- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
تمهيد :
أيها الأخوة الأكارم ؛ مع الدرس الثاني والثلاثين من دروس مدارج السالكين , في مراتب إيّاكَ نعبد وإيّاكَ نستعين .
في الدروس السابقة القريبة : كانَ الحديثُ عن الشِرك وعن أنواعه ، وعن النِفاق وأنواعه ، وعن الفِسقِ وأنواعه ، وعن الكُفرِ وأنواعه ، وعن الذنبِ ، وعن الاثمِ والعدوان ، وعن الفحشاء والمُنكر ، وكانَ الدرس الأخير حولَ الكبائر .
وبقيَ علينا في هذا الدرس الحديثُ عن الصغائر .
أو عمّا يُسمى بمصطلح القرآن الكريم : اللمم .
أو ما يُسمى بمصطلح الحديث الشريف : المحقّرات من الذنوب .
وقبل أن نمضي في الحديثِ في هذا الموضوع , أضعُ بينَ أيديكم هذه المقدمة :
الكبيرة كبيرة تعرفونها من اسمها ، ولكن الصغيرة إذا أصررنا عليها , أعطت مفعولاً مساوياً للكبيرة ، يعني :
حينما ينقطع عنكَ التيار الرئيسي , مقدار ميليمتر , أو سنتيمتر , أو عشرة سنتيمتر ، أو متر , حصلَ انقطاع .
وما سُميت الصغيرةُ صغيرةً , إلا لأنهُ من المُمكن أن تتلافاها في وقتٍ قصير , وفي جهدٍ يسير , كالمثل الذي ضربتهُ لكم في الأسبوع الماضي :
من أنَّ الإنسانَ لو قادَ مركبةً على طريقٍ مستقيمٍ , وعريضٍ جداً , وعلى يمينهِ وادٍ سحيق , وحَرَفَ الِمقودَ انحرافاً يسيراً ، إنَّ هذا الانحراف بإمكانهِ أن يعيدهُ إلى ما كانَ عليه في وقتٍ قصير وفي جهدٍ يسير ، أمّا إذا حَرفَهُ تسعينَ درجةً , فلا بُد من أن تسقطَ المركبةُ في الوادي .
إلا أن المُشكلة والفِكرة : أنكَ إذا حرفتَ المِقودَ انحرافاً يسيراً , وثبّتَ هذا الانحراف , واستمرَ هذا الانحراف , لا بُد من أن تسقطَ في الوادي , كما لو أنكَ حرفتهُ تسعينَ درجة , هذا المثل معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( لا كبيرة مع الاستغفار , ولا صغيرة مع الإصرار ))
الذنبُ اليسير إذا استبحتهُ ، وإذا استصغرتهُ ، وإن لم تُبالِ بهِ , ولم تستغفر منه ، ولم تندم على فعلهِ , ولم تُحدّث نفسكَ بالتوبة منهُ , هذا الذنب الصغير هوَ في الحقيقةِ كبيرة من الكبائر , لأنهُ يقطع كالكبيرة , وما دامَ الإنسانُ قُطعَ عن الله عزّ وجل , فحدّث عن مشكلاتهِ ولا حرج .
أيها الأخوة الأكارم ؛ شيء دقيق جداً , أتمنى أن يكونَ واضحاً بينكم :
الحقد خُلقٌ ذميم ، البُخل خُلقٌ ذميم ، الغضب خُلقٌ ذميم ، الاستعلاء خُلقٌ ذميم ، حُبُ الذات خُلقٌ ذميم .
لكن لا تستغرب ولا تتعجّب إذا قُلتُ لكَ ، هذه ليست أمراضاً , إنما هيَ أعراضُ مرضٍ واحد :
وهوَ البُعدُ عن الله عزّ وجل .
أقول لكَ : الناسُ رجُلان بعيدٌ وقريب ، موصولٌ ومقطوع ، مقبِلٌ ومُدبر ، المُقبل المتصل القريب , يتحلّى بمكارم الأخلاق , لأنَّ مكارم الأخلاق مخزونة عِندَ الله تعالى , فإذا أحبَّ اللهُ عبــداً منحهُ خُلُقاً حسناً ، واللؤم والبُخل والكِبر والاستعلاء وحُبُ الذات , إنما هيَ أعراضٌ لمرضٍ واحد , وهوَ البُعدُ عن الله عزّ وجل .
الذي يتمناهُ كُلُ إنسان, كما أنكَ حريصٌ حِرصاً بالغاً ولا حدودَ لهُ على سلامة جِسمك, ينبغي أن تكونَ حريصاً حِرصاً بالغاً ولا حدودَ لهُ على سلامةِ نفسك, وعلى سلامة قلبِك, لأنَّ الحقيقة الثابتة هوَ أنَّ أمراضَ الجِسمِ مهما تفاقمت، مهما كانت مؤلمةً، مهما كانت خطيرةً، تنتهي كُلُ آثارها عِندَ الموت، لكنَ الشيء الذي يُصعقُ لهُ الإنسان: أنَّ القلبِ وأمراضَ النفسِ وأنَّ أعراضَ الإعراض, تبدأُ آثارُها الخبيثة والمؤلمة بعدَ الموت، فالمرض الذي يبدأُ بعدَ الموت ويستمرُ إلى الأبد أشدُ, أم المرضُ الذي يستمرُ فترةً محدودةً وينتهي عِندَ الموت؟ لذلك قالَ تعالى:
﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾
من هذا المُنطلق: كانَ سيدنا عُمر رضيَّ اللهُ عنه, يقول لبعض أصحابهِ: فتعاهد قلبك, من هذا المُنطلق نتحدثُ عن الذنوب, الخطأ الكبير أن تكونَ واقعاً في ذنب وأنتَ لا تدري، أن يكونَ كسبُكَ حرام وأنتَ لا تدري، أن تكونَ منغمساً في انحرافٍ وأنتَ لا تدري.
الحقيقة: حينما تدري, هذه الدراية هيَ الخطوة الأولى في التوبة.
ضربتُ البارحة مثلاً: لو أنَّ طبيباً مختصّاً في الجراثيم, أُجبرَ في وضعٍ ما على أكل طعامٍ ملوّث, وأنَّ إنساناً جاهلاً لا يفقهُ شيئاً عن الجراثيم, أجبرَ مثلَ الطبيب على تناول مثل هذا الطعام، لماذا الطبيب يتألم ألماً شديداً, يتصور الكُزاز, يتصور الكوليرا, يتصور السِل, هذه الأمراض الخطيرة، الوبيلة، المضنية، المُتعبة؟ لأنهُ يرى في المخبر الجراثيم وأشكالهـا وأفعالها، وأعراض المريض؛ اصفرار وجهه وآلامهُ، المغص المِعوي، الإسهال الدائم، شحوب وجههُ، ضعف قِواه, إنهُ يرى بعينهِ إن في المِجهر في مختبرهِ, وإن في وجه المريض آلام، آثار المرض، ويعرفُ أنَّ هذا المرض بسببِ هذه الجراثيم، فإذا أُجبرَ الطبيب على تناول طعام ملّوث, يتألمُ ألماً شديداً, ويقلقُ قلقاً شديداً, ويعاني معاناة شديدة، أمّا الجاهل إذا أُجبرَ على أكل هذا الطعام الملّوث, لأنهُ جاهل لا يتألم, يقول لكَ: سمِ بالله وكُل, هذا لا يتألم، لذلك قالَ الشاعر:
ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلهِ وأخو الجهالة في الشقاوةِ ينعمُ
سألني البارحة أخ كريم: أنَّ المؤمن دائماً متألم، دائماً قلق، خائف على نفسه، خائف على مكانتهِ عِندَ الله، لعلَّ اللهَ ليسَ راضياً عنه, يا ترى عملهُ مقبول أم غير مقبول؟ نيّتهُ عالية؟ نيّتهُ دنيوية؟ يا ترى عملهُ صحيح وفق السُنّة أم خِلاف السُنّة؟ دخلهُ حرام أم حلال أم فيهِ شُبُهة؟ هذه المُقلِقات التي تنتاب المؤمن, لماذا؟ ولماذا أهلُ الدنيا ساهونَ لاهونَ غارقون في ملذاتهم كأنكَ تشعر أنهم ليسوا متألمين؟ قُلتُ لهُ: ألم أقل لكم في درسٍ سابق: إنَّ المنافق يستمرُ على حالٍ واحدة أربعينَ عاماً, وأنَّ المؤمن يتقلُّب في اليوم الواحد بأربعينَ حالاً, هذا القلق المُقدس، هذا العِلم، هذه المعرفة التي أكرمهُ الله بها.
لماذا قالَ عُمر: ليتَ أُمَ عُمر لم تلد عُمر, ليتها كانت عقيماً؟ لماذا قالَ هذا الصحابي الجليل: لو أنَّ الله أنزلَ أنهُ معذّبٌ واحداً, لظننتُ أنني أنا, ولو أنهُ راحمٌ واحداً, لرجوتُ أن أكونَ أنا؟
ما هذا الخوف من الله الشديد؟.
ما الذي دفعَ سيدنا عمر رضيَّ اللهُ عنهُ, على أن يسألَ حذيفةَ بن اليمان, وأن يُناشدهُ اللهَ عزّ وجل, وأن يقولَ لهُ: ناشدتُكَ بالله: أاسمي بينَ المنافقين؟ قال: لا والله يا أميرَ المؤمنين! أنتَ أكرمُنا ولا أُزكّي بعدُكَ أحداً, هذا القلق، هذا الخوف.
لذلك اسمعوا هذه الحقيقة: إنَّ خوفكَ من الله, والحقيقة الخوف أنواع, قد تخافُ من عقاب الله، وقد تخافُ أن تنقطعَ صِلتُكَ بالله، الخوف من عِقاب الله مرتبة، لكنَ الأعلى منها أن تخافَ أن تنقطعَ صِلتُكَ بالله, فأنتَ تستقيم حِفاظاً على هذه الصِلة، تتحرى الدخلَ الحلال حِفاظاً على هذه الصِلة، تخدمُ الناس، تعطِفُ على المساكين، تُطعمُ الفقراء، تحضرُ مجالسَ العِلم، تَبرُّ والديك, حِفاظاً على هذه الصلة.
اسمعوا جيداً: إنَّ هُناكَ علاقةً مضطردةً, عِندنا نحنُ علاقة طردية وعلاقة عكسية، العلاقة الطردية شيئان يتناميان معاً, والعلاقة العكسية كُلما ازدادَ العِلمُ قلَّ الجهلُ, الخوفُ من الله يتحركُ بشكلٍ مضطرد مع العِلم، كُلما كَثُرَ عِلمُك كُلما كَثُرَ خوفُك.
مرةً دخلت إلى معمل, رأيتَ صاحبَ المعمل, مكفهرَ الوجه, أصفرَ اللون, يعني مظهرهُ يدلُ على أنهُ فقدَ أحد أولادهِ, قُلتُ: خير إن شاءَ الله أبا فُلان, ما المُشكلة؟ قالَ لي: تعالَ انظر, وسِرتُ معهُ في أرجاء المعمل, ما رأيتُ شيئاً, رأيتُ معملاً واسعاً كبيراً, شاهقَ البنيان, الآلات حديثة تعمل, قالَ لي: انظر, قُلتُ: إلى أين؟ قالَ: إلى هذا الجِسر, قُلتُ لهُ: ما بهِ؟ قالَ: ألا ترى هذا الخطَ الصغير, خط عرضهُ واحد ملم تقريباً على جسر، قُلت: ما بالُ هذا الخط؟ قال: جاء المهندس دكتور في الهندسة, فأخبرني بأنَّ هُناكَ انزلاق في أساسات المعمل, وأنَّ تدعيمَ هذا المعمل, يحتاج إلى 500 ألف, والقضية عام السبعين قديمة, دكتور في الهندسة, درسَ دراسة دقيقة, وجدَ أنهُ الأساس منزلق بفعل المياه المالحة، انزلاق الأساس جعل هذا الصدع في الجسر الأساس في المعمل، قُلتُ: لو جاء إنسان ليسَ بالمهندس, ونظرَ إلى هذا الشق, وقال: هذا يحتاج إلى معجونة, شتّانَ بينَ هذا وهذا, مسافةٌ كبيرةٌ جداً, بين من يقول لكَ: أن هذا الشِق يحتاج أن نملأهُ بالمعجون, وبينَ من يقول لكَ: أنَّ هذا البناء خَطِر, يحتاج إلى تدعيم, ويُكلّف هذا المبلغ الكبير, هذا العلم, كُلما ازدادَ عِلمُك ازدادَ خوفك, إن كُنتَ لا تخاف فأنتَ لا تعلم.
وقد ذكرتُ لكم سابقاً, أن طالباً مرةً قالَ لي: أنا لا أخاف من الله، طبعاً أردتُ أن أجيبهُ جواباُ مُفهماً, قُلتُ له: معكَ الحق أنتَ بالذات، قال: ولِمَ؟ قلتُ لهُ: يا بُني, الطفل الرضيع يأخذهُ أهلهُ أحياناً إلى الحقلِ لحصد القمح, يمرُ بجانبهِ ثعبانٌ عظيم, لو رآهُ بطلٌ لخرجَ من جلدهِ خوفاً منهُ، هذا الطفل الصغير الرضيع, يضعُ يدهُ على هذا الثعبان, ويلمسهُ بيدهِ, ولا يخاف, لماذا لا يخاف؟ لأنهُ لا يُدرك، لو أنهُ أدرك, لصاحَ صيحةً ملأت الأجواء, لكنهُ لا يُدرك, الإدراك غير موجود, الخوف غير موجود، كلام دقيق.
يعني أنت لاسمحَ الله ولا قدّر, لو ارتكبتَ معصيةً, ولم تشعر بشيء, كالطبيب يضع يده على النبض, ويقول: لا نبض, يقول: ائتوني بمرآة يضعها على أنف المريض لا بخار، ائتوني بمصباح يضعهُ بعين المريض فالقزحية لم تنقبض, أمرهُ منتهٍ, وأنا أقول لكم قياساً على هذه القصّة: أنَّ الذي يفعل الذنب ولا يشعر بشيء أبداً, يقول لكَ: ماذا عملنا؟ هذا منتهٍ, هذا ماتت نفسه, والدليل قول الله عزّ وجل:
﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾
﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
معناها: إذا الإنسان ما أحسَّ بذنبهِ ولا تألّم, ولا تمزقت نفسهُ, ولا خاف ولا ندم, ولا حدّث نفسهُ بالتوبة ولم يُبالِ, وضحِكَ مِلءَ فمهِ, ونامَ نوماً عميقاً, وغطَ في نومٍ عميق, وبدا مرِحاً, وهوَ يقترفُ الذنب, هذا ميت.
من عصى اللهَ وهوَ يضحك, دخلَ النارَ وهوَ يبكي.
فلذلك: إذا وجدت أخاً زلّت قدمهُ, فتألمَّ ألماً شديداً, وصلى قيام الليل, واستغفرَ اللهَ عزّ وجل, دفعَ صدقةً مرهقةً, لعلَّ اللهَ يعفو عنه, معنى هذا أنه يوجد نبض, في حياة، لذلك هذا معنى قول النبي الكريم:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا, لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ, وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ, فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ))
يعني إن لم تشعروا بذنوبكم، إن لم تُحسّوا بها، إن لم تتأثروا بها، أنتم انتهيتم, لا خيرَ فيكم, لو لم تُذنبوا, بمعنى لو لم تُحسوا بذنوبكم, لذهبَ اللهُ بكم, وأتى بقومٍ إذا أذنبوا تألّموا, يُذنبون يشعرون بذنوبهم, فيستغفرون فيغفر الله لهم.
هذا الكلام مقصدهُ أنهُ: حينما صارَ التعريف بالنِفاق, بالشِرك, بالكُفر، بالفِسق، بالإثم، بالعدوان، بالفحشاء، بالمُنكر، بالكبائر, من أجل أن تأخذَ حذرك, وإنما العِلمُ بالتعلّم.
الذنوب صغائر وكبائر .
الذنوب كما أجمع عليه العلماء , تنقسم إلى صغائر وإلى كبائر بنصِ القرآن والسُنّة وإجماع السلف , قال تعالى :
﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً﴾
سياق الآية يَشِفُّ عن أنَّ الكبائر شيء والسيئات شيء آخر ، وقال تعالى :
﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾
أيضاً سياق الآية يَشِفُ عن أنَّ اللمم ليست كالكبائر .
وفي الحديث الصحيح : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((الصلوات الْخَمْسُ, وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ, كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ, مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ))
في المصطلح النبوي الشريف , قال : إيّاكم ومحقّرات الذنوب . ومحقّرات الذنوب هيَ الصغائر التي أرادها النبي ، لكن يقول : إيّاكم .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ, فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ, وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلاً, كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلاةٍ, فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ, فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ, فَيَجِيءُ بِالْعُودِ, وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ, حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا, فَأَجَّجُوا نَارًا, وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا))
أحياناً : إنسان يشرب شراباً فيه أصبغة كيمائية , يا ترى : كم في هذا الكأس من الصِباغ الكيميائي ؟ شيء لا يُذكر إطلاقاً , لكنَّ الأطباء يقولون : إنَّ هذه النِسب التي لا تُذكر إذا تراكمت من إدمانهِ على هذا الشراب مُضرة .
الذي أكثر طعامه معلبات , ومياه غازية , وأشياء كلها غازية ، هذه النِسب الضيئلة جداً من الأصبغة والمنكهات والملونات وبنزوات الصوديوم , هذه كُلُها تتراكم وتتراكم , فإذا بلغت حدّاً معيّناً أصبحت مسرّطنة .
هذا الذي عناه النبي عليه الصلاة والسلام :
((إيّاكم ومحقّرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجلِ حتى يهلكنهُ))
لذلك تجد المسلم يقول لكَ : أنا الحمد لله لم أسرق في حياتي , ولم أزن , ولم أشرب الخمر , جميل وباركَ اللهُ بِكَ , ولكن ممكن أن يُصافح امرأة ، ويُطلق بصرهُ ، ويكذب ، وقد يغتاب ، وفي ظنهِ أنَّ هذه صغائر معَ أنها كُلُها كبائر .
فهنا :
((إيّاكم ومحقّرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجلِ حتى يهلكنهُ))
من صغائر الذنوب : اللمم .
الآن : من أدقّ المعاني لقولهِ تعالى :
﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ﴾
الجمهور قال : اللمم هو أن يقترفَ الذنبَ مرةَ واحدةَ في حياتهِ ثمَ يتوبُ منه .
يعني ما كانَ يعلم أنَّ هذا حرام , يعني اشترى خاتماً ذهبيّاً , فوضعهُ , ثمَ أُبلغَ أنَّ هذا حرام , ألمَّ بذنبٍ من دونِ عِلمٍ لجهلٍ , وتابَ من فورهِ , أقلعَ من فورهِ , هذا رأيُ بعض العلماء في اللمم , يعني ألمَّ بذنبٍ من دون أن يعلم , فلما عَلِم تابَ منهُ فوراً , هذا المعنى معنى لطيف :
﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ﴾
قال جماعةٌ من السلف : اللمم هو الإلمام بالذنبِ مرة ثمَّ لا يعودُ إليه أبداً .
يعني أقرض إنساناً مبلغاً من المال , الإنسان المُقترض اشترى بيتاً , قال لهُ : سأجعل هذا القرض ثمن ربع هذا البيت , وسأعطيكَ أُجرة , وبعدَ عامين أُعطيكَ المبلغَ نفسهُ , هوَ ظن أنَّ هذه قضية إيجار , لكن فاتهُ أنَّ هذا رِبا ، الإيجار تملّكتَ رُبعَ البيت , ولو أنَّ هذا البيت احترق ذهبَ مالُك ، لو أنَّ هذا البيت صودر ذهبَ مالُك ، لو أنَّ هذا البيت انخفضت قيمتهُ انخفضَ مالُك ، إذا رضيتَ بهذه الشروط الثلاثة , لكَ الحق أن تأخُذَ الأُجرة , لأنهُ لا إيجارَ معَ الضمان ، فإذا أردتَ أن تستعيدَ مالكَ , يُقيّم البيت مرةً ثانية تقييماً جديداً , هذا الإيجار الصحيح ، أمّا إذا أردتَ أن تُقرضَ إنساناً , وأن يُسمي هذا القرضَ شِراءً لِرُبعِ المنزل , ويُعطيكَ على هذا القرض أُجرةً ثابتةً , مبلغٌ مضمون وثابت , تأخذهُ بعدَ عام هذا رِبا , ما كانَ يعلم , فلّما عَلِم أقلعَ فوراً , باركَ الله , هذا اللمم .
يعني وقعَ في الذنب مرةً , لأنهُ لا يعلم , فلمّا عَلِم أقلع :
﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ﴾
ومن أجمل المعاني هذا المعنى , أحد العُلماء سُئل : اللمم , قالَ : هوَ الرجُلُ يُلمُّ بالذنبِ ثمَ لا يُعاودهُ أبداً .
المعنى الثاني :
اللمم ما دونَ الشِرك .
مرةً ضربتُ لكم هذا المثل : أنتَ راكب في قطار باتجاه مدينة تقصدُها ، قد ترتكب بعض الأغلاط في هذه الرحلة , لكـنَّ القطار يسير باتجاه الهدف , فكُلُ أغلاطِكَ في هذا القطار مغفورة , لأنَّ القطار يسير نحوَ الهدف ، أزعجكَ رفقاء هذه المركبة , يمضي الوقت ، أزعجكَ مقعدكَ بعكسِ اتجاه القطار , يمضي الوقت ، أزعجكَ أنكَ جائع وفي عربةٍ أخرى طعام وأنتَ لا تدري , القطار يمشي باتجاه الهدف , لكنَّ الشيء الذي لا يُغفر أن تركبَ قطاراً لا علاقةَ لهُ بهدفك ، أنتَ تتجهُ نحوَ الشمال والقطار يتجهُ نحوَ الجنوب ، ضاعت عليكَ أهدافُكَ الكُبرى من هذه المدينة , فلذلك قالَ بعضُهم :
اللممُ ما دونَ الشِرك .
لقولهِ تعالى :
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً﴾
على كُلٍ جمهور العلماء يقول :
اللممُ ما دونَ الكبائر.
وقالَ بعضُهم :
الذنبُ الذي لم يُذكر عليه عِقابٌ ولا حدٌ ولا وعيدٌ في الآخرة .
هكذا قالَ بعضُهم : هوَ اللمم .
وأمّا سعيد بن المُسيّب فللهِ درّهُ , قالَ :
اللممُ ما ألمَّ بالقلب , لا تُحاسب عليه .
خطرَ في بالهِ أن يفعلَ شيئاً لكنهُ لم يفعلهُ ، إنَّ الله عزَّ وجل لا يُحاسبُ على الخَطَرات ، خطرَ في بالهِ أن يأخّذَ هذا لهُ , لكنهُ لم يفعل , خافَ اللهَ عزّ وجل .
فاللمم ما ألمَّ بالقلب .
الخاطر الذي لا يُرضي الله إذا ألمَّ بالقلب فهوَ لمم , هذا في بعض التفاسير , وهذا التفسير للتابعيّ الجليل سعيد بن المُسيّب .
والحُسين بنُ الفضلِ يقول :
اللممُ النظرُ إلى المرأةِ دونِ تعمّد .
لا يقصد أبداً أن ينظر , يعني هو في طريق , فيه منعطف حاد , فجأةً رأى نفسهُ أمامَ امرأةً , فغضَ بصرهُ مباشرةً , هذه النظرة الأولى التي لا تملكُ لها تلافياً , لم تكن عن إرادةٍ , ولا عن قصدٍ , ولا عن رغبةٍ , ولا عن طلبٍ إطلاقاً , ولمجردِ أن رأيتَ امرأةً غضضت البصرَ عنها , قال : هذا هوَ اللمم .
قال الحُسين بن الفضل :
اللممُ هوَ النظرُ من غير تعمّدٍ , فإن أعادَ النظرَ فليسَ باللمم .
الثانية ليست لمماً الأولى فقط لمم , كما قالَ النبي الكريم : الأولى لكَ والثانيةُ عليك , وهوَ ذنبُ .
هذا الذي قالهُ النبي مرةً :
إن تغفر اللهم تغفر جمّاً وأيُّ عبدٍ لا ألم
يدخل الرجل إلى دائرة حكومية نصفها موظفات ، بالطريق هوَ يغضُ بصرهُ , ولما يرى إحداهن لمحة دون رغبةٍ منه بذلك , ويغضَّ بصرهُ فوراً , هذا هوَ اللمم الذي عنتهُ الآية الكريمة , هذا رأي العالِمُ الجليل الحُسين بن الفضل .
سعيد بن المُسيّب : اللمم ما ألمَّ بالقلب , الخواطر , واللهَ سبحانهُ وتعالى لا يُحاسب إلا على الأعمال , أمّا الخواطر لا يُحاسب عليها ، أمّا المؤمن الوَرِع يخافُ من الخواطر , لأنها قد تنقلبُ إلى أعما , إذا أعطى لخواطرهِ العِنان , ولم يُبالِ بالخواطر التي تتأتى إلى ذهنهِ ، ربما أصبحت خواطرهُ أفعالاً ، فالوَرِع لا يسمح لخواطرهِ أن تتجه في اتجاهٍ لا يُرضي اللهَ عزّ وجل .
النفس اللوامة .
بالمناسبة : كُلما حَجبكَ ذنبٌ صغيرٌ صغير عن رِبكَ العظيم فهذا لِعلوِ مقامك , ما الذي يحجُبُك ؟ يسمونها الحساسية ، يوجد ميزان مثلاً : ميزان يزن السيارات الشاحنة , لو وضع على الصفر , ومرَّ إنسان وزنهُ 150 كيلو لا يتحرك , هذا مهيأ أن يزن 5 طن ، 8 طن ، 10 طن ، 12 طن ، فهذا الميزان حساسيتهُ فوق الـ 200 كيلو ، ففي إنسان ميزانهُ ميزان سيارات .
يعني لكي يرتكب كبيرة , يقول لكَ : والله تضايقت , أمّا الصغائر لا يوجد عِندهُ حساسية أبداً , فهذا ميزانهُ سيء ، كُلما ارتقى الإيمان يُصبح الميزان حساساً .
يوجد الآن موازين , إذا وزنت بها ورقةً , وكتبتَ على هذه الورقة كلمة محمد , إنَّ وزنَ الحِبر الذي استغرقتهُ كلمة محمد , يجعلُ الكفةَ ترجح ، فكُلما علا مقامُكَ عِندَ الله يَدِقُ ميزانُك ، لذلك أثنى اللهُ على النفس اللوامة :
﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾
يُحاسب نفسهُ على النظرة .
قاضٍ من القضاة , عُرفَ في مدينتهِ بحُبهِ الشديد للرُطبِ في بواكيرهِ ، الفاكهة في أولها محببة , والآن ضعنا من الزراعة المحمية ، فطُرقَ بابهُ مرةً , وجاءَ الخادم بطبقٍ من الرُطب في بواكيرهٍ , قال : ممن هذا يا بُني ؟ قال : من فُلان ، قال : صِفهُ لي ، قال : صِفتهُ كيتَ وكيت ، فعرفَ أنَّ هذا الشخص الذي قدّمَ هذا الطبق أحدُ خصومٍ عِندهُ في القضاء , فقال : رُدّهُ إليه , فردّهُ إليه ، في اليوم الثالث توّجهَ إلى الخليفة , وطلبَ منهُ أن يعفيهُ من منصب القضاء , قالَ : ولِمَ ؟ قالَ : واللهِ قبلَ يومين , جاءني طبقُ رُطب , ورددتهُ في اليوم التالي , حينما وقفَ الخصمان أمامي , تمنيت أن يكونَ الحق مع الذي قدّمَ ليَ طبقَ الرُطب ، تمنيت أن يكونَ الحق مع الذي له طلب ، قالَ : هذا وقد رددتهُ فكيفَ لو قَبِلتهُ ؟ فعندهُ ميزان دقيق جداً .
سيدنا عليّ كرّمَ الله وجهه , كانَ في حضرة سيدنا عُمر , دخلَ يهودي يُخاصم سيدنا عليّاً , فقالَ : يا عليّ , فقالَ : يا أبا الحسن , جالس بجانبهُ خليفة المُسلمين , وأمير المؤمنين , وساعدهُ الأيمن المقرّب , دخلَ شخص يُخاصم أبا الحسن , فما كانَ من عُمر إلا أن قال : قُم يا أبا الحسن وقِف بجانب الرجل ، فتأثّرَ سيدنا علي وتغيّرَ وجههُ ، فلما حكمَ بينهما وانصرفَ اليهودي , فقالَ : لِمَ يا أبا الحسن وَجِدت لِمَ أوجدتَ عليّ ؟ قالَ : نعم ، قالَ : ولِمَ ؟ قالَ : لِمَ قُلتَ لي : يا أبا الحسن , ولم تقل لي : يا عليّ ؟ لقد كرّمتني , ميزّتني عنهُ , أيضاً ميزانهُ دقيق جداً .
هذا الذي ترددَ قبلَ أن يُضحي بنفسهِ , قال :
يا نفسُ إلا تقتلي تموتي هذا حِمـام الموتِ قد صليت
إن تفعلي فعلهما رضيت وإن تــوليت فقد شـقيت
وقاتلَ حتى قُتل ، قالَ عليه الصلاة والسـلام : رأيتُ في مقامهِ ازوراراً عن صاحبيه .
فأنتَ كُلما ارتقى إيمانك , يُصبح عِندك ميزان حساس , تُحاسب نفسك على النظرة، على الكلمة، على السكوت أحياناً، هذا قد جاء لعِندكَ زيارة للبيت, لماذا هذا الصمت؟ النبي كان يمزح مع أصحابه، في أيام إنسان يُعطي لنفسهِ هيبة مصطنعة, هذا ذنب, أحياناً إنسان يشكو لكَ, ويقول: زوجتي غير جيدة, يقول لكَ آخر: أنا الحمد لله ممتازة, والله هذا ذنب, استوحش لحاله, أنتَ زوجتك ممتازة فقط هوَ زوجتهُ سيئة، من الأُنس أن تقولَ غيرَ هذا, فلذلك: كُلما ارتقى الإيمان, يَدقُّ الميزان, يصبح حساساً.
وفي تفسير جميل جداً , قالوا :
اللمم ما فعلتهُ في جاهليتك قبلَ أن تؤمن ، قبلَ أن تُسلم ، قبلَ أن تتوبَ إلى الله عزّ وجل :
﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ﴾
لم تكن تعلم في عهد الجاهلية , حينما كُنتَ شارداً ، حينما كُنتَ تائهاً , هذا لمم .
كلمة لمم يا أخوان , أنا أُركّزُ على هذا الموضوع , لأنني أشعر أنَّ معظم المُقصّرين , أكثر المُسلمين , يفعلون كُلَ المعاصي تحت اسم اللمم, أخي هكذا قالَ الله: إلا اللمم, هذا فهم شيطاني لهذه الآية، يعني إبليس وسوسَ بهذا المعنى, قال أحدهم: كلُ ما ليسَ عليه حدٌ فهوَ لمم , حسناً: الحدود كلها خمسة؛ حد القتل، وحد الزِنا, وحد الخمر، وحد السرقة، وحد قذف المحصنة.
معناها الباقي كلهُ لا بأس به حسب الآية, لا, هذا فهم ما أراده الله عزّ وجل، مرةً ثانية: اللمم ما فعلتهُ قبلَ الإسلام، اللمم إذا نظرتَ لامرأةٍ, وأنتَ لا تُريد أن تنظرَ إليها, النظرة الأولى التي لا تستغرق عُشرَ الثانية, هذه لمم، اللمم ما ألمَّ بالقلب أي الخواطر، اللمم ما ليسَ بالشِرك لأنهُ يُغفر, هذه المعاني, أمّا أن تظُنَ أن تفعلَ شيئاً تحتَ اسم اللمم فهذا اللمم مُهلِك.
اللمم حينما تتخذُ الذنب عادةً، حينما تُصرُّ على الذنب, أصبحَ الذنبُ الصغيرُ كبيرةً، اللمم مرة واحدة لم تكن تعلم, سارعتَ إلى التوبة والاستغفار, هذا اللمم، أمّا تفعلُ الذنب على أنهُ ذنب, وتقول: هذا صغير, حينما تقول: أنهُ صغير فهوَ كبير.
لا تنظر إلى صِغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت.
يروى أن سيدنا علي بن أبي طالب دُفع إليه سارق, فأمرَ بقطعِ يدهِ, فقالَ: يا أميرَ المؤمنين, ما سرقتُ غيرَ هذه المرة, فقالَ: كذبت، فلما قُطعت يدهُ, قال: اُصدقني: كم لكَ بهذه المرة؟ قالَ: والله كذا وكذا مرة, يعني عشرات المرات, فقال: صدقت, إنَّ اللهَ لا يؤاخذُ بأول ذنب أو كما قال.
زلّت قدمُك، غَلبَتكَ نفسُك، تُبتَ سريعاً, بابُ التوبِ مفتوح, أمّا حينما تعيد وتُكرر هذه أصبحت كبائر, العائدُ إلى الذنب كالمستهزئ بربهِ, الذي يعود من توبتهِ ويُذنب مرةً ثانية كالمُستهزئ بربهِ.
من أجمل معاني اللمم : معنى جديد, يعني إذا هممتَ أن تفعلَ هذا الذنب ولم تفعلهُ خشيةَ الله عزّ وجل, في قصة مشهورة: شاب في مقتبل حياتهِ, في ظروف سمحت لهُ أن يَحُج، عاد من الحج, وفتح مكتبة صغيرة في أحد أحياء دمشق، هذه القصة من أربعين خمسين سنة, كان في حافلات تُراب، يبدو أن فتاة وقفت على باب مكتبتهِ, وكانت فاسقةً, وكأنها أغرتهُ, وأشارت إليه فتَبِعها، هوَ في الطريق تذكّرَ الحجَّ الذي حَجهُ, فرأى حافلة ركبَ فيها, وعادَ إلى المكتبة، ما فعلَ شيئاً لكنهُ همَّ أن يفعل, هذه قِصة واقعة, وأنا إلى سنوات معدودة, قيلَ لي: هذا الشاب لا يزال حيّاً يُرزق، في اليوم التالي جاءه أحد وجهاء الحي, وسألهُ هذا السؤال الغريب: يا بُني أأنتَ متزوج؟ قال لهُ: لا والله يا سيدي، قالَ لهُ: عِندي فتاة تُناسِبُك، فأرسلَ أُمهُ فإذا هيَ فتاة ممتازة، جاءهُ مرةً ثانية, قالَ لهُ: يا بُني كيفَ الأمر؟ قالَ: ممتاز, ولكن ليسَ عِندي بيت، قالَ: هيَ والبيت يا بُني, وأغلق الدُكان, وجعلهُ شريكاً لهُ في تجارة الزيت, قبل سنوات أُبلغت أنهُ لا يزال حياً يُرزق.
يعني اللمم الشيطان وسوس لكن مباشرةً عُدت, إذا إنسان همَّ بسيئةٍ ولم يفعلها كُتبت لهُ حسنة, هذا معنى آخر من معاني اللمم, هذه المعاني كُلها رائعة، وكُلها شريفة، وكُلها تنسجم مع طهارة المؤمن, أمّا ينظر لامرأة حتى يأكُلها بعينيه, أخي لمم هذه, شيء مؤلم, قال: والقُبلة لمم أيضاً في بعض الكُتب, ما هذا اللمم؟.
الخلاصة :
على كُلٍ ؛ بهذا ننتهي من أنواع الذنوب والكبائر والمعاصي, والحقيقة ذكرتُها كُلها تمهيداً لموضوع التوبة، لأنَّ التوبة أول مرحلة فيها هي العِلم، الآن عَلِمنا ما الصغيرة؟ وما الكبيرة؟ وما الكُفر؟ وما الشِرك؟ وما النِفاق؟ وما الفِسق؟ وما الإثم والعدوان والفحشاء والمُنكر؟ وأكبرُ كُلِ هذه الذنوب: أن تقولَ على اللهِ ما لا تعلم، لأنَّ الذنب مهما كانَ كبيراً تتوب منه، لكن المُبتدع ذا العقيدة الفاسدة لا يتوبُ من ذنبهِ، لذلك: أخطر شيء في الإسلام أن تقولَ على اللهِ ما لا تعلم، يعني إذا أنتَ مُعتقد أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يومَ القيامة, لن يَدَعَ أحداً في النار, لا بُدَ من أن يشفعَ لأمتهِ كلها, هذا الاعتقاد الفاسد يجعلُكَ تفعل جميع الذنوب, والأخطر من ذلك يمنعُكَ من أن تتوبَ منها أيضاً، فكُلُ عقيدةٍ زائغةٍ خطورتُها أنها تمنعُكَ من التوبة, لأن:
من الناسِ من يدري ويدري أنهُ يدري فهذا عالِمٌ فاتبعوه، ومنهم من يدري ولا يدري أنهُ يدري فهذا غافل فنبهوه، ومنهم من لا يدري ويدري أنهُ لا يدري فهذا جاهل فعلّموه, ومنهم من لا يدري ولا يدري أنهُ لا يدري فهذا شيطانٌ فاحذروه.
لذلك : أكبر هذه الذنوب أن تقولَ على اللهِ ما لا تعلم، أن تعتقدَ اعتقاداً فاسداً، أن تعتقدَ اعتقاداً ما أرادهُ الله عزّ وجل، أن تتهمَ اللهَ فيما تظن، أن لا تنسِبَ إليه الأسماءَ الحُسنى والصِفات الفُضلى، لذلك قال لهَ: يا ربي أيُّ عِبادُكَ أحبُّ إليك؟ قالَ: ...
عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((إن داود عليه السلام قال فيما يخاطب ربه عز وجل: يا رب، أي عبادك أحب اليك أحبه بحبك؟ قال: يا داود أحب عبادي إلي: نقي القلب، نقي الكفين، لا يأتي إلى أحد سوءا، ولا يمشي بالنميمة، تزول الجبال ولا يزول، أحبني وأحب من يحبني، وحببني إلى عبادي، قال: يا رب, إنك لتعلم إني أحبك وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى عبادك؟ قال: ذكرهم بآلائي وبلائي ونعمائي، يا داود, إنه ليس من عبد يعين مظلوماً، أو يمشي معه في مظلمته، إلا أثبت قدميه يوم تزل الاقدام))
.
إذا حببتَ العِبادَ إلى اللهَ عزّ وجل فأنتَ على حق.
فأيها الأخوة الأكارم , إن شاء الله في الدرس القادم نبدأ بموضوع التوبة , لأنَّ التوبة هيَ الباب المفتوح إلى الله عزّ وجل .