أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس الثالث والأربعين من دروسِ مدارج السالكين, في مراتب إيّاكَ نعبد وإيّاكَ نستعين, ومنزلةُ اليوم هيَ منزلةُ المعرفة.
ما من كلمةٍ فيما أظن, تدورُ على ألسنة العُلماء والدُعاةِ إلى الله ككلمة:
فُلان يعرفُ الله وفُلان لا يعرِفه .
بل إنَّ الدُعاةَ إلى اللهِ ألِفوا أن يُعزوا كُلَّ عملٍ سيء إلى سببٍ واحد:
هوَ أنَّ صاحِبهُ لا يعرف الله .
وأنَّ كُلَّ عملٍ طيّب يُعزى هذا العمل إلى سببٍ واحد:
هوَ أنَّ صاحِبَهُ يعرف الله .
لكن في الأمور الماديّة القضايا ليسَ فيها إلتباس ؛ هذه طاولة خشب باديةٌ للعين لا شكَّ فيها, الأشياءُ الماديّة لها علامات تُدرِكُها الحواس بشكلٍ بسيط من دونِ تعقيد، لكنَّ الأشياء الإنسانيّة المعنويّة كامنةٌ في النفس؛ هُناكَ من يدّعيها وهُناكّ من يتحققُ منها، فكلمة عارِفٌ بالله أو فُلان يعرِفُ الله هذه كلمة.
الحقيقة: أنَّ الناسَ رجُلان لا ثالثَ لهُما إطلاقاً .
1- رجلٌ يعرِفُ الله، متصلٌ بهِ، منضبطٌ بأمرِهِ، مُحسِنٌ إلى خلقِهِ، سعيدٌ بِهِ .
2- ورجلٌ لا يعرِف الله, إذاً هو مقطوعٌ عنه, متفلتٌ من منهَجِهِ، مسيءٌ إلى خلقِهِ، شقيٌ بإساءتهِ .
وأنا أعني ما أقول, وليسَ في الأرض كُلِها رجل ثالث.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ:
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ, إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا, فَالنَّاسُ رَجُلانِ؛ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ, وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ, وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ, وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ, قَالَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ . ))
[ أخرجه الترمذي في سننه ]
كُل هذه التقسيمات والتفريعات التي تَرونَها وتستمعونَ إليها تفريعاتٌ ليست واقعيّة .
الشيء الواقعي: إنسان يعرف وإنسان لا يعرف .
الذي يعرف يعبُد والذي يعبُد يسعَد .
والذي لا يعرف لا يعبُد والذي لا يعبُد لا يسعَد .
يعرف: موصول منضبط مُحسن سعيد .
لا يعرف: مقطوع متفلت مسيءٌ شقيّ.
فنحنُ الآن درسُنا: هل هُناك علامات أو إشارات أو دلائل أو قواعد أو أدلّة أو براهين تؤكّدُ أنَّ فُلاناً يعرِفُ الله وفُلان لا يعرِفُهُ؟ .
يعني مثلاً: لو واحد أمسك كتاب جغرافيا, ونظرَ إلى خارِطة للشرق الأوسط, ورأى دمشق قد رُسِمت دائِرتُها على الساحل السوري, وقال: شيءٌ جيّد، كتاب ممتاز، ليسَ فيهِ أغلاط، هل هذا الإنسان يعرِفُ دمشق؟ مستحيل أن يعرِفَها، لو أنهُ يعرَفَها لقال: هذا غلط, أنا أسكن في الشام, والشام ليست مدينة ساحلية.
فُلان يعرِفُ الله كُلٌّ قد يدّعي ذلك، فُلان لا يعرِف الله نحنُ قد نتهم الآخرين بذلك، هل هُناك قواعد، أدلة، براهين، مؤشرات، هذهِ لنا ولغيرنا؟ الله عزّ وجل ماذا قال؟ قالَ:
﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ(83) ﴾
الله عزّ وجل أعطانا إشارة، الإنسان يبكي دون وجع ولا خوف ولا حُزن، في أعلى درجاتِ راحتهِ النفسية واطمئنانهِ وقوتهِ يبكي شوقاً للهِ عزّ وجل، بُكاؤهُ علامة المعرِفة، ربنا عزّ وجل يقول: ( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَق ) يعني قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2)﴾
هذهِ علامة قرآنيّة.
الآن إلى علاماتٍ لمعرفةِ الله عزّ وجل وردت على ألسنة بعض العُلماء الكِبار، قال: المعرِفةُ تُوجِبُ السكون, فمن ازدادت معرِفته ازدادت سكينُته.
الذي يعرِفُ الله كالجبل، معنى السكون الاستقرار، معنى السكون السكينة، معنى السكون الهيبة، لأنَّ الذي يعرِف اللهَ عزّ وجل لا يستخّفهُ فرحٌ ولا يسحقهُ ألمٌ.
لو فرضنا إنساناً أُصيب بمكروه, فملأ الدُنيا صَخَباً وسُباباً وشتائم, وضرب نفسهُ, ومزّق ثيابه, وصرخَ بويلِهِ, هل هذا يعرِف الله عزّ وجل؟ لا والله, إذاً: معرفة الله جلَّ وعلا توجِبُ السكينة.
من علامات المؤمن وقارُهُ، من أينَ يأتي الوَقار؟ يأتي الوَقار: من أنَّ هذا الإنسان يرى أنَّ الفِعلَ فِعلَ الله, ويرى أنَّ اللهَ حكيم, وأنَّ اللهَ عليم, وأنَّ اللهَ عادل, وما شاءَ اللهُ كان, وما لم يشأ لم يكُن, وأنَّ ما أرادهُ الله وقع, وأنَّ شيئاً إذا وقع قد أرادَهُ الله عزّ وجل, وأنَّ إرادة اللهِ عزّ وجل متعلقةٌ بالحِكمةِ المُطلقة, وحِكمتُهُ متعلّقةٌ بالخير المُطلق, هذه حقائق تجعلُهُ وقوراً ، تجعلُهُ مُهاباً، تجعلُهُ مطمئناً، تجعلُهُ متوازِناً، تجعلُهُ مستقرّاً، تجعلُهُ متفائلاً، تجعلُهُ واثقاَ, هذه علامة.
أيها الإخوة؛ عندما الإنسان يُصاب بمكروه, ويَسُب, ويضرب, ويشتم, ويكسر, ويضرب نفسه, ويصرخُ بويلِهِ, ويُمزّقُ ثوبهُ, أيُّ معرفةٍ هذه؟ فعلامة المعرفة: المعرفة تُوجِبُ السكون, فمن ازدادت معرِفتَه ازدادت سكينتهُ.
الحقيقة: الاطمئنان الداخلي ينعكس على الجوارح سكينة واستقراراً، والخلل الداخلي, والضجر الداخلي, والخوف الداخلي, والقفر الداخلي ينعكس على الجوارح اضطراباً.
مرّة وجدت إنساناً مركبتهُ في كراج, رَجَعَت عليها مركبة فضغطتها قليلاً، سبَّ الأديان, وشتم القديسين, كأنهُ قد ماتَ ابنُهُ، وتجد المؤمن مهما كانت المصيبةُ ساحقةً, لا يزيدُ عن أن يقولَ: الحمدُ لله.
التقيت مع أخ أُصيب بمرض عُضال, وجدتُهُ صابراً، وجدتُهُ مستقرّاً، وجدتُهُ شاكراً, يا ربي لكَ الحمد، قالَ لي: قضيت كُل حياتي في طاعة الله, مشيئةُ اللهِ أنا أحترمُها، بعد أيام انتقل إلى رحمة الله.
أحدهم جاء إلى مستشفى, معهُ ورم خبيث بالأمعاء، وهذا الورم بالأمعاء لهُ آلامٌ لا تحتملُها الجِبال, ومع ذلك ما سُمِعت مِنهُ أنّة، مازادَ عن أن قال: يا ربي لكَ الحمد, وكُلُ من زارهُ, يقول لهُ: اشهد أنني راضٍ عن الله, هذا المؤمن.
كُل هذه المعرفة، إله بيدهِ كُلُّ شيء، هوَ الحكيم، هوَ العليم، هوَ العادل، هوَ المُحب، هوَ الربّ، هذهِ مشيئتُهُ، المؤمن يتلو قولَهُ تعالى فيذوب:
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(216) ﴾
يكفينا أيها الإخوة في سورة الكهف: أنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى ساقَ لنا قصةَ أصحاب الكهف، وساقَ لنا قِصّةَ الخَضِر عليهِ السلام مع سيدنا موسى, ومن خلالِ هذه القصة يتضح: أنَّ للهِ أمراً تكليفيّاً وأمراً تكوينيّاً, وأنَّ موسى عليهِ السلام قد عَرَفَ الأمرَ التكليفي, التشريع، بينما الخَضِر عليهِ السلام عَرَفَ الأمر التكويني، فربُنا عزّ وجل ساقَ لنا بعضَ القِصص: أنَّ هؤلاء أصحاب السفينة, رَكِبَ فيها الخَضِر, فما لَبِثَ أن خَرَقَها، سيدنا موسى بحسب التشريع لا يجوز, قالَ: أخرقتها لتُغرِقَ أهلها؟ في قراءة ليغرقَ أهلَها, لم يتحمّل, هذا شيء مُخالف للشرع, أحسنوا إليك, سَمَحَوا لكَ أن تركبَ سفينتهم, أتخرِقُها لهم؟ فلمّا أجاب قال: فأردتُ أن أعيبها وكانَ وراءهم ملِكٌ يأخذُ كُلَّ سفينةٍ غصباً، فبهذه الطريقة نجت تلكَ السفينة من المُصادرة, هذهِ القِصة يجب أن تقيسَ عليها كُلَّ شيء، اللهُ عزّ وجل جعلَهَا نموذج، يعني ياعبادي هذهِ أفعالي.
في قصة أخرى: أصحابُ الجنة الذين أصرّوا على عدمِ إعطاءِ الفقيرِ حقَهُ:
﴿ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(29) ﴾
أي يا عبادي, سُقتُ لهم هذه المصيبة كي يتوبوا من هذا الذنب، ذنب البُخل، ذنب الشُح، هم أصرّوا أن يمنعوا الفقيرَ حقّهُ, فأتلفتُ لهم كُلَّ المحصول, عندئذٍ تابوا وأنابوا، الله قال: ﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ﴾, يعني هذا نموذج, وكُلُ أنواع العذاب الذي أسوقهُ لعبادي من هذا النوع, من أجلِ أن أردّهُم إليّ، أن أحمِلهم على التوبة، أن أسوقهم إلى باب العبوديّة.
إذاً: علامة معرفة اللهِ السكينة, ومن ازدادت معرِفتُهُ ازادت سكينتهُ, هذه علامة.
3- قالَ: علامة المعرفةِ أُنسُ القلبِ بالله .
تجد الذي لا يعرف الله عزّ وجل كأنهُ على بركان, يسمع غِناء، يقرأ قصة، يجلس مع أُناس, لا يخلوَ مع الله، من علاماتِ الإفلاس الاستئناسُ بالناس، أمّا المؤمن إذا خلا معَ ربهِ, ذكرَ اللهَ عزّ وجل، قرأ القرآن، تفكّرَ في الكون، ناجى ربّهُ، استغفرَ اللهَ عزّ وجل، دعاه، علامة الذي يعرف اللهَ عز وجل أنَّ قلبّهُ يأنسُ بالله، يُحسُ أنَهُ قريبٌ من اللهِ عزّ وجل, فإذا شعرتَ بأنك بحاجة ماسّة إلى أن تلتقي مع الناس, ولا تريد أن تجلس ساعةً وحدِك، لا بُدَّ من أن تلتقي مع الناس, ولا بُدَّ من أن تجتمعَ بِهم, ولا بُدَّ من أن تستمع إليهم, ولا بُدَّ من أن تقرأ, ولا تريد إطلاقاً أن تخلوَ بنفسِكَ مع الله عزّ وجل, فهذهِ علامةُ عدمِ معرفةِ اللهِ عزّ وجل.
4- قال: من كانَ باللهِ أعرف كانَ لهُ أخوف.
أحياناً تُلاحظ عدادين فيهما المؤشران يتحركانِ معاً، لمعرفة اللهِ مؤشّر وللخوفِ منهُ مؤشّر, يجب أن توقن أنَّ مؤشّرَ معرفة الله يتحرّكُ تماماً معَ مؤشّرِ الخوفِ منهُ, فأنتَ تخافُهُ بقدرِ ما تعرِفُهُ، وتعرِفُهُ بقدرِ ما تخافُهُ، فالإنسان العارف بالله وَرِع, لا يحتمل أن يعصي, لا يحتمل أن يُقصّر، فإذا قصّر فهذه علامةُ ضعفِ المعرفة، لذلك قيل:
لا تنظر إلى صِغرِ الذنب, ولكن انظر على من اجترأت.
المنافق المعصيّة هينّة عليه, يقول لكَ: ماذا حصل؟ الله غفور رحيم, كلمة: ماذا حصل؟ دليل استخفاف بالمعصيّة، أمّا المؤمن:
﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ(32) ﴾
النبي عليه الصلاة والسلام قالَ لهُ الله: قُل لهم:
﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15) ﴾
كُلما ازدادت معرِفتُك ازدادَ خوفُك، وجدت نفسك فاتك فرض صلاة, تقول: لا بأس الآن نصليّه قضاء, مررتَ بامرأةٍ فنظرتَ إليها, أخي والله لم نعمل شيئاً, هذهِ من اللمم، كُلما شعرت أنهُ أمرُ اللهِ لا توّقرهُ كما ينبغي, فهذهِ علامة أنكَ لا تعرِفُ اللهَ كما ينبغي، إن لم توقّر أمرَ اللهِ عزّ وجل فأنتَ لا تعرِفُهُ, هذهِ علامة, البُكاء علامة, السكينة علامة، الأُنس علامة، الخوف من الله عزّ وجل علامة.
هذهِ العلامة مُدعّمة بآية قرآنية:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28)﴾
أنتَ تخشاهُ بقدرِ ما تعرِفُهُ، كُلما ازدادَ عِلمُكَ بهِ ازددتَ خشيةً لهُ ، في حديث دقيق ، قالَ عليهِ الصلاة والسلام:
(( فَوَاللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُهُمْ باللَّهِ، وأَشَدُّهُمْ له خَشْيَةً ))
تروي السيدة عائشة رضي الله عنها, أنَّ النبي صلى اللهُ عليهِ وسلم كانَ إذا حضرت الصلاة -يعني دَخَلَ وقتُها-: فكأنَهُ لا يعرِفُنا ولا نعرِفُهُ ، لهيبة الصلاة. أحياناً الإنسان المؤمن أو المُسلم في هذهِ العصور, في غرفة الجلوس, وزوجتهُ تتكلم, والمذياع يحكي, وأولادهُ يصيحون, وهوَ يُصلي, وجالس وسامع كُلّ شيء, يُتابع زوجته مع أختها بالهاتف, وهوَ يُصلّي، أين كانَ: إذا حضرت الصلاة فكأنهُ لا يعرِفُنا ولا نعرِفُهُ؟ غاب عن الواقع المادي، غاب عن أهله.
كُلما ازدادت خشيتُك, دلّت هذه الخشية على عِظَمِ معرِفَتِك، وكُلما قلّت خشيتُك, دلّت هذهِ الخشيةُ الضعيفة على ضعفِ معرِفَتِك.
هذه علامة. أمّا في علامة دقيقة قال:
6- من عَرَفَ اللهَ تعالى ضاقت عليهِ الدُنيا بسَعَتِها, ومن عَرَفَ اللهَ تعالى اتسعَ عليهِ كُلُ ضيق.
فيبدو في تناقض: من عَرَفَ اللهَ تعالى ضاقت عليهِ الدُنيا بسَعَتِها، ومن عَرَفَ اللهَ تعالى اتسعَ عليهِ كُلُ ضيق، كيفَ نجمعُ بينهُما؟ ضاقت عليه الدُنيا بِما رحُبت من عَرَفَ اللهَ تعالى, ومن عَرَفَ اللهَ تعالى اتسّعَ عليهِ كُلُ ضيق.
يوجد تفسير دقيق: لو أنَّ إنساناً أجلسوهُ في مكان جميل, أمامُهُ مئات الكيلو مترات من الفلا، مقصف جميل في قمة الجبل, أمامهُ الأشجار الخضراء, ثمَّ البحر، لكن المكان فيهِ معصية، هذا المكان الجميل، الطليق، الواسع، يضيقُ عليهِ حتى يختنقُ بِهِ، فإذا دخلَ إلى مسجدٍ صغير, ممتلئ بالمُصلّين, لكنهُ بيت اللهِ عزّ وجل، هذا المكان الضيّق يتسعُ بهِ، قد يكون بيتُهُ صغيراً, غرفتين, لكن لأنهُ بيتهُ لا يوجد معصية، لا يوجد شيء مُحرّم، لا يوجد اختلاط، يدخل إلى بيته.
النبي الكريم كانَ إذا أرادَ صلاة الليل, ترفعُ السيدةُ عائشةُ رجليها, لأنَّ غرفتَهُ لِصِغَرِها لا تكفي لصلاتِهِ ونومِها، والنبي ماذا قالَ اللهُ عنهُ؟:
﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى(18) ﴾
وأحياناً تجد شخص يُحلّق على ارتفاع أربعين ألف قدم، يُشاهد الدُنيا، وإنسان ركب مركبة فضائية, رأى الأرضَ كلها من القمر، يعني المكان واسع، طليق, فأيُّ مكانٍ جَمَعَك مع معصيةٍ للهِ عزّ وجل يضيقُ عليك حتى تكاد تختنق، وأيُّ مكانٍ ضيّقٍ إذا جَمَعَكَ بمن تُحِب فهوَ مكانٌ واسع, لذلك قالَ الشاعر:
رَحبُ الفلاتِ معَ الأعداءِ ضيّقةٌ سمُّ الخِياطِ مع الإخوانِ ميدانُ
يعني الفلاتُ على اتساعِها إذا جَمَعتكَ بعدوٍ وهيَ ضيّقة، وسمُّ الخياط على صِغَرِهِ إذا جَمَعَكَ بحبيبٍ فهوَ ميدانٌ واسع, هذه علامة.
7- قال: من عَرَفَ الله تعالى صفا لهُ العيش.
صدقوني, أنا أحياناً أسأل أخاً, وأنا أظنُهُ مؤمناً: كيف الحال؟ يقول: الحمدُ لله، يقولُها من أعماقِ أعماقه، أنا أشعر أنهُ حينما اصطلحَ مع اللهَ عزّ وجل, أكرَمَهُ الله بسكينة، أكرَمَهُ الله بِوِفاقٍ زوجيّ، أكرَمَهُ اللهُ عزّ وجل بِرِضا عن الله، أكرَمَهُ اللهَ عزّ وجل بِحالٍ طيّب، أكرَمَهُ اللهُ بالشوقِ إليه، أكرَمَهُ بحُبِهِ، بُحِبِّ رسولِهِ، بُحبِّ المؤمنين.
تجد بالتعبير الدارج معنوياته عالية جداً, تجد واقِعهُ خَشِن، بيتُهُ بالأُجرة أو لا يملِكُ بيتاً، لِباسُهُ متواضع، وظيفتُهُ صغيرة، دخلُهُ قليل, تجلس معهُ فتجدهُ شيئاً عظيماً، معنويات مرتفعة جدّا، واثِقٌ من اللهِ عزّ وجل، مطمئنٌ بقضائهِ، راضٍ بِما قَسَمَهُ اللهُ لَهُ، لهُ رِسالة بالحياة, همّهُ الأول أن يعرِفَ الله، همّهُ الثاني أن يدعوَ إلى الله, حسناً: من أينَ هذهِ المعنويات؟ من أينَ هذهِ النفس المُنتشيّة، النفس الواثقة، النفس المُطمئنة؟:
﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27) ﴾
﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(51) ﴾
يُطمئنهم: ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا ) تجد المؤمن واثقاً من رِضاء الله، واثقاً من نصرِهِ، من تأييدهِ، من حِفظِهِ، من إكرامِهِ، من إسعادِهِ، ليسَ عِندَهُ همّ, لماذا ليسَ عِندَهُ همّ؟ لأنهُ جعلَ الهمومَ همّاً واحداً, فكفاهُ اللهُ الهمومَ كُلّها، لأنهُ عَمِلَ لوجهٍ واحد فكفاهُ الله الوجوهَ كُلّها.
فقال: من علامة العارف بالله: أنهُ يصفو لهُ العيش، صفا لهُ العيش, فطابت لهُ الحياة، وهابَهُ كُلُّ شيء، وذهبَ عنهُ خوفُ المخلوقين.
يا إخوان؛ نصيحة لوجه الله: إذا خِفتَ المخلوقين, تُضطر أن تُنافق, وتُضطر أن تتملّق, وأن تكذب, وأن تتناقض, وأن تكونَ صغيراً في أعيُنِهم.
يعني أكبر مصيبة يُصاب بِها الإنسان: أن يُلقي اللهُ في قلبِهِ خوفَ المخلوقين، يحتار من سيُرضي, إن أرضى زيد يغضب عُبيد، يتوسل لفُلان، يتذلل لفُلان، يُقبّل رِجل فُلان، يتمسّح بأعتاب فُلان، يبذل ماء وجهه لِفُلان، يتضعضع لِفُلان، هذهِ علامةُ الذي لا يعرِفُ الله, أمّا الذي يعرِفُ الله فاللهُ يُعطيه عِزّة، لا ينبغي للمؤمنِ أن يُذل نفسَه ، من جلسَ إلى غنيٍ فتضعضعَ لهُ ذَهَبَ ثُلثا دينه ، ابتغوا الحوائج بِعزّة الأنفس, فإنَّ الأمورَ تجري بالمقادير .
﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ(8)﴾
اجعل لِربِكَ كُلَّ عِزِّكَ يستقّرُ ويثبُتُ
فإذا اعتززتَ بمن يموتُ فإنَّ عِزّكَ ميتُ
يذهبُ عنكَ خوفُ المخلوقين, لا تخف من مخلوق، قد يكون هذا المخلوق كالوحش, لكنهُ مربوط بِزمامٍ مُحكم بيدِ اللهِ عزّ وجل, فأنتَ علاقتُكَ معَ الله، هذا ما قالَهُ سيدنا هود:
﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56)﴾
قال: من عَرَفَ اللهَ تعالى, صفا لهُ العيش, فطابت لهُ الحياة, وهابَهُ كُلُ شيء, وذهبَ عنهُ خوفُ المخلوقين, وأَنِسَ بالله.
أحياناً تدخل مكتب إنسان, لهُ مركز كبير, يقول لكَ: اصرخ على المستخدم ليُحضر القهوة.
من هاب الله هابَهُ كلُ شيء, ومن لم يَهَب الله أهابَهُ اللهُ من كُلِّ شيء, ذهبَ عنهُ خوفُ المخلوقين وأَنِسَ بالله.
8- قالَ: من عَرَفَ اللهَ عزّ وجل قرّت عينُهُ بالله.
أنا أدعو دعاء, أحياناً أقول: يا ربي كما أقررتَ أعيُنَ أهلِ الدُنيا من دُنياهُم.
أيام تجلس مع شخص, يقول لكَ: أنا اشتريت البيت منذ زمن بثمانية عشر ألف, والآن لا أبيعهُ بثمانية ملايين, مئتان وثمانون متر، انظر للواجهة, للشُرف, معهُ السطح, هذا الإنسان قرير العين بهذا البيت، هذا الذي عندَهُ مزرعة، وهذا الذي عِندَهُ معمل، وهذا الذي عِندَهُ سيارة, يقول لكَ: اشتريتها بثلاثة عشر مليون، حرام أن تضعها في الطريق, أقول لهُ:
يا ربي, كما أقررتَ أعيُنَ أهلِ الدُنيا من دُنياهُم, فأقرر أعيُننا من رِضوانِك.
الإنسان يَحُج, يُحس أنهُ مقبول عِندَ الله عز وجل، يُحس أنَّ الله قد غَفَرَ لهُ، الله تاب عليه، الله قَبِلَهُ, تجدهُ قرير العين، في عِندهُ مئة مشكلة في حياتِهِ، ما دامَ اللهُ قد أقرَّ عينَهُ فهوَ بهِ قرير.
9- قال: من عرف الله قرت عينه بالموت:
أنهُ من عَرَفَ الله قرّت عينُهُ بالله, وقرّت عينُهُ بالموت.
الموت عِندَهُ بداية الإشراق، بداية العطاء، بداية الإكرام، الموت بداية الجنّة، الموت عِندهُ نهاية المتاعب، كُل الحياة تكليف, هذهِ حرام, وهذهِ لا تجوز, المؤمن لا يأخذ حُريّتهُ، إذا أحب أن يمشي بالطريق يوجد ألف قيد يقيده.
تجد الناس يملؤونَ أعيُنهم من الحرام ......
لي صديق, يسكن في أحد أحياء دمشق, ولَهُ جار، هذا الجار عِندَهُ خمس بنات متزوجات، ولَهُ شباب، لَهُ هِواية بسيطة جدّاً: يركب السيارة العامّة, من المزّة إلى المرجة, وينتقل إلى طريق الصالحية بأيام الصيف قبلَ المغرب بساعة, ويتنقّل فيهِ ذهاباً وإياباً, لا يفعلُ شيئاً إلاّ أنهُ يملأُ عينيهِ مما حرّمَ الله, يستمتع بالنساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات، فجارُهُ صديقي, نصَحَهُ, يا أخي أنتَ عُمرُكَ 50 - 45 سنة، عِندك بنات متزوجات، أنتَ أب ستُصبح جداً, هذه لا تُناسب, قالَ لهُ: أنا لا أعمل شيئاً هكذا أُحب، إلى أن أُصيب بمرض ارتخاء الجفون, مرض لا أعرِفُهُ سابقاً ارتخاء الجفون, فالإنسان دائماً مُغمض عينيه, فإذا أراد أن يرى أحداً فيمسك جفنهُ بيدهُ ويرفعهُ, ما دامَ يرفعهُ يرى, فإذا تركَهُ نَزَل من جنس المعصية.
من عَرَفَ الله قرّت عينُهُ بالله, وقرّت عينُهُ بالموت, لا يخافُهُ.
لي صديق طبيب, يحكي لي قِصصاً, كيفَ يزور مرضى على وشك الموت؟ يقول لي: مثل الطفل، ضعيف، يرتجف، سأموت, طبعاً ستموت, فهوَ ليسَ مستعدّاً لهُ, قالَ لي مرةَ: زارَنا شخص, أنجزَ بيتاً لا يوصف بجماله، التزيينات, والجبصين, والأقواس, والشُرف, يظهر أنَّ مرضَهُ خطير, وهو في ريعان الشباب وزوجتهُ شابّة، فقالَ لصديقهِ: ما أتعسني, أخشى أن أموت, وتتزوج زوجتي, وتأتي به ليسكن معها في هذا البيت, الذي شقيت ببنائه, ويستمتع هو بما لم يتعب بإنجازه.
10- قال: من عَرَفَ الله قرّت عينُهُ بالله .
وقرّت عينُهُ بالموت, والأغرب من ذلك: قرّت بهِ كُلُّ عين، صار هوَ مصدر سعادة، مصدر إيناس، فتجلس مع شخص يكون عظيماً بمقياس الدُنيا, يقول لكَ: هذا حجمُهُ كذا مليون، هو بمقياس الدُنيا عظيم, ولكنه لا يُحرّك فيك شعرة، وتجلس مع أولياء الله, تجد نفسك مُستغرقاً في مُتعة بالغة، مستأنساً، تتمنى أن تبقى معهُ دائماً.
فالعارِفُ بالله قرّت عينُهُ بالله, وقرّت عينُهُ بالموت, وقرّت بهِ كُلُّ عين.
علامةُ أولياء الله: أنهم إذا رُؤوا ذُكِرَ اللهُ بِهم.
وأنتَ يجب أن تكون مع الله دائماً، تمشي في الطريق, فيلمحُكَ واحد مُقصّر, فيتوب عندما يُشاهِدُكَ, يقول لكَ: ذكرّتني بالله.
فالمؤمن كُلما ارتقى, يُصبح وجودُهُ نورانياً، وجودُهُ رحماني، وجودُهُ مُسعِد، وجودُهُ مؤنس، تقرُّ بهِ العيون.
كان سيدنا ربيعة, كانَ خادِمَ رسولِ الله, فحينما تنتهي خِدمتهُ بعدَ العِشاء, يصرِفُهُ النبي ، يبقى نائماً على عتبةِ بيت النبي, لِشدّةِ أُنسِهِ بالنبي، فأنتَ يا ترى: هل لكَ عِندَ الله مرتبة الناس يأنسون بِكَ؟ يتمنون أن يبقوا إلى جانِبِكَ؟ يَسعَدون بِلِقائِك؟ أمّا أهل الدُنيا: يُحدّثُكَ عن أمواله, وعن أرباحُهُ, وعن بيتهِ, وعن أولادِهِ, وعن رحلاتِهِ, وعن موائده, ما يهمُني أمرُك.
شخص يدعو إلى التقزز في كلامه, أما المؤمن يُحدّثُك عن ربِهِ، إن كان الحديث دنيوياً صار في ضيق، أُخرَوي صار في سرور.
11- قال: ومن لم يعرِف الله تقطّع قلبُهُ على الدُنيا حَسَرات.
يقول لكَ: محروق قلبي على ماذا؟ هذا البيت لم تنجح بيعتُهُ معي، فُلانة لم يتزوجها بعد أن خَطَبَها رُفِض, هذا الذي رُفِض قتل سبعة, فكم في قلبِهِ من حُرقة وألم؟. قال: ومن لم يعرِف الله تقطّع قلبُهُ على الدُنيا حَسَرات .
12- ومن عَرَفَ الله لم يبقَ لهُ رغبةٌ فيما سِواه.
واحد أحب أن يستفزّ سيدنا الصِدّيق, يظهر أنهُ قد سأل سيدنا عُمر في قضية, فأعطاه جواباً قاسياً, وسيدنا الصدّيق أوكل لِعُمر هذهِ المُهمّة, فلما رأى هذا الجواب القاسي, جاءَ إلى سيدنا الصديّق يستفزّهُ, قالَ لهُ: الخليفةُ أنتَ أم هوَ؟ قالَ: هوَ إذا شاء.
مثل ما يُريد, أنا معَهُ, أخي هوَ، المؤمن ليسَ عِندَهُ هذا الحِرص على الدُنيا.
قال: ومن عَرَفَ اللهَ لم يبق لَهُ رغبةٌ فيما سِواه, ومن ادّعى معرِفةَ اللهِ وهوَ راغِبٌ في غيرِهِ كذّبت رغبتُهُ معرِفَتَهُ.
يقولون: أنَّ الحجاج وقف أمام بائع, رآهُ يُصلّي قاعداً, -بائع قدور، دُكانُهُ عالية جداً, كُلُها رفوف إلى السقف, ويوجد سُلّم، فرآهُ يُصلّي قاعِداً, وقد تبيّن أنهُ ليسَ بهِ شيء-، فقالَ لَهُ: أُريد هذا القِدر, فوضع السُلّم وأنزلَهُ، فقالَ لَهُ: ليسَ بهذا بل ذاك, فنزل ووضعهُ وأحضرَهُ لَهُ, لا أُريد ذلك الأكبر، لا الأصغر، فأبقاهُ يصعد وينزل السُلّم حوالي خمس وعشرين مرّة، ثمّ قاَلَ لَهُ: أتُصلي قاعداً وعِندَكَ هَمّة عالية للبيع والشِراء؟.
من يومين قالَ لي أحدهم, وهوَ قد درسَ في بلد غربي, قالَ لي: أنا في عِندي فِكرة, لم يُجبن أحد عليها, قُلت لَهُ: تفضل، قالَ لي: أتباع الديانات عشرة بالمئة فقط يُبدّلونَ دينَهم, والباقون على دينِ آبائِهم, معناها موضوع الدين ليسَ باختيارك، هذا بوذي ابنُهُ بوذي، هذا نصراني، هذا مُسلم، فالدين ليسَ قضيّة اختيار, فما جوابُك؟ .
فأنا أعرف أنَّ لَهُ نمطاً حديثاً بحياتِهِ, والِدهُ جالِس بجانِبهِ، قُلتُ لَهُ: أنتَ غيّرت نمط حياتَك؟ قالَ لي: طبعاً، ها أنتَ قد غيّرت، لأنَّ الدُنيا مهمّة جداً, فغيّرت كُل نمط حياتك، بيت, وعَمِلت أقواس, وألغيت كُل الأبواب من البيت, لماذا لم تتبع أسلوب والِدكَ في الحياة؟ أليسَ كذلك؟ الإنسان يُغير أحياناً، لو أنَّ الآخِرةَ غاليةٌ على الإنسان لَبَحثَ عن الحقيقة, أمّا لأنَّ الدُنيا هيَ الغالية, فكُل ابن لَهُ طريق بالحياة غير طريق والِدِهِ, معناها الإنسان حُر ويُغير.
13- قال: ومن عَرَفَ اللهَ أحّبَهُ على قدرِ معرِفتِهِ بِهِ.
هذه نقطة مهمّة: ثبّت المعرفة بحجمها خوف، بحجمها خشية، بحجمها حُب، بحجمها إخلاص، بحجمها إقبال، بحجمها ورع, وخافَهُ, ورجاهُ, وتوكّل عليه, وأنابَ إليه, ولَهَجَ بِذكرِهِ, واشتاقَ إلى لِقائِهِ, واستحيا مِنهُ, وأجلّهُ, وعظّمَهُ على قدرِ معرِفتهِ بِهِ.
من عَرَفَ الله لم يبقَ لهُ رغبةٌ فيما سِواه، ومن عَرَفَ اللهَ أحّبَهُ على قدرِ معرِفتِهِ بِهِ.
14- من علامات المعرِفة: أن تفنى الشواهد، وأن تنحلَّ العلائق, وتنقطِعَ العوائق.
أحياناً تجد شخصاً يؤثر استقبال ضيف على مجلس عِلم, علاقاتُهُ مع هذا الضيف متينة جداً, فإذا كان زارهُ هذا الضيف, يُضحّي من أجلِهِ بصلاة، يُضحّي من أجلِهِ بمجلس عِلم، معناها عِندُهُ عوائق وعِندُهُ علائق والعلائق عوائق.
أنا أعرف تُجّاراً يُصلّون في المساجد, إذا جاءهم مندوب شركة أو وكلاؤها, وطلبوا مشروباً يُضيّفونهُم مشروباً, هُم لا يشربون, أينَ صلاتُك؟
أعرِف تُجّاراً, لهم مظهر ديني, وعاطفتهم إسلاميّة، من أجل ترويج بِضاعتِهم, يُعلنون عنها بأجهزة اللهوِ من خلالِ نساءٍ كاسيات عاريات, أينَ الدين؟ فلان ممتاز، صاحب دين, وتُروّج بِضاعَتُكَ بمعصية الله عزّ وجل!! العلائق عوائق.
أكثر علاقة مع الزوجة, صحابي جليل: سألتُهُ زوجتُهُ شيئاً من الدُنيا, فقالَ: اعلمي يا فُلانة, أنَّ في الجنّةِ من الحورِ العِين, ما لو أطلّت إحداهُنَّ على الأرض, لَغَلَبَ نورُ وجهِها ضوءَ الشمسِ والقمر, فلأن أُضحي بِكِ من أجلِهن, أهوَنُ من أُضحي بِهنَّ من أجلِكِ.
الأُم: قالت لهُ: يا سعد, إمّا أن تكفُر بمُحمد وإمّا أن أضعَ الطعامَ حتى أموت، قالَ: يا أُمي, لو أنَّ لكِ مئة نفسٍ, فخرجت واحدةً واحدةً ما كفرتُ بمحمد, فكُلي إن شِئتِ أو لا تأكُلي ، فأكلت بعدها.
سُئِلَ سيدنا النبي -اللهمَّ صل عليه-: أتُحّبُ أن تكونَ أغنانا؟ لكَ ذلك، أن تكون سيدّنا؟ لكَ ذلك، أن تتزوج أجمل فتاة؟ لكَ ذلك، قالَ:
((واللهِ يا عمي! لو وضعوا الشمسَ في يميني والقمرَ في شِمالي على أن أدعَ هذا الأمرَ, ما تركتُهُ حتى يُظهِرَهُ اللهُ أو أهلِكَ دونَهُ))
هذا المؤمن ، الزوجة على العين والرأس ما دامت في طاعة الله, فإذا أمرَتكَ بمعصية فلا كانت ولا كانَ أمرُها، الأُم على العين والرأس, أما إذا أَمرتكَ بمعصية لا غضبَ لها, لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.
15- من علامة العارِفِ بالله: أنَهُ لا يُطالب ولا يُخاصم ولا يُعاتب.
تُلاحظ بعض الأشخاص إذا لم يزرهُ بالعيد, فيعمل منها قِصّة, ويتكلّمُها مئة مرة، يقول: أنا ذو فضل عليه، وعليه أن يزورني, اهتم بالله عزّ وجل، تجد المؤمن كُلما عَلا إيمانُهُ بَعُدَ عن سفاسف الأمور، وكُلما قلّ إيمانُه يتعلّق بسفاسف الأمور.
في عقد قران وضعوه في مكان لا يليق بمكانهُ, يبقى مدة يذكرها، وضعوه في الصف الثاني وهوَ أوجه شخص في الأسرة, كانَ أول مكان ممتلئ, لا يقبل العُذر.
اللهمَّ صلِ عليه: دخل عليهِ أعرابي, فلم يعرفهُ من بين أصحابه، فقال: أيّكُم مُحمد؟ -أينَ كانَ يجلسُ سيدنا رسول الله؟ كانَ لهُ مجلس فخر؟ كانَ يجلِسُ بينَ أصحابِهِ وكأنهُ واحدٌ منهم، حتى اضطُر هذا الأعرابي أن يقول: أيُّكم محمد؟- قالَ لهُ: قد أصبت.
لا يُطالب ولا يُخاصم ولا يُعاتب, ولا يرى على أحدٍ لهُ فضلاً، هذهِ كلمة نسمعها كثيراً: لحمكَ من خيري، أكتافُكَ من خيري، لولا وجودي لم تُصبح رجلاً, هذا كُلُهُ كلام الجهل, الفضل لله عزّ وجل، لي فضل عليك أنا قد ربيّتُك, لا تعرف قيمتي, هذا كُلُهُ كلام فارغ.
16- قال: لا يرى على أحدٍ لَهُ فضلاً ولا يرى على أحدٍ لهُ حقاً.
أحضرَ لَهُ هديّة، ما ثمن هذهِ الهدية بالسوق؟ استفسر عنها, ما لكَ ولثمنُها؟ أحضرَ لكَ هدية وكفى، انظر لهذهِ الساعة أصلية أم صنع تايوان؟ يُريد أن يعرف قيمتها, هذا ليسَ من أخلاق المؤمن.
17- ومن علامة معرفة اللهِ: أنَّ الذي يعرِفُ اللهَ لا يأسَفُ على فائت ولا يفرحُ بآتٍ.
لأنهُ ينظرُ إلى الأشياءِ بعين الفناءِ والزوال, فهيَ في الحقيقةِ كالظلال.
18-يخرج من الدنيا ولم يقض وطره .
ومن علامة معرفة اللهِ كما قال يحيى بن مُعاد: يخرُجُ العارِفُ باللهِ من الدُنيا ولم يقض وَطَرَهُ من شيئين: بُكائهُ على نفسِهِ وثنائهُ على ربهِ.
دائماً مُتهم نفسهُ ويُثني على ربه، سِمتانِ أساسيّتان للعارِفِ بالله.
19- من علامةِ من عَرَفَ اللهَ عزّ وجل: أنهُ يستأنِسُ بربّهِ ويستوحِشُ بمن يقطعهُ عنه.
كُل واحد يُقرّبُكَ من الله تُحبُهُ، كُل واحد دنيوي زائغ الإيمان عِندَهُ شُبُهات تكرَهُهُ، تكره مجالستهُ وزيارتهُ والعلاقة معهُ, لذلك قيل:
العارِفُ من أنِسَ بالله فأوحشَهُ من الخلق، وافتقرَ إلى اللهِ فأغناهُ عنهم، وذلَّ للهِ فأعزهُ فيهم، وتواضعَ للهِ فرَفَعَهُ بينهم، واستغنى باللهِ فأحوجَهم إليه.
20- آخر شيء قيل: مجالسة العارف بالله تنقُلُكَ من سِتٍ إلى سِت:
1- من الشكِّ إلى اليقين .
2- من الرياءِ إلى الإخلاص .
3- من الغفلةِ إلى الذِكر .
4- من الرغبةِ في الدُنيا إلى الرغبةِ في الآخرة .
5- من الكِبرِ إلى التواضع .
6- من سوءِ الطويّةِ إلى النصيحة.
هذهِ كُلُها علامات معرفة بالله, فالإنسان لا يُغش بنفسِهِ ولا يَغِش غيرُهُ، هذهِ علامات دقيقة جدّاً, فلتكن هذهِ العلامات مؤشرات لنا أو أهدافاً لنا.