- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
منزلة الغيرة :
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس التاسع والستين من دروس مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، والمنزلة اليوم منزلة الغيرة، وقبل أن نمضيَ في الحديث عن هذه المنزلة, وعن خصائصها, وعن شروطها, لا بدَّ من مقدِّمة.
مقدِّمة :
الإنسان كجسم فيه أعضاء, وفيه أجهزة, وفيه حواس, وفيه نُسُج, وفيه هيكل عظمي، أما كنفس فيه خصائص، واللهُ عز وجل سوَّى هذه النفس وفق خصائص، وهذه الخصائص أولُ صفة فيها: أنها حيادي, يمكن أن تكون سُلَّمًا نرقى بها, أو دركات نهوي بها، هذه الخصائص حيادية, لأن الإنسان مخيَّر. نضرب لذلك مثلاً:
من أدقِّ خصائص الإنسان: يتمنى أن يكون كالآخرين الناجحين في الحياة، سمِّها إن شئت غيرةً، سمِّها إن شئت حبَّ التنافس، سمِّها إن شئت حسداً، هذه الخصيصة تتمنى أن تكون كفلان، وتتألَّم إن لم تكن مثلَه، هذه حيادية، فلو وظَفتها في الخير رأيتَ إنساناً طالب علم شرعي، إنساناً يتقن كتاب الله، إنساناً ضبط نفسَه وحزَم أمورَه وله اطِّلاعٌ واسع، أجرى اللهُ على يديه أعمالا طيِبةً، فيه خصيصة تتمنى أن تكون مثلَه، فهذه الخصيصة وظَّفتها في الخير, فبعثتك إلى أن تنافسه، فتفوز بالجنة، هذا توظيفها في الخير, أما توظيفها في الشرِّ: ترى إنساناً معه مالٌ كثير أو له جاهٌ عريض فتنافسه على المال، تريد أن تكون مثله في الغِنى والفجور، الخصيصة نفسها وظَّفتها في الشرِّ، فبينما أن تكون هذه الخصيصةُ سُلَّما نرقى به أو دركاتٍ نهوي بها، فالخصيصة حيادية.
(( عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رسِولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال : لا حَسَدَ إلا في اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ ، فهو يَقضِي بها ويُعَلِّمُها ، ورجلٌ آتَاهُ اللَّهُ مالا فَسَلَّطَهُ على هَلكَتهِ في الحقَّ ))
فمعناه: أن الإنسان تمنى أن يكون عالماً, أو تمنى أن يكون غنيًّا منفِقاً, تمنى أن يكون عالماً عاملاً معلِّماً أو غنيًّا منفقاً، هذا شيء طيب .
إذًا: باعثُ من البواعث التي تدفعك إلى نيل الخيرات في أعلى الدرجات في الدنيا والآخرة هذه الخصيصة، هي نفسها لو وجَّهتها إلى الدنيا فتمنَّيتَ أن تكون غنيًّا -لا سمح الله-, تمنى هذا الحاسد أن يكون غنياً فاجراً غارقاً في مُتع حسية أودت به إلى النار، فالخصيصة نفسها والسِّمة نفسها تقوده إلى الجنة أو تقوده إلى النار .
إذاً: هي حيادية، وكلُّ سمات النفس، وكل خصائصها, وكلُّ فطرها, وكل جبلِّتها حيادية, تُوظَّف في الخير أو تُوظَّف في الشر.
الإنسان يحبُّ أن يكون مهمًّا، مبرِّزا متفوِّقا، سمِّ هذا الميلَ تأكيدَ الشخصية، تأكيد الذات، الشعور بالأهمِّية، هذا الميل يمكن أن يُروى بالخير؛ تطلب العلم وتعلِّم العلم، تعمل الأعمالَ الصالحة فترقى، أو تؤكِّد الذات بإيذاء الآخرين وإرهابهم وإيقاع الأذى بهم كي يهابونك, أكَّدت ذاتك.
أحياناً: لك قضية عند إنسان، إما أن يخلق لك العراقيلَ كي يشعرك أنك لا شيء أمامه ، أو أن يعاونك فتشعر أن هذا إنسان عظيم، إنسان طيِّب، في كلا الحالين يريد أن يلفتك إلى خطورته، وإلى أهمِّيته، إما عن طريق خدمتك، وإما عن طريق إيقاع الأذى بك، والميلُ واحد؛ ولكن هذا الميل يُوظَّف في الخير كما يوظَّف في الشرِّ، لأن الإنسان مخيَّر, كلُّ خصائصه ومفردات جبلِّته وتسوية نفسه -إن صحَّ التعبيرُ قال تعالى-:
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) ﴾
حيادي.
الغيرة :
هذه المقدِّمة من أجل أن أصل إلى منزلة الغيرة، هذه المنزلة كما قال مؤلَّف الكتاب: من منازل إياك نعبد وإياك نستعين، قال تعالى:
﴿
وفي الصحيح:
(( عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : لا أحد أَغْيَرَ من الله ، من أَجل ذلك حرَّمَ الفواحشَ مَا ظهرَ منها وما بَطَنَ ، ولا أحد أحبَّ إِليه المَدْحُ من الله تعالى ، من أجل ذلك مَدَحَ نَفْسَهُ ))
طبعاً: أغير خبر –ما- التي تعمل عمل ليس، وما أحد أحب إليه المدح من الله, ومن أجل ذلك أثنى على نفسه.
(( عَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلاً مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ, فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سـَعْدٍ!؟ وَاللَّهِ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ, وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي, وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ, وَلا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ, وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ, وَلا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنْ اللَّهِ, وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ ))
فاللهُ يغار.
أضرب مثلاً:
أبٌ يمشي في الطريق، رأى ثلاثة شباب، أحدهم ابنُه, والثاني ابنُ أخيه، والثالث لا يعرفه، والثلاثة يدخِّنون، بماذا يشعر هذا الأب؟ يشعر بمِرجلٍ اتجاه من؟ اتِّجاه ابنه؛ قد يضربه، وقد يعنِّفه، من شدَّة محبَّته له, ومن شدَّة حرصه على سلامته، ومن شدَّة غيرته عليه يعنِّفه، التعنيف لابن أخيه ينزل إلى الربع، لماذا يا عمِّي تدخِّن؟ ابنه أدَّبه وضربه، ابن أخيه كلمة، الثالث ولا كلمة، فهذا الانفعال وهذا الألم وهذا الصوت المرتفع وهذا الضرب أحياناً وهذا التعنيف بسبب المحبَّة والحرص، فلذلك الغيرة من صفات كمال الإنسان، فهذا الذي لا يغار ليس من بني البشر.
ومن هو الدَّيُّوث؟
قال: الذي لا يغار على عرضه ويرضى الفاحشة في أهله.
لو برزتْ زوجتُه بأجمل زينة، ولو بدا معظمُ ما في جسمها من فتن، لا غيرة أبداً، لا يغار على أهله ويرضى الفاحشة فيهم، هذا ديوث، والديوث كما ورد عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: لا يروح رائحة الجنة.
وفي الصحيح أيضاً:
من حديث أبي سلمة :
(( عن أبو هريرة رضي الله عنه : أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : إنَّ الله يَغَارُ ، وَإِنَّ المؤمنَ يَغار ، وَإِن غَيْرَةَ الله : أن يَأتِيَ المؤمن ما حرَّم الله عليه ))
وبالمناسبة:
قد يسأل أحدُكم: لماذا يضرب الأب مثلا في كثير من القضايا المتعلِّقة بالله عز وجل؟ لأن نظام الأبوَّة وحده يدلُّك على الله, أي هناك إنسان واحد يتمنَّى أن تكون خيراً منه هو الأب, هناك إنسان واحد قد يعمل ليلاً نهاراً من أجل ابنه.
حدَّثني أخٌ عن إنسان يعمل عملاً شاقًّا جدًّا، نقل أكياس، ينوءُ بحملها، جاء الساعة الثامنة تماماً, وبدأ يعمل حتى الساعة الثامنة مساءً، المبلغ زهيد، فقال له صاحبُ العمل: أتعمل حتى الساعة الحادية عشرة وتأخذ خمساً وعشرين ليرة إضافية؟ قال: نعم، لماذا؟ عنده زوجة وأولاد، عمل يهُدُّ الجبالَ، بأجر زهيد جداً, لأن له زوجة وأولاد، وهذا المبلغ اليسير قد يأتي بخبز، وقد يأتي بفاكهة لأولاده وزوجته، هذا بطل عند الله عز وجل، وهو لماذا يعمل هذا العمل الشاقُّ؟ من شدَّة حبِّه لأهله وأولاده، من أجل أن يفرحهم بفاكهة وبطعام، يجهد هذا الجهدَ
فالعبدُ حينما يعصي اللهَ يغار اللهُ.
وبصراحة:
وإذا كنت جالساً في غرفة الجلوس مرتاحاً أيام الشِّتاء على مقعد وثير, وقد أتيت البيتَ وأنت في غاية التعب، وما إن استرخيتَ على هذا المقعد الوثير والمدفأةُ مشتعلةٌ حتى استرختْ أعضاؤك, فرأيت ابنك الصغيرَ يقترب نحو المدفأة وهو يجهل ما سيكون، هل هناك أبٌ في الأرض يبقى جالساً؟ لو كان منهكاً من التعب إلا ويقفز من مجلسه ليمنع ابنَه من أن تحترق يدُه بالمدفأة، ما هو التفسير؟ غيرة, وأساس الغيرة الحبُّ والرحمة .
إذًا: الغيرة مظهر سلوكي ينطلق من حبٍّ ورحمة، فإن الله يغار، عبدٌ يشرب الخمرَ، اتركه لجهنم، أعوذ بالله، عبد يزني، اترُكه لجهنم، أو شعوب ضالَّة مضلَّة فسق وفجور, وبلد سياحي جميل, وجبال خضراء، وطعام طيِّب, ومناظر جميلة، وتجارة رائجة، وكلُّ شيء ميسور, وكل الموبقات موجودة, وكل الأشياء القذرة موجودة، لا يحدث مع الشعب شيء إلى يوم القيامة إلى جهنم كله، لا؛ هناك زلزال، وهناك شحُّ المياه، هناك قحط, وهناك ضيق في الأرزاق، حتى يعودوا إلى الله عز وجل، وهذه غيرة الله عز وجل.
لماذا حرم الله الفواحش؟ :
أضرب مثلاً: حفرة عميقة جداً, وترى طفلاً أعمى يمشي باتِّجاه الحفرة، تبقى ساكتاً وهو ليس ابنَك؟ مستحيل، هذه الغيرة، قال تعالى:
وفي الصحيح أيضاً:
مفهوم الغضب :
أخواننا الكرام؛ هناك غضب شريف، وهناك غضب يُعدّ نقيصة في الإنسان، المؤمن يغار إذا انتُهكت حرماتُ الله، ولا يثور لأكل, أما قضية الأكل تأخَّر، لآنية كُسِرت، لزوجة غابت عند أهلها فترة أطول، هذا هيِّن ليِّن، يألف ويؤلف، أمور الدنيا لا شأن لها عنده، أما أمور الآخرة، هي الزوجة تشعر ما الذي يغضب زوجها؟ إن أغضبته الدنيا سقط من عينها، وإن أغضبته الآخرة عظُم في عينيها، ولا يوجد إنسان لا يغضب، والغضب ضروري، لكن ما الذي يغضبك؟ يغضبك أن الأولاد ناموا ولم يأكلوا؟ أم يغضبك أنهم ناموا ولم يصلُّوا؟ أول تسأله: كتبوا وظائفهم, قلَّما تجد أبًا يقول: هل صلوا العشاء؟ كتبوا وظائفهم وتعشَّوا, الحمد لله والصلاة!! أين قوله تعالى:
﴿
قد يكون صاحب محلٍّ تجاري وعنده موظَّف، إذا تأخَّر ربعَ ساعة يقيم عليه النكير، الظهر والعصر والمغرب ما صلاها أين الدين؟ مرتاح, ولا يشعر بغيرة الموظف، وأمانة في عنقك، أفلا توجِّهه؟ ولأن الله يغار حرَّم الفواحش، ولأنه يغار ساق المصائب، ولأنه يغار أدَّب عبادَه، ولأنه يغار ساق لهم ما يرجعهم إلى الله عز وجل .
قال: ومما يدخل في الغيرة قوله تعالى:
﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً (45) ﴾
قال بعضُ العلماء: أتدرون ما هذا الحجاب؟ قال: هذا حجاب الغيرة فلا أحدَ أغيرُ من الله، إن الله تعالى لم يجعل الكفارَ أهلاً لفهم كلامه, ولا أهلاً لمعرفته وتوحيده ومحبَّته، جعل بينهم وبين رسوله وكلامه وتوحيده حجاباً مستوراً عن العيون، غيرةً عليه أن ينالَه من ليس أهلا له.
لا ترض إذا كان عندك سبيكة ذهب -كيلو - قيمتها خمسمائة ألف، أن تجدها في القمامة، تقيم النكيرَ, وقد تجد قطعةً ثمينة في المطبخ مهملة, أو غير منظَّفة, أو غير ملمَّعة، أو ليست في مكانها الصحيح تغار، وإذا الشيء مُهان وهو ثمين تغار، وكلُّ إنسان في بيته أشياء ثمينة، إن رآها مهملةً أو غير معتنى بها يتألَّم، هذه قطعة ثمينة, مكانها في غرفة الضيوف، الأولى أن تكون نظيفةً وملمَّعة وموضوعة بشكل يلفت النظر، لذلك الله عز وجل جعل هذا الحجابَ المستور بين الفجار والكفار وبين أنبيائه ورسله وكتابه وأسمائه.
أنواع الغيرة :
قال والغيرة نوعان:
1- غيرة من الشيء .
2- وغيرة على الشيء .
فالغيرة من الشيء كراهةُ مزاحمته ومشاركته لك في محبوبك، طفل آخذٌ أعلى مكانة من والديه، فإذا أنجبت أمُّه طفلاً آخر تبدأ الغيرةُ والطفل يريد أن يستأثر بأمِّه، وهناك أزواج يشكون من غيرة زوجاتهم, لو لم تكن زوجاتُهم بهذه الغيرة لتألَّموا ألماً شديداً، من شدَّة محبَّتها لك تسألك: أين كنت؟ طبعاً الغيرة لها حدٌّ طبيعي سوي، ولها حدُّ مَرَضي, الحدُّ المرضي لا يُحتمل.
مثلاً: رجل صالح مؤمن مستقيم معروف مكشوف، له أصدقاء صالحون، تسأله: أين كنت؟ عند أصدقائنا، تعيد الكرَّة: معك واحدة؟ هناك مثل هذه الحالات، وهذه الحالات غيرُ معقولة, هذه اسمُها غيرةٌ مرضية، تتوهَّم أن زوجها ينحرف وهو أنقى من ماء السماء، لأنه تأخَّر عن البيت فقط، غيرة بحدِّها المعتدل ممتازة وجيِّدة وضرورية وحيادية، وسُلَّمٌ نرقى به، أو دركات نهوي بها، لأنه يغار جعل هذا الحجاب بينه وبين عباده العصاة، لأن هذا الشيء الثمين ليس لهم، لذلك قالوا:
مرة قال لي طالبٌ في التعليم، وهو ضعيف في اللغة: الناس وصلوا إلى القمر، ونحن لا زلنا في الفاعل والمفعول, بعيد جداً أن أجيبه إجابة جادة، قلت له: هذه المادة بلاء من الله، وهو يسخر من هذه المادة، ويسخر من لغة أمته، ويسخر من لغة وطنه، وليس هناك أمة إلا وتفتخر بلغتها، فهو يرى أن هذه المادة لا حاجة لنا بها، يجب أن تُلغى، لأنها صعبة، فقلتُ له : هذه بلاء من الله، تحمَّلْ، لأنه يسخر، فهو ليس أهلاً أن تجيبه إجابة جادَّة.
يقال: مرة أحد كبار فلاسفة البريطانيين -برنارد شو- في حفل جلست إلى جانبه امرأةٌ حسناء، وهو كان دميماً جدًّا، فقالت: لو تزوَّجتَني فأنجبنا ولداً, يجمع بين ذكائك وجمالي, وكان ذكيًّا جدًّا، قال: وإذا كان العكس، فجمع بين غباءك ودمامتي، فالنقطة دقيقة جداً، فاللهُ عز وجل إذا الإنسان لم يكن مستقيماً, ولم يكن طاهراً, القرآن محجوب عنه, هناك دليل أقوى، قال تعالى:
﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ
ودليل أقوى، قال تعالى:
﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ
القرآن، قال تعالى:
وبالمناسبة: إذا وجدتَ إنساناً معدنه طيِّب، كما قال عليه الصلاة والسلام ....
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقِهُوا, وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً, وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ ))
معدن هذا الإنسان طيِّب, وفيه حياء, وفيه أدب, وفي قلبه رحمة، ولو كان غير ملتزم، احرص على هدايته، أما إنسان وقِح متجهِّم, لا يستحي من الله, تعليقاته لاذعة جداً، هذا انصرِف عنه أشرف لك، لا تضع الحمكةَ في غير أهلها، ومن وضعها في غير أهلها كمن يقلِّد الخنازيرَ عقودَ الماس، عقد الماس قيمته ثمانون أو تسعون ألف ووضعه على خنزير، هذا العقد ليس لهذا الحيوان.
واحد قدَّم لحمار زهرة فلَّةً, فأكلها الحمارُ, فكان تعليقُ أحدهم: أن الحمار هو الذي أعطاه إياها ليشُمَّها فأكلها، والفلة ليست له، الفلَّة تُشمُّ من إنسان.
عندنا وظيفة واحدة مدير عام، وهناك مئتا موظَّف، هذا المدير العام نُقِل، تنافس على هذه الوظيفة الواحدة مئتا موظَّف, في الدنيا الفانية عند الله عز وجل, لو فرضًا مائة ألف مليار إنسان ارتقى إلى مرتبة الصدِّيقين تسعهم رحمةُ الله عز وجل، لا توجد غيرةٌ، ولا تنافس أخاك، رحمة الله واسعة، وفضله عميم، ورزقه وفير، فالغيرة من الشيء كراهةُ أن يزاحمك أحدٌ في محبوبك، والله للجميع، بل إن من صفات النبيِّ -عليه الصلاة والسلام-: أنه ما من أحد من أصحابه إلا وكان متأكِّداً أنه أقربُ الناس إليه.
غيرة العبد من نفسه على نفسه .
داخلية من إعراضه على إقباله، من صفاته المذمومة على صفاته الممدوحة, من النفس الدنيَّة على النفس الشريفة، فهناك صفات مذمومة، فيغار من هذه الصفات أن تحتلَّ مكان الصفات العالية، دائماً المؤمن في قلق, يغار من نفسه على نفسه، فصار هناك شخصيتان: نفسٌ مقصِّرة ونفس متفوِّقة، يغار على نفسه المتفوِّقة من نفسه المتخلِّفة.
والغيرة أيضاً نوعان:
1- غيرة الحق تعالى على عبده .
2- وغيرة العبد لربِّه .
أما أن يغار ربُّه جلَّ جلاله على عبده، فهي أن لا يكون للخلق عبداً، أنت لله، فإذا كنتَ لغيره يغار عليك، قال تعالى:
﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) ﴾
أنت لله، فإذا كنت لغيره الله عز وجل يغار عليك، لذلك غيرة الله على عبده أن لا تكون للخلق عبداً، أما غيرة العبد لربِّه، هذه نوعان: غيرة من نفسه وغيرة من غيره، فالتي من نفسه أن لا يجعل شيئاً من أعماله وأقواله وأوقاته وأنفاسه لغير الله، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) ﴾
والتي من غيره يغضب إذا انتُهِكت محارمُ الله عز وجل, والمؤمن يرتجف إذا انتهكت محارم الله عز وجل، امرأة مستورة تُهان أو شيخ وقور يُهان.
غيرة الأنبياء على البشرية :
أيها الإخوة؛ الأنبياء والرسل من شدَّة غيرتهم على البشرية, كانوا يتألّمون أشدَّ الألم حينما لا يستجيب الناسُ لهم، قال تعالى:
﴿ طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) ﴾
من شدة غيرته على الخلق كان يتألَّم، قال تعالى:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) ﴾
كان منقبض الصدر، لأن أهل مكة منحرفون، وغارقون في الربا, والخمور, والزنا، ولا يعرفون اللهَ عز وجل، فكان في ضيق, فلما جاءه الوحيُ انشرح صدرُه، قال تعالى:
مثلاً: أمٌّ هيأتْ طعاماً نفيساً جداً، جاء ابنُها من المدرسة, فأكل أخشن طعام، جائع، تقول له: انتظر ربع ساعة تأكل أطيبَ الطعام لا يستجيب، أحياناً تذمُّه، وهذا حب ورحمة:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) ﴾
من شدة غيرة الله علينا:
﴿ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) ﴾
وما ذلك على الله بعزيز.
إخواننا الكرام؛ ورد عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ, مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ ))
والجهاد -كما هو مقرَّر عندنا- جهاد النفس والهوى، وهناك الجهاد الدعوي، والجهاد الدعوي مُتاح لكل مسلم، أن تجاهد الناس؛ أي أن تعلِّمهم القرآن، قال تعالى:
﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (52) ﴾
يخطر ببال أحدهم أن لا يقرب إنساناً ليهديه أو ينصحه، يقول: ادعهم وشأنهم فالناس لا خير فيهم.
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: إِذَا قَـالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ ، قَالَ أَبُو إِسْحَقَ: لا أَدْرِي أَهْلَكَهُمْ ))
ما خطر بباله أن يتكلَّم كلمة حق في مجلس, وما خطر بباله أن يسمع شريطاً لإنسان، وما خطر بباله أن يدلَّ إنساناً على مسجد فيه درس علم، هذا الذي لا يحدِّث نفسه في كل حياته أن يدلَّ إنسانا على الله يموت منافقاً.
ماذا تعني الغيرة ؟.
حقيقة الإيمان -أيها الإخوة-: ما إن تستقر في القلب حتى تعبِّر عن ذاتها بذاتها، بحركة نحو الخلف، لا يوجد إنسانٌ مؤمن منسحِب من الحياة, إنسان مؤمن متقوقِع، إنسان مؤمن سلبي، إنساني مؤمن بعيد عن هدي الآخرين, يقول: الناس ليس فيهم خير، الانسحاب وعدم الاهتمام بالآخرين, هذا يدلُّ على النفاق.
والجهاد كما ذُكِر: جهاد النفس والهوى أولاً، وثانياً: الجهاد الدعوي، ثالثاً: جهاد قتالي .
وإذا الجهاد القتالي اليوم غير متاح الآن, فالجهاد الدعوي ميسر لكل الناس، سمعت خطبةً انقلها للآخرين، سمعت درس علم، سمعت تفسير آية، سمعت قصَّة عن صحابي، سمعت حكماً شرعياً، سمعت طُرفةً عن عالم جليل تهزُّ المشاعر انقلها للآخرين, فهذا الذي لا يغار على عباد الله يموت منافقاً، فالغيرة من صفات الله عز وجل، ومن صفات الأنبياء والرسل، ومن صفات المؤمنين، والغيرة يعني الرحمة, والغيرة يعني الحبَّ، والغيرة يعني الحرص، قال تعالى:
﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) ﴾
غيرة المؤمن على وقته :
بقي موضوعٌ في الغيرة: أن المؤمن عنده حرصٌ بالغ على وقته, يغار أن يضيع وقتُه سدى، يغار أن تفوته طاعةٌ، يغار أن يمضي اليومُ دون أن يُرزق عملاً صالحاً يرقى به عند الله، هذه غيرة المؤمن, فلذلك الوقتُ أثمن عنده من كل شيء، لأنه هو وقت، وما الإنسان إلا بضعة أيام, كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه.
و الحمد لله رب العالمين