وضع داكن
03-12-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 056 - الذوق - 1 حال من ذاق حلاوة الإيمان
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

منزلة الذوق .


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.   

 

تمهيد :


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس السادس والخمسين من دروس مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، والمنزلة اليوم: منزلة الذوق, تنطلق هذه المنزلة من قوله تعالى:

﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) ﴾

[ سورة الحجرات ]

في الدين حقيقة يدركها العقل، وفي الدين طعم يذوقه القلب, فالذي يشد الناس إلى الدين ليست حقائقه الناصعة فحسب، بل الذي يشد الناس إلى الدين هذا الشعور الذي يغمر القلب حينما يتصل بالله عز وجل، لأن في الإنسان جانباً عقلياً، وجانباً جسمياً، وجانباً نفسياً، فالجانب العقلي غذاؤه العلم، والجانب الجسمي غذاؤه الطعام والشراب، والجانب النفسي غذاؤه الحب، الاتصال بالله، السكينة, التجلي، أن يمتلئ القلب ثقةً بما عند الله، أن يمتلئ غنى، أن يمتلئ طمأنينة، سعادة، سمها سكينةً، سمها قرباً، سمها تجلياً، سمها اتصالاً، سمها أنساً، هذه كلها أسماء لمسمى واحد وهي الذوق.

(( عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:  ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا, وَبِالإِسْلامِ دِينًا, وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً ))

[ أخرجه مسلم في الصحيح والترمذي في سننه ]

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم, عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا, وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ, وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ  ))

 

منزلة اليوم: منزلة الذوق .


قد تعتقد، قد تفكر، قد تحاكم، قد تتخذ قراراً، هذا كله نشاط عقلي, أما حينما تتصل وينغمر القلب بمشاعر لا توصف, دخلت في مرحلة الذوق.

أيها الإخوة  مرةً ثانية: الذي يشد الإنسان إلى الدين ليس ما في الدين من حقائق ناصعة، في الدين حقائق ناصعة، في الدين تفسير دقيق للكون وللحياة وللإنسان، الدين أعطاك تفسيراً منطقياً، تفسيراً متكاملاً, تفسيراً متماسكاً، تفسيراً عميقاً، تفسيراً مقبولاً، تفسيراً ينسجم مع معطيات الإنسان، ولكن الذي يشدك إلى الدين ليس هذا التفسير الناصع، الواضح، العميق، المتناسق، القوي فحسب، بل الذي يشدك إلى الدين حلاوة الإيمان, هذا الذي عبر عنه بعض الشعراء:

فلو شــاهدت عيناك من حسننا      الذي رأوه لمــــا وليت عنا لغيـرنا

ولو سمعـت أذناك حسن خطابنا       خلــعت ثيـــاب العجب عنك وجئتنا

ولو ذقــت من طعم المحبة ذرةً       عـذرت الـــذي أضحى قتيلاً بـحبنا

ولو نســـمـت من قربنا لك نسـمة      لمــت غريباً واشـتياقاً لقــربنـــــــا

ولو لاح مــن أنـوارنا لك لائح           تـركـت جـميـع الكائـنات لأجـلـنا

أن تشعر بقربك من الله، الله عز وجل مصدر الأنس، مصدر الرضا، مصدر السعادة، مصدر الجمال، مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى, فإذا أحب الله عبداً منحه خلقاً حسناً، فمرتبة الذوق أن تذوق من خلال إيمانك حلاوة الإيمان.

الذي ذاق حلاوة الإيمان قيل له: أتحب أن يكون محمد مكانك؟ وكان على وشك أن يقتل صلباً, ذاك خبيب بن عدي رضي الله عنه، ألقى عليه القبض كفار قريش, وأرادوا أن يقتلوه صلباً، سألوه قبل أن يقتلوه: أتحب أن يكون محمد مكانك وأنت معافى في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن أكون في أهلي وولدي وعندي عافية الدنيا ونعيمها ويصاب رسول الله بشوكة.

التي ذاقت حلاوة الإيمان, بلغها أن النبي قد قتل في أحد، فانطلقت إلى ساحة المعركة, فإذا أبوها مقتول، قالت: ما فعل رسول الله؟ فإذا أخوها مقتول، قالت: ما فعل رسول الله؟ فإذا ابنها مقتول, قالت: ما فعل رسول الله؟ فإذا زوجها مقتول، أبوها، وأخوها, وابنها، وزوجها، إلى أن وقعت عينها على شخص النبي عليه الصلاة والسلام فاطمأنت، وقالت: يا رسول الله! كل مصيبة بعدك جلل.

تهون, هذه ذاقت حلاوة الإيمان.

الصحابة الكرام ذاقوا حلاوة الإيمان, فبذلوا الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، كما قال بعض العاشقين:

فليتك تحـلو والحـياة مريرةٌ       وليتك ترضى والأنام غـضاب

وليت الذي بيني وبينـك عامر    وبيني وبين العالمين خــراب

وليت شرابي من ودادك سـائغ      وشربي من ماء الفرات سراب

هذا حال من ذاق طعم الإيمان، الذي يذوق طعم الإيمان لو تقطعه إرباً إرباً لا يتزحزح .

وضعوا على صدر سيدنا بلال صخرةً ليكفر, فما زاد عن أن قال: أحد أحد فرد صمد.

الإنسان حينما يذوق حلاوة الإيمان يفعل المعجزات، أما إذا بقي في الأفكار، الأفكار لا تقدم ولا تؤخر.

إذا أنت اعتقدت أن لهذا الكون إلهاً، ماذا فعلت؟ ما فعلت شيئاً وهو كذلك، لو اعتقدت العكس لاتهمت في عقلك، أما حينما تبذل، حينما تعطي، حينما توظف طاقاتكم وإمكاناتكم في سبيل الله، عندئذٍ تتصل، وإذا اتصلت ذقت حلاوة الإيمان، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (( ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا, وَبِالإِسْلامِ دِينًا, وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً )) للإيمان طعم، وإن القلب إذا ذاق هذا الطعم فلن يعجبه شيء بعد ذلك.

من عرف الله زهد فيما سواه.

أهل الدنيا في الوحول يصطرعـون، وأهل الإيمان في جنات القربات يحلقون، والدعاء الذي يدعوه بعضهم: 

الحمد لله الذي أخرجنا من ظلمات الجهل والوهن إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

هرقل ملك الروم الذي عاصر النبي عليه الصلاة والسلام، سأل أبا سفيان: هل يرتد أحد منهم سخطةً لدينه؟ فقال: لا، كذلك الإيمان إذا خالطت حلاوته بشاشة القلوب، إذا دخل الإيمان إلى القلب أنت إنسان آخر, يسعدك أن تعطي لا أن تأخذ عكس الناس، يسعدك أن تقدم جهدك للآخرين لا أن تأخذ جهدهم، يسعدك أن تكون أقل الناس شأناً وأحظاهم عند الله عز وجل.

أيها الإخوة ؛ حلاوة الإيمان لا يعرفها إلا من ذاقها، وحينما تصل إلى حلاوة الإيمان, كأن موضوع الأخذ والرد مع النفس ينتهي، الإنسان قبل أن يذوق حلاوة الإيمان, تأمره نفسه فيردعها، يصطرع معها، يغلبها وتغلبه، يقودها وتقوده، هذا الصراع المستمر بين الإنسان ونفسه, ينتهي حينما يذوق حلاوة الإيمان.

يعني مثلاً: إنسان نزل في البحر في أجمل أوقاته، وفي أجمل حالاته، مياه صافية زرقاء, دافئة الموج, هادئ البحر, كصفحة الظل، المناظر جميلة, وهو مغمور في مياه البحر، والبحر محيط به من كل جانب, هل يحتاج إلى دليل أنه في البحر؟.

يا إمام متى كان الله؟ فقال: ومتى لم يكن؟ أحوال العاشقين, أحوال المحبين شيء آخر في الدين، أنت حينما تحب الله عز وجل, لو أردت أن تزيل جبلاً من مكانه لزال. 

لله رجال إذا أرادوا أراد.

يعني مستجابو الدعوة، يعني هم حينما اقتربوا من الله, اقتربوا من مصدر القوة، قوي بالله.

 

قصة أرويها لكم دائماً:


لما الإمام الحسن البصري أدى رسالة العلم, فبين بعض الحقائق في عهد الحجاج, فغضب الحجاج, وقال لجلسائه: والله لأروينكم من دمه يا جبناء، وأمر بقتله ، وجاء بالسياف, ومد النطع, وطلب الحسن البصري ليقتل، دخل الحسن البصري إلى مجلس سيقتل فيه, فإذا به يحرك شفتيه, ويتكلم كلاماً لم يفهمه أحد، يناجي ربه, فإذا بالحجاج يقف له، يقول له: أهلاً بأبي سعيد, أنت سيد العلماء، وما زال يدنيه إلى أن أجلسه على سريره, وتأدب معه، وسأله، واستفتاه، وتذكر القصة: أنه عطره وضيفه وشيعه إلى باب القصر، والسياف واقف ينظر، -هو جيء به ليقطع رأسه بعد دقائق، والنطع مد-، فلما خرج أبو سعيد تبعه الحاجب, وقال: يا أبا سعيد, لقد جيء بك لغير ما فعل فيك, فماذا قلت لربك؟ قال: قلت لله عز وجل: يا ملاذي عند كربتي، يا مؤنسي في وحشتي, اجعل نقمته علي برداً وسلاماً كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم, فما كان من الحجاج, وهو الذي حمله غضبه على أن يقتله إلى أن أصبح موالياً له.

كن مع الله تــــرى الله معك     واترك الكـــل وحاذر طمعك

وإذا أعـطـاك مـن يـمـنعـه     ثم مـن يعطي إذا مـا منعك؟

إذا كنت مع الله سخر الله لك عدوك ليخدمك، وإذا ابتعدت عن الله تنكر لك أقرب الناس إليك، لذلك قالوا: حلاوة الإيمان هي التي تشد الإنسان إلى الدين, وبالنهاية يوجد أقوياء وأنبياء ، الأقوياء ملكوا الرقاب بقوتهم، والأنبياء ملكوا القلوب بكمالهم، والناس جميعاً تبعاً لقوي أو لنبي، فالذي يتبع القوي يخضع الناس بقوته، والذي يتبع النبي يملك قلوب الناس بكماله.

 

علامات الذي يذوق حلاوة الإيمان : 


الإنسان إذا ذاق حلاوة الإيمان, يبتعد عن الآمال, ويتجه إلى الأعمال .

كل إنسان يعيش في الأمل، يتمنى ويتأمل ولا يعمل, ما ذاق حلاوة الإيمان، إنسان فتح محلاً تجارياً, متوقع ربحاً في اليوم عشرة آلاف, باع بمئتي ألف، من اليوم الثاني لا يغيب أبداً, يأتي باكراً، أول من يفتح المحل، يعتني لما ذاق الغلة الكبيرة، هذا الذي ذاقه من الربح الوفير, حمله على المتابعة، أما إذا فتح المحل ولا يوجد ولا مشترٍ، من اليوم الثاني يقول: أنا متعب، لا يهمه المحل فتح أو ما فتح، يقول: لا يوجد شغل, السوق بارد، إذا إنسان ما ذاق لا يتابع، من علامة الذي يذوق حلاوة الإيمان: أنه يتابع, وكل إنسان يقوم إلى الصلاة كسلان, يؤدي العبادات بتثاقل، كل قضية ينسحب منها يعتذر، لا يرغب هذا, ما ذاق حلاوة الإيمان، ولو ذاق حلاوة الإيمان لكان كالمرجل، حلاوة الإيمان تعطيك قوةً عجيبة، تعطيك قوةً تنسى بها كل شيء.

لذلك قالوا: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، بالتمني يقول: جعلنا الله من أهل الإيمان، يقول: آمين، اللهم لا تحاسبنا حساباً عسيراً، اللهم لا تعاملنا على عملنا، اللهم تب علينا, وكل هذا تمنيات، هذا الطالب إذا قال: إن شاء الله ننجح ولكن ما درس، الله كريم, لا ينسى أحد من فضله، ننجح, قل: يا رب، لا ينجح، أما لما يتحرك يدرس، لما انتقل من الأمل إلى العمل, صار الوصول إلى الهدف ممكناً، علامة الذي ذاق حلاوة الإيمان: ينتقل من الآمال إلى الأعمال، من التمني إلى السعي، قال تعالى:

﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً(123)﴾

[ سورة النساء ]

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30) ﴾

[ سورة فصلت ]

﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً(19) ﴾

[ سورة الإسراء  ]

     قالوا: الذوق شيء باطني والعمل دليل عليه ومصدق له.

 الذوق شيء باطني: إذا إنسان أكل طعاماً وإنسان يراقبه، المراقب مهما كان ذكياً, لا يمكن أن يشعر بما يشـعر به من يأكل هذا الطعام، قضية داخلية، ولكن إذا كان الطعام طيباً, يقول لك: هل يوجد صحن آخر؟ كأس آخر، علامة الذوق الراقي: تطلب المزيد، المؤمن حينما يطلب المزيد دليل على أن ذوقه للإيمان بمستوى رفيع، أما إذا ذوقه ضعيف، يوجد تقصير, أو لهمة ضعيفة، أو لمخالفات، أو لأشياء يفعلها لا ترضي الله عز وجل, صار في جفوة، في بعد، لذلك ينصرف من كل شيء ديني، يرجئ, لا يلبي، بينما ذوق الإيمان الصحيح يدفع إلى العمل.

وقالوا أيضاً من علامات الذوق: 

أن لا يقطع صاحبه عن طلبه أمل الدنيا وطمع في غرض من أغراضها.

مستحيل أن تقف الدنيا عقبةً أمام الذي ذاق حلاوة الإيمان، أحياناً ترى شخصاً أقبل على المسجد, لكن ما ذاق حلاوة الإيمان، يعني شيء تافه جداً يصرفه عن الدرس, عذر صغير جداً يحمله على ترك متابعة طلب العلم، فكلما صرفك عن الدين صارف صغير, هذا دليل على أن حلاوة الإيمان لم تتمكن في قلبك.

علماء القلوب يقولون: كل ما سوى الله فإرادته أمل قاطع كائناً من كان، كلما أردت غير الله، إذا ابتغيت غير الله، قصدت إلى غير الله، تعلقت بغير الله، عظمت غير الله، خفت من غير الله, هذا كله من أنواع الشرك، هذه تقطعك عن الله عز وجل، أما الموحدون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. 

حقيقة الحب في الله والحب مع الله .

من ذاق حلاوة الإيمان, ومعرفة الله عز وجل، والقرب منه, والأنس به, لم يكن له أمل في غيره، وإن تعلق أمله بسواه, فهو لإعانته على مرضاته ومحابه، فهو يؤمله لأجله ولا يؤمله معه, هذا ينقلنا إلى حقيقة الحب في الله والحب مع الله، الحب في الله عين التوحيد، حقيقة الإيمان أن تحب في الله، والحب مع الله نوع من الشرك, تحب الله فتحب رسول الله, فحبك للنبي حب في الله، تحب الله وتحب رسوله فتحب سنته، تحب الله فتحب العمل الصالح الذي يرضيه، تحب الله فتحب العلم الذي تتقرب به إليه، هذا كله حب في الله، تحب الوسائل التي توصلك إلى غايتك، إذا إنسان متعلق بالعلم يحب الكتاب، يحب القلم، يحب الدفتر، يحب غرفة التدريس, يحب المكتبة، يحب كل شيء, يقربه من هدفه، فأنت إذا أحببت الوسائل التي تقربك من هدفك, فهذا حب في الله مسموح، أما حينما تحب شيئاً يبعدك عن الله, هذا اسمه حب مع الله، الحب في الله عين الإيمان, والحب مع الله عين الشرك، إذا أحببت صديقاً بعيداً عن الدين، فانصرفت بمحبته عن محبة الله, فهذا حب مع الله، إن أحببت تجارةً شغلتك عن أداء عباداتك فهذا حب مع الله، إن أحببت زوجتك محبةً حملتك على أن تقصر في حق الله, هذا حب مع الله، هذا ينقلنا إلى الحب في الله والحب مع الله عز وجل.

فكل ما سوى الله إرادته أمل قاطع كائناً ما كان، فمن كان الله أمله ومنتهى طلبه فهو في بحبوحة الإيمان، وفي رعاية الرحمن, ذاق حلاوة ومعرفة الله عز وجل، لم يكن له أمل في غيره، إذا تعلق أمله في غيره, فهو لإعانته على مرضاته ومحابه، هذا حب في الله. 

ذاق حلاوة الإيمان من كانت رغبته في المطلب الأعلى الذي ليس شيء أعلى منه .... :

والذي يقوله العلماء: من كانت رغبته في المطلب الأعلى الذي ليس شيء أعلى منه، ومعرفته بِخِسة ما يؤمن دونه، وسرعة ذهابه, فيوشك انقطاعه, وأنه في الحقيقة كخيال طيف أو سحابة صيف، فهو ظل زائل ونجم, قد تدلى للغروب، فهو عـن قريب آفل, فقد ذاق حلاوة الإيمان.

قال عليه الصلاة والسلام:

(( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ, قَدْ أَثَّرَ فِي جسمه, فَقَالَ: يا رسول الله, لَوِ اتَّخَذْتَ فِرَاشًا أَوْثَرَ مِنْ هَذَا، فَقَالَ: مَا لِي وَلِلدُّنْيَا, مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ, فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ, ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا  ))

[ أخرجه أحمد في مسنده ]

دققوا في هذه الكلمة: كان سيدنا عمر بن عبد العزيز إذا دخل إلى مجلس الخلافة, يتلو هذه الآية:

﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ(205) ﴾

[ سورة الشعراء ]

متعناهم، إنسان يذهب إلى بلاد الغرب, يرجع ممتلئاً إعجاباً، بلاد جميلة، بلاد خضراء، أمطار غزيرة، جبال شاهقة، بحيرات, غنى، مساكن كالقصور، مركبات تحير العقول مثلاً، قال تعالى:

﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ(207)﴾

[ سورة الشعراء ]

متعناهم سنين، جاء ملك الموت، الإنسان يختل توازنه أحياناً إذا رأى أموال الكفار والغنى الذي ينعمون فيه، والبلاد التي يعيشون فيها, ليتلو قوله تعالى:

﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(197) ﴾

[ سورة آل عمران  ]

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42) ﴾

[ سورة إبراهيم ]

أيضاً أيها الإخوة ؛ يقول الله عز وجل:( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ(207) ) سيدنا عمر يقول: لو أن الدنيا من أولها إلى آخرها أوتيها رجل, ثم جاءه الموت, لكان بمنزلة من رأى في منامه ما يسره, ثم استيقظ, فإذا ليس في يده شيء.

رجل فقير جداً في المنام, يشاهد أن معه مئة مليون في المنام يسر, فإذا استيقظ وجد نفسه في غرفته القميئة، وفي فراشه الخشن، وفي طعامه الخشن، وفي ثيابه الرديئة، كل هذه النشوة التي حصلت في المنام تذهب أدراج الرياح.

(( الدنيا ساعة اجعلها طاعة.  ))

قال تعالى:

﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ(113) ﴾

[  سورة المؤمنون ]

ساعة تمر، إذاً: الدنيا بحذافيرها, لو ملكها رجل لكانت كالحلم.

الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا.

في بعض الأشخاص يتعاطون المخدرات, هذا المخدر يطير بالصوت العالي، فرجل أخذ مخدراً، جاء رجل بآلة حادة, أصدر صوتاً شديداً, طارت ما تناوله، فالناس مخدرون في الدنيا، مخدر في بيته، في عمله، في المرأة، في المال، في المتع، فإذا جاء ملك الموت يصعق.

قال الإمام علي: يا بني! ما خير بعده النار بخير، وما شر بعده الجنة بشر, وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية.

قال بعضهم: نعيم الدنيا بحذافيره في جنب نعيم الآخرة, أقل من ذرة في جنب جبال الدنيا.

جبال هيمالايا: ارتفاعها اثنا عشر ألف متر, ما شأن ذرة أمام هذا الجبل؟ حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:  

((  ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غمس في مياه البحر ))

إذا الإنسان ضمن الدنيا وجدها كبيرة, فإذا خرج منها رأى صغرها وحقارتها. 

والدنيا جيفة طلابها كلابها.

والدنيا دار من لا دار له ولها يسعى من لا عقل له. 
 في المنطق السديد: كل شيء تحصله في الدنيا تخسره في ثانية واحدة.

 

قصة قصيرة .


يسكن رجل في القيمرية, في أحد أحياء دمشق الشعبية, في بيت صغير, قميء, رطوب, شمالي، أقسم بالله! أربعاً وثلاثين سنة يجمع المال, حتى اشترى بيتاً في المهاجرين, له إطلالة جميلة، له شرفة، اشترى البيت, ورتبه, وجلس في الشرفة, وشرب فنجان قهوة، وقال لزوجته : الآن أمنا مستقبلنا, هذا هو البيت، بعد ثلاثة أيام جاءه ملك الموت.

هل معقول أربع وثلاثون سنة جمع، حتى تمتع ثلاثة أيام فقط؟ من وضع كل أمله في الدنيا, فهو أكبر مقامر، وأكبر مغامر.

 

الخاتمة :


أيها الإخوة ؛ حقيقة أختم بها هذا الدرس, قالوا: السعادة في الدنيا الحسية تحتاج إلى ثلاثة شروط؛ تحتاج إلى وقت، وإلى صحة، وإلى فراغ.

الإنسان يمر في ثلاث مراحل: أول مرحلة: في وقت, وفي صحة, ولا يوجد مال، مقيد، المرحلة الثانية: أسس مشروع؛ عمل، صحة جيدة، ومال وفير، ولكن لا وقت، المرحلة الثالثة: أسس عملاً, وسلم أولاده, وصار دخله كبيرأ، وعنده وقت، مال وفير، ووقت متسع, ولكن صحة رديئة، دائماً ينقصك واحدة، هذه الدنيا؛ يتوافر الوقت والصحة ولا تجد المال، تجد الصحة والمال ولا تجد الوقت، تجد الصحة والمال أو المال والوقت ولا تجد الصحة، أما المؤمن عرف ربه في وقت مبكر, فوظف كل طاقاته لهذا الهدف الكبير فهو مع الله دائماً.

هذه الحقيقة التي قلتها قبل قليل تنطبق على أهل الدنيا فقط، لكنها لا تنطبق أبداً على أهل الإيمان, لأن هدفه كبير وهو سـعيد في هذا الهدف.

أقول لكم هذه الكلمة: الإنسان متى يشيخ؟ عندما يختار هدفاً محدوداً ويصل إليه انتهى، يريد المال جمع المال، المال صار مملاً, هدفك الزواج تزوجت، شراء بيت اشتريت، مركبة اشتريت، إذا كان لك هدف محدود, ووصلت إليه, أصبحت شيخاً, يعني طاعناً في السن، الحياة أصبحت مملة، أما إذا كان لك هدف كبير وهو الله عز وجل، أنت في شباب دائم، حينما تختار هدفاً كبيراً, فأنت في شباب دائم، حينما تحمل هم المسلمين، وحينما تنطلق لخدمتهم, ولتحقيق آمالهم وأهدافهم, فأنت في شباب دائم.

أيها الإخوة ؛ لهذا الموضوع تتمة نأخذه في درس قادم.

و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور