وضع داكن
26-04-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 018 - الإرادة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

منزلة الإرادة:


أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثامن عشر من دروس منازل السالكين، ومنزلة اليوم منزلةٌ يحتاجها كلُّ مؤمن إنها منزلة الإرادة.
قيمة هذه المنزلة تكمنُ في أنَّ كلَّ إنسانٍ أو أنَّ كلَّ مؤمن يتمنى أن يكونَ أفضلَ مما هوَ عليه، ما الذي يمنعهُ من أن يكونَ كما يتمنى؟ ضعفُ إرادته، لا أُبالغ إذا قُلت: إنَّ من أخطر الموضوعات المطروحة في مدارج السالكين هذا الموضوع، أي من مِنّا لا يتمنى أن يكونَ من أعلى المؤمنين؟ من أكملهم إيماناً؟ من المتقين؟ من المُحسنين؟ ممن تَخلّقَ بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم؟ ممن رزقهُ الله عملاً صالحاً؟ ممن أتقنَ صلاتهُ؟ ممن أنفقَ ماله في سبيل الله؟ ممن دامَ ذِكرهُ؟ ممن طَهُرَ قلبهُ؟ ممن أقبلت نفسه؟ من منا لا يتمنى؟ لماذا نحن دائماً دونَ ما نتمنى؟!! لماذا هناكَ مسافةٌ بينَ ما نحنُ عليه وبينَ ما يجبُ أن نكونَ عليه؟!! هنا تكمن قيمة هذا الدرس، إنها الإرادة.
 

كلما ازددتَ علماً ازددتَ إرادةً:


قبلَ أن أدخلَ في تفصيلات الدرس، مرةً كنتُ أركبُ مركبةً عامةً في طريقي إلى دمشق من المحافظات الشمالية، لمّا وصلت إلى شارع العدوي، الذي قُبيلَ دمشق، أذكر أنَّ الليل في منتصفه، أو في ثُلثهِ الأول، وأذكر أنَّ الوقتَ كانَ شديدَ البرد، رأيتُ رجلاً يرتدي ثياباً رياضيّة ويجري، قلت: في الشام أكثر من خمسة ملايين كلهم إلى جانب المدافئ، والمقاعد الوثيرة، ويتناولون الطعام الطيب، أو غير الطيب، مع أهلهم وأولادهم، وهذا يجري في هذا البرد!! ليسَ من السهلِ أن تَملِكَ إرادةً تقوى بها على عاداتك، على مألوف حياتك، على أن تركنَ إلى الدفء، إلى بيتك، مع أولادك، أن تأكل ما تشتهي، هذا يركض في وقتٍ شديد البرودة، وفي وقتٍ يألفُ الناسُ أن يقبعوا في بيوتهم، قلت: متى نشأت عِندهُ هذه الإرادة الحديدية؟ متى غَلَبَ نوازِعَ نفسهِ الطبيعية؟ متى قَوِيَ على نفسه؟ هُنا السؤال متى؟ لماذا تسعة وتسعون في المئة من الناس يركنون إلى عاداتهم؟ إلى طبيعة أجسامهم؟ إلى الراحة؟ إلى الدفء؟ إلى الكسل العضلي؟ ولماذا هذا يجري في هذا الوقت؟ ما الذي دفعهُ؟ ما الذي قوّىَ إرادتهُ؟ ما الذي جعل له هذه الإرادة الحديدية؟ ما الذي جعلهُ يتميز من بين مئات الألوف بل من بين عشرات الألوف أو بِضعة الملايين؟ من؟ هذا لو أنه اطّلع اطّلاعاً واسعاً على ما في عِلم الطب من أنَّ القلب إذا صَلحَ صَلُحَ الجسدُ كُله، وإذا فسَدَ فسدَ الجسدُ كُله، وأنَّ هذا القلب يُقوّيهِ الجري ويُضعِفهُ الكسل، وأنَّ الإنسانَ إذا أهملَ قلبهُ عانى في خريفِ عُمُرهِ أشياءَ كثيرة، يبدو أنَّ هذا الشاب الذي يجري في هذا الوقت، وفي هذه الظروف القاسية، يبدو أنَّ عِلمهُ واطّلاعهُ كوّنا عِندهُ الإرادةَ القوية.
فدرسُنا كُلهُ في فكرتين: إذا كانَ هناكَ فرقٌ كبير بين ما أنتَ عليه وبين ما يجب أن تكونَ عليه، هذه المسافة الكبيرة سببها ضعفُ الإرادة، وضَعفُ الإرادة سببها نقصُ العِلم، إذاً العلمُ هو الطريق الوحيدةُ إلى الله، إذا ازداد عِلمُك قَوِيت إرادتُك، إذا قَويت إرادتُك وصلتَ إلى ما تصبو إليه، فهذا ملخص الملخص، قبل أن نبدأ بالتفصيلات، لماذا تضعف عن أن تكونَ كما تريد؟ لأنَّ عِلمكَ بما تُريد يحتاجُ إلى مزيد.
طبعاً ضربت مثلاً واحداً، أما أنتم لكم أن تضرِبوا عشرات الأمثلة، أي أعرف رجلاً يُقبِل على الطعام الدسم إقبالاً عجيباً، وله مركبة يستعملها لمسافة مئة متر، كسل ونهم وطعام دسم، في الثانية والثلاثين توفي، طبعاً هذا الجسد له قوانين، طبعاً مع الاحتفاظ بعقيدتنا بأنَّ لكلِّ إنسانٍ أجلاً لا يتقدم ولا يتأخر، ولكنَّ الله عزّ وجل جعلَ لكلِ شيء سبباً، لكن هذا الإنسان إقبالهُ على الطعام الدسم، وإقبالهُ على استعمال مركبته بشكلٍ دائم، وعزُوفه عن أن يبذلَ جهداً من ضعفِ إرادته، وضعفُ إرادتهِ بسببِ نقصِ علمهِ بقواعد هذا الجسم.
إذاً نَحُلّ بهذا الدرس مُشكلة كبيرة، كلما تاقت نفسكَ إلى أن تكونَ في مستوىً أرقى مما أنتَ فيه اعلم عِلمَ اليقين أنَّ هذا يعود إلى ضعفِ إرادةٍ فيك، وهذه الإرادة ضَعُفت لنقصِ العلمِ الذي تحويه، إذاً كلما ازددتَ علماً ازددتَ إرادةً، وكلما ازددتَ إرادةً بلغتَ المستوى الذي تصبو إليه، عالج نفسك، هذا الدرس درسُ هذا المسجد له طبيعةٌ خاصة، كيفَ أنَّ الجسد له قوانين، وله أساليب، ولهُ عِلل، ولهُ أدواء، وله أسباب، وله مُسببات، كذلك النفس.
 

آيات متعلقة بالإرادة:


الآن نبدأ بالدرس، قال تعالى: 

﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)  ﴾

[ سورة الأنعام ]

إذاً هناكَ من يريد وجه الله، والذي يُريد وجه الله اسمهُ مُريد، وأكثر علماء القلوب يسمّونَ تلاميذهم مُريدين، معنى مُريد أي أرادَ وجه الله، أرادَ الله ورسولهُ، قالَ تعالى: 

﴿ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)﴾

[ سورة الليل ]

هذه الآية الثانية المتعلّقة بالإرادة، قال تعالى:

﴿ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)﴾

[ سورة الأحزاب ]

﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ هُنا المُشكلة، ماذا تُريد؟ هذا أكبر سؤال، هناكَ من يريد الدنيا من خلال الدين، هناكَ من يحضر مجالس العِلم ليزدادَ دخلهُ، ليكثُرَ زبائنهُ، هناكَ من يحضر مجالس العِلم ليتعلّمَ أشياء يتصدّرُ بِها المجالس، وهناكَ من يُريد اللهَ ورسوله، ﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ .
 

تعريف الإرادة:


الآن أُورد لكم طائفةً من تعاريف علماء القلوب بالإرادة أو بالمُريد، بالإرادة مُطلقة، بالمُريد من أرادَ الله ورسوله.
الآن الإنسان بِلا عِلم، بِلا توجيه، بِلا مجلس عِلم، بِلا مُرشِد، بِلا مشرب ديني، بِلا تزويد، إنسان له جسد، له شهوات، له مطالب، غالِباً يستجيبُ لشهواتِ جسمهِ، غالِباً يَركنُ للراحة، أي من الطبيعي جداً أن تُصلي الصبح بعدَ الشمس، ما دامَ جِسمُكَ مستريحاً في الفراش، هذا الجسد يتمنى أن يبقى نائماً، وهذا الجسد يتمنى أن يقبعَ في البيت ولا أن يأتي إلى مجلس العلم، وهذا الجسد يتمنى أن يأكلَ كثيراً، وهذا الجسد يتمنى أن تكون له زوجة كما يشتهي، فالإنسانُ من دونِ علمٍ، من دونِ مجلسِ علمٍ، من دونِ توعيةٍ، من دونِ اطّلاعٍ، من دونِ معرفةٍ، له انسياق مع شهواتهِ، فقال: الناسُ غالِباً يُعرِّجونَ على أوطان الغفلة، ويجيبونَ دواعي الشهوة، ويخلدونَ إلى أرض الطبيعة، ومن أرادَ الله ورسولهُ ينسلخُ عن كلِّ ذلك، هذا أول تعريف.
إذاً انسلاخك عن دواعي الشهوة، وعن دواعي الراحة، وعن دواعي الغفلة، طبعاً الصلاةُ ذِكر، وإذا كانَ الإنسانُ منسجماً في عملهِ لا يتمنى أن يُصلي، إذا كان مُنسجماً، يقوم بعمل رائع، له أجرٌ كبير، يتمنى أن يبقى بِلا صلاة ساعاتٍ طويلة، فالإنسان من دون علم، من دون معرفة، ينسجم معَ عملهِ فلا يُصلي، ويبقى نائماً فلا يُصلي الفجر، ويأكلُ من دونِ حساب، ويمزح، ويتكلّم، وينهشُ أعراضَ الناس، ويغتاب، كلُّ هذا انسجاماً مع غفلتهِ.
تعريفُ آخر للمُريد الصادق، من هو المُريد؟ الذي يُريد اللهَ ورسولهُ، نهوض القلب في طلب الحق، الإنسان أحياناً، هذا الحُطيئة هجا أحد زعماء القبائل، اسمهُ الزبرقان، قال له بيتاً يُعدّ الآن شِعارَ كلِّ إنسان، قال له:

دع المكارمَ لا ترحل لبُغيتها                 واقعد فإنكَ أنتَ الطاعِمُ الكاسي

[ الحطيئة ]

  * * *

ما لكَ وللمكارم؟ أنتَ مُطعَمٌ مكسو، اقبع في البيت، كُلْ، واشرب، وتنزّه، واسهر، واسمر، والتقِ مع من تُحب، وامزح، وافرح، ما لكَ وللمكارم؟ دع المكارم، أما الذي يُريد اللهَ ورسولهُ قِلقٌ دائماً، لا يُطمئنهُ إلا أن يرضى الله عنه، قِلقٌ دائماً، لا يُطمئنهُ إلا أن يشعر أن الله يُحبه، لذلك نهوض القلب في طلب الحق، هذا تعريفٌ آخر من تعريفات المُريد.
تعريفٌ ثالث: لوعةٌ تُهَوِّنُ كلَّ روعة. 

فليتكَ تحــلو والحيـــاةُ مريـــرةٌ            وليتكَ ترضى والأنامُ غِضابُ

وليتَ الذي بـيني وبينـكَ عامِـــرٌ           وبيني وبينَ العـالمين خــرابُ

إذا صحّ مِنكَ الوصلُ فالكلُ هينٌ           وكلُّ الذي فوق التُرابِ تُــرابُ

[ أبو فراس الحمداني ]

* * *

هذا الذي يُريد الله ورسوله، يهونُ عليه كل صعب، يسهُل عليه كلّ مُحال، يبتغي مرضاة الله عزّ وجل بأيّ ثمن.
قال بعضهم: المُريد من كانَ في قلبهِ لوعةٌ، ولذعةٌ في فؤادهِ، وغرامٌ في ضميرهِ، وانزعاجٌ في باطنهِ، ونيرانٌ تتأججُ بينَ جوانحهِ، هذا هو المُريد، أي المُريد يقشعّرُ جِلدهُ إذا ذُكِرَ الله، يَجِلُ قلبهُ، تنهمرُ دموعهُ، يُحبُّ الله.
 

البطل هو الذي يملك الإرادة بالعِلم لا بالتجربة:


أقول لكم مِراراً وتكراراً، قال تعالى:

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)﴾

[ سورة الأعراف ]

النفوسُ جميعها مهيأةٌ لأن تعرفَ الله، النفوسُ جميعها مهيأةٌ لأن تُحِبّ الله، النفوسُ جميعها مستعدةٌ لأن تكونَ ممن سَعِدَ بُقربِ الله عزّ وجل، ولكن مرةً ثانية وثالثة نقصُ العِلمِ يؤدي إلى ضعفِ الإرادة، وضعف الإرادة يؤدي إلى وجود مسافةٍ كبيرةٍ بين ما أنت عليه وما ينبغي أن تكونَ عليه، أنا أظن أنَّ أكثرَ المؤمنين في قلبهِ لوعة، يتمنى أن تكونَ صلاتهُ أفضلَ مما يُصلّي، يتمنى أن يكونَ صيامهُ أفضل مما هوَ يصوم، يتمنى أن يكونَ حجهُ أفضلَ مما شعرَ في الحج، يتمنى أن تكونَ صدقتهُ أكبر، أكثر وأشدَّ إخلاصاً، يتمنى أن يكونَ وِردهُ في صحوةٍ لا في غفلة، يتمنى أن تكونَ استقامتهُ من أعلى مستوى، ما دام هناك شعور بالتقصير فليعلم الإنسان عِلم اليقين أنَّ هذا التقصير مبعثهُ إلى ضعف الإرادة.
مرة لي صديقٌ زارَ أحدَ أقربائهِ في المستشفى، وقد أُجريت له عملية جراحية في رئتيه، بسبب الدخان، قال له: حينما أخرجُ من المستشفى لي حِسابٌ عسيرٌ مع هذه الدخينة، أي السيجارة، لكنَّ مرضهُ كانَ عُضالاً، ولم يسمح لهُ هذا المرض أن يَخرُجَ من المستشفى، مات من توه، حينما كانَ يدخن سنواتٍ طويلة، وهو على مستوى رفيع من الثقافة، لماذا ضَعُفت إرادته عن أن يُقلعَ عن التدخين؟ لأنهُ لم يُعاين أضرار التدخين، أما حينما دخلَ إلى المستشفى، واستؤصلت أجزاء كبيرة من رئتيه بسبب المرض الخبيث، عندئذ امتلكَ إرادةً حديديةً، أي يتمنى أن يُمزّقها، عبّرَ عن هذه الإرادة أنهُ إذا خرجَ من المستشفى فلهُ معها حِسابٌ عسير، ولكنَّ المرضَ العُضال لم يسمح لهُ أن يخرجَ من المستشفى، إذاً لاحظ متى قَوِيت إرادتهُ؟ حينما رأى المرضَ الخبيث منتشراً في رئتيه، عندئذٍ امتلكَ إرادةً قوية. 
أبداً لاحظ نفسك، حينما يُعاني الإنسان من آلامٍ في كُليتيه، آلام مُبرّحة، ويقال له: هذا بسبب الشاي، وقد يكون من عُشّاق الشاي، يشرب في اليوم عشرين كأساً، تراهُ فجأةً يُقلع عنه، نحنُ كُنا نرجوك رجاء حاراً أن تُقلّلَ منه، ما كنت ترضى، أما حينما ذاقَ آلام الكُليتين ونوبات الحصيات عندئذٍ أقلعَ عنه.
بقي الفرق بينَ أن تملكَ الإرادةَ بعدَ فوات الأوان وبينَ أن تملِكها في الوقت المناسب، لابدَّ من أن تملِكها بعد أن تدفعَ الثمن، أما البطل هو الذي يملكُها بالعِلم لا بالتجربة، لابدَّ من أن تَمِلكَ إرادةً قوية، إما أن تملكها بعدَ أن تدفع الثمنَ باهظاً، وبعدَ فوات الأوان، وعندئذٍ لا تستفيد من هذه الإرادة القوية، وإما أن تملكَ الإرادة القوية بسببِ العِلمِ الذي تُحصّلهُ وأنتَ في مُقتبل العمر، هذا هو الفرق.
 

صفات المريد:


قال بعض العلماء: من صفات المُريد أنه يتحبب إلى الله بالنوافل، بصلاةٍ نافلةٍ، بصومٍ نفلٍ، بتلاوةِ قرآنٍ، بكثرة ذِكر، بكثرة صدقةٍ، الذي يتحبب إلى الله بالنوافل هذه صفاتٌ في المُريد، والمُريدُ أيضاً هو الذي يأنسُ بالخلوة، هناك شخص يقول لك: اجتماعي، لا يستطيع أن يجلسَ وحده أبداً، لمجرد أن يجلسَ وحدهُ يشعر بالوحشة، والاستئناس بالناس كما يقول بعض العلماء من علامات الإفلاس، أما المُريد الصادق لهُ معَ ربهِ خلوات، وله مع ربهِ جلوات، يأنَسُ إذا جلسَ وحدهُ في الغرفةِ يذكرُ الله، يأنسُ بتلاوة القرآن. 
ذكرت البارحة في درس الأحد أنَّ غارَ حِراء، الشابُّ القوي المتين، مفتول العضلات، لا يستطيع أن يصلَ إليه، إلا بساعاتٍ طويلة مع الجُهدِ الشاق، يمكن أن تَصِلَ إليه بساعتين أو بثلاث، ولكن أتستطيع أن تنامَ هُناكَ وحدك في الليل والأرضُ كُلها أفاع وعقارب؟ قلت: ما الذي جعلَ النبي عليه الصلاة والسلام يقبعُ في هذا الغار الليالي ذوات العدد؟ إنَّ أُنسهُ الشديدَ بالله طغى على وحشة المكان، وإذا كُنتَ مُريداً صادقاً مع الله ربما شعرتَ بهذا الشعور، كلما ازدادَ قُربُك ازدادَ أُنسُك، وإذا ازدادَ أُنسُكَ باللهِ عزّ وجل غَلَبَ على وحشةِ المكان.
إذاً من علامة المُريد الصادق أنه يأنَسُ بالخلوة، ويُؤثر أمرَ الله تعالى على كلِّ شيء، ويستحيي من نظرِ اللهِ إليه، يستحيي أن ينظرَ اللهُ إليه في حالةٍ لا تُرضيه، ويبذل جُهدهُ في ابتغاء مرضاة الله، ويتعرضُ لكلِّ سببٍ يوصِلُ إليه، يا ترى بحفظِ القرآن؟ يا ترى بخِدمة الصالحين؟ يا ترى بالدعوةِ إليه؟ يا ترى بالتواضع؟ يا ترى بماذا؟ كُلما بَلَغَهُ أنَّ هذا الطريق يوصِل إلى الله سَلَكَهُ، كُلما سَمِعَ أنَّ هذا العمل يُقرّبُ فعله، كُلما دَرِي أنَّ هذا الشيء إذا ابتعدَ عنهُ يقترب من الله عزّ وجل يُبادر فيبتعد عنه.
والقناعة من صفات المُريد الصادق، يقنعُ بما قَسمهُ اللهُ له، دائماً المُريد صابر، وقَنوع، وراضٍ، والذي يُريد الدنيا وزينتها دائماً لجوج، وناقم، وساخط، وقلبُ المُريد لا يَقرّ إلا إذا وصلَ إلى الله عزّ وجل، يُثلجُ قلبهُ أن يرضى الله عنه، وقيلَ: المُريد من كانَ نومهُ غَلَبَة، أي النوم عنده حينما تنهار أعصابه ينام، حينما يغلِبهُ النوم ينام، أمّا أن يجعلَ النومَ أحدَ مُتعِ الحياة، يهيئ نفسهُ للنوم، ينام نوماً عميقاً، ينام نوماً لا استيقاظ بعده حتى يشبع من النوم، ليسَ هذا من علامات المُريد، والدليل: 

﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)﴾

[ سورة السجدة ]

قالَ: المُريد من كانَ نومهُ غَلَبَة، وأكله فاقة، وكلامهُ ضرورة، هذا الذي يُريد الله ورسوله.
لأحدِ العلماء كلمةٌ خطيرة، قالَ: من لم تَصحَّ إرادتهُ ابتداء فإنه لا يزيده مرور الأيامِ إلا إدباراً، أي إذا الإنسان في بداياتهِ لم يُرِد الله ورسولهُ، كُلما مرَت الأيام تزيدهُ بُعداً، وسأماً، وضجراً، ومللاً، وكسلاً، وانصرافاً، إلى أن ينقطعَ عن اللهِ عزّ وجل، أي إذا بدأتَ طريقَ الإيمان، بدأتهُ غيرَ صادقٍ ما صحت إرادتك في طلب الحق، إذا بدأت الإيمان لطلبِ الدنيا تجد أنَّ الأيام كلما مرت أبعدتك، جعلتك تسأم، يقول لك: والله مللنا، كلام سمعناه كثيراً، تجده يُصلّي متكاسلاً، يصوم متأففاً، يحجُّ تاجراً، يذكرُ لاهيّاً، يُسبّحُ غافلاً، يقوم بالواجبات شكلاً، صورةً، عباداتهُ جوفاء، تِلاوتهُ عرجاء، من لم تَصحَّ إرادتهُ ابتداء فإن الأيام لا تزيده إلا إدباراً.
 

أرقى أنواع التعليمِ التعليم عن طريق الخبرات والتجارب:


قالَ بعضهم: المُريد إذا سَمِعَ شيئاً من علوم القوم سَمِعَ شيئاً فَعَمِلَ به، صارَ حِكمةً في قلبهِ إلى آخرِ عُمُرِهِ.
مثلاً سَمِعَ أنَّ أمرَ اللهِ عزّ وجل أن تَغُضّ بصركَ عن محارم الله، هذا توجيه إلهي، فغضَّ بصره عن محارم الله، فشعرَ بحلاوةٍ ملأت قلبهُ، الآن صارَ هذا حكيماً، لأنه مُجرّب، سَمِعَ التوجيهَ نظريّا، وطبّقهُ عمليّاً فشعرَ بحلاوةٍ في قلبه إلى آخرِ عمره، يقول: أنا فعلتُ كذا وكذا، وشعرتُ بكذا وكذا. 
سَمِعَ أنه ما تركَ عبدٌ شيئاً لله إلا عوّضهُ اللهُ خيراً منهُ في دينهِ ودُنياه، سَمِعَ بهذه الحِكمة فعرَضت لهُ الدنيا مع شُبُهةٍ فتركها، وازورّ عنها، وابتعدَ عنها، فآتاه الله خيراً مما فقدهُ، صارَ حكيماً، صار بالتعبير الحديث صاحب تجربة، صار صاحب خِبرة، صار يُعاين كما قالَ العُكبُري: القرآن الكريم تؤخذُ ألفاظهُ من حُفّاظهِ، وتؤخذُ معانيه ممن يُعانيه، صار هناك معاناة، قال: وإذا تكلّمَ هذا الحكيم الذي سَمِعَ من كلامِ القوم فطبّقهُ، فقطفَ ثِمارهُ، فذاقَ طعمهُ، فصارَ حكيماً، الآن إذا تكلّمَ به انتفعَ به من سَمِعهُ، وقديماً قالوا: الكلامُ الذي يخرجُ من القلب يدخلُ إلى القلب بِلا استئذان، والذي يخرجُ من الفم لا يُجاوز الآذان، إذاً متى يمكن أن ينتفعَ الناسُ بكلامك؟ إذا استمعتَ أنتَ إلى الحق، وطبّقتهُ، وقطفت ثِمارهُ، لمستَ فوائده، فتكلّمتَ عن تجربةٍ، انتهت إلى مكان جميل، وعاين المكان، وسُرَّ به سروراً عظيماً، وعاد إلى بلده، الآن إذا ذكرَ لكَ ما ذاق من مُتعةٍ وسرور ينقل لكَ شعوره، تشتهي أنت أن تذهبَ إلى هذا المكان، إذا وصفَ لكَ الواصف، وكان وصفهُ عن تجربة حقيقية، ينقل لك كلَّ شعوره، فإذا قال لكَ: والله أنصحكَ أن تذهب إلى مكان كذا في قضاء إجازتك، تسألهُ: هل ذهبت أنت إليه؟ يقول: لا والله؛ لكن هكذا وصفوه لي، تبقى أنتَ فاترِ الهِمة، لأنَّ كلامهُ لم ينتقل إليكَ مع الشعور، قال: وإذا تكلّمَ بهِ انتفعَ به من سَمِعهُ، بالمقابل ومن سَمِعَ شيئاً من علوم القوم، ولم يعمل به، كانَ حكايةً يحفظُها أياماً ثمَ ينساها، مرّ معنا بعلم التربية أنَّ أسوأَ أنواع التعليم هو التعليم اللفظي، تُقدّم للطالب آلاف المعاني في ألفاظ، لأنَّ الطالب لم يعش هذه التجارب، لم يعش هذه الحقائق، سمعها بأذنهِ، إذا أدى بها امتحاناً، حَفِظَ الكتابَ كلمةً كلمة، وأدى به امتحاناً، أنا أقول لكم: هذا الكلام المُضحك، الطلاب الذين ينجحون في الشهادات لو دُعوا إلى تقديم الامتحان نفسهِ بعدَ عام لرسبوا جميعاً، لماذا؟ لأنَّ التعليم لفظي، هذه المعلومات حَفِظوها، فلما جاء الامتحان كتبوها، لأنها لم تُكن عن تجربةٍ، ولا عن إحساسٍ، ولا عن خِبرةٍ، لكن لاحظ نفسك، إذا عانيتَ تجربةً لا تنساها حتى الموت، يمضي عليها ثمانون عاماً وأنتَ تذكرها، لذلك أرقى أنواع التعليم التعليم عن طريق الخبرات والتجارب، سمعت ببعض بلاد الغرب المهندس يذهب إلى الحقول في مساعدة كبار المهندسين، طالب هندسة لا يدخل قاعات التدريس قبل أن يمضي ستة أشهر مع المهندسين، يرى الطبيعة، يرى الإسمنت، يرى البناء كيف ينشأ؟ يرى هذه الألفاظ. 
أي فرقٌ كبير بين شخص مثلاً لم ير البحر إطلاقاً، قرأ مقالة عن البحر، ورأى صورة عن البحر، وقرأ قصيدة عن البحر، هل أنا يا بحر منكَ لستُ أدري؟ قرأ قصيدة عن البحر، ونظر إلى صورة عن البحر، هذا البحر عِندهُ فكرة قرأها، ينساها، أما لو أنَّ هذا الإنسان ذهب إلى البحر، وسَبَحَ فيه، وكادَ يغرق، وشَعرَ بأنه كادَ يموت، لولا أن أحداً أنقذه في آخر لحظة، هذا يعرف ما البحر؟ وما معنى موج البحر؟ وما معنى ملوحة البحر؟ يعرفُها عن تجربة لا ينساها أبداً، أما الآن لو أنَّ إنساناً فرضاً ما أُتيحَ له أن يذهبَ إلى البحر، وقرأ مقالةً عن البحر، أسأله بعدَ ثلاثة أيام ماذا تذكر منها؟ يقول لكَ: لا شيء، وإذا ذكرَ بالمئة خمسة، بعدَ أسبوعين لا يذكر شيئاً، هذا التعليم اللفظي، أما لو أخذناه إلى البحر، وسَبحَ فيه، وذاقَ طعمَ ملوحتهِ، ورأى الأسماكَ فيه، وركبَ متنَ البحر، وشعرَ بالموج، وانخلعَ قلبهُ خوفاً، وكادَ يغرق، هذه التجارب لا ينساها حتى الموت، أبداً، فإذا كانت معلوماتك بالدين كأن تقرأ مقالة عن البحر، وأنتَ ما عرفتَ البحر، ولا رأيت البحر، ولا سبحتَ في البحر، ولا ذُقتَ طعم البحر، ولا أوشكتَ على الغرق فيه، فكلُّ معلوماتك سطحية وسرعان ما تنساها، لذلك تؤخذ ألفاظهُ من حُفّاظهِ، وتؤخذ معانيه ممن يُعانيه، أما إذا كان لكَ مع الله تجربة، إذا ذُقتَ طعمَ القُربِ فعلاً، إذا ذُقت طعمَ الاستقامة، إذا ألقى الله في قلبكَ السكينة، إذا شعرتَ براحة الإيمان، إذا شعرتَ بأنَّ الله يُحبك، إذا أنفقتَ من مالِكَ فآتاكَ الله عشرةَ أمثال، إذا آثرتَ مرضاة الله عزّ وجل فعوّضكَ الله خيراً مما فقدك، كلُّ حديثٍ شريف، وكلّ آيةٍ كريمة تُطبُقها وتقطف ثمارها، أنت الآن صرت داعية، لأنكَ إذا تكلّمت تركتَ أثراً عميقاً في نفوس الناس، إذا دعوتَ إلى الله، وعبّرتَ عن خِبراتكَ الإيمانيّة، فعلتَ في نفوس الناس فِعلَ السحر، لأنكَ تتحدثُ عن تجربة، دعوا في أذهانكم مقالة البحر، مقالة قرأتها، قصيدة حفظتها، صور تأملتها، وأنتَ لم تر البحر إطلاقاً، لذلك أحد الشعراء وصفَ مُدّعي التصوف، قال:

خاضوا بِحار الهوى دعوى وما ابتلّوا             فهُمْ في السُّرى لم يَبْرَحوا من مكانهم

[ ابن الفارض ]

* * *

أي الإنسان كأس ماء، ماء حقيقي لو وضعها في جيبهِ، وضع الماء في جيبه لسالَ الماءُ إلى الأرض، أيُعقلُ أن يخوضَ بحراً دونَ أن يبتل؟ كأسُ ماء واحد يملؤهُ بللاً، ويخوض بحراً ولا يبتل!؟ هذه الدعاوى:

خاضوا بِحار الهوى دعوى وما ابتلّوا             فهُمْ في السُّرى لم يَبْرَحوا من مكانهم

[ ابن الفارض ]

* * *

فالذي أتمناه على كلِّ أخٍ منكم إذا أرادَ أن يدعو إلى الله إيّاهُ أن ينطلقَ من معلوماتٍ سمعها، أو من أفكارٍ نُقلت إليه، أو من شيء قرأهُ، إن فعلَ هذا لا يستطيع أن يؤثّرَ في إنسان، أما إذا كانت له مع الله تجربة، إذا كانت له مع الله أيام، إذا كانت له مع الله أحوال، إذا كانَ قد آثرَ جانبَ الله، إذا تركَ شيئاً لله، إذا ذاقَ طعمَ القُرب، إذا ذاقَ حلاوة الحُب، إذا كانَ كذلك، نقول له عندئذ ادع إلى الله، كلامُكَ عندئذٍ يفعلُ في الناس فِعلَ السحر، وقد وُصِفَ النبي عليه الصلاة والسلام بأنه ساحر وليسَ بساحر، لِشدةِ قوةِ تأثيرهِ في الناس، من أينَ جاءت قوة التأثير؟ من المعاناة، من الحبِّ الذي امتلأَ في قلبه، إذاً ومن سَمِعَ شيئاً من علوم القوم ولم يعمل به كانَ حكايةً يحفظُها أياماً ثمَّ ينساها.
أنا حينما كُنتُ في التدريس كنتُ أطلب من طلابي في أولِ درسٍ ألتقي بهم، أقول لهم: هُناكَ وظيفة، اكتبوا لي حدثاً بارزاً في حياتكم وقعَ فعلاً، حينما أتلقى الوظائف أجدُ العجبَ العُجاب، لأنَّ الطالب إذا تكلّمَ عن مأساةٍ عاناها، أو عن شيء ملأَ قلبهُ فرحاً، يُصبحُ أديباً، أسلوب قوي، معاناة، عاطفة صادقة، فكلُّ طالبٍ حينما ينطلقُ في كتابته من تجربةٍ حقيقيةٍ، من مأساةٍ، من حدثٍ مُفرحٍ، يُصبحُ في مستوىً أدبيٍّ أرقى بكثير من مستواه الأصلي، لأنَّ جوانحهُ وعواطفهُ وخبراتهِ كُلها تضافرت على إنجاح هذا الموضوع، لذلك يبقى لكلِّ طالبٍ في ذهني صورة.
 

معاشرة الأضداد أشدُّ شيء على المُريد:


قالَ يحيى بن مُعاذ: أشدُّ شيء على المُريد معاشرة الأضداد، إذا كُنتَ فعلاً مُريداً صادقاً، أصعبُ شيء في حياتك أن تُضطر أن تُرافِقَ إنساناً بعيداً عن الله عزّ وجل، تشمئزُ من مُزاحِهِ، ومن حركاتهِ، ومن سكناتهِ، ومن نظراتهِ، ومن تعليقاتهِ، ومن ملاحظاتهِ، أنتَ نقيّ كالثوبِ الأبيض، وهو قذر كالثوبِ الذي امتلأ من المياه الآسِنةِ والوحولِ القذرةِ طبعاً، أما إذا أقمتً علاقاتٍ حميمةً مع أُناسٍ بعيدين عن الله عزّ وجل، وأحببتهم، آثرتَ صحبتهم، أمضيتَ معهم وقتاً ممتعاً، فهذه علامةٌ خطيرةٌ جداً على أنكَ بعيدٌ عن الإيمانِ بُعداً كبيراً.
أي أيُعقل أن تخرُجَ من الحمام وقد تألّقَ جسدك، وارتديتَ أجمل الثياب، وأنظفها، وأشدها عِطراً، وأن تمرَّ على أُناسٍ يسبحونَ في ماءٍ آسنٍ أسود، ماء المجاري، وروائح هذا الماء تزخمُ الأنوف؟ أيُعقلُ أن تتمنى أن تكونَ معهم وأنتَ بهذه النظافة؟ لا يُمكن، أنتَ في نظافةٍ، وفي عطرٍ، وفي طُهرٍ، وفي نقاءٍ، وفي صفاءٍ، وهم في قذارةٍ، وفي دنسٍ، وفي رجسٍ، وفي نجاسةٍ، لذلك إذا ألِفتَ أهلَ الدنيا، وأحببتهم، وضحكتَ لمُزاحهم، وأنِستَ بقُربهم، وأمضيتَ معهم ساعات طويلة فاعلم عِلمَ اليقين أنكَ واحدٌ منهم، وأنكَ لا تنتمي إلى الدين إطلاقاً، إنما هوَ ادّعاءٌ فارغ، أما إذا شعرتَ أنكَ لا تحتمل أن تُمضي ساعات طويلة مع أهل الدنيا، مع أهل الإعراض، مع أهل الفِسق والفجور، واللهِ الذي لا إلهَ إلا هو مزحةٌ رخيصة، مزاح رخيص إذا سمعهُ المؤمن يكادُ يخرجُ من جِلدهِ من شدةِ التأذي، بينما تجدُ أُناساً آخرين ينثنونَ من الضحك، يهتزونَ نشوةً لهذا المُزاح، علامةُ إيمانك أنَّ هذا المُزاح اللاأخلاقي، القذر، تأباهُ نفسك، إن رأيت إنساناً مُتلاعِباً كذوباً ذكيّاً، إن أُعجبتَ به فأنتَ مِثله، أما إذا احتقرت خِداعهُ ونِفاقهُ وانحطاطهُ فأنتَ مؤمن، لذلك لابد من أن تكونَ متميزاً عن أهلِ الدنيا. 
إذاً أشدّ شيء على المُريد مُعاشرةُ الأضداد من كانوا ضِدهُ في السلوك، للموضوع تتمة رائعة جداً، يقول: المُريد الصادق أيّةُ حركةٍ يتحركها في الدنيا يزينُها بمقياسٍ واحد، هل تُقرّبهُ من الله أم تُبعِدهُ؟ حتى تجارتهُ، حتى مهنتهُ، حتى حِرفتهُ، حتى حركاتهُ وسكناته، حتى نزهاتهُ، حتى إجازاتهُ، حتى كلّ حركاتهِ، إن كانت حركتهُ تُبعدهُ عن الله عزّ وجل لا يفعلُها، إذاً في كلِّ نشاطهِ يقصدُ وجهَ الله عزّ وجل، لذلك: إلهي أنتَ مقصودي ورضاكَ مطلوبي. 
 

ثلاثة أشياء حتى يبلغ المريد ما يريد:


قال: لابدَّ من ثلاثة أشياء حتى تَبلُغَ ما تريد أيها المُريد؛ لابدَّ من نفسٍ مستعدةٍ قابلة، والنفسُ لا تستعدُ ولا تقبل إلا إذا تعلّمت، إذاً العِلمُ هو الطريق الوحيد، ولابدَّ من دعوةٍ مستمعة، أنت نفس مستعدة، ودعوة حقيقية صحيحة، أساسُها الحق، أساسُها العدل، أساسُها الواقع، أساسُها الفِطرة، أساسها المنطق، ولابدَّ من أن يكونَ الطريقُ خاليّاً من العوائق، فإذا أزلتَ العوائق، ووفّقتَ إلى دعوةٍ صحيحة، وكُنتَ مستعداً لقَبولِها، بسبب العلمِ الذي تعلمتهُ، صارَ الطريقُ إلى الله سالكاً والوصول محققاً.
 

للمريد حالتان أساسيتان:


آخر فِكرةٍ في الدرس هو أنّ المُريد تنتابهُ حالتانِ أساسيتان؛ حالة القبض وحالة البسط، الحقيقة القبض يأتي من الخوف والبسطُ يأتي من الرجاء، القبضُ لسببين؛ إما لتقصيرٍ، أو لمعصيةٍ، أو لتركِ حقوقٍ لا تؤدى، وهذا السبب يقتضي التوبة والتصحيح، وإما ألا يدري المُريد لهذا الانقباض سبباً، عندئذٍ عليه أن يصبر، فلعلَّ في هذا حِكمةً تتضحُ لهُ بعدَ حين، وأما البسط يشعر بنشوة، بإقبال، بمعنويات مرتفعة جداً، هنا منزلق أن يتيهَ على الناسِ بهذا الحال، أن يُعجبَ بنفسهِ، أن يرى نفسهُ فوقَ الناس، عندئذٍ ينزلقُ من هذا الحال المريح إلى حالٍ أخرى لا تُرضي الله عزّ وجل، فإذا جاءَ الانقباض فابحث عن السبب، فإن عرفتهُ فتُب منهُ، وإن لم تعرفهُ فاصبر على حِكمة الله عزّ وجل حتى ينجليَ الموقف، وإن جاءَ الانبساط فإيّاكَ أن يستخفّكَ الانبساط فتقعَ في زهوٍ، أو في كبرٍ، أو في استعلاء على الناس، وعندئذٍ تكونُ قد امتحنت ورسبتَ في الامتحان.
ملخص المُلخص: يجب ألا يُخرجكَ البسطُ عن الاستقامة، ولا أن يُخرجكَ البسطُ أيضاً عن أن تكونَ أديباً بينَ يدي الله عزّ وجل، هذه لمحةٌ سريعةٌ عن منزلة الإرادة، أُلخصّها بكلمتين: إذا كانَ بين ما أنتَ فيه وبينَ ما تتمنى أن تكونهُ مسافةٌ كبيرة فاعلم أنَّ هذا بسببِ ضعفٍ في إرادتك، وضعفُ الإرادةِ في الأصلِ نقصٌ في العلمِ، إذاً عُدنا إلى أنَّ العِلمَ هو الطريق الوحيدة إلى الله عزّ وجل، وما من طريق إلى الله إلا طريقُ العِلمِ، فإذا أردتَ الدنيا فعليكَ بالعلم، وإذا أردتَ الآخرة فعليكَ بالعِلم، وإذا أردتهما معاً فعليكَ بالعِلم، والعِلمُ لا يُعطيكَ بعضهُ إلا إذا أعطيتهُ كُلكَ، فإذا أعطيت بعضكَ لم يُعطِكَ شيئاً، ويظلّ الإنسانُ عالِماً ما طَلَبَ العِلم، فإذا ظنَّ أنه قد عَلم فقد جَهل. 

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور