- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
منزلة السر :
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الواحد والسبعين من دروس مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ومنزلة اليوم منزلة السر, الله عز وجل يقول:
﴿
هنــاك أناس أتقياء، أخفياء، أولياء، يعلم الله طيب سرائرهم، ويعلم الله إخلاصهم، ويعلم الله عن همتهم العالية كل شيء، لذلك خصهم بشيء، هؤلاء ليس لهم وجود قوي، ولا سمعة متألقة، إن حضروا لم يُعرفوا، وإن غابوا لم يُفتقدوا, هذه منزلة، ولعل هذه المنزلة تغطي كل إنسان في التعتيم، لا أحد ينتبه له، لا أحد يأبه له، لعله في الدرجة الدنيا الاجتماعية ، لعله في وظيفة بسيطة جداً، لعله يعيش على كفاف هؤلاء أصحاب منزلة رفيعة عند الله عز وجل، هذا الدين لكل الخلق قويهم وضعيفهم، من كان تحت الأضواء متألقاً، ومن كان في التعتيم, هذه المنزلة يختص بها ربنا عز وجل من يشاء، الانطلاق من هذه الآية:
تمهيد :
هناك مصطلح نقول: نجـوم المجتمع، يعني بالعلم هناك أشخاص يُشار إليهم بالبنان، في التجارة، في الصناعة، في الزراعة, في القيادة، في العلم الجـامعي، في التأليف، هؤلاء يسمونهم أعلام المجتمع، ميول المجتمع، وهناك أشخاص لا أحد يعـرفهم، يعملون عملاً طيباً فيمـا بينهم وبين ربهم، لهم إخلاصهم، ولهم محبتهم، ولعل أصدق شاهد على ذلك: أويس القرني. النبي -عليه الصلاة والسلام- قال:
(( يَأْتِي علَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُو بِها بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّه لأَبَرَّهُ،
سيدنا عمر عشر سنوات يدعو أهل اليمن, لعل فيهم أويساً، في السنة العاشرة: سأل رئيس وفد اليمن: أبقي أحد من جماعتك؟ قال: لا لم يبق أحد، قال: أبداً؟ قال: راعي إبل وأجير قوم تركناه مع الإبل, فانطلق إليــه سيدنا عمر.
رجل فقير, هذا أويس القرني، من يعرفه؟ لضآلة شأنه ترك مع الإبل، وكان تابعياً، وكان من أصحاب المقام الرفيع عند الله عز وجل .
قصة ذكرتها مرات عديدة في دروس، وفي خطبة.
قال: هؤلاء الذين اتبعوا الرسل في ساعة الشدة، الذين صدقوا الرسل, وآثروا الله والدار الآخرة على قومهم وأصحابهم، أودع الله في قلوبهم سراً من أسرار معرفته ومحتبـه والإيمان به، هذا السر خفي على أعداء الرسل، فنظروا إلى ظواهرهم.
والآن: هناك شخص غني قوي؛ بيت، مكانة، مركبة، يلتقي صدفةً مع شخص, قد يكون حاجباً، قد يكون آذناً، قد يكون يبيع بضاعة على الطريق, يحتقره، يزدريه، لو علم ما في قلبه من أسرار، ومن إقبال, ومن إخلاص، ومن أشواق, لصغر هذا القوي الغني أمام هذا الفقير الضعيف.
ليس كل إنسان فقير عنده سر، ما كل إنسان يبدو أنه أقل من طبيعي عنده سر، يجب أن يكون متصلاً بالله، مقيماً على أمره، مطيعاً له، مقبلاً عليه .
وأكبر شاهد: قال: أعداء الرسل, انظروا إلى أتباع الرسل فازدروهم, فقالوا: اطرد هؤلاء عنك حتى نأتيك ونسمع منك، قالوا:
﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) ﴾
فقال نوح -عليه الصلاة والسلام- لقومه:
﴿ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) ﴾
المقياس عند الله مقياس الطاعة لا مقياس الغنى، مقياس الإقبال لا مقياس القوة، مقياس الإخلاص لا مقياس الجمال، مقياس التوحيد لا مقياس الأتباع، هذه مقاييس دنيوية لم يعترف القرآن بها إطلاقاً.
قال بعض العلماء: كلام سيدنا نوح: إن كنتم تزعمون أنهم إنما اتبعوني في بادئ الرأي وظاهره, فليس علي أن أطلع على ما في أنفسهم, فإذا رأيت من يوحد الله, علمت من ظاهره، ورددت علم باطنه إلى الله عز وجل, أنا لي أن أحكم بالظاهر.
هذا الكلام -أيها الإخوة- من أجل أن لا تحتقر أحداً، قد تكون رفيع الشأن في الدنيا وعندك خادم، ومن يدري أن الخادم له عند الله مكانة تعلو على مكانتك؟ وقد تكون غنياً في الدنيا وعندك موظف بسيط يتقاضى أجراً محدوداً, ومن يدري أن يكون هذا الموظف البسيط له عند الله مكانة تسمو على مكانتك؟ لا تزدري أحداً، لا تنظر إلى الناس بمقياس المال، هذا مقياس شيطاني، ولا تنظر إلى الناس بمقياس الجمال, هذا مقياس شيطاني
كان قصير القامة، أسمر اللون، مائل الذقن، غائر العينين, ناتئ الوجنتين، ضيق المنكبيـن، أحنف الرجل، ليس شيء من قبح المنظر إلا وهو آخذ منه بنصيب، وكان مع ذلك سيد قومه, إذا غضب غضب لغضبته مائة ألف سيف, لا يسألونـه لمَ غضـب؟ اجعل مقياسك مقياس القرآن, قال تعالى:
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا
هناك استنباط رائع ...
حينما قال:
يعني لماذا أسمع الله زيداً الحق، ولماذا أبقى عبيداً خارج الحق؟ لأن الله يعلم بما في نفوس العباد, في نفس هذا الإنسان طلب للحق، في نفس هذا الإنسان حب لله، في نفس هذا الإنسان شوق إلى الحقيقة، في نفس هذا الإنسان رغبة أن يكون كاملاً، لذلك ييسر الله عز وجل طريق معرفته.
لك موقف، هذا الموقف سبب عطاء الله لك, الله عز وجل يعلم بما في نفس الإنسان, فيعطيه ما يتناسب مع ما في نفسه.
إنسان طالب للحقيقة, لا بد من أن يجمعه الله مع أهل الحق، إنسان طالب للإيمان العالي، لا بد من أن يجمعه الله مع أهل الإيمان العالي، لذلك قوله تعالى في سورة الأنعام:
﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) ﴾
ترى أخوين من أب وأم، من بيئة واحدة، من معطيات واحدة, من ظروف واحدة، أخ همه المال، أخ همه معرفة الله، الأخ الذي همه معرفة الله ييسر له الله أن يطلب العلم، وأن يرقى في مدارج السالكين, وأن يجري على يديه أعظم الأعمال، والثاني ييسر له المال الوفير, قال تعالى:
﴿ كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) ﴾
اطلب أنت، أي طلب تطلبه بصدق يحققه لك, يمد هؤلاء إن صدقوا فيما طلبوا من عطائه، ويمد هؤلاء إن صدقوا في طلبهم من عطائه:
أنت كأب عندك أولاد عدة، ابن همه مظهره، ابن همه دراسته, الذي يهمه دراسته لا يبالي كثيراً بمظهره، أحياناً يعتذر من سهرة ممتعة عنده مذاكرة في اليوم التالي، يعتذر عن نزهة رائعة عنده فحص، أحياناً يعتذر من صديق عنده مذاكرة، يقرأ الكتاب، يقرأ كتاباً آخر، يسأل, يناقش, يكتب، يلخص, الابن الثاني همه مظهره؛ عطورات، وألبسة، وتنزه في الطرقات، وسهرات, هذا بواد وهذا بواد, فإذا علم الله عز وجل سر الذي يطلب الحقيقة، ويطلب مرضاة الله عز وجل أهله، ورفع مقامه، ودله على طريق الخير، وأجرى على يديه كل خير، هذا هو السر.
أيها الإخوة؛ هناك مشكلة: أهل الدنيا يستنبطون من دنياهم العريضة: أن الله يحبهم لذلك يزدرون كل مـن حرم الدنيا، الآية واضحة:
يُروى أن سيدنا سعد بن أبي وقاص قال له ابنه: يا أبت أنت هاهنا والناس يتنازعون في الإمارة، فقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي .
هناك إنسان يحب أن يكون تحت الأضواء، يحب الشهـرة، يحب أن يكـون عالياً في الأرض، وهذه مشكلة، لقوله تعالى:
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) ﴾
إنسان يُدعى إلى عقد قران، إن لم يكن في الصف الأول ينقم أشد النقمة.
فمرةً قلت: ليتنا نبني صالة فيها صف واحد، طولها خمسة كيلو مترات، هذه مشكلة كبيرة، إذا لم يكن في أول صف, معناه مكانته ليست معروفة في هذا المجلس.
هل تصدقون: أن سيد الخلق قاطبة دخل أعرابي إلى مجلسه, فقال: أيكم محمد؟.
من منكم محمد؟ ماذا نستنبط؟ ليس له مكان معين أبداً، كان واحداً من أخوانه، واحداً من أصحابه, هكذا علمنا النبي.
قال: تيامنوا، بكل شيء باليمين.
اجلس حيث ينتهي بك المجلس.
عالم من علماء الشام الكبار، بل هو سيد علماء الشام، أين كان يجلس؟ في طرف غرفته، أخوانه يجلسون في الصدر، وهو جالس في طرف الغرفة, تواضعاً لله عز وجل.
قيم جديدة، هالة كبيرة جداً، وتعظيم، ومراتب, كراسٍ، وهيئة، وأبهة، وعظمة، هذه ليست من الدين في شيء.
وقد ورد في صحيح مسلم: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:
(( رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لا يؤبه له, لو أقسم على الله لأبره ))
الأتقياء طبقتين :
الحقيقة: هؤلاء الأتقياء الأنقياء على طبقتين، قال:
الطبقة الأولى: طائفة علت هممهم، وصفت مقاصدهم، وصح سلوكهم، حتى سبقوا السائرين, فلم يوقف لهم على رسم، ولم ينسب إلى اسم، ولم يُشر إليهم بالأصابع, يريد الظل، يريد أن لا يعرفه أحد .
الآن:
في أشخاص كثيرون يفعلون أجل الأعمال ولا ينطقون بكلمة, يعملون بصمت، ولكن والله قلوبهم مفعمة بمحبة الله، قلوبهم عامرة بذكر الله، هؤلاء أخلصوا.
خصائص الأتقياء الأخفياء :
قال: هؤلاء لهم ثلاث صفات إيجاب، وثلاث صفات سلب، ثلاث صفات ثبوتية، وثلاث صفات سلبية، هؤلاء الأتقياء الأنقياء أصحاب السر الذين علم الله ما في قلوبهم .
الصفة الأولى: علو هممهم .
أهل الدنيا يميلون إلى الدعة، يخمدون إلى الأرض، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) ﴾
هؤلاء الأتقياء الأخفياء, أصحاب همم عالية، لا يفترون عن العمل الصالح، ليلهم ذكر، ونهارهم ذكر، وعملهم خدمة، ومتواضعون, يبذلون من وقتهم، وجهدهم، وأموالهم الشيء الكثير.
قال: هؤلاء هممهم عالية، علو همتهم لا تقف دون الله، ولا تتعوض عنه بشيء سواه, ولا ترضى بغيره بدلاً، ولا تبيع حظها من الله، وقربه، والأنس به, والفرح, والسرور, والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الدنيوية الفانية، هؤلاء أولى صفاتهم علو هممهم، الله عز وجل يبارك لهم في وقتهم، في وقت قليل يفعلون الشيء الكثير، يبارك لهم في أموالهم ، بمال قليل ينتفعون منه الشيء الكثير، يبارك لهم في زوجاتهم، تأتيهم زوجات على شاكلتهم ، معهم على طريق الإيمان، يبارك لهم في أولادهم، أولادهم عون لهم في الإيمان.
هذا الكسول يميل للاسترخاء، والراحة, والتأجيل، يقول: ما عندي متسع من الوقت، جسمي له حق، أريد إراحته، لا توقظني من النوم، هذا وقت متأخر اعذرني، قولوا: ليس في الدار, الانسحاب من العمل الصالح سهل، ولكن مع الانسحاب من العمل الصالح هناك انسحاب من رحمة الله.
الآفة الأولى: أن يشترك في هذا القصد عمل للدنيا وعمل للآخرة
والآفة الثانية: أن يكون لغير الله, أن يكون مع قصده لله قصد آخر، أو أن يكـون لغير الله.
يعني خلوص القصد من كل إرادة, تزاحم مراد الله عز وجل، بل يصير القصد مجرداً لمراده الديني الأمري فقط، وعلامته انبذاج حظ العبد في حق الرب تعالى, صار ميلك وفق ما جاء به القرآن، حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به .
في انضباط، يقف عند الحلال والحرام، تجده حيث أمر الله، تفتقده حيث نهى الله عز وجل، فسلوكه سليم من الآفات والعوائق والقواطع والحجب، وإنما يصح هذا السلوك بثلاثة أشياء: أحدها: أن يكون على الدرب الأعظم درب محمد صلى الله عليه وسلم، عمله وفق السنة, لا بدع، لا خرافات، لا إضافات، لا حذف من السنة، عمله وفق السنة، هذه أول صفة صحة السلوك .
الصفـة الثانية: أن لا يجـب على الطريق داعي البطالة والوقوف والدعة .
وهو في الطريـق إلى الله هناك مغريات، وسماها العلماء صوارف، يعني جلسة، نزهة، دعة، استرخاء، إهمال, العمل الصالح هو على السنة ولا يستجيب لأي صارخ، ودائماً ينظر إلى مقصودة.
إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي، هذه الأشياء الثلاثة يصح بها السلوك.
الأتقياء الأخفياء أول خصائصهم الهمة العالية، وثاني خصائصهم صفاء قصدهم، وثالث خصائصهم صحة سلوكهم، هؤلاء أتقياء أخفياء، ودعك من الأضواء والشهرة وما إلى ذلك, من هو أشهر مخلوق؟ إبليس, ليست الشهرة مقياساً أبداً، المقياس أن تكون على منهج الله.
أيها الإخوة؛ من تمام إحسان الرب إلى عبده وتعريفه قدر نعمته: أن أراه النفس التي كانت حاكمة عليه، قاهراً لها، مقهور مغلوبة.
الآن: كل واحد من عامة الناس عبد لنفسه، يفعل ما تشتهيه نفسه، يتحرك بأمر هواه، مقهور لها، يعني أعلى مرتبة لهؤلاء الأتقياء الأخفياء أصحاب السر أنهم قهروا أنفسهم, إن اتبـاع الهوى هـوان:
ياخجلتي من عـتاب ربــي إذا قال لي أسرفت يا فلان
إلى متى أنت في المعاصي تسير مرخى لك العنـان؟
عندي لك الصــلح وهو بري وعندك الســيف والسنان
ترضى بأن تنقضي الليالــي وما انقـضت حربك العوان
فاسـتحي من كتـاب كريـم يُحصى به الـعقل واللسان
واسـتحي من شــيبة تراها في النار مـسـجورة تهان
أيها الإخوة؛ من تمام إحسان الرب إلى عبده لهؤلاء الأتقياء الأصفياء الأخفياء: أن يزيل من قلبه آفة الركون إلى نفسه، أو عمله، أو حاله، لو كان حاله متألقاً، ولو كان عمله عظيماً، ولو كانت نفسه طاهرة، لا يركن إلا إلى الله، دائماً يتهم نفسه, في الطـريق مزالق، أحد هذه المزالق: أن تعجبه نفسه بعمل صالح قام به، فتألق فاكتفى به، صار يمدح نفسه، يكيل المديح لنفسه بغير حساب.
من إكرام الرب إلى عبده: أن يزيل عن قلبه آفة الركون إلى نفسه أو عمله أو حاله، كما قيل:
إن ركنت إلى العلم أنساكه الله، -يغيب عنك العلم-، أو ركنت إلى الحال سلبه منك، أو ركنت إلى المعرفة حُجبت عنك، إن ركنت إلى قلبك أُفسد قلبك، فلا يركن العبد إلى شيء سوى الله البتة، ومتى وجد في قلبه ركون إلى غير الله عز وجل, فليعلم أنه قد أحيل على مفلس.
لا تركن لا إلى قلبك، ولا إلى مالك، ولا إلى معرفتك، ولا إلى حالك، اركن إلى الله وحده .
أيها الإخوة؛ من أعظم الضر الحجاب عن الله عز وجل، قال تعالى:
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ﴾
يعني أكبر مصاب أن يصاب به الإنسان في الدنيا: أن يكون عن الله محجوباً, بيت فخم، مكانة عالية, دخل كبير، أولاد، زوجة، ولكن عن الله محجوب .
الصلة بالله واحد، والمال صفر، الزوجة صفر، الأولاد صفر، التجارة صفر، الصحة صفر، الوسامة صفر، الذكاء صفر, اسحب الاتصال بالله، هذا الواحد، أنت أمام أصفار.
قال: من أعظم الضر حجاب القلب عن الرب، وهو أعظم عذاباً من الحجيم، قال تعالى:
أيها الإخوة؛ الدرس القادم إن شاء الله، أتصور أنه درس مهم جداً، هو ما الذي يحجبك عن الله عز وجل؟ .
هناك عشرة أشياء تحجب الإنسان عن الله عز وجل، ولأن الحجاب عن الله أكبر عقاب يُعاقب به الإنسان في الدنيا والآخرة، يكون محجوباً عن الله عز وجل:
و الحمد لله رب العالمين