- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
منزلة الهمة :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تمهيد :
أيها الإخوة الكرام ؛ لا زلنا في مدارج السالكين، مع الدرس الثمانين من هذه الدروس، والمدْرج اليوم منزلةُ الهِمَّة.
أيها الإخوة الكرام؛ النوع البشري شيءٌ عظيم، لو نظرْتَ إلى طبقٍ من البيْض، التفاوُت بين حبّات البيْض تفاوُتٌ بسيط، لا يزيدُ على بِضْع غرامات، ولكن في عالم البشر قد تجِدُ إنسانًا بِقَلبِهِ الكبير، وهِمَّتهِ العلِيّة, وأهدافِهِ النبيلة كالجبل، وتجِدُ إنسانًا آخر، لِضَعفِ هِمَّتهِ, ولِسُخْف مَطلبِهِ كأنّه ذُبابة، النوْع البشريّ نوعٌ مكرَّم، أُعْطِيَ الإنسان طاقات هائلة, فالإنسانٌ الذي يستخدمُ هذه الطاقات الهائلة في معالي الأمور، سيكون عظيمًا من عُظماء البشَر، وإن كان معه رسالة, فهو نبيّ كريم، أو رسول عظيم, وهناك من لا يستخدم هذه الطاقات, فيتحمّلُ من أجلها الحسرات إلى أبد الآبدين، وهناك من يستخدمُ هذه الطاقات في الشرّ, فهُم المجرمون والطّغاة، النَّوْع البشريّ نَوْعٌ مُحَيِّر, مِن إنسانٍ يكْبُر ولا ترى كِبَرَه, فيتضاءلُ أمامهُ كلّ كبير، إلى إنسان يصْغُر ولا ترى صِغَره، فيتعاظَم عليه كلّ حقير، العامل المؤثّر في هذا الموضوع هو الهِمّة.
لو سألْت إنسانًا ضعيف الهِمّة: ما هدَفُك؟ أنْ يأكلَ, وأن يشْرَبَ, أن يسْكُن في بيتٍ, وأن يتزوّج امرأة، فإذا حقّق هذه المطالب تنتهي كلُّ أهدافِهِ، أما النبي -عليه الصلاة والسلام- هَمُّه هِدايةُ الخلق، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام:
لو تعلمون ما أعلم, لبكيتم كثيرًا ولضحكتم قليلاً
فالله عز وجل لا ينظرُ إلى شكلك، ولا إلى صورتك، ولكن إلى همِّكَ وهِمّتِكَ, إنسانٌ جد همّه أن يأكل ويستمتع بالحياة، همُّه أن يعيشَ وحيدًا مرتاحًا من كلّ همّ، لكنْ هناك من همُّه هِدايَة الخَلْق، فأنت تكْبُر عند الله بِقَدر ما تحْمِلُ من هُموم المسلمين.
هل يستطيع الإنسان أن يصل إلى أعلى عليين إذا استغل هذه الطاقات التي أودعها الله فيه؟ :
والإنسان كما قلتُ قبل قليل: طاقات كبيرة جدًّا, فقد تجدُ إنسانًا تركَ آثارًا عِلْميّة مُذْهلة، وعاشَ عُمْرًا محدودًا كأيّ عُمْر, ترك مائتي مؤلّف.
هناك علماء كِبار يُعَدُّون من المُجدِّدين في الدِّين، يعني فِكرُه وكتُبُه على كلِّ لِسانٍ، بعْد ألفِ عامٍ، وفي كلّ قُطرٍ من أقطار المسلمين، ما هذه الهِمة التي كان ينْطوي عليها يومَ كان حيًّا يرْزق؟
على كلٍّ؛ الإنسان يصِل إلى أعلى عِلِيِّين إذا اسْتغلَّ هذه الطاقات التي أوْدَعَها الله فيه، فعلى مستوى الدّنيا:
الإنسان شابّ في الأربعينات، ثرْوتهُ تزيدُ عن تِسعين مليار دولار، صاحبُ مايكروسوفت، شابّ بالأربعينات، هل حصَّل هذه الثَّرْوَة جُزافًا؟ لا، هِمَّتهُ في تَحصيل المال مُذْهلة، وإنسانٌ آخر تركَ خمسين مليونًا قتيلاً مثل هتلر، في الحرب العالميّة الثانيّة, وَحْش وطاغِيَة وجبّار، فالإنسان والنوْع البشري عجيب، هناك طاقات كبيرة جدًّا، وليس هناك حلّ وسَط إذا صعدت بهذه الطاقات فتكون أعلى من كلّ ملَكٍ, كما قال الإمام عليّ -كرّم الله وجهه-:
رُكِّبَ المَلَكُ من عقْلٍ ولا شهوَة، ورُكِّب الحيوان من شَهوةٍ ولا عقْل، ورُكِّبَ الإنسان من كِلَيْهِما, فإن سما عقلهُ على شهوتِهِ كان فوق الملائكة، وإن سمَت شهوتهُ على عقله كان دون الحيوان.
أسئلة موجهة إليك :
ما الذي يهمّك؟ وما الذي يقلقك؟ ما الذي تصْبو إليه؟ ما الذي ترجوه؟ تعيشُ مع من؟ وتعيشُ لِمَن؟ تُرضي مَن؟ وتُغْضِبُ من؟ تنفقُ على مَن؟ تَصِلُ مَن؟ تَقْطَعُ مَن؟ مَن أنت؟ قلْ لي ما الذي يغضبُك, أقل لك من أنت؟ قل لي ما الذي يرضيك, أقلْ لك من أنت؟ قلْ لي ما مِقياسُ الفوز عندكَ, أقل لك من أنت؟ قلْ لي إلى ما تسْعى, أقُل لك من أنت؟ ما الذي يُحزنُكَ, أقل لك من أنت؟ أيُّ شخْصٍ ترنو إليه, أقُلْ لك من أنت؟ فالمسافات كبيرة جدًّا, والإنسان مخلوق ومجبول، لِيَكون أعلى المخلوقات، قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)﴾
هل تريد أن تصل إلى الله؟ إليك الوسائل التي هي في متناول يديك :
لتصل إلى الله وسائل هي في متناوَل يدَيك، شرْعُ الله واضِحٌ لديك, الحلال بيِّنٌ والحرام بيّن، بِمُجرّد أن تَدَعَ الحرام، وأن تقبلَ على الحلال, فقد ارْتقيْت عند الله عز وجل.
لا يزال ابن آدم يتقرَّبُ إليّ بالنوافل حتى أُحبّه -بالنوافل، بِصَلاة النافلة، بِصَدقة النافلة، بِطَلبِ العِلْم، وخِدمةِ أخٍ مؤمن بِتَرْبيَة ولدٍ، بدَعْوةٍ إلى الله تعالى-, إذا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سمْعهُ الذي يسمعُ به, وبصرهُ الذي يُبصرُ به، ويدهُ التي يبطشُ بها، ورِجلهُ التي يمشي بها, ولئِن سألني لأعطينّه، ولئِن دعاني لأجيبه
فأنْ تكون عند الله محبوبًا شيءٌ في متناوَل يدك، هناك مُلوك بيَدِهم شُؤون كلّ الممْلكة، ولكنْ لن تستطيع أن تصلَ إليه، هو بيَدِهِ كلّ شيء، يمْلكُ مال ممْلكته، يمْلكُ كلّ شيءٍ فيها، ولكن لا سبيل إلى أن تصلَ إليه، لكنّ ملِكَ المُلوك قال:
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) ﴾
اِعْمَل عملاً صالحًا لا تبتغي به إلا وَجه الله تعالى، أقْرِض الله قرضًا حسنًا، أيّ إنسان، أيّ مخلوق، أيّ نبات، هو مخلوقٌ لله عز وجل, إذا اعْتَنَيْت بِنباتٍ سقَيْتَهُ ماءً، إذا اعْتنيْتَ بِهِرّة عمل صالح.
تعرف قصة المرأة التي غفرَ الله لها, سقَتْ كلبًا في الصّحراء، طريق الوُصول إلى الله بين يديك، كلّ هؤلاء الذين هم أمامك مخلوقات لله عز وجل, فإن أحْببْتَ الله أحببْتَ مخلوقاته, فكُنْتَ بهم رحيمًا، وكنت بهم رؤوفًا، كنت لهم منصفًا، أعنْتَهُم على شؤون دينهم، الإنسان التافه هو الذي يعيشُ لِشَهوَتِهِ، تافِهٌ لا قيمة له.
قال تعالى:
﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ
وقال تعالى:
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ
قال تعالى:
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ
قال تعالى:
﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
﴾
قال تعالى:
﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ
قال تعالى:
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
قال تعالى:
﴿
علو الهمة من الإيمان :
فالقضيّة مصيريّة، والقضيّة خطيرة، أنت المخلوق الأوّل، أنت المخلوق المكرّم، وأنت المخلوق المكلّف، تجدُ إنسانًا همّه شيءٌ تافهٌ جدًّا, همّه مركبة أحيانًا، وهمّه بيت، وهمّه زوجة، ولا يريد فوق ذلك شيئًا, عُلُوّ الهِمّة من الإيمان.
سيّدنا عمر -رضي الله عنه- ماذا أراد؟ أراد أن يقيم الحقّ في الأرض.
سيّدنا الصدّيق, هذا الإنسان اللطيف الناعم الرقيق النحيل، جيَّشَ جيشًا بعد حُروب الردّة، وفتَحَ به بلاد المسلمين، وقال: والله لو منعوني عِقال بعيرٍ كانوا يُؤدُّونه لِرَسول الله -صلى الله عليه وسلّم- لقاتلْتُهم عليه، هِمَّة عاليَة.
وهذا سيّدنا عثمان أنفقَ مالهُ كلّه، جيَّشَ جيشًا بأكمله، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( ما ضرّ ما فعل عثمان بعد اليوم ))
إذا قرأنا تاريخ الصحابة، والله نجدُ أنفسنا لا شيءَ أبدًا.
مرَّة رَكِبْت من المدينة إلى مكّة بِسَيّارة، طريق طويل، أربعمائة وخمسون كيلو متر, والمركبة تسير على المائة والثمانين ومكيّفة، كيف قَطَعَ النبي هذا الطريق على ناقة؟ هل هناك ناقة مكيّفة؟ لا، فكيف قَطَع الطريق على ناقةٍ وكان مطاردًا, وكان مهدورًا دمُه، وقد وُضِعَت مئة ناقة لِمَن يأتي به حيًّا أو ميِّتًا؟ وكيف تبِعَهُ سُراقة, وقال: يا سُراقة, كيف بِكَ إذا لبِسْت سِوارَي كِسرى؟!
إنسانٌ مُلاحقٌ ومهدورٌ دمُه يدفعُ لمَن يقتلهُ مئة ناقةٍ, يقول لِسُراقة:
معنى ذلك: أنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- كان موقنًا أنّه سيَصِلُ إلى المدينة، وسيُنشىء دولةً هناك، وسيُحاربُ الفرْس، وسوف تأتي الغنائم إلى المدينة، وهذا الذي حصلَ بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام, جاءَت الغنائم إلى المدينة, فلم ير الرجلان بعضَيْهما، وقد رفعا رُمْحيهِما من ارتفاع كتلة الغنائم، فسيِّدُنا عمر قال: والله إنّ الذي أدَّى هذا لأمينٌ، جواهر وتيجان وحليّ، فقال سيّدنا عليّ -كرَّم الله وجهه-: يا أمير المؤمنين, أعَجبْت من أمانتهم! لقد عففْتَ فعَفُّوا، ولو ركعت لركَعوا.
أُناسٌ عُظماء قال له: قلْ لي من الذي مات في نهونْد؟ فقال الرسول: ماتَ خلق كثير لا تعرفهم، فبكى سيّدنا عمر, وقال: ما ضرّني أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم؟.
أن يكون لك عمل عظيم, لا يعرفهُ أحد, تبتغي به وجه الله تعالى, وكَخِدْمة للخلْق، تركْت بصمات في المجتمع، وتركْت أثرًا. قال تعالى:
﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
﴾
كان أمة، يعني هو في قلب أمّة، فأنت بِقَلب كم من واحد؟ هل تركْت بصماتٍ في المجتمع؟ هل تركْت علمًا؟ أو ولدًا صالحًا؟ أو مؤلّفاتٍ؟ تركْت مؤسسّة خيريّة؟ أو دعوة إلى الله تعالى ناصعة واضحةٌ بيّنة؟ .
الإنسان إذا انتقلَ إلى رحمة الله تعالى، ماذا يقول الناسُ عنه؟ إذا كان ترك الدنيا فقط لا يُقال ولا كلمة، الله يرحمه، فقد كان بيته جميلاً رائعاً, هذا كلامٌ لا يُقال، أو لقد كان عنده ثلاث سيارات؛ أحدها للسفر, والثانية للبلد، والأخيرة للنقل, هذا كلام لا يُقال، ولكن يقال: انتفَعَ الناس بِعِلْمه، أو عملَ عملاً عظيمًا.
مبدأ الإرادة :
هذا موضوع خطير، منزلة الهمّة, منزلةٌ من منازل إيّاك نعبدُ وإيّاك نستعين، والهمّة فِعْلَةٌ من الهمّ، وهو مبدأ الإرادة، قال تعالى:
﴿
الهمّ مبدأ الإرادة، الانبعاث، الإنسان ما الذي يبعثُه؟ .
خُذْ ألْف إنسانٍ نائمٍ على فراشٍ وثير، في أيّام الشتاء الباردة، والفراش دافئ, ونام قبل ساعتَين، وقد أذَّنَ لِصَلاة الفجْر المؤذِّن، فصاحِبُ الهمّة العاليَة يتجافى جنبُه عن المضاجِع، وينطلقُ إلى الله لِيُصلّي، وصاحِبُ الهمّة القليلة يبقى نائمًا، صاحبُ الهمّة العليّة ينفقُ مالهُ ابتغاء مرضاة الله, وصاحب الهمّة القليلة ينفق ماله على نفسه مستمتعًا به، والحقيقة: أنّ الهمّة هي المحرِّك والهمّة لها علاقة بالمعرفة.
هل تتعلق الهمة بالعلم؟ :
مرّة كنَّا في جلسة فقُدِّمَت حلويات فاخرة جدًّا، هناك طبيب قلب ما أكلَ، فيها قشطة, فهو من شِدّة ما يرى من انسداد الشرايين عند مرضاه كلّ يوم، وهو يعلمُ أنّ هذه المادّة الدّسِمَة هي التي تشُدّ هذه الشرايين، كرِهَها كراهية علميّة، فهي طيّبة جدًّا لكنْ كرهها.
تجد إنسانًا يجري في أيّام البرْد، في أيام المطر، والناس جميعًا في بيوتهم جالسون، عندهُ قناعات, قناعاته العاليَة أعْطَتْهُ هذه الهِمّة.
هناك طالب يدرسُ حتى الثانية فجْرًا، في همّته أن يكون طبيبًا لامعًا وهو في الشهادة الثانويّة، وتحتاج كليّة الطبّ إلى علامات عاليَة، لذلك يعْزفُ عن لقاءٍ مع صديق، عن نزهة، عن سهرةٍ مع أهله، عن وليمةٍ, عن خروجٍ من البيت، يعكف على الكتاب، لأنّ هدفهُ كبير، فهمّته عاليَة, كلّما كبرَ الهدف تعْلو الهمّة، وكلّما اشْتدّ العلم تعلو الهمّة، فالهِمّة متعلّقة بالعلم، ومتعلّقة بِعِظَم الهدف.
أحيانًا تجدُ إنسانًا بالسِّتين أو السبعين، لا رغبةَ له في تأسيس مشروعٍ ضَخم، لأنّ لا همّة له، أما الشابّ في أوّل حياته تجدُه يندفِع إلى تأسيس أي مشروع، عندهُ آمال كبيرة، هذا في الدنيا أما في الآخرة: إذا الإنسان تطلّع إلى الآخرة تعلُو هِمّته، ويزداد شَوْقُه، ويبْذلُ الغالي والرخيص، والنّفْسَ والنفيس.
بين العامّة مَقولةٌ يقولونها دائمًا: أنّ قيمة كلّ امرئ ما يُحسن.
وهناك مقولةٌ أصحّ من هذه المَقولة: قيمة كلّ امرئ ما يطلبُ.
فما الذي تطلبُه أنت؟.
أحدهم وقفَ على باب ملكٍ، طلبَ قلم رصاص, ثمنهُ نصف ليرة, كَمْ هو ضعيفُ الهمّة؟
ما دُمْتَ وقفْت على باب ملِكٍ, فاطْلُب سيارة أو بيتًا, اُطْلُب منصِبًا رفيعًا, فالله عز وجل خلقَنا لِيُسْعدنا، فإذا رآنا نختارُ الدّنيا يُعاتبُنا، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) ﴾
قال تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ
معظمُ الناس يتَّجه إلى المباحات، يعتني بها إلى أقصى درجة, فجأةً تأتيه المنيّة في أوْج نشْوَتِهِ، يُغادرُ الدّنيا وهو حريصٌ على البقاء فيها.
من هو الإنسان العاقل؟ :
حدّثني أخٌ يعمل بأمريكا بالطبّ، قال لي: كلّما وجدْتُ مريضًا على وشك الموت، يعاني من انهيار أعصاب، أحيانًا يصيح، وأخرى يشتم, وأحيانًا يقول: أُعطيك كلّ ما تريد, اشْفني، لأنّه وضَعَ البيضَ كلّه في سلّة واحدة.
الإنسان العاقل يوزّع أهدافهُ بين الدنيا والآخرة، أما الذي وضَعَ كلّ أهدافه في الدنيا, ثمّ اكْتشفَ فجْأةً أنّ الدنيا زائلة, فقد خسر خسراناً مبيناً, والله تأتي ساعات على من يُفارقُ الدّنيا ينسى فيها كلّ اللّذائذ التي في الدنيا, يقول: لمْ أر خيرًا قطّ!.
متى يكون العبد همته عالية؟ :
قيمة العبْد إذا تعلَّقَت بالحقّ تعالى طلبًا صادقًا محْضًا، فتِلْك هي الهمّة العاليَة، فأيّ همّة تعلّقت في الدنيا فهي هِمّة دَنِيَّة، وأيُّ هِمّة تعلَّقَتْ بالحق تعالى فهي هِمّة علِيَّة.
ومن شَغَلَهُ ذِكْري عن مَسألتي, أعْطَيْتُهُ فوق ما أُعطي السائلين
أنت هِمَّتُك تتَّجِهُ إلى مَنْ؟ إن كانت هِمَّتُكَ تتَّجِهُ إلى الحقّ جلّ جلاله, فأنت من عُظماء البشَر، سَمَوْت عن الضَّعْف البشري، فالأنبياء هم بشرٌ في الأساس، لكنّهم لأنّهم تَجْري عليهم كلّ خصائص البشر كانوا سادة البشَر، همْ قِمَمٌ لأنّهم بشر، انتَصروا على ضعفهم البشري، أما إذا الإنسان خضَع لضَعْفه البشريّ أصبحَ تافهًا، لكلّ عصْرٍ هناك للبيئة معالم الخطّ العريض للمجتمع، دَهْماءُ الناس وسوقتهُم يستجيبون لهذه البيئة, يقول لك: أنا مع الناس ، إن أحسنوا أحْسنْت، وإن أساؤوا أسأْت, والناس يقلد بعضهم بعضًا، فالخطّ العريض في المجتمع، والأكثريّة مقلّدة ، قال عليه الصلاة والسلام:
(( لا يكن أحدكم إمَّعَة ))
أما الأبطال فلا يتأثّرون بالبيئة، ولا يستجيبون لِضَغْط البيئة، بل هم يؤثِّرون في البيئة, يُحْدثون تغْييراً جِذرياً في المجتمع، هؤلاء الذين تركوا بصمات كما يقولون.
فقال: همّة العبْد إذا تعلَّقَت بالحقّ, تعالى طلبًا صادقًا خالصًا مَحْضًا, فَتِلْك هي الهمّة العاليَة التي لا يقْدرُ معها على المهلة، ولا يتمالكُ صبْرهُ، لِغَلَبَةِ سُلطانِهِ عليه، وشِدّة إلزامها إيّاه لِطَلبِ المقصود، ولا يلتفتُ عنها إلى ما سوى أحكامها, وصاحبُ هذه الهِمّة سريعٌ وُصولهُ، وظفرُهُ بمطلبه، ما لمْ تُعِقْهُ العوائق، أو تقطعهُ العلائق، أو تصرفْهُ الصوارف.
والإنسانُ يلاحظ نفسهُ حينما يستيقظ صباحًا, أوّل خاطر يأتي إليه، هناك أشخاص وهم على فراش الموت, يسألون عن أشياء دنيوية، يقول: هل وصَلَتْ البِضاعة؟! هل خلُصَتْ ؟! هل صببْتُم السّقف؟! أما سيّدنا عمر بعد أن طُعِنَ، وكان يُصلّي بالمسلمين الفجْر، أوّل ما فعله بعد أن صحا, قال: هل صلّى المسلمون الفجْر؟ انظروا إلى هِمّته، هِمَّتهُ في الاتّصال بالله عز وجل.
سيّدنا عمر كان في المدينة، ومعه سيّدنا ابن عوف، وجدا قافلةً قد استقرَّت في ظاهر المدينة، فقال: تعال نحْرُس هذه القافلة -عملٌ صالحٌ لِوَجه الله، وهو خليفة المسلمين-, يبدو أنَّ طِفلاً بكى، فقام عمر إلى أُمّه, وقال: أرْضِعيه، فلمّا بكى ثانيَةً, قال: أرضِعيه، فلمّا بكى ثالثةً ويبدو أنّه غضبَ، فقال: ألا ترضِعينَهُ؟ فقالَتْ: ما شأنُكَ بنا؟ قالَت: إنَّني أفْطِمُهُ, قال : ولِمَ تُفطِميه؟ قالت: لأنّ عمر لا يُعطينا العطاء إلا بعد الفِطام, يُقال: أنّ هذا الخليفة العظيم ضربَ جبهتهُ, وقال: ويْحَكَ يا عمر، كم قتَلْت من أطفال المسلمين؟! وصلّى صلاة الفجر، فلم يستمع أصحابُه إلى قراءته من شدّة خُشوعه وبُكائِه، وكان يدعو ويقول: يا ربّ، هل قبلْت توبتي فأهنئ نفسي, أم ردَدْتها فأُعزِّيَها؟.
خوفهُ من الله، وهِمَّتهُ في رعايَة رعِيَّتِهِ وإكرامهم، هو اجْتهَدَ أن يُعْطِيَ العطاء بعد الفِطام، يعني التعويض العائلي, لكنْ ما كان يخْطُر في بالهِ, أنَّه حينما أمرَ أن يُعْطَى العَطَاء بعد الفِطام, هناك أُمّ تفْطِمُ ابنها قصْرًا، ثمَّ أمر أن يعطي العطاء بعد الولادة.
من ملامح صاحب الهمة العالية :
1-صون القلب عن وحشة الرغبة في الفاني :
أوَّلُ ملامِحِ هذه الهِمَّة العاليَة: هي صوْنُ القلب عن وحْشَة الرغبة في الفاني, لا يرتاح من الدنيا، له من الدنيا ما يقيم أوَدهُ، ويسترُ عَوْرتَهُ، هو يُلبّي رغْبتَهُ المشروعة، أما التوسُّع، البذْخ، التَّرَف، الإسراف، العلوّ في الأرض، هذا ليس من هِمَّة المؤمن، قال تعالى:
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) ﴾
يأكلُ لِيعيش، يسْترُ جسمهُ كما أمره الله عز وجل، يتزوّج وفْق سنَّة النبي صلى الله عليه وسلّم، يأكل، ويشرب، ويلبسُ من دون إسرافٍ ولا مَخْيلَة، هذا هو شأْنُ المؤمن، أما الإسراف، الترَف، التبذير, الظهور بِمَظهر كبير جدًّا، هذا ليس من شأن المؤمن.
أوّل نبضات هذه الهِمّة: أنّ قلْبَ صاحبِ هذه الهمّة يسْتوحِش من الدنيا الفانيَة ويتعلّق بالباقيَة, المؤمن وهو في المسجد كالسّمكة في الماء، المنافق كالعصفور في القفص, وإن كان اسم العصفور لا يليق به، أو كالجرذ في المصيَدَة، منافق ضعْهُ في مكان، في سوق فيه نساء حَسْناوات غاديات ينْتعِش قلبهُ هناك, أما إن أتَيْتَ به إلى المسجد يتضايَق، هو يحبّ المناظر، ويحبّ الناس.
كثير من المؤمنين أسْمعُ عنهم, إذا أقاموا نزهةً بِمَكانٍ جميلٍ مع أهلهم، الطَّرَف الآخر ينتقدونهم: ما هذه النُّزْهة؟! النزهة في نظرهم أن يقْعُدوا بِمَقهى مزدحِم، والأغاني تصْدَع، وصوت الطاولات والنَّرْد، والنّساء كاسيات عاريات، وغناءٌ عالٍ، وازْدِحام، هناك يجد السرور، أما المؤمن يجد السرور بِمَكانٍ جميلٍ بعيدٍ عن الناس، يوَحِّدُ ربّه ويدعو ربّهُ، فالهِمّة العالية أنّ من لوازمها: أنّ القلب يسْتوحِش الدنيا، ويأْنسُ بالحق.
الإنسان يسافر أحياناً، فإذا به من جامعٍ إلى جامعٍ، يعيش في جنّة، ويسافر إنسانٌ آخر فتَجِدُه من مَلهى إلى مَلهى.
مرّة كنتُ بِدَرسٍ في الطاووسيّة, فجاءَ أخٌ من الخليج, حضَر الدّرْس, وأراد أشرطة وكُتباً، فقال لي: الْتَقيْت بالعالم الفلاني، والجامع الفلاني, وحضرْت درسًا لفلان، وحضر عندنا وحضر الدروس، فهو جاء من بلد إلى بلد ليبْحث عن العلماء، والدعاة إلى الله، وهناك إنسان يبحث ببَعْض الأحياء، هناك أحياء بالشام لا ترضي الله عز وجل يذهبُ، يقول لسائق السيارة: خُذني إليها مباشرة.
فالهمّة العاليَة تسْتوحشُ من الدنيا الفانية, والفانية هي الدنيا وما عليها، فالقلب قلبُ صاحب الهمّة العاليَة يزْهدُ فيها وفي أهلها:
إليك عنّي يا دنيا فقد طلّقْتُك بالثلاث, -كما قال سيّدنا عليّ؛ شأنك خطير، أمدك قصير-, غُرِّي غيري.
وأما الراغبون فيها فأرواحهم وقلوبهم في وَحشةٍ من أجسامهم، إذْ فاتها ما خُلقَت له, فهي في وحشة لفواته.
فرْق كبير بين زاهدٍ في الدنيا وبين متعلّقٍ بها، الزاهدون في الدنيا يرونها موحشةً لهم, لأنّها تحول بينهم وبين مطلوبهم ومحبوبهم.
هدف المؤمن الصادق :
أحيانًا إخوة كرام يجلسون في مَجْلسٍ، في بيت، يدورُ حديثٌ عن الله عز وجل، عن الآخرة، وعن كمال الله، وعن كمال الأنبياء، يقول لك وهو صادق: كُنَّا في جّنة، وقد تكون الغرفة متواضعة جدًّا، جلسوا على الأرض، وقُدِّمَت لهم ضيافة بسيطة جدًّا، يقول لك: كنَّا في جنّة, وأحيانًا تكون في مكانٍ جميلٍ جدًّا، وفخْمٍ جدًّا، ولكن لا سرور، هذه السكينة يُلقيها ربّنا على من يشاءُ من عباده.
الزاهدون في الدنيا ينظرون إليها بالبصائر، والراغبون فيها ينظرون إليها بالأبصار.
الراغب يراها بِعَينِهِ، هناك مركبة جميلة جدًّا، وهناك امرأة جميلة، وهناك بيت جميل وقصر جميل، أما المؤمن فهو يرى بالبصيرة، يرى أنّها فانيَة، لا بدّ من أن يدَعها إلى جنّة عرضها السموات والأرض.
طالبته زوجته بشيءٍ من الدنيا, فقال: والله إنَّ في الجنّة من الحور العين ما لو أطلَّتْ إحداهنّ على الأرض لغلبَ نور وجهها ضوء الشّمس والقمر، فلأَنْ أُضحِّي بكِ مِن أجلهنّ أهْوَنُ مِن أن أضحِّي بهنّ من أجلكِ.
فصاحبُ الهمّة العاليَة تحْملُه هِمَّته على الرّغبة في الدار الباقيَة لا في الدار الفانية، وبالمناسبة: المؤمن الصادق هدفهُ الله عز وجل، هِمَّتهُ العاليَة تقتضي أنّ أيّ شيءٍ يقرِّبُه من الله عز وجل يتعلّق به، وأيّ شيءٍ يُبعدُه عن الله ينقطِعُ عنه، صديق مؤمن، وحديثهُ عن الله، يتعلّق به يزورهُ، ويحرصُ على صُحبته، وصديقٌ آخر دُنْيَوي، كلّ حديثه عن الدنيا، والطّعام والشراب والنّساء، يبتعِدُ عنه المسجدُ يأوي إليه, والأسواق ينفرُ منها، فكُلّ شيءٍ يقرِّبُك من الله تتمسَّك به، وكلّ شيءٍ يبعِدُك عن الله تعالى تبتعِدُ عنه.
ما أهم شيء في حياتك؟ :
تكادُ تكون الهمّة محرّك، والمركبة بلا محرّك, ولو أنّها جميلة, ولونها زاهٍ، وفَخْمة في مقاعدها، ولكن من دون محرك لا قيمة لها, فالمحرِّك أساس المركبة، وأنت في الطريق إلى الله عز وجل, أهمّ شيءٍ في حياتك هذه الطاقة المحرّكة، وهذه الهمّة العليّة، ولا تَنْسَوا المقولة الثابتَة التي وردَت في الأثر:
(( عُلُوُّ الهمّة من الإيمان. ))
كلّما ازداد إيمانك علَتْ همّتك، يصبحُ همّك طلب العلم، هناك بالإنسان حاجات عُليا، وحاجات دنيا، صاحبُ الهمّة العليّة تستيقظُ عندهُ الحاجات العليا، طلبُ العلم يأتي في رأس هذه الحاجات العليا، وصاحبُ الهِمّة الدنِيَّة حاجاتهُ دُنيا، حاجاته كما ورد:
(( تعِسَ عبد الدّرْهم والدّينا، تعسَ عبدُ البطن، تعسَ عبد الخميصة ))
الذي يَعتني بِثِيابِه إلى درجة أنّه يكرهُ أن يُصلّي للحِفاظ على أناقة ثِيابِهِ مثلاً، هذا عبْدٌ للخميصة، والذي همّه الطعام والشراب، وهمّه النّساء، وهمُّه الدّرهم والدِّينار، هؤلاء عبيد ، مَن هم الأحرار؟ الذين همّهم الله عز وجل.
كان عليه الصلاة والسلام تعْظُم عندهُ النّعمة مهما دقَّتْ.
لأنّه يعظّمُ المنعِم، لكن لم يكن يغضبُ للدنيا أبدًا, سيّدنا الصّديق لمْ ينْدَم على شيءٍ فاتَهُ من الدّنيا قطّ.
2- يأنف أن ينزل من مقامه العالي إلى مقام أهل الدنيا :
صاحبُ الهمّة العاليَة يأنَفُ أن ينْزلَ من مقامِهِ العالي إلى مقام أهل الدّنيا، فهو ليس متكبِّرًا، ولكنْ في مُستوى رفيع، أضْربُ لكم مثلاً:
لو أنّ طالبًا حصّل عِلْمًا من أعلى مستوى، وكان في صُفوف عاليَة في الجامعة واختِصاصهُ نادر، وأمامه آفاق واسعة جدًّا، هذا لو جلسَ مع أُناسٍ تافهين من سُوقَة الناس وعامّتهم، حديثهم كلّه مزاحٌ رخيص, تعليقات سخيفة وكلمات ساذجة، ينفرُ منهم نفورًا شديدًا، لأنّه هو في واد وهم في واد، فأكْبَرُ نِعمة مِن نِعَم الله أن يكون هؤلاء الذين على شاكِلَتِك, وفي المستوى العلمي الذي أنت فيه، في مُستوى النّقاء الذي أنت فيه، في مُستوى الطُّهْر الذي أنت فيه، وفي مستوى الهِمّة العليّة التي أنت فيها، هذا أعظمُ عطاءٍ إلهي، لذلك الله عز وجل اختارَ النبي, واختارَ له أصحابهُ, ومن مهمّات المؤمن:
(( ألا يصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامه إلا تقيّ. ))
صاحب مؤمنًا تتذاكَر معه العِلْم، فتَرْقى به، ويرقى بك، صاحب مؤمنًا عندهُ حياء لا يتكلّم إلا الكلمة الراقيَة، صاحب مؤمنًا عندهُ كرَم, صاحِب مؤمنًا عندهُ رحمة، صاحب مؤمناً سِتِّير لا يفْضحُك، صاحِب مؤمنًا شُجاعًا لا يخذلُك، صاحب مؤمناً مخلصًا لا يُسْلمُك، صُحبة المؤمنين جنّة في الدُّنيا، إذا كان بالدّنيا جنّة، هي أن تصْحَبَ مؤمنًا، كلّه أخلاق عاليَة، أدَب، وورَعٌ، أنَفة, وعِفّة, وحِشْمة، ولا تصاحب إنساناً دُنيَوياً دنيئاً، خسيساً، غدّاراً، كذّاباً، أنانياً، مخادعاً.
3- صاحب الهمة العالية يطلب ربه طلباً تاماً بكل معنى واعتبار في عمله :
قال: صاحب الهمّة العاليَة يطلبُ ربّهُ طلبًا تامًّا بكلّ معنًى واعتبار في عمله، يطلبُ ربّه بعمله، فعملُه مُتقَن، فيه صِدق وأمانة، وعبادته ومناجاته، ونومه، ويقظته، وحركته، وسُكونه، وعُزلته، وخلْطَته, وسائر الأحوال، لقد انْصبغَ قلبهُ بالتوَجُّه إلى الله تعالى أيَّما صِبغة، وهذا الأمْر إنَّما يكون لأهل المحبّة الصادقة.
الخلاصة :
شيءٌ عجيبٌ، مع أنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- بشَّر.
سيّدنا عمر بالجنّة, سألَ عمر سيّدنا حذيفة بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام-: بِرَبِّكَ هل أنا مع المنافقين؟ فقال حذيفة: معاذ الله يا أمير المؤمنين.
ما تفسيرُ ذلك؟ مِن شِدّة خوفِهِ من الله تعالى, ومن شِدَّة حِرصِهِ على طاعة الله تعالى، ومِن شِدّة تعلُّقِهِ بالآخرة، مع أنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- بشَّرهُ بالجنّة, قال له: أُنْشِدُك الله, هل جاء اسمي مع المنافقين؟ كان حذيفة أمينَ سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، أما الآن تجِدُ إنسانًا غارقًا بالمعاصي ويقول لك: أنا إيماني أقْوَى من إيمانك, غارقٌ بالمعاصي والموبقات, ويدَّعِي أنّ إيمانه إيمان الصدِّيق، وهذه وقاحةٌ في الإنسان.
قد تَجِدُ ملكاً بيَدِهِ كلّ أمور مملكته، ولكن لا طريق إليه، لا سبيل إليه، لكنّ الله عز وجل ملِك الملوك، قال تعالى:
و الحمد لله رب العالمين