع الحطب, وهو مع صحبه، قال له أحدهم: علي ذبح الشاة, والثاني قال له: علي سلخها، وقال أحدهم: علي طبخها، فقال عليه الصلاة والسلام: علي جمع الحطب -معقول سيد الخلق!-, قالوا: يا رسول الله يكفيك ذلك، قال: لا، أعلم أنكم تكفونني, ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه.

سيد الخلق أنت يا رسول الله, سيد العالمين، لا، أبداً، يا من هيأك تفوقك لتكون واحداً فوق الجميع, فعشت واحداً بين الجميع، المقام العالي في الإيمان إذا لاحت لك أنوار الحق، برقت أمامك أنوار الحق, فأنت متواضع إلى درجة مذهلة.

الشيء الثالث: محبته لله عز وجل .

في حب حقيقي، والحب إذا تمكن من القلب فعل المستحيل، فالمحبة إذا تمكنت من العبد استكثر قليل ما يناله من محبوبه، والحب العارم لله من نعم الله عز وجل.

مرة جاءت موجة حر شديدة, فشكا رجل لوالده الحر الذي لا يحتمل, وفي الوقت ذاته كان في زلزال بتركيا، قال له: يا بني! اشكر الله, أنت تسكن في بيتك خمسين ألف بالعراء، بلا مأوى.  

الشيء الرابع: يستقل الكثير من الأعباء :

في صفة لهذا الذي برقت أمامه أنوار الحق: يستقل الكثير من الأعباء.

مهما كان العمل شاقاً يستقله في جنب الله، قد يمضي ساعات طويلة في خدمة المؤمنين، قد يمضي ساعات طويلة في الدعوة إلى الله، قد يمضي ساعات طويلة في إطعام المساكين, قد يمضي ساعات طويلة لا يستكثر، يستقل كل الأعمال الصالحة يستقلها لا يستكثرها.

الرسول الكريم طوال النهار في الدعوة إلى الله, فإذا جاء الليل وقف في صلاته طويلاً، حتى تورمت قدماه, قالت له السيدة عائشة: 

يا رسول الله, لقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟

أحدنا إذا كان عمل عملاً طيباً بالنهار يرتاح شهراً, ويحدث الناس عما فعل وقدم بكل غرور, بينما اللهم صل عليه كل وقته في خدمة الخلق، وفي الليل في محبة الحق.

مرة قال بعض الذين يناجون الله عز وجل: يا رب لا يطيب الليل إلا بحلاوة مناجاتك، ولا يطيب النهار إلا بخدمة عبادك.

المؤمن يصل إلى درجة: أسعد لحظات حياته وهو في خدمة الخلق، يرأب الصدع، يلم الشمل, يصلح ما فسد، يصلح ذات البين, يطعم فقيراً, يجبر كثيراً، يرعى أرملة, يرعى يتيماً، يتوسط لإنسان, يصلح بين زوجين, الله عز وجل وظفه في خدمة الخلق.

إذا لاحت أمامك أنوار الحق فجذبتك إلى الله, فهذه منزلة البرق.

من لوازم هذه المرتبة: أنك تستعظم نعم الله عليك، تراها نعماً عظيمةً, ومن لوازمها أنك تستقل عملك أمام هذه النعم، ومن لوازمها أنك تستصغر نفسك، ومن لوازمها أنك تستقل كل الأعباء التي ألقيت عليك. 

الشيء الخامس: شديد الحذر :

أيها الإخوة؛ هذه الأنوار التي برقت أمام المؤمن, لها نتيجة أخرى تجعله حذراً جداً، إذا مسك الإنسان حبلاً, يكون تمسكه بهذا الحبل شديداً, عندما يدرك أنه لو تركه سقط في وادٍ سحيق ربما دقت عنقه، وكذلك لو أن الله عز وجل منحك نعمة القرب، سمح لك أن تتصل به ، صار عندك حفاظ على هذه الصلة تفوق حد الخيال، أنت بالصلاة خاشع، أنت في رضوان الله ما لا تضحي بهذا الرضوان, من أجل نظرة إلى امرأة حسناء، لا تضحي من أجل كلمة باطلة، أبداً، تتكلم كلمة الحق ولو كانت مرة, تضبط حواسك جميعها، تضبط أعضاءك جميعها ، هذا الحرص على الاستقامة سببه: أنك وصلت إلى جوهرة ثمينة.

أضرب مثلاً: إذا أنت موظف، والمدير العام أحبك, وأعطاك سيارة مع الوقود، وعمل لك تعويضات مائة بالمائة، وأعطاك إجازة مفتوحة مثلاً, والمدير العام يكره شخصاً حذرك من محادثته، فلو لمحك تلقي عليه سلاماً لسحب منك كل هذه الميزات، إذا رأيته بالطريق هل تسلم عليه؟ من أجل حفاظك على هذه المكتسبات وثباتها معك، تتحرى كل ما يرضي هذا الذي أعطاك ذلك، وتحذر من كل ما يثير غضبه, أليس كذلك؟. 

فإذا خالق الكون منحك أن تتصل به، منحك نعمة الإيمان، منحك نعمة الأمن، لاحت لك بوارق أنواره، هل أنت مستعد أن تضحي بكل ما وصلت إليه من أجل نظرة لامرأة حسناء؟ ما ذاق طعم القرب حتى يغض بصره، لو ذاق طعم القرب لبالغ في غض البصر، المؤمن لا يكذب أبداً، ولا يبني رزقه على معصية، أبداً، الله الغني، يركل المال الحرام بقدمه، ذاق طعم القرب، حينما تستطيع أن تتصل بالله, يهون عليك كل شيء، تهون عليك التكاليف مهما بدت لك صعبةً.

 

الآمر ضامن : 


يقول لك: لا أترك فلاناً حتى ولو كان فلان فاسقاً، لأننا ربينا معاً، ونشأنا معاً، دعه، من أجل الله, دعه:

﴿ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)  ﴾

[ سورة القصص ]

أكثر المقصرين يقولون: إذا استقمت لا ربح, وربما أخسر مكانتي, موازناته غير صحيحة، الجواب: الآمر ضامن، الذي أمرك أن تفعل كذا, يضمن لك سلامتك وسعادتك ويحميك، فإذا كنت تتوهم أن الذي خلقك لا يحميك إذا أطعته، لماذا تعبده؟ لا معنى لهذه العبادة ، تعبد القوي، تعبد الغني، تعبد القدير.

واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء, لن ينفعوك بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء, لم يضروك بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف 

أمرك متعلق بالله وحده, علاقتك مع الله وحده. 

الشيء السادس: متمسك تمسكاً عجيباً :

فهذه من صفات هذا الذي لاحت له أنوار الحق: شديد الحذر، هذا الورع يحرص على هذه الصلة يتمسك بها.

المؤمن روحه هذا الدين ، دينه روحه, من أجل دينه يضحي بكل شيء، وبعض الناس لا يضحي بأي شيء من أجل الدين، يقول: هي مصلحتي، لا أتركها، مع أنها كلها معصية، لا يرى الله، يرى المادة فقط.

ومن صفات هذا الذي لاحت له أنوار الحق: أنه متمسك تمسكاً عجيباً.

العوام يقولون: متعصب، كلام غير صحيح، متمسك. 


جنة الدنيا : 


في صفة أخيرة: لعلها هي التي ذكرها بعض العلماء، قال: في الدنيا جنة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.

جنة الدنيا هي جنة القرب من الله عز وجل.

إنسان كبير في السن, لكن باعه في الإيمان طويل، تشعر يعيش بجنة، في كل الظروف، في كل الأحوال، مهما تكن قاسية، الذي اتصل بالله عز وجل, يعيش في حياة في نوع من الشعور بالتفوق لا يوصف، فهذا ثمرة هذا الطريق، وثمرة هذا الجهد: أن الله يمنح هذا الإنسان سعادة يستصغر أمامها كل الدنيا.

 

الفرق بين من يعرف الله وبين الجاهل : 


لما النبي الكريم يقول: 

(( والله يا عم, لو وضعوا الشمس في يميني, والقمر في شمالي, على أن أترك هذا الأمر, ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))

ربما إنسان لو أعطيته مبلغاً لفسد، والتغت كل مبادئه، التغى كل تشدده، التغى كل كلامه، معناها: هذا الإنسان ثمنه هذا المبلغ، وانتهى عند الله، أما في إنسان: لو وضعوا الشمس في يمينه، والقمر في شماله, على أن يترك هذا الأمر, ما تركه حتى يظهره الله أو يهلك دونه، أما إذا إنسان جاهل يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، مثلاً: فرن وضع بالخبز الذي يباع بأعلى سعر مادة مسرطنة، رخيصة جداً, ثمن الكيلو 35 ليرة, حتى الخبز يضخم حجمه, بينما المادة السليمة ثمن الكيلو 3500 ليرة، مادة مؤذية من أجل الربح فقط, طبعاً عوقب أشد العقاب، وإن الله يدع في السلطان ما لا يدعه في القرآن، من أجل الربح يضحي بصحة الناس, فإذا الإنسان عرف الله عز وجل, الناس يعيشون بخير, فهو مستعد أن يقدم ما عنده في سبيل الله، أما الجاهل يأخذ من الناس كل ما عندهم, ولا يعطيهم شيئاً أبداً:

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18)  ﴾

[ سورة السجدة ]

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) ﴾

[ سورة القلم ]

 

الخاتمة  


أرجو من الله سبحانه وتعالى أن نكون من هؤلاء الذين برقت أمام أعينهم أنوار الحق ، فاستقلينا كل جهد في سبيله، وعظمت عندنا تكاليفه, وكنا شديدي الحذر من أن نخرج عن منهجه، ثم قطفنا ثمار هذا القرب سعادة في الدنيا وفي الآخرة.

و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور