وضع داكن
24-01-2025
Logo
العقيدة الإسلامية - الدرس : 11 - الإيمان بالله عن طريق الفطرة وعن طريق الأدلة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

إذا وجِد ريب أو شكّ في معتقدك الإيماني فأنت لست مؤمناً:


أيها الإخوة الأكارم؛ وصلنا إلى صميم بحث العقيدة، وهو الإيمان بالله.
بادئ ذي بدء ربنا  سبحانه وتعالى يقول:

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)﴾

[ سورة الحجرات ]

فهذا الذي في نفسه ريب ليس مؤمناً، ليس في الإيمان حلّ وسط، إما أنك مؤمن إيماناً يقينياً قطعياً، لو أن أهل الأرض كلّهم كفروا لا تكفر، وإما أن يكون في هذا الإيمان ريب أو شكّ أو تردد فهذا ليس بإيمان، والدليل القاطع قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ فلو أنهم ارتابوا فقدوا صفة الإيمان.
 

دليل الفطرة والبداهة من أدلة الإيمان بالله:


بادئ ذي بدء، الإنسان بفطرته التي فطره الله عليها مؤمن بالله، اليوم درسُنا مُقَسّم إلى قسمين: الإيمان بالله عن طريق الفطرة، والإيمان بالله عن طريق الدليل.
الفطرة كأنها مرآة صافية، صقيلة، نظيفة، ينطبع عليها الشيء الذي أمامها، هكذا طبيعة المرآة، المرآة تعكس ما أمامها، فلو أن دخاناً كثيفاً طمسها، غيَّر صفاءها، غيّر قابليتها للانعكاس، عندئذٍ يأتي الدليل، فالإيمان بالله عز وجل يمكن أن يكون عن طريق الفطرة السليمة، ويمكن أن يكون عن طريق الدليل العقلي والبرهان العلمي.
نبدأ بالفطرة، نحن في دروس سابقة بيّنا أن مسالك اليقين أربعة مسالك، اليقين الحسي، واليقين الاستدلالي، واليقين الإخباري، ويقين الفطرة الإشراقي.
 

ظهور إيمان الفطرة عند الشدائد:


الإنسان أي إنسان، كبير، صغير، متعلم، جاهل، غني، فقير، قوي، ضعيف، مدني، ريفي، عبقري، غبي، بحسب فطرته مؤمن بأنه لا إله إلا الله، مؤمن بالله إيمان بالفطرة، كيف يبدو هذا؟ لو ركب البحر إنسان ملحد وإلحاده عميق، أي يوجد عنده ألف دليل ودليل بحسب تصوره الأخرق على أنه لا إله، لو ركب هذا الملحد البحر، وصارت الأمواج كالجبال، وأصبحت السفينة تتهاوى بين الأمواج كريشة في مهب الريح عندئذٍ يلتجئ هذا الملحد إلى الله عز وجل، وهذا وقع، طائرة تُقِلّ بضعة خبراء لا يؤمنون بالله، يُنكرون وجوده، فلما وقعت في عدة جيوب هوائية، وظنّ هؤلاء الخبراء أن الطائرة على وشك السقوط دعوا الله مخلصين، فالإنسان مؤمن بالفطرة، لكن وهو في سلام، وهو في بحبوحة، وهو في غنى، وهو في أوج قوته يكابر.
شخص قال لي: أنا نشأت في بيئة تُنكر وجود الله عز وجل إنكاراً كلياً، عملت عند شخصٍ في حرفة، هذا الشخص أيضاً يُنْكر وجود الله، أي أوحى إليّ أو نقل إليّ أنه لا إله وافعل ما تشاء، والحياة اقتناص للذَّات، قال لي: وهكذا فعلت، ولم أغادر معصيةً إلا وارتكبتها، وعملت في التجارة فربحت مئات الألوف، وتزوجت، وسافرت إلى بعض الدول، وفعلت فيها من كل أنواع المعاصي، هكذا قال لي، فجأةً -والقصة طويلة-صودرت بضاعته، بقي بلا دخل، عليه دين، صار أصحاب الدين يطالبونه بقسوة، مرض أولاده وزوجته، ليس معه ثمن الدواء فضلاً عن ثمن الغذاء، ضاقت عليه الدنيا، ضاقت، قال لي: أصابتني مصائب لو أنها نزلت على جبلٍ لهدَّته، قال لي: ما شعرت في أحد الأيام إلا وأنا داخل إلى المسجد لأصلي، هذه الفطرة وصلّى.
إنسان آخر هذا عقيدته أنه لا إله، وله أعمال مخزية جداً، عنده بنت صغيرة في سنّ الورود مرضت مرضاً شديداً، هذا المرض جعله يُنْفِق كل ما يملك، إلى أن قال له أحد الأطباء: لا تنتظر أن تعيش هذه الفتاة، دعها كي تموت، قال: فكنت آخذها معي إلى عملي خشية أن تموت في غيابي لشدة تعلقه بها، وهو يُصرّ على أنه لا إله، وارتفعت حرارتها وبقيت في الأربعين، ولم يترك طبيب أطفال إلا وزاره، ولم يترك دواءً إلا واستعمله، وهذه الحرارة لا تنخفض، إلى أن همس في أذنه أحد كبار أطباء الأطفال: إن هذا المرض نادر الوقوع، وإن هذه الحرارة لن تنخفض إلا عند الموت، قال: في أحد الأيام قلت لزوجتي: سخني لي الماء لأغتسل، وفيما يقول: لم يغتسل في حياته ولا مرة، كان يتغسل ولكن لم يكن يغتسل، فاغتسل ووقف ليصلي، سأل زوجته: ماذا تقرؤون في الصلاة؟ لا يعرف الفاتحة، تقول زوجته: بقي واقفاً نصف ساعةٍ يبكي في الصلاة ويقول: يا رب إما أن تأخذها أو أن تأخذني أو أن تشفيها، ضيّق الله عليه فظهرت فطرته، أين الإلحاد؟ أين دعواك العريضة أنه لا إله؟ بقي يصلي نصف ساعة، أجهش بالبكاء، وما أن سلّم من صلاته حتى رأى قد انخفضت حرارتها، وبدأت تتحرك بعد أن تصلبت عضلاتها، الله عز وجل يُضيّق.
أقول لكم هذه الكلمة، ما من إنسانٍ يُنْكِر وجود الله عز و جل، إلا وهذا قوله يوم القيامة:

﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)﴾

[ سورة الأنعام ]

حينما أنكروا كانوا كذابين، كانوا يُكَابرون، كانوا يركبون رؤوسهم، كانوا يُبالغون، الإنسان لا ينبغي أن يأتي في الشدة عليه أن يأتي في الرخاء، والبطولة أن تأتي إليه وأنت معافى، وأنت في أوجك، أوج صحتك، وقوتك، ومالك، وفراغك، لا أن تأتيه بعد شدةٍ بالغة تنهدُّ لها الجبال.
 

اضطراب الإنسان وشعوره بالراحة النفسية دليل على الفطرة بين جوانحه:


أيها الإخوة المؤمنون؛ الإنسان مؤمن بالفطرة، وحينما يؤمن ترتاح نفسه، هذا الدليل، وحينما يُنْكر تضطرب نفسه، ويختلّ توازنه، ويضجر، ويسقم، ويسأم، وحينما لا يؤمن ترون منه ردود فعلٍ قاسية جداً لأسبابٍ تافهةٍ، وهذا دليل اضطرابه، أي هذا الذي لا يؤمن ويُنكر ويلحد وينحرف، أتفه سبب يجعله ينفجر، وهذا عند علماء النفس دليل اضطرابه الداخلي لأنه خالف الفطرة، أي هذا المحرك لا يعمل إلا بالوقود، بالبنزين، فلو وضعت فيه ماءً، أو وقوداً من نوع آخر، لظهرت أصوات ولاضطرب ولتوقف، تحسّ أن الوضع غير طبيعي، فالإنسان مؤمن بالفطرة، لا تفهموا من هذا الكلام أنه ليس هناك أدلة، هناك مليون دليل ودليل على وجود الله، ولكن قبل أن نستعرض هذه الأدلة العلمية والبراهين العقلية نودّ أن نُلْفِت النظر إلى أن الإنسان مؤمن بالفطرة.
 

الاستشهاد بأقوال العلماء حول موضوع الفطرة:


مثلاً قال العلماء: الطفل حينما يولد يملك منعكساً اسمه: منعكس المص، منعكس المص عملية بالغة التعقيد، الآن وُلِدَ هذا الطفل، لو أنه بعد الولادة بساعة واحدة وضعته أمه على ثديها لالتقم الثدي، ولأحكم إغلاق فمه على الثدي، ولسحب الحليب، هذه عملية معقّدة، كيف خُلِقت هذه الفطرة؟ أي هذا الطفل بالفطرة يُتقن المص، يتقن لا يعرف، يتقن إتقاناً كاملاً، حينما كنا في الجامعة درسونا في علم نفس الطفولة أن الإنسان حينما يولَد يولد مزوداً بمنعكس المص، تزويد كامل، طبعاً الحيوان لأنه ليس مكلفاً، ولم يخلق الله له فكراً، مزوداً بمئة منعكس، ترى فرخ البط عوّام كما يقولون، والطائر يطير، وكل حيوان حينما يولد مزود بمئات المنعكسات، هذه يسميها العلماء: الغريزة، آلية معقدة جداً ولكنها جاهزة من دون تَعَلُّم، هذه الفطرة.
بالنسبة إلينا كبشر أطفالنا حديثو الولادة مزودون بمنعكس المص، وهذا المنعكس ليس له تفسير إلا الفطرة، أي بفطرة هذا الطفل المولود يعرف أن يلتقم ثدي أمه، وأن يمصّ منه الحليب، هذا من أدلة الفطرة.
دليل آخر؛ شعور الأم بعاطفةٍ جياشةٍ نحو ابنها، من دون أن تعلم ما قيمة هذه العاطفة، لولا هذه العاطفة لما كنا نحن.
 

الفطرة لا تحتاج إلى براهين وأدلة لأنها من المُسلّمات:


قصة رمزية تروى، سيدنا موسى رأى امرأة تخبز خبزاً في تنور، وكلما وضعت رغيف خبز في التنور ابنها على الطرف الأيمن تلتفت نحوه وتُقبّله، من شدة عطفها وحنانها، فعجب هذا النبي الكريم، الله سبحانه وتعالى أعطاه درساً نزع الرحمة من قلبها، فلما بكى ألقته في التنور، بالفطرة أية أم؛ جاهلة، متعلمة، كافرة، زنديقة، مومس، بغي، أية أم تحب ابنها بالفطرة، هذه فطرة، قال تعالى:

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)﴾

[ سورة الروم ]

يا داود ذكِّر العباد بإحساني إليهم، فإن النفوس جبلت على حُبّ من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، بالفطرة ، فبالفطرة يلتقم الطفل ثدي أمه، بالفطرة تُحسّ الأم بعاطفة جياشةٍ نحو ابنها، بالفطرة يُحبّ الإنسان من أحسن إليه، أي لو أن له أخاً من أم وأب، وهذا الأخ أساء إليه، وشخص لا ينتمي له بأي صلة، من طرف الدنيا الآخر لو أحسن إليه لأحبه، قال لي شخص: وقعت في عجز مالي في عملي التجاري، أي أفلس، ضاقت بي الدنيا، صرت أهيم على وجهي في الطرقات، فالتقيت بتاجر في طرف من أطراف البلاد البعيدة، وهذا التاجر ليس من ديني، من دين آخر، فقام هذا التاجر وأعطاني بضاعة بما قيمتها خمسين ألف ليرة، وقال: خذ هذه البضاعة وبعها وحينما تُحسّ أنك وقفت على قدميك ادفع لي الثمن، فقال لي: والله أحس أن قلبي يَتَفَطر حباً له، سبحان الله! هذه الفطرة، أخوه النسبي ما أنجده، أقرباؤه، جيرانه، أهله، أما هذا الإنسان في بلد بعيد عَلِم بحالته وأمدّه بهذه البضاعة كي يقف على قدميه وهو من دين غير دينه فأحبه.
لا تعجبوا كيف فتح المسلمون البلاد؟ فتحوها بأخلاقهم الكاملة، فحينما كانوا مُثُلاً عليا في الخلق الكريم أهل البلاد دلوهم على الطرقات، هناك جبال معقدة جداً، العرب تجاوزوا الجبال في إسبانيا وفي شمال أفريقيا وفي شرق آسيا، جبال وعرة جداً، لو أن أهل البلاد أبغضوهم لكانت هذه البلاد في حِصن حصين، ولكنهم لكمالاتهم ورحمتهم وعدالتهم فُتحت لهم القلوب قبل أن تُفتَح لهم البلاد، فالذي أعانهم على فتحها أبناء البلاد المفتوحة نفسها، هذه الفطرة.
فالأم تشعر بعاطفة نحو ابنها من دون أن تعرف قيمة هذه العاطفة، لولا هذه العاطفة لما كنا نحن أحياء، حينما أرى طفلاً أمه تعتني به، أبوه يأتي مساء بكل حاجاته، يكدح الأب ويسعى ويجهد ويتحمل المخاطر والمسؤوليات ويغامر إلى أن يأتي مساءً بكل حاجات البيت، حينما يرى ابنه في دفءٍ، ويرتدي ثياباً جديدةً نظيفة، وحينما يأكل ما يشتهي، يُحسّ الأب بسعادةٍ لا توصف، هذه الفطرة.
لو نحن حللنا هذه الفطرة لعرفنا أنه لولا هذا العطف لما استمرت الحياة، لانتهت الحياة، هذا إدراك عقلي، تحليل، لكن الأب يحُس بهذه العاطفة من دون أن يبحث في تحليلاتها ومدلولاتها، هذه الفطرة، من منا يُنكر ما في نفس الأم من عطف؟ شيء ثابت، ما الدليل؟ لا يوجد دليل، إحساسها بهذه العاطفة هو الدليل، إحساسها هو الفطرة، الإحساس الفطري لا يحتاج إلى دليل، غنيّ عن الدليل، بديهيّ، يسميها الناس: المُسَلّمات، المُسلّمات هي مبادئ لا تحتاج إلى براهين، الكل أكبر من الجزء برهن عليها؟ والله مثل الشمس واضحة، هذه مُسلّمة، الكل أكبر من الجزء، هذه مُسلّمة.
جميع الناس مدفوعون بدافع من فطرتهم إلى كسب قوت يومهم، تجد دافعاً خفياً، عندما الإنسان يفتح محلاً ينطلق المحل ترتاح نفسه، أمّن طعامه، إذا الموسم طيب والقمحات كثر تجد الفلاح مسروراً، أمّن المؤونة، كل إنسان، قيل: إذا أحرزت النفس قُوتها اطمأنت، بالفطرة، تجد الإنسان ينطلق، هذا يفتح مكتب ديكور، هذا مكتب مثلاً مكتب عقاري، هذا يعمل وساطة، هذا يشتري أراض، هذا يعمل معملاً، هذا يفتح محلاً تجارياً، هذا يسافر يحضر بضاعة، كل الناس مدفوعون بدافع من فطرتهم إلى كسب الرزق.
 

واقع الناس أكبر دليل على حقيقة الفطرة في بحثهم عن الرزق أو الإحساس بالجوع:


الإحساس بالجوع هل لك أن تُنكره؟ برهن عليه؟ أخي أنا جائع ما الدليل؟ أريد الدليل العقلي؟ أي دليل هذا؟ أنا جائع وكفى، إحساسي بالجوع صارخ، فالإحساس بالجوع فطرة، طبعاً هناك بحث آخر، قيمة الطعام في حياتنا، في توليد الطاقة، في توليد الحرارة، قيمة الطعام في تأمين الفيتامينات والمعادن، الطعام منه مرمم، منه مولّد للطاقة، بحوث طويلة، كتب مؤلفة، آلاف الصفحات، هذا الجائع في غنى عن كل هذه البحوث.
شخص له ابن درس فلسفة في أوروبا بعدما جاء بعد سبع سنوات، طبعاً معه دكتوراه بالفلسفة، طبعاً أحضروا فروجين ليأكلوا، الأب والأم وهذا الشاب الذي عاد من سفره، فقال هذا الشاب لأمه وأبيه: أنا بدراستي العميقة الآن أستطيع أن أبرهن لكم أن هذين الفروجين هم ثلاثة وليسا اثنين، فالأب ذكي بدافع الفطرة، قال له: سآكل أنا واحداً وأمك واحداً آخر وكُلْ أنت الثالث، اثنان اثنان مهما فلسفتهم هما اثنان.
دافع الفطرة أوضح شيء الشعور بالجوع، أخي ما الدليل على أنك جائع؟ لا يوجد دليل، جائع وكفى، إحساسي بالجوع أكبر دليل، فنحن لا نقول هذا الكلام لأنه ليس هناك أدلة على وجود الله، لا والله، هناك مليون الأدلة، لكن أحبّ أن أؤكد لكم قبل كل شيء أنك كإنسان بفطرتك مؤمن بالله، وحينما لا تؤمن تصور مرآةً كانت صقيلةً نظيفةً ذات قابليةٍ للانعكاس عالية جداً، جاءها دخان كثيف من شمعةٍ فطمست معالمها، طمست شفافيتها، طمست انعكاسها، الآن عندئذٍ نحتاج إلى دليل، لو أن هذه المرآة صافية لا نحتاج إلى دليل.
أحياناً الإنسان يحبّ أن يأكل شيئاً حامضاً، يكون عنده نسب الكلس عالية، والكلس لا يذوب إلا بالحموض، يشتهي سلطة فيها حمض زائد ما السبب؟ أحياناً يشتهي أن يأكل برتقالة حامضة، أحياناً ترى فتيات يأكلن الليمون، الإنسان يجوز أن يشمئز من أكل الليمون، تجد البنت تأكل الليمون بكل سرور، تقطعه وتأكله مع الملح، ما هو تفسير هذا الشيء؟ عندها رغبة جامحة لأكل الليمون، السبب هو وجود مواد كلسية زائدة لديها، هذه المواد الزائدة ربنا عزّ وجل لحكمةٍ بالغة يخلق في الإنسان دافعاً نحو الحمض، أحياناً يشتهي الإنسان أن يأكل الموالح، يكون عنده نقص بالملح، أحياناً يشتهي أن يأكل طعاماً حلواً في الشتاء، يكون عنده نقص بالطاقة، رغبة الإنسان بأنواع الطعام مبنية على حاجات، هناك علماء أتوا بعشرة أطفالٍ وضعوهم في مختبر، وضعوهم أمام ألوانٍ منوعة من الطعام، وعشرة أطفالٍ آخرين تولّى خبراء في التغذية إطعامهم، أي كله مدروس بالحريرات، بالمواد البروتينية، والدهنية، والسكرية، والفيتامينات، والمعادن، وأشباه المعادن، قوائم بالفواكه، واللحوم، فكانت نتيجة الأطفال الذين أكلوا وفق رغبتهم الخاصة أن نموهم كان أحسن، لأن هذه الرغبة الخاصة مبنية على حاجة داخلية، حينما تشتهي الطعوم الحامضة يكون عندك كلس زائد، حينما تشتهي الموالح يكون عندك نقص في الملح، حينما تشرب الماء يكون هناك نقص بالماء بالجسم، شرب الماء الزائد دليل نقص في الماء، فهذا أيضاً إحساس بالفطرة، إذاً شعورنا بالعواطف والأحاسيس هذه كلها من الفطرة ولا برهان عليها، إحساسنا وحده هو الدليل.
 

الشعور الفطري مشترك بين جميع الخلائق:


الشعور الفطري إحساس بين جميع الخلائق المُدرِكة على اختلاف نزعاتها، ومستوياتها، وثقافاتها في البيئات البدائية، وفي المدن المتحضرة، وفي منتديات المثقفين، وفي قاعات العلوم والفنون والمختبرات، إنه شعور مشترك بين جميع الناس، يقوم في نفس الطفل الصغير، والإنسان البدائي، والإنسان المتحضر، والجاهل، والعالم، والباحث، والفيلسوف، والعبقري، والفنان، والخبير في المعمل، كل هؤلاء يشعرون أن الله حقّ، أنه القوة القابضة على ناصية كل شيء، العالمة بكل شيء، الحكيمة المُريدة التي لا شك فيها.
قرأت كلمةً لأكبر عالمٍ في الذرة، هذا العالم اكتشف أحدث نظرية حتى الآن، اسمها النظرية النسبية هو اينشتاين، قال هذا العالم: كل إنسان لا يرى في هذا الكون قوةً هي أقوى ما تكون، عليمةً هي أعلم ما تكون، حكيمةً هي أحكم ما تكون، هو إنسان حيّ ولكنه ميت.
 

الأدلة القرآنية تؤكد حقيقة الفطرة في الإنسان:


الآن بعض الآيات التي تؤكد هذه الحقائق:

﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)﴾

[ سورة إبراهيم ]

أي هو الذي فطر السماوات والأرض، فطرها على أن تؤمن به، قال تعالى:

﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)﴾

[ سورة الإسراء ]

لذلك الذي فطر السماوات والأرض فطرها على أنها تؤمن به، بدافعٍ من بنيتها وخلقها، وقال تعالى في آية أخرى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ .
 

الفطرة موجودة حتى في النبات دليل ذلك ظاهرة نموها:


يوجد نقطة دقيقة جداً أتمنى عليكم أن تكونوا في مستواها، النبات أوضح شيء، ترى نبتةً يقال لك: هذه النبتة تحتاج إلى سقيا في الأسبوع مرة، فلو أكثرت عليها الماء تموت، هذه النبتة تحتاج ثلاث مراتٍ سقيا أسبوعياً، فلو أكثرت عليها الماء تموت، هذه النبتة في الشهر مرة، هذه النبتة نبات صالون، تزدهر في الغرف، هذه النبتة لا تزدهر إلا في أشعة الشمس، لو جلست مع صاحب حدائق لديه خبرات عالمية، يعرف طباع كل نبتة، الشمس، هذه النبتة تحتاج إلى ظل، إلى شمس مبرقعة، يضعون أحياناً بعض الأقمشة الخفيفة في البيت البلاستيكي، هذه تحتاج إلى ظلّ، هذه تحتاج إلى ضوء، هذا تنمو في البيوت في الغرف، هذه تحتاج إلى سقيا كثيرة، هذا النبات لا ينمو إلا في الماء، الزنبق، يجب أن يغمر في الماء، هذه تغمر، بعض النباتات بالشهر مرة، وإلا تموت.
إذاً ربنا عزّ يوجد بخلق النبات شيئان، يوجد شيء ظاهر لعينك، أي طولها، ألوان أوراقها، شكل أوراقها، نوع أزهارها، هذا شيء ظاهر، هناك أشياء تكتشفها مع الأيام، طباعها، طباعها هي الفطرة التي فطرها الله عليها، طباع النبات، حاجته للماء، حاجته للهواء، للشمس، للإضاءة، للحموضة، للرطوبة، أي أشياء دقيقة جداً، هذا النبات يُزهر خلال أسبوعين في السنة، هذا النبات خلال شهر، هذا النبات دائم الخضرة، هذا النبات تسقط أوراقه، هذا النبات أزهاره فوّاحة، هذا النبات أزهاره ليست لها رائحة، هذا النبات أوراق أزهاره كثيفة، يقول لك: مطبقة، هذا النبات أوراقه مبعثرة، أي طباع، ﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ كما أن النبات له طباع، النبات شيء واضح، مثلاً بعض النباتات إن لم تعطشها لا تنمو، الباذنجان، يحتاج إلى تعطيش، إلى أن يزبل، بعد أن يزبل تعطيه الماء فينمو، الرز يحتاج إلى غمر بالماء، طبعاً هذه خبرة الفلاح، كل نبات يعرف طباعه، فالتفاح ينمو في المرتفعات، والحمضيات في السواحل، الحمضيات لا تنمو بالرياح، إذاً تحتاج إلى مصدات رياح، طباع، هذا النبات هكذا، هذا النبات ينمو في إفريقيا يحتاج إلى حر شديد، رطوبة عالية، هذا النبات ينمو في الصحراء، أشواك، الشوكيات كلها صحراوية، هذا النبات قطبي، هناك نبات ينمو في قاع البحر، في الأنهار، هذه هي الفطرة. 
 

انحراف الفطرة وموتها:


كل مخلوق غير النواحي المادية طباعه، حاجاته، أطواره، تطوراته، هي الفطرة، فالإنسان مفطور على حبّ الكمال، فطرة، صفحة بيضاء، هكذا فُطر، مفطور على حبّ الإحسان، خُلِق ضعيفاً، خُلق عجولاً، خُلق هلوعاً، هذه فطرته قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ أما هذه الفطرة قد تنطمس، الشهوات أذا انغمس الإنسان فيها تطمس الفطرة، هناك حالات نادرة، هناك وحوش بشرية، هناك امرأة في فرنسا لها ولد، أغلقت عليه البيت وسافرت إلى عند صديقتها إلى أن مات بعد أسبوعين جوعاً وعطشاً، أمه، هناك حالات نادرة، هذه تشوهت فطرتها، هناك إنسان دخل لبعض القرى ذبح امرأته وأولاده الخمس، هذه فطرة مُشوهة، هناك حالات نادرة جداً، الفطرة التي فطر الله الناس عليها تتشوه.
هذا موضوع الفطرة موضوع طويل، لكن الإنسان من دون تعقيدات ببنيته النفسية، بطبيعة خلقه، بطريقة خلقه، بفطرته التي فطره الله عليها مؤمن بالله، الأصل أنه مؤمن فإذا كفر أو إذا أنكر أو إذا ألحد اضطربت نفسه، واختلّ توازنه، وقست ردوده، وأصبح مريضاً، هناك أشخاص ليسوا في مستشفى المجانين لكنهم قريبون جداً من الجنون، أي عنيف إلى درجة يُطلّق امرأته لسببٍ تافه، هذا مجنون، يفصم الشركة مع شريكه لأتفه سبب، يقتل إنساناً لأن بقرته دخلت إلى أرضه وأكلت بعض الحشائش، هذه واقعة لكنها حالات نادرة.
 

الإيمان الله عن طريق الدليل:

 

1- الكون بما فيه:

الآن القسم الثاني من الدرس؛ إذا تركنا الفطرة جانباً كان البحث العلمي بما فيه من استدلالٍ نظري واختبارٍ وتجربة سبيلاً إلى التعرف على حقيقة وجود الخالق جلّ وعلا، الآن دعونا من الفطرة، دعونا من الإحساس الفطري بوجود الله، وأوضح مثل له إذا ركب الإنسان المُلحد في باخرة أو طائرة، وشعر أن هذه الطائرة أو أن هذه الباخرة في خطر محقق، عندئذ انظر له ماذا يقول، هذا يقول بالإنكليزي: My God، هذا يقول: ilwhym، كل شخص يدعو الله بلغته ويرجوه ويتوسل إليه، استيقظت فطرته.
أول شيء هناك نقطة مهمة جداً في الموضوع؛ هذا الدين من عند الله، الله سبحانه وتعالى عليم بكل شيء، هذه المجرات هذه الأرض والشمس والقمر والبحار والسماوات والأسماك والأطيار والنباتات والحيوانات، أي شيء مبني على علم بالغ، مثلاً البعوضة إذا وقعت على يد إنسان يقتلها، ولا يشعر بشيءٍ إطلاقاً، لا بتأنيب الضمير، ولا بوخز ضمير، ولا بشعور أنه قتل قتيلاً، ولا بأنه ارتكب إثماً، ولا بأنه ارتكب معصيةً، ولا بأنه أزهق نفساً من غير سبب، لتفاهتها على الخلق، ومع ذلك هذه البعوضة فيها جهاز رادار، وفيها جهاز تحليل دم، وفيها جهاز تمييع دم، وفيها جهاز تخدير، وفيها جناح يرف أربعة آلاف رفه في الثانية، وفيها ثلاثة قلوب، وفيها محاجم، وفيها مخالب، وفيها ذكاء، البعوضة ذكية تختبئ وراء الستار، وراء السرير، إذا استيقظت وأشعلت المصباح أين هي هذه البعوضة؟ تعرف أنك غضبت منها، وأنك تهُمّ أن تقتلها تختبئ في مكانٍ لا تراها فيه، هذه البعوضة فيها علم.
الحوت ألا يوجد فيه علم؟ كم وزنه؟ مئة وثلاثون طناً، طوله ثلاثون إلى أربعين متراً، فيه خمسون طناً دهناً، خمسون طناً لحماً، ثلاثون طناً عظماً تقريباً، يخرج منه تسعون برميلاً زيتاً، إذا أراد أن يتناول وجبة خفيفة يأكل أربعة طن، يرضع صغيره ثلاثمئة كيلو حليب بالوجبة الواحدة، أي زجاجة إرضاع، ثلاث وجبات ألف كيلو، طن حليب، باليوم الواحد يرضع صغيره طن من الحليب، بلا علم مبني الحوت؟
العصفور ألا يوجد عنده علم؟ قرأت في مجلةٍ عن الطيران أن أعظم طائرة اخترعت حتى الآن وفيها كونكورد لا ترقى إلى مستوى الطير أبداً، الطير لا يوجد فيه علم؟ اركب طائرة الآن، أربعمئة راكب يجلسون، كأنهم في مدينة، أكل، شرب، حاجات، مقاعد وثيرة، على ارتفاع أربعين ألف قدم، الطيران في الليل، كم ساعة موجود أمام الطيار؟ الرادار قليل؟ الطائرة تُسيّر ذاتياً، تُرسم لها خطة، الطائرة ليس فيها علم؟ الطائر أعظم من الطائرة، فيه علم، البحار أليس فيها علم؟ هذه السحب، هذه الأمطار، هذه الجبال، هذه المعادن، أشباه المعادن، خصائص المعادن، الحقيقة إذا قلت: علم الله عز وجل، الفيزياء علم الله، أحياناً تجد كتاباً في آخره ثماني صفحات مراجع بخطّ صغير، يكونون ثمانمئة مرجع، فقط الفيزياء الكهربائية فقط، الكهرباء في الفيزياء، أو الصوت، أو الحرارة، أحياناً تجد الفيزياء النووية، الكيمياء الفيزيائية، الكيمياء  العضوية، الكيمياء اللاعضوية، هذه علوم الله، الإنسان ماذا فعل؟ كشف، لم يفعل شيئاً، الفلك علم الله، الطب علم الله عز وجل، الحيوانات علم الله، الأسماك، الأطيار، كل شيءٍ اكتشفه العلم إنما هو من علم الله:

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)﴾

[ سورة الإسراء ]

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)﴾

[ سورة البقرة ]

لو أنك ذهبت إلى مكتبة غنية يمكن أن تجد مئة ألف مجلد متعلقة فقط بهذا الجسم، تجد كتاباً ستة أجزاء عن القلب، أصغر حرف، كل جزء ثمانمئة صفحة عن القلب، والله تصفحت كتاباً عن القلب منذ يومين يحس الإنسان بدهشة، شيء من الصعب أن يفهمه، عن القلب، عن الرئتين، وعن الدماغ، وعن العضلات، وعن العظام، هذا علم الله، سؤال: هذا علم الله وهذا دين الله، أيعقل أن يكون دين الله فيه خطأ؟ فيه تناقض؟ فيه أشياء غير معقولة؟ مستحيل، هذا خلق الله وهذا دين الله، هذا خلق الله وهذا كلام الله. 

2- العلم:

لابد من تناسبٍ بين خلق الله و بين كلام الله، دقة بالغة في كلامه، في تشريعه، في أنبيائه، في قرآنه، فالنقطة الدقيقة التي أُريد أن أقولها أن الحقيقة لا تخشى البحث أبداً، أي مهما تقدّم العلم بعد ألفي سنة، عام ألفين، عام خمسة آلاف، لن يكتشف العلم حقيقةً تُعَارض القرآن الكريم، مستحيل، لأن هذا كلامه وهذا خلقه، غير معقول، شيء من سابع المستحيلات أن يكتشف العلم شيئاً مناقضاً للدين، أبداً، كلما تقدّم العلم ازداد قُرباً من الدين.
التقيت مع طبيبٍ جراح، قال لي: كلما وجدت جرحاً إنتانياً مستعصياً شفاؤه أضع له العسل، قال لي: هكذا درسنا في بريطانيا، العسل يوضع في الجرح، في الجروح الإنتانية التي لا يرجى شفاؤها، قال لي: خلال يومين تكون منتهية، سبحان الله! 

﴿ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)﴾

[ سورة النحل ]

عندئذٍ أدركت أن العسل إلى أن يكون دواءً أقرب منه إلى أن يكون غذاءً، بل إن العسل كما وُصِف من قِبل بعض العلماء صيدلية كاملة، فالحقيقة لا تخشى البحث، لا تخف أن تقرأ مقالةً في مجلةٍ تنقض آيةً قرآنية، لن يكون هذا، لا تخف، لأن خالق الكون هذا كلامه، وليس يعقل أن يكون في كلامه شيء مناقض لخلقه، فالعنوان أعجبني: الحقيقة لا تخشى البحث.
أنت إذا كنت تُعَرّف الناس بالله قل لهم: اقرؤوا ما شئتم، اذهبوا أينما تشاؤون، ناقشوا من تشاؤون، يبقى الحق حقاً والباطل باطلاً، أخي يوجد مقالةٍ قرأتها لم أنم الليل، لماذا؟ قال: إنهم عرفوا نوع الجنين، هكذا بهذه البساطة، الحقيقة لا تخشى البحث، والله وجدنا جمجمة هي الحلقة المفقودة بين الإنسان والقرد معنى هذا أن نظرية داروين صحيحة، كله كلام فارغ، هذا الذي لا يقرأ مشكلته مشكلة، أخطر إنسانٍ في المجتمع هو نصف العالم، أخذ شهادة فظن نفسه عالماً، الجهل مفيد لأن صاحبه متواضع، يتعلم، والعلم مفيد، ولكن الشيء الخطر أن تتعلم شيئاً وتغيب عنك أشياء، أن تظن نفسك عالماً وأنت لست كذلك، قرأ في البكالوريا أن هناك نظرية داروين أن الإنسان أصله قرد فعلق ذلك بذهنه، الدين غيبي، خرافي، يقول: يوجد آدم بالدين، هنا الإنسان أصله قرد، أما أنا الآن والله  من جديد بدأت أؤمن بهذه النظرية، لكن معكوسة، هذا الإنسان كان إنساناً صار قرداً، أي مسخ الآن، إذا كان الإنسان همه بطنه، وهمّه شهوته، وليس عنده أية قيمة، والله مُسخ قرداً، فأنا آمنت بها لكن مؤخراً بشكلٍ معكوس، كان إنساناً فأصبح قرداً. 
فالحقيقة لا تخشى البحث، لا تخف ولو ذهبت إلى عواصم الكفر، ولو التقيت مع أكبر العلماء لا تخش على إيمانك، لا يوجد وقت للإفاضة بهذه الموضوعات، علماء كبار، من كبار الملاحدة حينما قرؤوا بعض آيات القرآن قالوا: هذا الكلام من فوق، من عند جهةٍ فوق الكون، واضح تماماً، العلم اكتشف الآن أن بلاد العرب كانت في القرون السحيقة بساتين وأنهاراً، كيف عرفوا ذلك؟ من المستحاثات، يوجد مدن بكاملها في الربع الخالي مدفونة تحت الرمال، جذوع أشجارٍ ضخمة، مستحاثات متحجرة، رسوبيات أنهار، والعلم أيضاً بحسب معطياته الحديثة يتنبأ أن خطوط المطر تنتقل إلى أن تغدو بلاد العرب بساتين وأنهاراً، العالم الجيولوجي الذي قرأ هذا الحديث الشريف أسلم على أثره،

(( قال عليه الصلاة والسلام: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ، وَيَفِيضَ، حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ فَلا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ، وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا. ))

[ صحيح مسلم ]

أي يوجد بالقرآن إشاراتٍ كلما تقدم العلم اكتشف بعضها، إلا أن الإمام علي كرّم الله وجهه قال: "في القرآن الكريم آيات لم تفسر بعد" العلم كلما تقدم يفسرها، إذاً هذه الملاحظة الحقيقة لا تخشى البحث، ديننا دين معقول، دين مبني على العلم، لأن الخالق عليم وهذا دينه، ففيه علم، فلا يظن أحدنا أنه إذا تناقش مع كافر فسينهار أمامه، بالعكس، لو أن لك إيماناً قوياً لا تخشى به أن تواجه أحداً على وجه الأرض.
 

إذا تعارضت حقيقة من العلم مع القرآن كيف تفسر هذه الظاهرة؟


لكن يوجد ملاحظة، لو أنك واجهت حقيقةً أو واجهت شيئاً في العلم يُناقض شيئاً في الدين، كيف تفسر هذه الظاهرة؟ هناك ثلاثة تفسيرات: 

1- أن يكون البحث العلمي تحت ضوء التجربة ولم يصل إلى الحقيقة:

الأول؛ إما أن البحث العلمي لم يصل إلى مرحلة الحقيقة، هناك نظرية، فنظرية داروين نظرية لم تنقلب إلى حقيقة، إذاً يمكن أن تُخالف هذه النظرية ما جاء في كتاب الله لأنها نظرية لم تثبت بعد، بل إن أهل العلم في أوروبا أنكروها وتجاوزوها والآن يسخرون ممن يتكلمون بها، فالذي يقول بها الآن أقول له كلمة واحدة: مع احترامي لك معلوماتك قديمة جداً، أهل العلم في أوروبا سخروا ممن يدّعيها، فإذا كان هناك تناقض بين العلم وبين الدين فلأن البحث العلمي لم يصل بعد إلى مرحلة الحقيقة بل بقي في حيز النظرية. 

2- أن يكون المنقول عن الدين غير صحيح:

أو أن المنقول عن الدين غير صحيح، مثلاً هناك مئتا ألف حديث موضوع، لو أنك قرأت حديثاً موضوعاً بأي كتابٍ أو قرأت حديثاً ضعيفاً وناقض حقيقةً علميةً، لا نفعل شيئاً، هذا الحديث موضوع أو ضعيف، قد تكون نسبة هذه الحديث ليست صحيحة، فالحديث الموضوع قد يناقض العلم، إذا كان الحديث موضوعاً. 

3- أن نسيء فهم الدين بحيث يتعارض الفهم مع العلم:

أو هناك شيء ثالث أنه وقع الإنسان في خطأ في تفسير الحديث، إما أن يكون الحديث موضوعاً، وإما أن نُسيء فهم الحديث، وإما أن تكون مرحلة البحث العلمي لا تزال في حيّز النظرية، هذه التفسيرات الثلاث التي يمكن أن تُفسر بها التناقضات أحياناً بين العلم والدين.
 

لا يمكن أن يوجد تناقض بين العلم والدين مهما تقدم العلم واكتشافاته:


أما الحقائق المقطوع بها في الدين، والنتائج التي يتوصل إليها العلم بطرقه اليقينية القاطعة فإن بينهما تمام التوافق ولابدّ من أن يلتقيا على نقطةٍ من الحقيقة واحدة، ولأن الحق لا يتعدد قطعاً في الأمور الاعتقادية، ولا في الكائنات الثابتة، أي إذا أنت رسمت خطاً مستقيماً بين نقطتين، وأردت أن ترسم بين هاتين النقطتين خطاً مستقيماً ثانياً لابد من أن ينطبق على الأول تمام الانطباق، تصور نقطتين؛ الخط الأول رسمته، الثاني سيأتي فوقه تماماً، إذا كان أول خط هو العلم الثاني هو الدين لابد من تطابقٍ كامل، أما إذا كان أول خط لم يمس النقطة الثانية أي كان منحرفاً والخط الثاني مسّ النقطة الثانية تجد فرقاً بينهما، تجد أحدهما لم يمر من هاتين النقطتين.
 

ينبغي على المسلم ألا يدافع عن الدين بنفي حقيقة علمية ثابتة فيه:


آخر الدرس، في عهد الغزالي هناك علماء درسوا وجدوا أن الكسوف والخسوف مبنيان على قاعدة وقانون، الآن يقول لك: بعد يوم ثلاثة وعشرين من الشهر الفلاني، الساعة الثامنة في الليل يُخسف القمر، هذا علم، يوجد دورة حول الأرض، ودورة حول القمر، إذا وقع القمر بين الأرض والشمس كان الكسوف، وإذا وقعت الأرض بين الشمس والقمر كان الخسوف، ففي عهد الغزالي اكتشف العلماء قانوناً للخسوف والكسوف فلما أذاعوا به قام عليهم رجال الدين واتهموهم بالزندقة والكفر، فجاء العالم الغزالي الباحث البحر المُنقّب فردّ عليهم وقال: "ومن ظن أن المناظرة في إبطال هذا العلم -معرفة الكسوف والخسوف-من الدين فقد جنى على الدين، وضعّف أمره، فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية وحسابية لا تُبقي معها ريباً، فمن يطّلع عليها ويتحقق أدلّتها إذا قيل له إن هذا خلاف الشرع لم يرتب فيه وإنما يرتب في الشرع"
إذا قلت لشخص بأوروبا إن هناك عالماً في بعض البلاد الإسلامية يُنكر أن تكون الأرض كروية، هل يشك بعلمه أم يشك بالدين؟ يشك بالدين طبعاً، إذا قلت له: العالم الإسلامي الكبير يُنكر أن تكون الأرض كروية، مرة نشروا في مجلةٍ في جريدة ببعض الدول الأجنبية، كتبوا: فلان العالم الفلاني يقول: الأرض مسطحة في عام 1975، إذا قرأ الناس هذا الخبر بخطّ عريض وقد ذهبوا إلى القمر ورأوا الأرض بأم أعينهم كرةً، وصوّروها، والمجلات العلمية طافحة بصور الأرض وهي كرة، والأقمار الصناعية تُصور كل دقيقةٍ الأرض كرة، وهناك من رآها كرة، فإذا قرأت في مجلة أن العالم الفلاني يقول الأرض مسطحة هل تشك في الدين أم تشك في العلم؟ لا، لا أشك بالدين.
فالإمام الغزالي يقول: إن هذا الذي يطلّع على هذه الحقائق إن قيل له بجهل إنها خِلاف الشرع إنما يرتاب في الدين ولا يرتاب في هذه الحقائق، وعندئذٍ يكون كمن طعن في الدين،  فلا تتسرع لأن العلم لا يناقض الدين أبداً، لا تنف شيئاً ثابتاً علمياً أنت دفاعاً عن الدين، الدين لا ينقضه، النبي عليه الصلاة والسلام لما توفي ابنه إبراهيم الصحابة لشدة فزعهم وحزنهم كسفت الشمس وقتها صدفة، فقال الصحابة: لقد كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال عليه الصلاة والسلام وهو العالم المُدقّق:

(( عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله فإذا رأيتموها فصلوا. ))

[ صحيح البخاري ]

ليس لها علاقة، هذه آية كونية، خسوفها آية، النقطة هنا مهمة جداً، لا تخش، لا تدافع عن الدين بردّ الحقائق العلمية الصحيحة، إن هذه الحقيقة تتوافق مع الدين، مثلاً : أنا أقول: إن هناك زلزالاً، الزلزال له تفسيرات، حركة بباطن الأرض، القشرة اهتزت، تفسيرها معقد جداً، وأنا أقول: الزلزال من الله عز وجل، هذا كلام صحيح، لا يمنع أن يكون للزلزال تفسيرٌ علمي جيولوجي وتفسير ديني، التفسيران يتوافقان، يتكاملان، أي هذا الزلزال سببه اضطراب الأرض، ومُسبب السبب هو الله عز وجل، قضية سهلة جداً، بالعكس رائعة، متكاملة، اضطراب القشرة الرضية سبب للزلزال، ومسبب هذا السبب ربّ السماوات والأرض، فإذا قلت: إن هذا الزلزال أصاب قريةً فأهلكها لأنها فاسدة، هذا كلام صحيح، هذا كلام ديني، وإذا قلت: إن الزلزال هو اضطراب في القشرة الأرضية وانزياح الطبقات عن بعضها، وتسرب بعض المائع الناري إلى الطبقات العليا، وخروجها من بركان أيضاً صحيح، هذا العلم لا يتناقض مع الدين إطلاقاً بالعكس يلتقيان، يتكاملان، انطلاقاً من هذا إذا مرض للإنسان ولد عليه أن يأخذه إلى الطبيب، يشتري الدواء، يعطيه إياه، ثم يتوكل على رب الأرباب، اعقلها وتوكل:

(( قال رجل: يا رسول الله أعقلها وأتوكل أم أطلقها وأتوكل؟ قال: اعقلها وتوكل. ))

[ الترمذي عن أنس ]

هذا هو الدين.
فلذلك اطمئنوا، لن تُكتشف حقيقةٌ علميةٌ حتى نهاية الحياة تُناقض ما في القرآن، لأن هذا القرآن كلامه، وهذا الكون خلقه، ولا يعقل أن يكون في كلامه تناقض أو في كلامه ما يُناقض خلقه.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور