- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
منزلة استئناف التوبة.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا لا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تمهيد :
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السادس والستين من دروس مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، والمنزلة اليوم استئناف التوبة.
قد يتوهَّم الإنسانُ: أن المؤمن يتوب في حياته مرة واحدة، والحقيقة: إن المؤمن كثير التوبة, أي يتوب عند كل ذنب وقع فيه، وفي كل وقت, وفي كل مرحلة من مراحل حياته, حتى في نهاية حياته يتوب إلى الله تعالى، كلُّ هذا استنباطاً من قوله تعالى:
﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) ﴾
التوبة شيء واستئناف التوبة شيء آخر.
الإنسان لماذا يتوب؟ وقد يسأل سائل: لماذا تستغفر اللهَ عقب الصلاة؟
النبي -عليه الصلاة والسلام- عقب الصلوات الخمس كان يستغفر الله عز وجل.
قال بعض العلماء: الإنسان في أثناء الصلاة لعلَّه سها، لعله جاءه خاطرٌ لا علاقة له بالصلاة، لعله قصَّر في الركوع، لعله في السجود لم يكن ساجداً بقلبه قبل جسمه، أيُّ تقصير في الصلاة يُرمَّم بالاستغفار عقب الصلاة.
استئناف التوبة :
أيُّ مؤمن وفَّى ربَّه حقَّه؟ الله عز وجل أثنى على بعض الأنبياء وعلى رأسهم سيدنا إبراهيم، قال تعالى:
﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) ﴾
ولكن أنا كمؤمن هل وفَّيت؟ هل أدَّيت حقوق الله عز وجل كاملة؟ هل قدَّرت اللهَ حق قدره؟ هل كان اتِّصالي به اتصالا محكماً مكثَّفاً مركزاً؟ هل مع كان الاتصال شرود؟ هل كان مع الاستقامة عِوج؟ من هذا الذي أدَّى كلَّ ما عليه؟! من هذا الذي وصل إلى نهاية العبودية لله عز وجل؟ ما دام الإنسان مقصِّر, فعليه أن يتابع التوبة، الله عز وجل يقول:
﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) ﴾
لذلك قالوا: من منازل إياك نعبد وإياك نستعين: منزلة استنئناف التوبة, وهو تمكُّنٌ يؤدِّي إلى استئناف التوبة من التقصير, الذي رافق نزول المنازل السابقة, وجمع القلبَ على المعبود وحده، أي المنازل السابقة إذا كان فيها تقصير, فلا بدَّ من استئناف التوبة.
قال من مبرِّرات استئناف التوبة: حضُّ الهمَّة على تنفيذ أوامر الله في الخلق دعوةً و جهاداً، هل أدَّيت الواجب الدعوي تماماً؟ وهل جاهدت في الله حق الجهاد؟.
التوبة قال بعضُ العلماء: كما أنها بداية منازل السائرين, وأول مدارج السالكين, فإنها نهايةُ هؤلاء أيضاً.
كما أنها بداية منازل السائرين, وأول مدارج السالكين، هي في الحقيقة نهاية هذه المنازل، ولعل الإنسان ينفر من هذا غاية النفور، ويقول: هذا كلام من لم يعرف شيئاً في طريق القوم، ولا نزل في منازل الطريق، ولعمر الله إن كثيراً من الناس ليوافقك على هذا, ويقول: أين كنا؟ أي إذا واحد يحمل دكتوراه, سألته أنت: هل تقرأ وتكتب؟ طبعاً, سؤال غير مقبول, وغير معقول، ومرفوض، ما هذا السؤال؟ أنا أحمل دكتوراه، كيف أقرأ وأكتب؟ شيء بديهي، ولو قلت له: هل تقرأ ما بين السطور؟ اختلف السؤال، هل عندك الإمكان أن تستنبط ما بين السطور: البواعث والخلفيات والملابسات؟ نريد نحن أن تفهم النص فهماً عميقاً جداً.
مثلاً: الله عزوجل أنزل سورة:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3) ﴾
النبي -عليه الصلاة و السلام- فهم هذه السورة على أنها نعوتُه، إنها نعوةُ النبي, والأنبياء هممهم عالية جداً، مقاصدهم نبيلة جداً، أهدافهم كبيرة جداً، فإذا حققوا أهدافهم, فلا معنى لحياتهم
فأنت حينما تسأل إنساناً: هل تقرأ؟ أحمل دكتوراه في الآداب، ما هذا السؤال؟ المقصود: هل تقرأ ما بين السطور؟ هل تفهم النص فهماً عميقاً؟ أين كنا؟ أين صرنا؟ نحن قد قطعنا منزلة التوبة، وبيننا وبينها مائة عام، فنرجع من مائة مقام إليها, ونجعلها غاية مدارج السالكين.
الحقيقة: نقول لهذا السائل المنكِر: أن تكون التوبة نهاية مدارج السالكين، أن تكون التوبة نهاية آمال المؤمنين, نقول له: لا تعجل بالإنكار, ولا تبادر بالردِّ, وافتح ذهنك لمعرفة نفسك، وحقوق ربِّك، وما ينبغي لك منه، وما له من الحق عليك, ثم انسُب أعمالك وأحوالك, وتلك المنازل التي نزلتها, والمقامات التي كنت فيها لله وبالله إلى عظيم جلاله، أنسب هذه الأعمال إلى عظيم جلاله، وما يستحقه وما هو أهل, فإن رأيتها وافية لذلك مكافئة له, فلا حاجة لك حينئذ إلى التوبة, والرجوع إليها رجوع عن المقامات العليَّة.
تعليق الآن:
أنت وفَّيت اللهَ حقَّه، هل كنت تائباً حقيقة؟ هل كنت مستقيماً حقيقة؟ هل كنت مع الله في صلواتك حقيقة؟ هذه المنازل التي نزلتها وفَّيتها حقَّها؟ هل أدَّيت كل ما عليك؟ إن كنت كذلك, فلا حاجة لك إلى استئناف التوبة.
قال: إذا كان هناك تقصير, وهناك أحياناً إعجاب، مع عظيم جلال الله, أيُّ عمل لا يُعدُّ شيئا أمامه، لذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- حينما قال:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
كيف؟ عملك لا يكفي، مثل بسيط للتوضيح:
أنت دفعت ثمن مفتاح بيت، البيت ثمنه خمسون مليون، دفعت ثمن مفتاحه، وتوهَّمتَ أنك دفعت ثمنه، لا، كل عملك في الدنيا، وكل طاعتك لله، وكل عطائك للخلق، وكل جهادك واستشهادك لا يساوي ثمن مفتاح هذا البيت، أما البيت فهو فضل من الله عز وجل، أنت قدَّمت السبب ولم تقدِّم الثمن, أنا أستطيع أن أدخل بيتاً بمفتاح، والمفتاح سبب دخول البيت، لكن هذا المفتاح الذي ثمنه عشرون ليرة, لا يُعدُّ ثمناً لدخول البيت, البيت غال جداً، فأعمال الإنسان في الدنيا لا تساوي سبب دخول الجنة, قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ
أي بسبب من عملكم الصالح دخلتم الجنة، ولكن الجنة لم تدفعوا ثمنها, إنما قدَّمتم سبب دخولها فقط، إنها فضل من الله عز وجل.
أخواننا الكرام، لو تعمَّقنا قليلاً: كل إنسان يرى أن عمله كافٍ لدخول الجنة فهو مغترٌّ ، وقد يكون العملُ الصالح حجاباً بينك وبين الله.
نصيحة :
هناك أحد إخواننا كان يرأس جمعية خيرية، فرجل من المحسنين قدَّم بيتاً ليكون مقرًّا لنشاط طيِّب، ونشاط فيه نفع للأمة، أي مركز تأهيل الفتيات لحرفة تقيهن الفقر، فقدَّم بيتاً في حيٍّ من أحياء دمشق, ذات السعر المرتفع، أُقيم لهذا المحسن حفل تكريم، لأنه قدَّم هذا البيت، فأحد المتكلِّمين قال كلاماً عميقاً: طبعاً كلُّهم أثنى على هذا المحسن، على كرمه, وعلى جوده, وعلى عمله الطيب، إلا أن هذا الأخ قال لهذا المحسن: أيها الأخ الكريم, كان من الممكن أن تكون أحد المنتفعين من جمعيتنا، كان من الممكن أن تكون فقيراً، وتأتي إلى هذه الجمعية, كي نعطيك مساعدة شهرية، ولكن الله كرَّمك فجعلك غنيًّا, وقدَّمت هذا البيت، فاشكر الله على أنه مكَّنك أن تفعل هذا العمل الطيب.
فالإنسان أحياناً لضعف توحيده, يتوهَّم أن عمله كافٍ لدخول الجنة، لا, هذا العمل سبب، أما الجنة فهي فضل من الله عز وجل، لا تنالها إلا بفضل الله، عملك قد يكون سبباً.
مثلاً: لو أن أبًا قال لابنه: انجَح بدرجة عالية, ولك دراجة غالية جداً, أغلى دراجة، فهذا الابن لضيق أفقه, لما نجح بدرجة عالية, أخذ الجلاء, وتوجَّه إلى بائع الدراجات، وانتقى أعلى دراجة, وقال: أعطن هذه الدراجة, وهذا هو الجلاء، هل يعطيه إياها؟ الأب سيدفع الثمن، أما هذا فلا يعطيه إياها، فالإنسان أحيانا: ولو كان مستقيماً, ولو كان له عمل طيِّب, قد يكون هذا العمل الطيب لضعف توحيده حجابا بينه وبين الله، لذلك من مراتب الفناء: أن تغيب عن شهود عملك الصالح، وكل إنسان له عمل صالح ليشكر الله عز وجل، فاللهُ عز وجل سمح لك أن تكون محسناً، ومكَّنك في الدنيا, وأعطاك المال, وأعطاك طلاقة اللسان, وأعطاك علماً تنفقه مما علَّمك اللهُ، لذلك حينما تثني على إنسان, أنت في الحقيقة لا تثني عليه، وإنما تثني على الذي منحه هذه الميزات, ما مدحك من مدحك إلا بما منحك الله فيك، الذي مدحك لولا أن الله منحك لم يمدحك بما منحك، فالفضل لمن أعطاك، وأنت تستقبل العطاء.
استئناف التوبة :
أيها الإخوة؛ إن رأيت أضعاف أضعاف ما قمت به من صدق وإخلاص وإنابة وتوكل وزهد وعبادة، إن أضعاف أَضعاف ما قمت به من صدق وإخلاص وإنابة وتوكل وزهد وعبادة لا يفي بأيِّ حقِّ له عليك, ولا يكافئ نعمة من نعمه عندك، وإنما يستحقه لجلاله وعظمته, أعظم وأجلُّ وأكبر مما يقوم به الخلقُ، لذلك أنت ينبغي أن تستأنف التوبة، وأنا ما رأيت إنساناً معجباً بنفسه إلا وهو محجوب عن الله، والأنبياء الصادقون, والأولياء الكبار, هؤلاء كلما تفوَّقوا, ازدادوا شعوراً بفضل الله عز وجل، و كلما ازدادوا تفوُّقاً كلما ازدادوا إحساساً بفضل الله عز وجل، لذلك:
إذا أراد ربُّك إظهار فضله عليك خلق الفضل ونسبه إليك.
ما مدحك من مدحك إنما يمدح من منحك، الذي يمدحك لم يكن ليمدحك لولا أن الله قد منحك، منحك شيئاً ومكَّنك من شيء, فاستحققت عند الخلق المديح، أما عند الله فأنت مفتقر إليه، لذلك إذا قرأت قوله تعالى:
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
اعلم أيها الأخ الكريم:
أن التوبة نهاية كل عارف, وغاية كل سالك، وكما أنها لا بداية هي نهاية، والحاجة إليها في النهاية أشدُّ من الحاجة إليها في البداية، بل هي في النهاية في محلِّ الضرورة، أي في الإنسان لما ينجح ينتظره أخطبوط هو الغرور، والغرور أكبر مرض في الناجحين في الحياة، في كل المجالات، والغرور شعور أنك أنت شيء كبير، شيء عظيم.
سيدنا عمر كان على المنبر يخطب، قطع الخطبة, وقال كلاماً لا معنى له، قال: يا عمر, كنت راعي إبل, ترعى إبل بني مخزوم على قراريط في مكة -ما علاقة هذا الكلام بالخطبة؟ لم يفهم المسلمون هذا الكلام-, بعد انتهاء الخطبة, سـأله أبو ذر الغفاري -رحمه الله تعالى ورضي الله عنه-: يا أمير المؤمنين, ما هذا الذي قلته على المنبر؟ قال: جاءتني نفسي, فقالت: ليس بينك وبين الله أحد, -أي أنت نهاية المجتمع الإسلامي، أمير المؤمنين-, أردت أن أعرفها قدرها.
سيدنا عمر بن عبد العزيز, طلب من أحد كبار العلماء أن يلازمه، اسمه عمر بن مزاحم, قال له: يا عمر, إن رأيتني ضللت, فأمسكني من تلابيبي, وهُزَّني هزًّا شديداً, وقل لي : اتقِّ الله يا عمر فإنك ستموت.
إذا الواحد من أخواننا الكرام, اللهُ عز وجل وفَّقه في عمل صالح, في دعوة إلى الله, والتفَّ حوله الناسُ واستفادوا منه، إذا كان اغترَّ, ورأى هذا العمل من عمله, وتفوَّق به، فهو بعيد عن مقام التوحيد، ما مدحك من مدحك إلا بسبب من منحك, فالمديح لله عز وجل.
سيدنا الشافعي يقول: كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي.
لا تجد عالماً كبيراً إلا تراه متواضعاً، ولا تجد متكبِّراً إلا تراه جاهلاً, التكبر من صفات الجاهلين, والتواضع من صفات العلماء، فكلما تواضعت لله رفعك، أما إذا ارتفعت وضعك.
سيدنا أبو حنيفة رأى طفلاً أمام حفرة, قال له: إياك يا غلام أن تسقط -فكان هذا الطفل نبيهاً-, قال: بل إياك يا إمام أن تسقط, إني إن سقطت سقطت وحدي، وإنك إن سقطتَ سقط معك العالَم.
الله عز وجل خاطب رسوله الكريم في آخر حياته، فقال له:
﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً (80) ﴾
قد يقول أحدكم: لِمَ لم يقل الله عز وجل: رب اجعلني صادقاً؟ لكن هناك تفاصيل دقيقة: قد تدخل في عمل طيِّب صادقاً، ولا تخرج منه صادقاً, قد تؤسِّس عملاً صالحاً، عملاً طبِّياً، عملاً إحسانياً، إلى آخره، قد تعمل عملاً طيباً في بدايته, ولا تستطيع أن تتابع ذلك حتى نهايته، فلذلك -أيها الإخوة- العبرة: أن تخرج صادقاً، العبرة: أن تنتهي حياتك بصدق, هناك أعمال كثيرة طيبة تبدؤها صادقاً، ولا تنتهي منها صادقاً.
الله عز وجل أنزل هذه الآيات بعد غزوة تبوك، وهي آخر الغزوات التي غزاها صلى الله عليه وسلم بنفسه، فجعل اللهُ سبحانه وتعالى التوبةَ عليهم شكراناً لما تقدَّم من تلك الأعمال وذاك الجهاد، وقال تعالى في آخر ما أنزل على رسوله
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار:
في الصحيح: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُنْذُ نَزَلَ عَلَيْهِ
كلما قرأ هذه السورة، وكلما صلى صلاة, كان يقول:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ, مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ, ثُمَّ قَالَ:
وكان عليه الصلاة والسلام يختم كل عمل صالح بالاستغفار؛ الصوم والصلاة والحج والجهاد، فإنه كان إذا فرغ منه أشرف على المدينة يقول:
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ, يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الْأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ, ثُمَّ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ, لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ, وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ, آيِبُونَ تَائِبُونَ, عَابِدُونَ سَاجِدُونَ, لِرَبِّنَا حَامِدُونَ, صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ, وَنَصَرَ عَبْدَهُ, وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ))
كل عمل قد يكون فيه شيء، تعليم لنا، لعل في الصلاة تقصير، لعل في الصيام فيه تقصير، ولعل في الحج تقصير، لعل في هذه الصدقة أردتَ بها السمعة، لا يوجد عمل من أعمال البر إلا قد يشوبه شيءٌ.
فكان عليه الصلاة والسلام يستغفر الله عقب كل عبادة, وعقب كل عمل صالح, حتى الجهاد، إلى أين يذهب النبيُّ؟ إلى ساحة الجهاد، أعلى عبادة, والجود بالنفس أقصى غاية الجود، ومع ذلك حين العودة
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً (23) ﴾
(( عَنْ ثَوْبَانَ, عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي, يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا, فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا, قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا, جَلِّهِمْ لَنَا, أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ, وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ, قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ أخْوَانُكُمْ, وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ, وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ, وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ))
هذا الحديث يقسم الظهر، الذي إذا خلا مع نفسه ينتهك حرمات الله، وله سمعة طيبة جداً، هذا كل عمله لا قيمة له عند الله، لعل الله عز وجل يجعله هباء منثورا، فالإخلاصَ الإخلاصَ أيها الإخوة.
استئناف التوبة تحقيق للعبودية :
أيها الإخوة؛ استئناف التوبة فيه تحقيق للعبودية، لا يوجد إنسان أنا وصلت إلى مكان عالٍ واستغنى، أنت عبد لله دائماً في كل أحوالك, أنت في حالة العبودية، فاستئناف التوبة تحقيق العيودية, والقيام بأعبائها, واحتمال فرائضها, وسننها, وأدائها، والجهاد لأعداء الله، والدعوة إلى الله, والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, وتحمُّل الأذى من أمر الله, معرفة الأسماء والصفات, ومعرفة ما يحبه الله وما يكره, ومعرفة خير الخيرين، وشر الشرين, و العلم بمراتب العبودية ومنازلها، هذا كله مما يتحقَّق باستئناف التوبة.
درس اليوم دقيق: أول شيء تفعله: إذا أردت أن تصل إلى الله عليك أن تتوب، لكن هذه التوبة يجب أن تلازمك إلى نهاية حياتك، فالمؤمن كثير التوبة.
الله عز وجل شهد لإبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه، شهد له بأنه وفَّى، وأما سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه فإنه كمَّل مرتبة العبودية، فاستحقَّ التقديم على سائر الخلائق، فكان صاحب الوسيلة، كان عليه الصلاة و السلام يقول:
﴿ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ, أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ, ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ, فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا, ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ, فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ, لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ, وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ, فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ ﴾
فكان عليه الصلاة والسلام يقول: أنا لها، ولهذا ذكره الله سبحانه وتعالى بالعبودية في أعلى مقاماته، في أعلى مقام ناله النبيُّ وصفه أنه عبد لله، في أشرف أحواله وُصف بأنه عبد لله, فقال تعالى:
﴿
وقال تعالى:
﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) ﴾
وقوله تعالى:
﴿
وفي قوله:
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (1) ﴾
أيها الإخوة؛ معنى ذلك: أن الله عز وجل شهد لسيدنا إبراهيم خليل الرحمن أنه وفَّى، وذكر النبيَّ في أشرف أحواله ومقاماته بأنه عبد لله, وأنت لا تكون في حالة هي أرقى حالة على الإطلاق, حينما تكون عبداً لله.
الحال الذي حصل لمن قام بذلك, هو حال الأنبياء والرسل وخلفائهم, هو جمع الهمَّة لمن قام بذلك، محبة الله, والإنابة إليه, والتوكل عليه, والخوف منه, ورجاء رحمته, ومراقبته, وجمع الهمة على تنفيذ أوامر الله في الخلق دعوةً وجهاداً، فهما حالان؛ جمع القلب على المعبود وحده, وجمع الهمِّ له على محض عبوديته، هذا هو ما يعني استئناف التوبة.
أنت مخلوق للعبودية :
أيها الإخوة؛ نحن في مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، فكان القرآن كله جُمع في الفاتحة، والفاتحة جُمعت في:
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) ﴾
أي أنت مخلوق للعبودية. يقول الله عز وجل:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ﴾
علَّة وجودك على سطح الأرض أن تعبد الله، والعبادة كما كنت أقول دائماً: هي طاعة طوعية, ممزوجة بمحبَّة قلبية, أساسها معرفة يقينية, تُفضي إلى سعادة أبدية.
العبودية علة وجودك، وسبب وجودك, ونهاية المطاف أن تكون عبداً لله، قال تعالى:
﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
القلب عبادته الإخلاص، والجوارح عبادتها أن تنصاع إلى أمر الله تطبيقاً.
من لوازم العبودية :
وبالمناسبة: ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله بيده .
الشيء الأول :
فالتوحيد من لوازم العبودية، لا يمكن أن تعبده إذا توهمت أن في الأرض جهة قوية مصيرك بيدها، وهذا ما يحصل للناس كلهم, الآن بضعف إيمانه, وضعف توحيده, يرى أن هناك جهات قوية جداً بإمكانها أن تعطي أوتمنع، أن ترفع أو أن تخفض، فهذا الوهم يحول بينك وبين أن تعبد الله، لذلك هناك من يعصي الله إرضاءً للخلق.
من أرضى الناسَ بسخط الله, سخط اللهُ عنه وأسخط عليه الناسَ، ومن أرضى اللهَ بسخط الناس, رضي اللهُ عنه وأرضى عنه الناسَ.
الشيء الثاني :
ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله بيده, فالله عز وجل ربط التوحيد مع العبودية، لذلك قال:
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) ﴾
الشيء الثالث :
ما أمرك أن تستعين به إلا ليعينك, وما أمرك أن تدعوَه إلا ليستجيب لك، و ما أمرك أن تتوب إليه إلا ليتوب عليك، وإلا كلام الله لا معنى له، أمرك أن تتوب من أجل أن يتوب عليك, لذلك قالوا:
العبودية غاية الحب مع غاية الخضوع، فمن أحبَّ ولم يخضع ما عبد اللهَ:
تعصي الإلهَ و أنت تظهر حبَّه ذلك لعمري في المقال شنيــعُ
لو كان حبُّك صادقا لأطــعت إن المحبَّ لمن يحبُّ مطيـــعُ
يحب الله كثير التوبة .
أيها الإخوة الكرام؛ الله جل جلاله يحبُّ التوابين, ويحب المتطهرين, والمؤمن مذنب توَّاب ، والتوَّاب أي كثير التوبة، وليس لنا إلا التوبة, لو أن الإنسان زلَّت قدمُه, ماذا يفعل؟ ولو أنه فعل الذنبَ االذي تاب منه قبل وقت، ماذا يفعل؟ ليس له إلا التوبة، ولو أن الله أغلق باب التوبة لهلك الخلقُ، ولكن رحمة الله عز وجل تتمثَّل في دعوتنا إلى التوبة إليه, قال تعالى:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) ﴾
لو جئتني بملء السموات والأرض خطايا غفرتها لك ولا أبالي، قال تعالى:
﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) ﴾
فليجعل المؤمنُ همَّه التوبة ، ولكن الله عز وجل وصف المؤمنين:
﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) ﴾
لا يدعون مسافة زمنية طويلة بين الذنب وبين التوبة, الإنسان إذا استمرَّ على الذنب, قسا قلبُه, وقد يصبح منافقاً، قال تعالى:
﴿
فالعبرة في الإنسان أن يتوب من قريب, وأن يكثر التوبة إلى الله عز وجل.
آخر مشكلة:
إنسان وقع في ذنب وتاب منه، التوبة سهلة، لو وقع فيه ثانية أصعب، ماذا يفعل؟ يضيف إلى التوبة عملاً صالحاً، لقوله تعالى:
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ
ففي المرة الثانية يُفضَّل أن تدعم التوبة بعمل صالح، بصدقة, أو بصيام, أو بعمل صالح معيَّن، العبرة أن تكون متابعاً لأحوال قلبك، قال تعالى:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) ﴾
و الحمد لله رب العالمين