وضع داكن
18-04-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 064 - التواضع
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا و زدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

منزلة التواضع .


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع والستين من دروس مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، والمنزلة اليوم منزلة التواضع .

 

الآيات الدالة على التواضع :


قال تعالى: 

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً (63) ﴾

[ سورة الفرقان ]

أي في سكينة ووقار, متواضعين غير متكبرين, ولا مرحين.

قال الإمام الحسن: هم العلماء الحلماء . 

وقال بعضهم: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون وإن سفه عليهم الآخرون.

أيها الإخوة؛ ( يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ) الهَون الرفق واللين، والهُون هو الهوان والذل، فالمفتوح صفة أهل الإيمان، والمضموم صفة أهل الكفران، وجزاؤهم من الله النيران، أهل الكبر ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ) .

آية ثانية:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)﴾

[ سورة المائدة ]

صفة أهل الإيمان: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، في حال التخلف يصبح المؤمنون أذلاء أمام أعدائهم, متكبرين على أبناء جلدتهم.

أيها الإخوة؛ هذا الذل الذي وصف الله به المؤمنين أذلة على المؤمنين، قالوا: هذا ذل الرحمة، والعطف، والشفقة.

كيف أن الأم من شدة عطفها على ابنها, ومن شدة الرحمة التي تملأ قلبها, تضعف أمام ابنها، تستجيب له؟ فهذا ذل العطف والرحمة والشفقة والإخبات، عدي هذا الفعل بعلى, ليشير إلى هذه المعاني، أشفق عليه, أذلة على المؤمنين, يعني مشفقين على المؤمنين، رحماء بالمؤمنين، خاضعين للمؤمنين، قولاً واحداً لم يرد الله بهذا الذل الذي وصف به المؤمنين, أن يكون ذل الهوان الذي صاحبه ذليل، إنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول، أرأيت إلى دقة اللغة؟ أذلة على المؤمنين، مفرد الأذلة ذلول, أما أذلة على المؤمنين مفرد آخر هو الذليل.

أذلة على المؤمنين جمع ذلول، فالمؤمن سهل الانقياد، تقول مثلاً: بلابل جمع بلبل، وبلابل جمع بلبلة، وشتان بين المعنيين, البلابل جمع بلبلة, الاضطراب، الفوضى، والبلبل جمعه بلابل، وهذه الصفة أذلة جمع ذلول لا جمع ذَليل، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين.

ورد في الحديث الصحيح: أن المؤمن كالجمل الذلول، انقياده سهل, لين العريكة، يألف ويؤلف.

المؤمن كالجمل الذلول, والمنافق والفاسق ذَليل.

طبعاً: يقوي هذا الحديث أن المـؤمن يألف ويؤلف، هين لين وهكذا, من لوازم الكذاب ، والنمام، والبخيل، والجبار: الذل، المؤمن ذلول, لكن الكذاب والبخيل والنمام والجبار, لا بد أن ينتهي به تجبره وكذبه ونقله للأحاديث وبخله إلى الذل.

أعزة على الكافرين: هو من عزة القوة والمنعة والغلبة.

وقال عطاء -رضي الله عنه-: للمؤمنين كالوالد لولده، وعلى الكافرين كالسبع على فريسته .

إذا أنت احترمت مبتدعاً فقد هدمت الدين، إنسان مبتدع، إنسان فاسق، إنسان كافر، إنسان يستهزئ بالدين, ينبغي أن تكون شديداً عليه.

إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق.

ومن عظم صاحب بدعة فقد عمل على هدم الدين.

صاحب البدعة لا يعظم ولا يبجل ولا يحترم، وقد قال الله عز وجل في آية أخرى:

﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)﴾

[ سورة الفتح ]

 

الأحاديث الدالة على التواضع : 


وفي صحيح مسلم ، عَنْ قَتَادَةَ, وَزَادَ فِيهِ: 

(( وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا, حَتَّى لا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ, وَلا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ)   ))

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ, عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: 

(( لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ  ))

عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ, قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:

((  أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ  ))

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: 

(( احْتَجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ, فَقَالَتِ الْجَنَّةُ: يَا رَبِّ, مَا لِي لا يَدْخُلُنِي إِلا فُقَرَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ؟ وَقَالَتِ النَّارُ: مَا لِي لا يَدْخُلُنِي إِلا الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ؟ فَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ, وَقَالَ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ, وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا, فَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُنْشِئُ لَهَا مَا يَشَاءُ, وَأَمَّا النَّارُ فَيُلْقَوْنَ فِيهَا, وَتَقُولُ: ( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) حَتَّى يَضَعَ قَدَمَهُ فِيهَا, فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ, وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ قَطْ ))

لا بـد من تعليق حول هذا الحديث: النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:

(( الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ, وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ ))

[ أخرجه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]

فالنبي -عليه الصلاة والسلام- أثنى على المؤمن القوي، والنبي أيضاً أثنى على الضعفاء والمساكين، قال عليه الصلاة والسلام:

(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ, لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ؟ ))

[ أخرجه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ]

كيف نجمع بين الحديثين؟ نجمع بينهما في أنه: إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله ينبغي أن تكون قوياً، وإذا كان طريق الغنى سالكاً وفق منهج الله ينبغي أن تكون غنياً، وإذا كان طريق أن تكون في منصب رفيع سالكاً وفق منهج الله ينبغي أن تكون في هذا المنصب الرفيع، لأن المؤمن القوي بماله أو بعلمه أو بمنصبه خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف، لأنه أقدر على فعل الخير، ولأن الخيارات أمامه كثيرة جداً، ولأنه يستطيع أن ينقذ الآخرين، فماذا يعني أن يثني النبي -صلى الله عليه وسلم- على الضعيف والمسكين؟.

قال علماء الحديث: حينما يكون طريق القوة الوحيد هو المعصية, فالضعف وسام شرف، وحينما يكون طريق الغنى الوحيد أكل أموال الناس بالباطل, فالفقر وسام شرف، وحينما يكون طريق القوة الوحيد: أن تكون منافقاً, أو أن تقول كلاماً لا يرضي الله, فأن تكون ضعيفاً هو وسام شرف لك، فلذلك إذا كان الطريق سالكاً وفق منهج الله كن قوياً, أما إذا كان الطريق ليست سالكةً إلا بمخالفة منهج الله فأنعم بالفقر والضعف.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, قَالَ سُفْيَانُ أَوَّلَ مَرَّةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ أَعَادَهُ, فَقَالَ الأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: 

(( الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعِزَّةُ إِزَارِي, فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أُلْقِيهِ فِي النَّارِ  ))

عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: 

(( لا يَزَالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُكْتَبَ فِي الْجَبَّارِينَ فَيُصِيبُهُ مَا أَصَابَهُمْ ))

[ أخرجه الترمذي ]

مرة ذكرت مثلاً طريفاً: إذا جاءك ضيوف كثر, وما عندك شيء تقدمه لهم إلا قليلاً من اللبن, يمكن أن تضيف له خمسة أمثال ماء, وأن تجعله شراباً سائغاً طعمه، لكن هذه الكمية من اللبن يفسدها نقطة من النفط، أما لو أضفت إليها خمسة أمثال من الماء لا تفسدها، فالكبر كنقطة النفط إذا دخلت كيان إنسان حجبته عن الله عز وجل.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ, عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: 

(( لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حبة مِنْ كِبْرٍ, قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً, قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ, الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ))

[ أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي ]

و:

العزة إزاري، والكبرياء ردائي, فمن نازعني واحداً منهما عذَّبته، ولا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في ديوان الجبارين فيصيبه ما أصابهم 


تواضعه صلى الله عليه وسلم .


وكان عليه الصلاة والسلام من شدة تواضعه يمر على الصبيان فيسلم عليهم.

وقد قرأت في السنة أيضاً: أنه كان يسابقهم أحياناً.

وقد قرأت أيضاً في السنة: أنه كان يدعو بعض الصبيان لركوب جمله, ليدخل على قلبهم الفرح.

وكانت الأمة -أي البنت الصغيرة- تأخذ بيده -صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت من شدة تواضعه.

وكان عليه الصلاة والسلام إذا أكل, لعق أصابعه الثلاث تواضعاً لله عز وجل.

وكان عليه الصلاة والسلام يكون في بيته في خدمة أهله ولم يكن ينتقم لنفسه قط.

وكان عليه الصلاة والسلام يخصف نعله, ويرقع ثوبه, ويحلب الشاة لأهله، ويعلف البعير، ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم، ويبدأ من لقيه بالسلام, ويجيب دعوة من دعاه, ولو إلى أيسر شيء إلى خل, قال: نعم الإدام الخل.

وكان صلى الله عليه وسلم هين المؤونة، لين الخلق، كريم الطبع, جميل المعاشرة، طلق الوجه بساماً، متواضعاً من غير ذلة، جواداً من غير سرف، رقيق القلب، رحيماً بكل مسلم، خافض الجناح للمؤمنين، لين الجانب لهم.

وكان صلى الله عليه وسلَّم يقول:

(( أَلا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ, أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ ))

[  أخرجه الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ]

عَنْ جَابِرٍ قَالَ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: 

(( غَفَرَ اللَّهُ لِرَجُلٍ كَانَ قَبْلَكُمْ, كَانَ سَهْلاً إِذَا بَاعَ, سَهْلاً إِذَا اشْتَرَى, سَهْلاً إِذَا اقْتَضَى ))

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: 

(( لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ, وَلَوْ دُعِيتُ عَلَيْهِ لأَجَبْتُ  ))

[ أخرجه الترمذي ]

يعني قدم واحد، أرأيت إلى هذا التواضع. 

(( وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُودُ الْمَرِيضَ, وَيَشْهَدُ الْجَنَازَةَ, وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ, وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ, وَكَانَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ, بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ, عَلَيْهِ إِكَافٌ مِنْ لِيفٍ  ))

[ أخرجه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ]

هذه بعض صفات النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتواضع. 


علامة التواضع :


سئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق، وينقاد له, ويقبله ممن قاله .

سيدنا عمر بن عبد العزيز اختار عالماً جليلاً, ورجاه أن يكون معه, وقال له: إذا رأيتني ضللت, فأمسكني من تلابيبي أمام الناس, وهزني هزاً شديداً, وقل لي: اتق الله يا عمر فإنك ستموت.

دخلنا الآن في التفاصيل، علامة التواضع: أن تنقاد للحق, وأن تخضع له، وأن تقبله ممن قاله, ولو كان صغيراً.

أبو حنيفة النعمان قال لغلام: يا غلام إياك أن تسقط، فقال الغلام: بل إياك يا إمام أن تسقط, إني إن سقطت سقطت وحدي, وإنك إن سقطت سقط معك العالم.

وقيل: التواضع أن لا ترى لنفسك قيمة, فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب .

الجنيد يقول: التواضع هو خفض الجناح ولين الجانب . قال تعالى:

﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24) ﴾

[ سورة الإسراء ]

وقال ابن عطاء الله السكندري: هو قبول الحق ممن كان, والعز في التواضع, فمن طلبه في الكبر, فهو كمن طلب الماء من النار.

لا يمكن أن يطلب التواضع في الكبر، الكبر مهلكة، الشرف في التواضع, والعز في التقوى، والحرية في القناعة. 


تواضع الصحابة :


وقال عروة بن الزبير -رضي الله عنهما-: رأيت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على عاتقه قربة ماء, فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا، فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين, دخلت نفسي نخوة, أردت أن أكسرها.

أمير المؤمنين, أعلى إنسان في الجزيرة, خليفة المسلمين, ليس بينه وبين الله أحد، جاءته الوفود من كل جانب, تواضعت له وخضعت, فخاف على نفسـه, فحمل قربة ماء على عاتقه أمـام النـاس.

ومرة كان يخطب قطع الخطبة, وقال: يا بن الخطاب! كنت ترعى غنيمات على قراريط لبني مخزوم -ما فهم أصحابه ماذا يعني بهذا الكلام؟ قطع الخطبة كما تقطع الأخبار, وتأتي الإعلانات مثلاً- وجاء بهذا النص، قال له بعض أصحابه بعد انتهاء الخطبة: ماذا قلت يا أمير المؤمنين؟ قال: جاءتني نفسي, وقالت لي: ليس بينك وبين الله أحد -يعني أعلى إنسان - أردت أن أعرفها قدرها، يا بن الخطاب كنت ترعى غنيمات على قراريط لبني مخزوم.

ومرة قال: كنت عميراً، فصرت عمراً، فأصبحت أمير المؤمنين.

ومر الحسن على صبيان معهم كسر خبز, فاستضافوه -سيدنا الحسن مع أطفال خبز يابس- فنزل, وأكل معهم, ثم حملهم إلى منزله, فأطعمهم وكساهم، وقال: اليد لهم -الفضل لهم-, لأنهم لا يجدون شيئاً غير ما أطعموني, ونحن نجد أكثر مما أطعمناهم.

ويروى أن أبا ذر -رضي الله عنه- في ساعة من الساعات عير بلالاً, وقال له: يا بن السوداء، ثم ندم, فألقى بنفسه على الأرض, وحلف, لا رفعت رأسي حتى يطأ بلال خدي بقدمه، فلم يرفع رأسه حتى فعل بلال.

سيدنا أبو ذر الصحابي الجليل القرشي وقع على الأرض ووطئ بلال خده.

وقال بعض من عاصر عمر بن عبد العزيز: قومت ثياب عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- وهو يخطب باثني عشر درهماً, وكانت قباءً، وعمامةً، وقميصاً، وسراويل، ورداءً، وخفين، وقلنسوة.

سيدنا عمر بن عبد العزيز, له ابن اشترى خاتماً بألف درهم, فكتب إليه أبوه: بلغني أنك اشتريت فصاً بألف درهم, فإذا أتاك كتابي هذا, فبع الخاتم, وأشبع به ألف بطن.

اليوم عقد قران في فندق خمس نجوم, يحتاج أموالاً كثيرة، عقد كلف خمسة وثمانين مليوناً، كم بطن يشبع؟ كم وجبة طعام تقدم؟ الوجبة بمئة ليرة, عد كم شاب يتزوج؟.

قال له: فبع الخاتم وأشبع به ألف بطن، واتخذ خاتماً بدرهمين, واجعل فصه حديداً صينياً, واكتب عليه: رحم الله امرأ عرف قدر نفسه, والله أعلم.

 

روح التواضع :


لا زلنا في التواضع، روح التواضع: أن يتواضع العبد لصولة الحق, بأن يتلقى سلطان الحق بالخضوع له, والذل والانقياد, والدخول تحت رقه, بحيث يكون الحق متصرفاً فيه تصرف المالك في مملكته، فبهذا يحصل العبد خلق التواضع، ولهذا فسر النبي الكبر بضده فقال: 

(( الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ  ))

[ أخرجه  مسلم في الصحيح والترمذي وأبو داود ]

بطر الحق رده وجحده، وغمط الناس احتقارهم وازدراؤهم, ومتى احتقرهم وازدراهم, دفع حقوقهم وجحدها واستهان بها, مجتمع الكفر والفسق والفجور، القوي له صولة, وأنداده لهم صولة، إذاً يصطدمون، قال تعالى:

﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) ﴾

[ سورة الحشر ]

 

ما يتعلق بالتواضع :

 

 

   أول شيء : التواضع للدين .

يا أيها الإخوة؛ بدأنا ندخل في أدق التفاصيل، قال: التواضع للدين: وهو أن لا يعارض بمعقول منقولاً.

يعني يوجد نص ثابت صحيح عن رسول الله, تقول غير معقول، معنى هذا: أنك متكبر، إذا ثبت لك هذا النص, ثبت عن رسول الله تشمئز, وتقول غير معقول، فالنبي لا يقول هذا الكلام، لا يقبله منطق، لا يقبله عقل, أنت متكبر، التواضع للدين ألا يعارض بمعقول منقولاً، ولا يتهم للدين دليلاً، ولا يرى إلى الخلاف سبيلاً، هذا التواضع.

التواضع للدين: الانقياد لما جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام-, والاستسلام له, والإذعان له , وذلك بثلاثة أشياء, فقال الأول: ألا يعارض شيئاً مما جاء به بشيء من المعارضات الأربع السارية في العالم المسماة: بالمعقول، والقياس، والذوق، والسياسة.

فالأول للمنحرفين من أهل الكبر من المتكلمين الذين عارضوا نصوص الوحي بمعقولاتهم الفاسدة.

وقالوا: إذا تعارض العقل والنقل, -أنا أقول: قدمنا النقل, لأن الدين في الأصل نقل، وقد يقصر عقلي عن فهم النقل، أما هؤلاء العقلانيون، هؤلاء المتكلمون يقولون-: 

إذا تعارض العقل والنقل, قدمنا العقل وعزلنا النقل.

هؤلاء متكبرون يعبدون عقولهم من دون الله، فإذا شيء ما راق لهم رفضوه واعتمدوا عقلهم كأداة معرفة يقينية، الذي يعتمد على عقله ولا يعبأ بالوحي هذا متكبر, وهناك متكبرون من المنتسبين إلى الفقه، فإذا تعارض القياس والرأي والنصوص قدموا القياس على النص.

والفئة الثالثة: المنتسبون إلى علم القلوب والزهد، إذا تعارض عندهم الذوق والأمر, قدموا الذوق والحال, ولم يعبؤوا بالأمر.

والفئة الأخيرة: المتكبرون المنحرفون من الولاة والأمراء, إذا تعارضت عندهم الشريعة والسياسة, قدموا السياسة ولم يلتفتوا إلى حكم الشريعة.

يوجد متكلمون، متفيقهون، متصوفون، ولاة وأمراء، الأولون يقدمون عقولهم على النص ، والفئــة الثانية تقدم القياس على النص, والفئة الثالثة تقدم الذوق على النص، والفئة الرابعة تقدم السياسة على النص.

أولاً: التواضع للدين. 

الشيء الثاني: ألا يتهم دليلاً من أدلة الدين, 

بحيث يظنه فاسد الدلالة، أو ناقص الدلالة أو قاصرها، أو أن غيره كان أولى منه.

يقول لك: ليس في الإسلام ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي، لا يوجد ولا قاعدة اقتصادية في الإسلام، يتهم الدين كله, أن الدين يخلو من نظام اقتصادي، مع أن نظام الزكاة، نظام الصدقات، التكافل الاجتماعي، نظام الإنفاق، يكتب مجلدات على النظام الاقتصادي في الإسلام.

قال: وما اتهم أحد دليلاً للدين, إلا كان المتهم هو الفاسد, الذهن المأفون في عقله وذهنه ، فالآفة من الذهن العليم لا في الدليل نفسه.

قال: إذا رأيت من أدلة الدين ما يشكل عليك, وينبو فهمك عنه, فاعلم أنه لعظمته وشرفه استعصى عليك, وأن تحته كنزاً من كنوز العلم, ولم تؤت مفاتحه بعد هذا في حق نفسك - يعني إذا شيء ما فهمته, قد يكون هذا لقصر في ذهنك لا لضعف في الشيء-والنصيحة: أن تتهم آراء الرجال على نصوص الوحي, وليكن ردها أيسر شيء عليك, فإن لم تفعل ذلك فلست على شيء.

الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى وقدس روحه- قال: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, لم يحل له أن يدعها لقول أحد.

الشيء الثاني: أن لا تتهم دليلاً من أدلة الدين. 

الشيء الثالث: ألا يجد إلى خلاف النص سبيلاً البتة، 

لا بباطنه, ولا بلسانه، ولا بفعله، ولا بحاله.

 

الخلاصة :


أيها الإخوة؛ من علامات التواضع: أن تكون متبعاً لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكل من خالف سنة رسول الله لقول متبوعه، أو شيخه, أو مقلده، أو لرأيه، أو لمعقوله، أو لذوقه، أو لسياسته، فهو ممن اتسم بالكبر، الذي يقدم سياسته، أو ذوقه، أو عقله، أو رأيه، أو يقلد شيخاً، أو مقلداً، أو متبوعاً, ويخالف السنة, فهو ليس من التواضع في شيء.

التواضـع الانقياد للحق.

سيدنا الصديق في أول خطبة خطبها, قال: إنما أنا متبع ولست بمبتدع ، قال تعالى:

﴿ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)﴾

[ سورة الأحقاف ]

تلك مقولة سيد الخلق وحبيب الحق، فالاتباع هو دليل التواضع، والتأبي وعدم الاتباع، وتحكيم العقل في النقل، وتغليب الذوق والحال, وتغليب قول إنسان دون رسول الله، وتغليب قياس أو فكرةٍ, من يفعل هذا, فقد ابتعد عن التواضع, واتصف بنوع من أنواع الكبر، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.

وأحياناً الله عز وجل لحكمة يريدها: يأمرك بعبادة قد لا تفهم معناها، أو يأمرك بشيء يستعصي فهمه عليك, فهذا امتحان تعبد لله عز وجل، فأي شيء أمرنا الله به نطبقه, ولكن حينما نقبل على تطبيق أمر, دون أن نفقه حكمته, نجحنا في امتحان العبودية لله، فإذا فعلنا هذا, تفضل الله علينا, وكشف الحكمة, فجمعنا بين العبادة والعلم، ونرجو الله تعالى أن نكون ممن تواضع لله عز وجل حتى يرفعنا الله عز وجل، ومن تواضع لله رفعه.

و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور