- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
منزلة الاجتباء :
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس والستين من دروس مدارج السالكين، في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ومنزلة اليوم هي الاجتباء، وقد سمعتم قبل قليل في سورة يوسف:
﴿
الاجتباء منزلة من منازل مدارج السالكين, في إياك نعبد وإياك نستعين، الحقيقة: هذه المنزلة منزلة خاصة جداً، يبلغها المؤمن متى بلغ ذروة الإيمان، فللإيمان ذروة.
كيف أن الطالب أحياناً ينال وثيقة إتمام المرحلة الابتدائية، ثم ينال الشهادة الإعدادية، ثم ينال الشهادة الثانوية، ثم يحصل على إجازة باختصاص معين، ثم هناك دبلوم عامة في هذا الاختصاص، ثم هناك دبلوم خاصة، ثم هناك ماجستير، ثم هناك دكتوراه، وفي أعلى من دكتوراه، دكتوراه دولة، وفي أعلى من دكتوراه دولة, أن يمنح بعض الألقاب العلمية الخاصة جداً.
فإذا بلغ المؤمن ذروة الإيمان, يجتبيه الله عز وجل, ويصطفيه, ويجذبه إليه، المقياس عند الله دقيق جداً، يعني لا يمكن أن يجتبي مؤمناً إلا إذا كان كاملاً، إلا إذا كان مخلصاً، إلا إذا كان ورعاً، إلا إذا كان مستقيماً، إلا إذا كان محباً، إلا إذا كان منضبطاً، إلا إذا كان محسناً, إلا إذا كان منصفاً، إلا إذا كان رحيماً، مرتبة عالية جداً, أن يجتبيك الله عز وجل.
ورد في بعض الأحاديث أنه: إذا أحب الله عبده ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن شكر اغتناه .
قال صاحب المدارج: وقد استبد الأنبياء عليهم السلام بهذه المنزلة، احتكروها، وكادوا أن يحتكروها، وشغلوا محلها وفناءها, إلا حيزاً قليلاً جداً, أخلاه الله تعالى، ووقفه، وادخره، ليهبه ثلة من المؤمنين، في كل جيل يصدقونه الحب فيحبهم، ويريدونه فيريدهم, من أحبنا أحببناه، ومن طلب منا أعطيناه، ومن اكتفى بنا عن مالنا, كنا له ومالنا.
المحبة تحتاج إلى دليل؟ :
مراتب محبة الله عز وجل مراتب عالية جداً، وهذا الحب يحتاج إلى دليل, والله سبحانه وتعالى لم يقبل دعوة محبته من دون دليل, قال:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) ﴾
دعوة المحبة تحتاج إلى دليل، وأن تحب الله عز وجل هذه أعلى مرتبة تنالها في حياتك.
مرة سمعت أحد الدعاة في عقد قران, يذكر حديث الرسول -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, حينما قال: والله يا معاذ إني لأحبك.
ما رأيت في الأرض من آدم إلى يوم القيامة مرتبة أعلى من هذه المرتبة، أن يحبك رسول الله، ومحبة رسول الله عين محبة الله، ومحبة الله تترجم بمحبة رسول الله، والدليل قوله تعالى:
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ
بضمير المفرد، قال علماء التفسير: إرضاء رسول الله عين إرضاء الله، وإرضاء الله عين إرضاء رسول الله.
وبالمقابل: محبة رسول الله لك عين محبة الله، ومحبة الله لك عين محبة رسول الله.
كنت أضرب مثلاً: أن الداعية الصادق، أو ولي الله عز وجل, الذين قال الله عنهم:
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) ﴾
هذا الولي يشبه لوحاً من البللور المتقن, لشدة صفائه ونظافته ودقة صنعه، لا تراه أبداً، ترى ما خلفه، إذا اجتزت ممشى, بابه بللور, نظيف نظافة بالغة, تظن الممشى سالكاً, لا باب يحجزه، لشدة صفاء البللور ونقائه واستقامته واستوائه، كأنه غير موجود، و يجب أن نعلم علم اليقين: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لشدة اتصاله بالله وإنكاره لذاته، كل أقواله وأفعاله تعبر عن الحقيقة لا عن ذاته، عن الحقيقة:
﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) ﴾لذلك في آخر الزمان قال الله عز وجل:
﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)﴾
قلة، هذا الذي اختار الله ورسوله ......
سيدنا الصديق خرج من ماله خمس مرات كلياً، قال:
إذا الإنسان وصل إلى محبة الله، وإلى القرب منه، ما فاته من الدنيا شيء:
يا رب ماذا فقد من وجدك, وماذا وجد من فقدك؟.
من اجتباء الأنبياء:
أن الله تعالى ألقى إلى نبيه محمد -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كتابه، اجتباه بهذا الكتاب، وخصه بكرامته، وأهله لحمل رسالته، وأنعم عليه بنبوته، من غير أن يكون ذلك منه على رجاء.
هنا في نقطة دقيقة جداً, يجب أن توضح: النبوة هبة من الله، لكن بلا سبب, بلا مؤهلات, مستحيل، والدليل:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ﴾
لماذا اصطفاهم؟ في بالنبوة جانب وهبي.
يعني لما الدولة تعين سفيراً, تعطيه جواز سفر دبلوماسي، تعطيه حقيبة ممنوع فتحها، تعطيه مبالغ طائلة, ينفقها بمعرفته بحكمته في تلك البلاد، تعطيه كتاب اعتماد، يقدمه لرئيس البلد الذي سيعمل فيه, حتى تعطيه جهاز اتصال ليس له علاقة بشبكة الهواتف هناك، هذه الميزات كلها يأخذها السفير هبة، لكن السؤال: كيف اختير هذا السفير؛ من عامة الناس؟ من صفوف الجهلة؟ من صفوف الأغبياء؟ مستحيل، في اصطفاء لعلم، لثقافة، لخبرة، لحنكة، لتفوق دراسي, لطلاقه في اللسان، لقوة في شخصيته، لوسامة في منظره، لعراقة في نسبه، هذا يمثل أمة.
أضرب مثالاً لأوضح لكم توضيحاً فقط: إذا قلنا فلان سفير هذه الدولة، يعني في ملكات خاصة فيه، ذكاؤه الفطري, ذكاؤه التحصيلي، ذكاؤه الاجتماعي، مع طلاقة لسانه، مع إتقانه لعدة لغات، مع أصالته، مع حسن سياسته، مع حكمته, مع أفقه الواسع، مع حسن تخلصه بالمواقف الحرجة، هذه كلها صفات فيه من أجلها اختارته الدولة، ومن بعد أن اختير لهذه المهمة, يعطى جواز السفر الدبلوماسي, يعطى الحقيبة الدبلوماسية، يعطى الاتصال المباشر، يعطى المبالغ الطائلة, ففي جانب كسبي، وفي جانب وهبي، وهذا ما أراه والله أعلم أن في النبوة جانباً كسبياً، وجانباً وهبياً، الرسالة هبة من الله، والنبوة هبة، والكتاب هبة، والمعجزات هبة، والعصمة هبة، أما من النبي الحب والإخلاص، ومجاهدة النفس والهوى، وإنكار الذات، وحب الخلق، وخدمة الخلق، لذلك:
﴿ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ (86) ﴾
طبعاً: النبي ما أراد أن يكون نبياً، ولكن تفتت كبده واحترق قلبه على ضلال الناس، فلما أرسله الله نبياً، وحمله الرسالة انشرح صدره، لأنه رأى الطريق إلى هداية الخلق:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) ﴾
في آية قرآنية، يقول الله عز وجل مخاطباً سيدنا موسى عليه السلام:
﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) ﴾
يجب أن تهتز مشاعرك إذا قرأت هذه الآية، الله عز وجل يختص أناساً لخدمة الخلق، إمكاناته، قدراته، وحركاته، وسكناته, وليله، ونهاره، وماله، وعضلاته، وخبرته، وعلمه في سبيل الله, نذر نفسه ليكون في خدمة الخلق, لعل الله يرضى عنه، فهناك من يعمل هذا, ومنها أنه اصطفى موسى واستخلصه لنفسه.
يعني حينما قال الله عز وجل لسيدنا موسى, حينما كلمه:
﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) ﴾
سؤال يحير: أيعقل أن الله عز وجل لا يعلم ما بيمينه؟ لماذا يسأله؟ لما سأل الله عز وجل, سيدنا موسى طار فرحاً, أراد أن يطيل الجواب كي ينعم بهذا الكلام مع الله عز وجل, قال:
﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) ﴾
ثم استحى، قال: ولي فيها مآرب أخرى, يعني يا رب إن سمحت لي أن أتابع سأتابع، وتقول لي: يا موسى, وما هذه المآرب؟ لكن الذي حصل: أن الله أراد أن يلفت نظر هذا النبي الكريم إلى أن هذه التي بيدك عصا، انتبه، دقق، بعد حين سوف تكون حية، حينما كان وحده, جعلها الله حية تسعى، أما حينما كان مع السحرة، وبين جمهور غفير, والإنسان مع الناس يستأنس:
﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) ﴾
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) ﴾
يعني الإنسان يخاطب من قبل خالق الأكوان: ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ) هذا اجتباء, أن يكلمك الله عز وجل طبعاً للأنبياء فقط هذا اجتباء، أن يؤتيك الله المعجزات هذا اجتباء, أن يؤتيك الله ذاكرة لا تنسى:
﴿
هذا اجتباء الأنبياء؛ اجتباهم بالنبوة، واجتباهم بالرسالة, واجتباهم بالمعجزات، واجتباهم بالكتاب، واجتباهم بالدعاء المستجاب, واجتباهم بالنصر.
النبي يقينه بالنصر كيقينه بوجوده، والدليل:
حينما وصل كفار قريش إلى غار ثور, قال سيدنا الصديق: يا رسول الله لقد رأونا، قال: يا أبا بكر, ألم تقرأ قوله تعالى:
﴿ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا
وحينما كان في الهجرة وأهدر دمه، ووضعت ألف ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، وتبعه سراقة ليقتله، قال: يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟
واثق من النصر عليه الصلاة والسلام، وحينما عاد من مكة إلى الطائف وقد خذله أهلها، وكفروا بدعوته، وسخروا منه, وبالغوا في إيذائه، قال له سيدنا زيد: كيف تعود إلى مكة وقد أخرجتك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله ناصر نبيه.
أيها الإخوة؛ هذا الاجتباء، لو أردنا أن ننزل قليلاً ...
﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ
إذا أخلصت لله, جعل الله قلوب المؤمنين, تهفو إليك بالمودة والرحمة، وإذا لم تكن على ما ينبغي, ألقى الله في قلب الخلق بغضك.
أحياناً تجد إنساناً محبوباً جداً، وآخر غير محبوب، هذه المحبة من خلق الله عز وجل:
﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي * اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ﴾
ربنا عز وجل اصطفى سيدنا موسى واستخلصه لنفسه، وجعله خالصاً له من غير سبب, كان لموسى ولا وسيلة، لكن بأهلية حتى تكون دقيقاً، من غير سبب منه، ولا وسيلة، لكن بأهلية، فإنه خرج ليقتبس النار, فخرج يقتبس النار, فرجع وهو كليم الواحد القهار، لذلك قالوا:
كن لي ما لا ترجو أرجى لما ترجو.
إنسان أصابه البرد الشديد, رأى عن بعد ناراً, فقال:
﴿ إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً
هو ذهب ليأخذ قبساً من النار، فكان كليم الواحد الديان، هذا الشيء بحياة المؤمنين وارد، سافر إلى بلد للتجارة, يهتدي بهذه البلدة على يد أحد العلماء, لينتقل من حال إلى حال، وأحياناً لأسباب صغيرة جداً، فالإنسان ينبغي أن يرجو رحمة الله:
وسيدنا موسى أكبر شاهد، يعني الله عز وجل جعله كليمه، مع أنه كان ذاهباً ليأخذ قبساً من النار.
عرض نفسك لرحمة الله لا تدري متى يفتح الله عليك .
بعضهم قال: أيها العبد:
كن لما لــــــــــــست ترجو من صلاح أرجى لما أنت راجٍ
ان موسى أتى ليقبس ناراً من ضــــــــياء رآه والليل داجٍ
فانثنى راجعاً وقد كلمه الله ونــاجــاه وهو خيــــــــرُ مناجٍ
يعني لا تعلم متى الله عز وجل يفتح عليك، كن ملازماً لأسباب الفتح، عرض نفسك لرحمة الله، لا تدري متى يفتح الله عليك, أخذه من نفسه، واصطنعه لنفسه، واختاره من بين العالمين, وخصه بكلامه.
هل يتفاوت الأنبياء في منزلة الاجتباء عند الله؟.
قال: والأنبياء -عليهم السلام- يتفاوتون في ذلك تفاوت أتباعهم, فمن ذلك: قصة موسى حين ألقى الألواح، وجر بلحية أخيه, وهو نبي مثله, ولم يعاتبه الله على ذلك، كما عاتب آدم -عليه السلام- في أكل لقمة من الشجرة.
يعني أحياناً يكون الدافع نبيلاً جداً، وقد يرتكب خطأ, ووراءه هذا الدافع النبيل, فالله عز وجل طليق الإرادة قد يعفو، يعني قد يقدر هذا الدافع النبيل، أما لعامة المؤمنين العمل لا يقبل إلا إذا كان خالصاً وصواباً؛ خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة.
من أنواع الاجتباء لغير الأنبياء .
الآن: غير الأنبياء كيف يجتبون؟
قال من أنواع الاجتباء لهم:
أن يعصم الله عبده, وهو مستشرف للجفاء اضطراراً, لتنغيص الشهوات، وتعويق الملاذ، وسد مسالك العطب عليه إكراماً.
المؤمنون درجة ثانية سائر بطريق غير صحيح، يريد شيئاً لا يرقى به عند الله, فربنا عز وجل يفسد عليه هدفه، وهذا الإفساد لهدفه من الاجتباء، له عمل بالتعليم، تمنى مثلاً أن يكون مضيفاً بالطائرة، هو يطير، يوم بدمشق، يوم بلندن، يوم بباريس، في جو غير مريح دنياً أحياناً.
يعني في تفلت في العواصم الأجنبية بالفنادق, فربنا عز وجل لم يسمح له بذلك, أفسد عليه خطته، هذا اجتباء، خاف عليه من الهبوط، فلم يسمح له أن يصل إلى هدفه، هذا اجتباء، أن يعصم الله عبده, وهو مستشرف للجفاء اضطراراً, لتنغيص الشهوات، وتعويق الملاذ، وسد مسالك العطب عليه، إنسان ماشي بطريق يؤدي به إلى غلط، فعندما أغلق الله عليه هذا الطريق، فقد اجتباه.
تفصيل آخر: العبد الصادق إذا استشرفت نفسه للجفاء بينه وبين الله تعالى، يعني بدأ بعمل يوسع الهوة بينه وبين الله تعالى، بدأ بعمل يبعده عن الله تعالى، بدأ بعمل يحجبه عن الله تعالى، بدأ بعمل لا يرضي الله تعالى.
فقال: إذا استشرفت نفسه للجفاء بينه وبين الله تعالى.
كيف؟ بموافقة شهواته في لحظة غفلة, عصمه الله اضطراراً، بأن ينغص عليه بعض الشهوات.
حدثني أخ ذاهب إلى مكان ليأخذ قسطاً من المتعة، ليس لديه ورع زائد، فشعر بآلام في ظهره, فسأل الطبيب, قال له: ورم خبيث بالنخاع الشوكي، فارتمى أرضاً، وقطع رحلته، وعاد إلى بلده ليصطلح مع الله, فالله عز وجل نغص عليه هذه الرحلة بهذا الخبر السيء، وبعد أن استقر به المقام في بلده، وبعد أن اصطلح مع الله, تبين أن التشخيص لم يكن صحيحاً, اجتباه وحفظه، عصمه.
إذا واحد حرم من شيء, لا يصب نقمته على إنسان، لعل الله عز وجل لا يريد هذا المسعى, ولا هذا المسلك، ولا هذا الطريق، ولا هذه التجارة، ولا هذا السفر، ولا هذه الدراسة ، ولا هذا اللقاء، ولا هذا الاحتفال، طبعاً: اجتباء الأنبياء بالنبوة، والرسالة، والكتاب، والمعجزة، والكرامة، أما اجتباء المؤمنين أحياناً: بتنغيص أهدافهم التي لا تقربهم من الله عز وجل.
هذا ما تفوق به النبي عن سائر الأنبياء .
أيها الإخوة الكرام؛ النبي -عليه الصلاة والسلام- أكمل من اجتباه الله عز وجل من الأنبياء، لقد أقسم بعمره الثمين، فقال تعالى:
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) ﴾
سيدنا موسى كان في مظهر الجلال، ولهذا كانت شريعته شريعة جلال وقهر، وكان من أعظم خلق الله هيبة ووقاراً، وأشدهم بأساً وغضباً لله تعالى، وبطشاً بأعداء الله، وكان سيدنا عيسى -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- في مظهر الجمال، وكانت شريعته شريعة فضل وإحسان، فكان لا يقاتل، بل إنه يحرم في دينه القتال، والإنجيل يأمرهم:
من لطمك على خدك الأيمن, فأدر له خدك الأيسر، ومن نازعك ثوبك أعطه رداءك، ومن سخرك ميلاً فامش معه ميلين.
أما نبينا -عليه الصلاة والسلام- فكان في مظهر الكمال، في جلال، وفي جمال والكمال يجمع بينهما:
﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) ﴾
فقد جمع بين قوة العدل وقوة الإحسان، جمع بين اللين والرأفة والرحمة، وبين القوة والبأس والعزة، فهو نبي الكمال، وشريعته شريعة الكمال، وأمته أكمل الأمم، أمته إن استجابت لله عز وجل فهي أكمل الأمم، وإن لم تستجب فهي كأي أمة أخرى، لا ميزة لها إطلاقاً:
﴿
وأحوال أمته ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات، لذلك اتصفت شريعته إيجاباً له وفرضاً، وبالفضل ندباً له واستحباباً، العدل قسري والإحسان طوعي، هكذا شريعة الكمال، والشدة في موضع الشدة:
﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ
واللين في موضع اللين:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
وضع السيف في موضعه، ووضع الندى في موضعه، يذكر هذا الدين العظيم الظلم ويحرمه، ويذكر العدل ويوجبه، ويذكر الفضل ويندب إليه:
﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) ﴾
هذا إيجاب للعدل، شريعة وسطية، متوازنة، متماسكة, متكاملة:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
لك أن تأخذ رأس مالك إذا كنت قد أخطأت في الربا:
﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) ﴾
ما تميزت به أمة محمد عليه الصلاة والسلام .
أيها الإخوة الكرام؛ أمة محمد -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمة كاملة في الأصل، وشريعتها كاملة، ونبيها سيد الأنبياء والمرسلين، هذا إن استجابوا لله والرسول, أما إن لم يستجيبوا شأنهم كأية أمة أخرى، حرم عليهم كل خبيث وضار, أباح لهم كل طيب ونافع، فتحريمه عليهم رحمة، وعلى من قبلهم, لم يخل من عقوبة:
﴿
الله حرم على اليهود الطيبات لأنهم ظلموا، أما عندنا في شريعتنا: ما حُرم علينا إلا الخبائث وأحلت لنا الطيبات.
قال بعض العلماء: كان لهذه الأمة العظيمة من المحاسن ما فرقه في الأمم قبلهم، كما كمل لنبيهم من المحاسن ما فرقه بين الأنبياء قبله, وكمل لهم من المحاسن ما فرقها في الكتب قبله، وهذه هي شريعته، ثم في النهاية: أمة محمد -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي استجابت لله اجتباها الله:
﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ
﴿
الخلاصة .
أيها الإخوة؛ مرتبة الاجتباء مثل ما بدأت الدرس, إذا في شيء اسمه وثيقة تحصيل، إتمام مرحلة ابتدائية، أقل شهادة في بلدنا، بعدها إعدادي, ثانوي، جامعة، دبلوم عام، دبلوم خاص، ماجستير, دكتوراه, دكتوراه دولة، بعد ذلك في مراتب علمية عالية جداً، جائزة نوبل مثلاً, أو بورد، أو إف آر إس، أكريجه، هذه كلها مراتب تفوق الدكتوراه, لاجتباء مرتبة عالية جداً.
يعني لا يصل إليها إلا من بلغ قمة الإيمان، إلا من بلغ ذروة الإيمان، وإذا وصلت إلى هذه المرتبة, فحدث ولا حرج, عن دعائك المستجاب, وعن توفيق الله لك، وعن إجراء الخير على يديك، وعن القرب من الله عز وجل، هذا الذي وصل إلى الله عز وجل, وصل إلى كل شيء:
فَلَيتَكَ تَحلو وَالحَياةُ مَريرَةٌ
وَلَيتَكَ تَرضى وَالأَنامُ غِضابُ
وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِرٌ
وَبَيني وَبَينَ العالَمينَ خَرابُ
إِذا نِلتُ مِنكَ الوُدَّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ
وَكُلُّ الَّذي فَوقَ التُرابِ تُرابِ
والإنسان -أيها الإخوة- إذا طلب الاجتباء نجا، أما إذا طلب النجاة لا ينجو، كالطالب تماماً إذا طلب التفوق ينجح، أما إذا طلب النجاح فقط في الأعم الأغلب لا ينجح، يقول: يكفيني خمسين درجة, يكفيني أربعين درجة، يكفيني أخذ مساعدة، هنا يصبح في ترميم للعلامة، هنا في مساعدة عامة لا ينجح، إذا متعلق بالوسط لا ينجح، أما إذا أراد التفوق قد ينجح، فنحن إذا طلبنا الاجتباء, لعلنا ننجو من عذاب الله عز وجل.
و الحمد لله رب العالمين