- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا لا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
منزلة اليوم : تعظيم الحرامات .
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثامن والستِّين من دروس مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ومنزلة اليوم: تعظيم الحرمات، قال تعالى:
﴿
أَيَّة منزلة من منازل مدارج السالكين وردت فيها آية أو حديث، هي منزلة، تعظيم حرمات الله منزلة من منازل مدارج السالكين.
الأصل أيها الإخوة؛ أن الإنسان إذا تعرَّف إلى الله وعرف طرفاً من جلاله، يجِلُّ أمره، و يجل نهيه، ويجل طاعته, ويجلُّ عباده المؤمنين, ويجل كلَّ شيء يتَّصل به، يجل المسجد ويجل المصحف، أيُّ إنسان, وأيُّ جهة, أو أيُّ كتاب يتَّصل بجلال الله عزَّ وجل يجلُّه، قال تعالى
ما هي حرمات الله؟ :
قال تعالى:
قال الليثُ -أحد العلماء-:
وقال عالم آخر:
وقال عالم ثالث:
وقال قوم:
والصواب:
عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(( إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ, وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ, وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ ))
مسلم متقدِّم في السن, وأمضى حياته في طاعة الله, يجب أن تجلَّه، يجب أن تحترمه, يجب أن تيسِّر له أمره ،
قال بعضهم: الحرمات تعمُّ هذا كلَّه، وهي جمع حرمة، وهو ما يجب احترامه وحفظه من الحقوق, والأشخاص, والأزمنة, والأماكن, والحقوق، فتعظيمها توفيتها حقَّها، وحفظها من الإضاعة، والخروج من حرج المخالفة, وجسارة الإقدام عليها, وبتعظيم الأمر والنهي خوفا من العقوبة, وطلبا للمثوبة، إنسان قويٌّ إذا أعطى توجيها يُنفَّذ بحذافيره خوفا من بطشه، وخالق الكون أعطاك أمرا وأعطاك نهيا، فكلما ازددت تمسكا بأمر الله, كان مقامك عند الله أعلى.
الآن : مَنْ قدوتنا؟
الأنبياء والمرسلون والصديِّقون؛ في دعائهم, وسؤالهم, والثناء عليهم بخوفهم من النار, ورجائهم للجنة، قال تعالى:
﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)﴾
الأنبياء والمرسلون سألوا اللهَ الجنة واستعاذوا به من النار، و أنا لا أرضى أن يقول قائل: أنا لا أرجو الجنة ولا أخشى النار، و لكن أعبد الله لأنه أهل للعبادة، هل هو فوق مقام الأنبياء؟ الأنبياء رجوا رحمته وخافوا من عذابه، و الأنبياء قمم البشرية، والذي يقع في قمة السُّلم؛ رجا ربَّه, ورجا الجنة, وخاف من النار.
لا ينبغي أن يقول إنسان ليس نبيًّا: أنا لا أعبد الله طمعا في جنته, ولا خوفا من ناره، و لكني أعبده لأنه أهل للعبادة، هذه مزايدة، فالأنبياء جميعا يدعون ربَّهم رغبا ورهبا، هذا هو القرآن وهذه هي السنة، والإنسان لا يمكن أن يكون أعبد من رسول الله، ولا أكثر قربا من رسول الله ..
منهج النبي عليه الصلاة والسلام بالحياة :
عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ:
(( جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا, فَقَالُوا: فأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا, وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ, وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ ولا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا, فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ, وَأَتْقَاكُمْ لَهُ, لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ, وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ, وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ, فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ))
فالمنهج الذي جاء به النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- كامل وتامٌّ، ولا تحتاج إلى منهج آخر، لذلك لا تفكِّر أن تنتقص من الدين شيئا، ولا أن تضيف عليه شـيئا، أيَّة إضافة وأيَّ إنقاص اتِّهامٌ للدين بالزيادة والنقص.
خواص خلقه أثنى الله عليهم بأحسن أعمالهم، وجعل من أعمالهم الطيبة أنهم استعاذوا به من النار، قال تعالى:
﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) ﴾
هذا الذي يدعو الله أن يصرف عنه عذاب جهنم: هو يعظِّم حرمات الله .
أيضا قوله تعالى:
﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) ﴾
سيدنا إبراهيم، قال تعالى:
﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) ﴾
أيها الإخوة الكرام؛ ما أدري ما السبب أن الإنسان يقرأ قصص الأنبياء في القرآن, ويقرأ مناجاتهم وأدعيتهم، يظن أنه لا علاقة له بهذا؟ هؤلاء الأنبياء قدوة لنا، كلامهم منهج، ودعاؤهم علم، موقفهم طريق إلى الها عز وجل، فأنا من أنصار أن كل آية فيها ذكر لنبيٍّ ينبغي أن تقف عندها، وأن تجعل هذا الموقف قدوة لك.
النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر أمَّته أن تسأله في وقت الإجابة عقيب الأذان، هذا الوقت هو وقت الإجابة ..
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِرَجُلٍ: مَا تَقُولُ فِي الصَّلاةِ؟ قَالَ: أَتَشَهَّدُ, ثُمَّ أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِهِ مِنْ النَّارِ, أَمَا وَاللَّهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ قَالَ حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ ))
وكان هناك كلام بين صحابيين لم يفهم منه شيئا، أنا لا أحسن دندنتك, فقال: أنا ومعاذ حولها ندندن ، في الصحيح من حديث الملائكة .
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ, فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ, تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ, قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا, قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بهم: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قال: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ, وَيُكَبِّرُونَكَ, وَيَحْمَدُونَكَ, وَيُمَجِّدُونَكَ, قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ, قَالَ: فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ, كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً, وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا, وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا, قَالَ: فيَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُون؟ قَالَ: يقولون: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ, قَالَ: فيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا, قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا, كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا, وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا, وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً, قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنْ النَّارِ, قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا, قَالَ: فيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا, وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً, قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ, قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلائِكَةِ: فِيهِمْ فُلانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ, إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ, قَالَ: هُمْ الْجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُم ))
يعني معقول إنسان ضائع شارد غافل ما سأل الله ولا مرة الجنة، ولا استعاذ به من النار ، أن يُعامل هذا العبد كعبد آخر ليل نهار, يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار؟ .
أيها الإخوة؛ هؤلاء الأنبياء والرسل في قصص القرآن التي ذكرت مواقفهم وأحوالهم وأدعيتهم واستعاذتهم ورجاءهم، وما جاء في السنة من وصف العباد المؤمنين ومواقفهم واستعاذتهم، منهجٌ لنا نحن المؤمنين.
هناك حقيقة أتمنى أن تكون واضحة لديكم:
إذا خلا القلبُ من ملاحظة الجنة والنار، ورجاء هذه والهرب من هذه، فترت عزيمتُه وضعفت همَّتُه، ووهى باعثُه، و كلما كان أشدَّ طلبا للجنة وعملا لها, كان الباعثُ أقوى.
وأنا أقول لك كلاما صريحا: أكبر باعث للعمل الصالح رجاءُ الجنة، وأكبر رادع عن المعصية خوفُ النار، و ما سوى ذلك كلامٌ لا معنى له.
يقولون: فلان عنده ضمير مسلكي يقظ، وفلان يخشى على سمعته، كلام لا طائل فيه، حينما تخلو له الفرصة يقتنصها, فأيُّ رادع غير رادع خوف النار رادعٌ وهميٌّ، وأيُّ باعث غير باعث الجنة باعثٌ خُلَّبي، الباعث الحقيقي أن ترجوَ جنة الله إلى الأبد، والرادع الحقيقي أن تخاف من النار، فلذلك: ما الذي يجعل المؤمن مقيَّدا؟ .
(( الإيمانُ قيد الفتك، ولا يفتك مؤمن. ))
لأنه يعلم علم اليقين أن الله كبير، وأن بطش الله شديد، وأن عذابه في الدنيا لا يُحتمل، وأن في الآخرة أشدُّ وأبقى، فالإنسان حينما يعلم ما عند الله من العقاب, وما يرجو من رحمته من ثواب, لاستقام على أمره، وإن أردتم, أضعكم مع حقائق تعيشونها جميعا:
إنسان أقوى منك إذا قال فعل، هل يمكن أن تقع تحت مخالفة أمره؟ إنسان عادي لكنه أقوى منك, بإمكانه أن يوقع بك الضررَ وهو مطَّلع عليك، فهل يمكن أن تعصيَه جهارا؟ هذا شأنك مع إنسان أقوى منك، فكيف شأنك مع الله جل جلاله؟ لذلك الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى- يقول:
طبيب نهاك عن أكل الملح، وحذَّرك من مغبَّة جلطة, وارتفاع ضغط, وتصلُّب شريان، تترك الملح كليًّا، الطبيب تحذيرُه مقبول عندك، والطبيب صادق وتأخذ بتوجيهه، وتنسى أن تأخذ التوجيه من الله عزوجل؟ .
إخواننا الكرام؛ هناك حقيقة أتمنى أن تكون واضحة لديكم:
الجنة التي ينبغي أن نسعى إليها ليست اسماً لمجرَّد الأشجار والفواكه، والطعام والشراب, والحور العين, والأنهار, والقصور، و كثر الناس يتوهَّمون في مسمَّى الجنة: أن الجنة اسم لدار النعيم، أي أن المكان جميل جدا، بساتين، أرض خضراء, وأشجار؛ قطوفها دانية، فيها حور عين, وولدان مخلدون، وفيها نهر من عسل مصفَّى، و فيها نهر من لبن لم يتغيَّر طعمه، وفيها ماء غير آسن، وفيها خمر لذَّة للشاربين، هذه جنة, ولكن ليست هي الجنة التي أطلقها الله على دار النعيم، هذه الجنة هذه المحسوسات، ما بين أنهار وأشجار, وحور عين, وولدان مخلَّدون, لكن الجنة التي أرادها الله فوق هذا؛ نظرٌ إلى وجه الله الكريم.
(( عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا, لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ, فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا, ثُمَّ قَرَأَ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ))
وقد ورد تفاصيل عن هذه الرؤيا:
أن المؤمن إذا نظر إلى وجه الله الكريم, يغيب من نشوة النظرة خمسين ألف عام، وهل هناك فوق ذلك؟ طبعا، لو دخلت بيتا وكان صاحب البيت له جمال أخَّاذ، فأنت جلست في مكان, متَّعت عينيك بجمال وجهه، شيء جيِّد، ولكن هناك مرتبة أعلى بكثير، أن يقف لك صاحب البيت, وأن يستقبلك بحرارة بالغة, وأن يدعوَك بأحب الأسماء إليك, وأن يرحِّب بك, وأن يقرِّبك من مجلسه, هذا هو التكريم الحقيقي، لذلك قال تعالى:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ
صار هناك مستوى محسوس؛ أنهار, وأشجار, وقطوف, وولدان, وحور عين, وأنهار من عسل مصفى, ولبن, وخمر, وماء غير آسن، هذا مستوى، ومستوى آخر: النظر إلى وجه الله الكريم، مستوى أعلى أن يرحِّب اللهُ بك، وأن يرضى عنك, وأن يقرِّبك، قال تعالى:
أخواننا الكرام؛ قال تعالى:
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) ﴾
اشترى بيتا بأحد شوارع دمشق الغالية جدا، البيت الطابق الثاني عشر، فيه شقَّتان، والبيتان مهيئان للسكن؛ كسَّر البلاط, وأزال النوافذ, وكسَّر المرافق العامة، وأعادها بتؤدَة وإتقان منقطع النظير، واستغرق العمل سنتين بالتمام والكمال، الوصف الذي سمعته لا يُصدَّق، طاولات من الرخام الشَّفاف، والإضاءة مخفية ثابتة, وبعد أن انتهى البيتُ بأيام معدودة جاءته المنيةُ، هذه هي الدنيا، ومثل هذه القصة تتكرَّر كثيرا، بيت لم يُسكَن، وزواج لم يتم، شهادة لم تحضَّر, سفر لم يعُد منه، دخل البيت ولم يخرج، خرج ولم يعُد, وسافر ولم يعد، قال تعالى:
﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ
ما خير بعده النارُ بخير، وما شرٌّ بعده الجنة بشر, وكلُّ نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية، وعزتي وجلالي, لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه, إلا ابتليتُه بكل سيئة كان عملَها سقما في جسده، أو إقتارا في رزقه, أو مصيبة في ماله أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذرِّ, فإذا بقي عليه شيء شدَّدتُ عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه.
بعض العلماء يتمثَّل هذا البيت، فقال:
قلـيل منكَ يكفيني ولكن قليلُك لا يُقال له قـليلُ
نظرة لله عز وجل تكفي الإنسان.
الآن:
في الدنيا -كلامي دقيق- في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنةَ الآخرة.
إنها جنة القُرب، اسعَ إليها، واللهِ الذي لا إله إلا هو, لو سعيتَ إليها, وذقتَ ومضة من ومضاتها ، واللهِ لتحتقرن نعيم الدنيا كلَّه، نعيم الدنيا كلُّه تحتقره أمام هذه الومضة، تجد إنسانا غارقاً في العمل الصالح، والجاهل يشفق عليه, نقول له: أشفِق على نفسك، هو غارق في سعادة لا توصف، المنهمك في عمل طيِّب, وفي عمل صالح, وفي عمل مخلِص لله عز وجل ، هذا سعادته في التعب، و شقاوته في الراحة، لو أرحتَه يتألَّم أشد الألم.
أيها الإخوة؛ هذا عن الجنة، فماذا عن النار؟ .
قال: وكذلك النار أعاذنا الله منها، فإن لأربابها من عذاب الحجاب عن الله.
الحقيقة: أشدُّ أنواع العذاب: أن يُحجَب الإنسانُ عن ربه، قال تعالى:
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ﴾
يقابل ذلك قوله تعالى:
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) ﴾
وجهٌ نضير متألِّق ينظر إلى الله عز وجل، ووجه عليه غبرة محجوب عن الله عز وجل، وجه ابيضَّ لعمله الطيَّب، ووجه اسودَّ لعمله السيّء.
قال: الحجاب عن الله, واستحقاق غضب الله, وسخط اللهو, والبلُعد عن الله, والطرد من رحمة الله, أعظم منة التهاب النار في أجساده.
ورد هذا الحديث:
(( إن العار ليلزم المرءَ يوم القيامة حتى يقول: يا رب, لإرسالُك بي إلى النار أيسر عليَّ مما ألقى، و إنه ليعلم ما فيها من شدة العذاب ))
العذاب الحسِّي، لهيبُ النار الذي يحرق الجلدَ, قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56)﴾
ومع ذلك: العذاب النفسي الحاصل من استحقاق النار ليس قليلا، فلذلك: النار اسم لمجوعة من العذابات بربِّكم، نأتي بمثل بسيط:
أنت مقدِم على زواج, ومعك فرضا حوالي ثلاثمائة ألف، ووجدت بيتـا بثلاثمائة ألف ضمن دمشق، فرضا؛ موقعه مناسب جدًّا، وأيُّ بيت آخر قيمته مليون، وذهبت إلى صاحب البيت لتشتريَه، وقال لك: واللهِ لقد بِعتُه لا تنام الليلَ، وما أحد ضربك, ولكنه شعور بالندم، أنت قصَّرت, كان لا بدَّ أن تتابعه قبل يومين، وكان لا بدَّ أن تسأل، فندم على فوات شراء بيت ، وندم على فوات الزواج بفتاة, يبقي صاحبه في ألم لا يُحتمَل, فكيف الندم على فوت الجنة و استحقاق النار؟
﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا
هناك عذاب نفسي، والعذاب النفسي بعضُه ندم، وبعضه حسرة، وبعضه خزيٌ, وبعضه عار, وبعضه أن هذا الذي استحقَّ دخول النار, استحقَّ غضب الله, وسخط الله, والبعد عن الله.
لذلك: مطلوب الأنبياء والمرسلين والصدِّيقين والشهداء والصالحين هو الجنة، ومهربُهم من النار، وخيرُ العباد من يريد اللهَ يريد ثوابه، وهؤلاء خواصُ خلقه، قال تعالى:
﴿
فالدار الآخرة؛ أي الجنة مطلوبة من قِبَل خواص خلقه:
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)﴾
فأخبر أن السعيَ المشكور: سعي من أراد الآخرة، وأبلغُ من هذا: قولُه لخواص أوليائه وهم أصحابُ نبيِّه -صلى الله عليه و سلم-:
﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ
فخواص خلقه أصحاب نبيِّه، يريد الآخرة، فإذًا: لا ضيرَ أن نرجوَ الجنة وأن نتعوَّذ من النار، وهذه مرتبة الأولياء والمرسلين.
أما الذي يقول: هذه الولية الصالحة التي قالت: أنا لا أعبدك طمعا في جنتك ولا خوفا من نارك، وإنما أعبدك لأنك أهل للعبادة.
نحن نأخذ ديننا من القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين، وأما هذه -رحمها الله وأكرمها الله, ولعله وليَّة حقا, ولعلها موصولة بالله-, ولكن هذه ليست مشرِّعة، نحن لا نعتقد العصمة إلا لرسول الله، هو المشرِّع, ونحسن الظنَّ بالمؤمنين، دون أن نعلِّق كبيرَ أهمِّية على أقوالهم، هم ليسوا مشرِّعين.
وهذا الذي ركب ناقته وحمل عليها زاده و شرابه، وجلس ليستريح من وعثاء السفر، أخذته سِنةٌ من النوم فأفاق فلم يجد الناقةَ، فأيقن بالهلاك قطعا، وصار يبكي ويبكي حتى نام مرة ثانية, فلما استيقظ رأى الناقةَ أمامه، من شدة الفرح اختل توازنُه ..
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ, مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ, وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا, فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا, قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ, فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ, إِذَا هـُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ, فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا, ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ, أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ ))
خيراً إن شاء الله، ونعذره، هل كلامه صحيح؟ أعوذ بالله، كلامه كفرٌ؛ ولكن قال بعض العلماء: ما كلُّ من وقع في الكفر وقع عليه الكفرُ.
من شدة الفرح اختل توازنه، قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. هذا لا نؤاخذه.
الآن: إذا إنسان آخر اختل توازنه, فتكلم بكلمات تخالف الكتاب والسنة, نرجو له الرحمة والمغفرة, ولعله أقربُ إلى الله منا, ولكن لا نأخذ بهذا الكلام، بل نأخذ بالقرآن والسنة, القرآن والسنة صرَّحا في آيات كثيرة جدا: أن خواص أوليائه, وخواص أصحاب نبيِّه, وأن أنبياءه وهم قمم البشر, سألوا اللهَ الجنة واستعاذوا به من النار، فهل يُعقل أن ياتيَ إنسان ليس رسولا ولا نبيًّا, ويتأبَّى أن يستعيذ بالله من النار وأن يسأله الجنة؟ بل هو فوق ذلك، يسأله النظر إلى وجهه الكريم، لا يعبده خوفا من ناره, ولا طمعا في جنته، و لكن يعبده لأنه أهل للعبادة، هذا كلام يخالف الكتاب والسنة، ونحن نرجو لصاحبه المغفرة والرحمة, ولعله لم يقُله أيضاً.
الخاتمة :
أختم هذا الدرسَ بهذه الحقيقة: لو أنك قرأتَ كلاما لعالم كبير يخالف الكتاب والسنة، ما موقفك؟
أول احتمال: أنه ما قاله، ودُسَّ عليه، وثاني احتمال: أنه قاله وما أراد المعنى الذي أنت فهمته منه، واحتمال ثالث: أنه قاله وأراد المعنى الذي فهمته منه, ولكن ترك هذا المعنى بعد حين، وتراجع عن هذا المعنى، والاحتمال الرابع: أنه قاله وأراد المعنى الذي فهمته ولم يتراجع عنه فهو مخطئ، وانتهى الأمر.
نحن عندنا رسول الله هو المعصوم وحده، النبيُّ وحده معصوم، أمَّته معصومة بمجموعها، النبي -عليه الصلاة والسلام- معصوم وحده، أمتُه بمجموعها، هذه عقيدتُنا: العصمة لرسول الله وحده، أما أمته بمجموعها معصومة، فإذا إنسان في ساعة من الساعات اختلَّ توازنه, وقال كلاما يخالف الكتاب والسنة, لعله ما قاله, ولعله قاله في ساعة غيبوبة، ليس مشرِّعا وليس حجةً, نحن منهجنا كتاب الله، ومنهجنا سنة رسول الله، ولا شيء غيرهما.
و الحمد لله رب العالمين