وضع داكن
26-04-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 009 - منزلة الذكر
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

منزلة الذكر:


 أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس التاسع من دروس مدارج السالكين في مراتب إيّاكَ نعبد وإيّاكَ نستعين، منزلة اليوم منزلة الذِّكر.
الحقيقة أنَّ الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يأمرنا فيقول: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)﴾

[ سورة الأحزاب ]

قال بعض العلماء: كلُّ جارحةٍ من جوارح الإنسان لها عبادة، فعبادة العين أن تَغُضّ بصركَ عن محارم الله، وأن تنظرَ بها إلى ملكوت السماوات والأرض مفكراً ومتعظاً، الأذن لها عبادة، اليد لها عبادة، أما عبادة القلب فهي الذّكر، ففي كل جارحةٍ من جوارح الإنسان عبادة مؤقتة، والذّكر عبودية القلب واللسان، وهي غير مؤقتة، عبادة القلب الذّكر، لذلك ربنا عزّ وجل قال: 

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾

[ سورة طه ]

يا أيها الإخوة الأكارم؛ الذّكرُ منشور الولاية، الذي من أُعطيه اتصل، ومن مُنِعَه عُزل، من أُعطيَّ الذّكرَ اتصلَّ بالله عزّ وجل، ومن مُنِعَه عُزل، وهو قوت القلوب التي متى فارقها صارت الأجساد لها قبوراً.
القلب من دون ذِكرٍ لله عزّ وجل الجسم قبرٌ له، ميتٌ في ميت، الذكرُ عِمارة الديار، داركَ لا تحيا إلا بذكر الله، فإذا انعدمَ منها الذكرُ أصبحت داراً ميتةً كالقبر، التي إذا تعطلت صارت بوراً، الذكر سلاح المؤمن، الذي يقاتل به قُطّاعَ الطريق، فإذا خلا من سلاحه أصبحَ عُرضةً للقتلِ من قِبَل قطّاع الطريق، بالذكر تُطفئ حريق الشوق إلى الله عزّ وجل، بالذكرِ يكون الذكرُ دواءً لقلبكَ اللهفان، الذي أريد أن أقوله لكم إنَّ ذِكرَ اللهِ حياةٌ للقلوب، والله سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾

[ سورة الرعد ]

الحسن البصري هذا من التابعين، والتابعون هؤلاء الذين التقوا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم،

(( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ وَيُسْمَعُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكُمْ. ))

[ ابن حبان: صحيح ]

ثلاثة أجيال، جيلُ الصحابة وجيلُ التابعين وجيلُ تابعي التابعين، هذه الأجيال كانَ فيها الإسلام نقيّاً، فالحسن البصري رحمه الله تعالى كانَ يقول: تَفقدّوا الحلاوة في ثلاثةِ أشياء، في الصلاة، وفي الذكرِ، وفي قراءة القرآن، فإن وجدتم وجدتم، وإن لم تجدوا حلاوةً في الذكرِ والصلاة وتلاوة القرآن فاعلموا أنَّ البابَ مُغلق. 
أحياناً الإنسان يشعر أنَّ هناكَ حِجاباً بينه وبينَ الله، يشعر أنَّ أبواب السماء مُغلّقةٌ في وجهه، يفتح القرآن يقرأ، لا يشعر بشيء أبداً، يجلس ليذكر لا يشعر بشيء، يقوم ليصلي لا يشعر بشيء، معنى ذلك أنَّ البابَ مُغلق، لماذا أُغلقَ البابُ في وجهه؟ لِعلةٍ في عمله، فالمؤمن متبصّر، هؤلاء الذين يُصلّون، ويقرؤون القرآن، ولا يعرفون ما إذا كانَ قلبهم متصلاً أو مقطوعاً، هؤلاءِ على هامشِ الحياة، لذلك سيدنا عمر قال: تعاهد قلبك، أي الذي لا يملك الحس المرهف أن يشعر يقول لكَ: اليوم أنكرت قلبي، اليوم شعرتُ أن صلاتي لا طعمَ لها، اليوم قرأتُ القرآن فلم أشعر بحلاوة تلاوته، هذا الذي أحسَّ على قلبه، وشعرَ بقربه، هذا إنسان حيّ، أمّا الذي غفلَ عن الله عزّ وجل، فاستوت غفلته مع صحوته، أي هو لم يصحُ حتى يشعر أنه غَفل غفلَة مستمرة لذلك حينما يُسأل: هل أنتَ متصل؟ يقول لكَ: نعم، هو ما ذاقَ الاتصال حتى يشعر بالهجران، لذلك:

فما حُبنا سهلٌ وكلُّ من ادّعـــى         سهولتـــــــه نقول له: قد جهلتنــــا

فأيسرُ ما في الحبِّ للصبِّ قتله         وأصعبُ مـن قتلِ الفتى يومَ هجرنا

[ ابن الفارض ]

* * *

 

مقياس القرب حلاوة الذكرِ وحلاوة الصلاة وحلاوة تلاوة القرآن:


العلماء قالوا -يوجد نقطة مهمة جداً-الحسن البصري قال: تفقدوا الحلاوةَ في ثلاثة أشياء؛ في الصلاة، وفي الذِّكرِ، وفي قراءة القرآن، ربنا عز وجل يقول: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ أي الإنسان ليس له حق أن يُهمل قلبه، لكن أنا أُصلي الحمد لله، أنا مُسلم عقيدتي صحيحة، شيء جميل، لكن هذا القلب ألا ينبغي أن يكونَ حيّاً؟ ألا ينبغي أن يكونَ مُقبلاً؟ ألا ينبغي أن يكونَ مُحبّاً؟ ألا ينبغي أن يمتلئ مشاعر نبيلة من خوفٍ إلى حب إلى تعظيمٍ؟ فالذي يُهمل قلبه ويعيشَ هكذا على هامش الحياة، هذا أغفلَ جانباً كبيراً جداً من الدين، إذاً مقياس القرب حلاوة الذكرِ، وحلاوة الصلاة، وحلاوة تلاوة القرآن، هذا مقياس، فإذا كان الباب مغلقاً معناها يوجد حِجاب، معناها الله عزّ وجل أغلقَ في وجهكَ الباب، لماذا أغلقَ في وجهكَ الباب؟ لأنه ليسَ راضٍ عن عملك، إذاً ابحث في الخلل، ابحث في الزلل، ابحث في الانحراف، في التقصير.
قال: بالذكرِ يصرعُ العبدُ الشيطان كما يصرعُ الشيطان أهلَ الغفلةِ والنسيان، أي الشيطان إما أن تصرعه بالذكرِ، وإما أن يصرعكَ بالغفلة، فأنتَ بين ذاكرٍ أو غافل، تصرعُ الشيطان بذكركَ لله عزّ وجل، ويصرعكَ الشيطان بغفلتكَ عن الله عزّ وجل، الذكرُ روح الأعمال الصالحة، العمل الصالح من دون ذكر ميت، والإنسان إذا ماتَ قلبه، وعَمِلَ عملاً صالحاً، أغلب الظن أنه يتجه بهذا العمل إلى إرضاء الناس، يقع في النفاق، فإذا عَمِلَ عملاً صالحاً ولم يشكره الناس عليه تألم وضجر، وطلبَ واستجدى منهم المديح، استجداء المديح علامةٌ خطيرةٌ على موت القلب، إذا خلا العملُ من الذكرِ كان كالجسد الذي لا روحَ فيه.
 

ورود الذكر في القرآن الكريم على عدة وجوه:


الآن في القرآن الكريم، الذكر ورد فيه آيات كثيرة جداً، كيف ورد ذكر الله في القرآن الكريم؟ يقول بعض العلماء: إن ذِكرَ الله عزّ وجل وردَ في القرآن الكريم على عشرةِ وجوه، الوجه الأول: أنَّ الله أمر بالذكرِ مطلقاً وأمرَ به مُقيّداً، الله عز وجل أمرك بالذكر أمراً مطلقاً، وأمرك به أمراً مقيداً، وبعد قليل يتضح ماذا تعني كلمة أمر مطلق وماذا يعني الأمر المقيد.
والوجه الثاني أنه نهى عن ضده وهو الغفلةُ والنسيان، هناك نهيٌ قطعيٌّ عن الغفلةِ والنسيان أمركَ به ونهى عن ضده.
 والثالث: علّقَ الفلاحَ باستدامته وكثرته، فلاحك، نجاحك، نجاتك، تفوقك، سعادتك، علّقها باستدامة الذكرِ وكثرة الذكرِ.
الرابع: الله عزّ وجل أثنى على أهل الذكرِ، وبيّنَ أنه أعدّ لهم الجنة والمغفرة.
والخامس: أخبرَ عن خسران من لها وسها، انظر أمر ونهي، وفلاح وإخفاق، وثناء وخسارة.
ثمَّ إن الله سبحانه وتعالى جعلَ ذِكره جزاءً لذِكر عباده له، جعل ذكر الله لعباده جزاء وفاقاً لذكرهم له.
السابع: أخبرَ الله عزّ وجل أن أكبر شيء هو ذِكر الله، بل هو أكبر من كلِّ شيء.
الثامن: أخبرَ أنَّ الإنسان لا ينتفعُ بآيات الله إلا إذا ذكرَ الله عزّ وجل. 
 التاسع: أنَّ الله سبحانه وتعالى جعلَ الذكرَ قرينَ الأعمالِ كلها.
الآن إلى هذه الوجوه وجهاً وجهاً. 

الوجه الأول أنَّ الله سبحانه وتعالى أمرَ به مطلقاً ومقيّداً:

الوجه الأول: أنَّ الله سبحانه وتعالى أمرَ به مطلقاً ومقيّداً، الأمر المطلق:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)﴾

[ سورة الأحزاب ]

هذا أمر مطلق والمُطلق على إطلاقه، أي إذا قرأت القرآن ذكرتَ الله، وإذا أمرتَ بالمعروف ذكرتَ الله، وإذا قلتَ: الله الله ذكرتَ الله، وإذا حَمدته ذكرته، وإذا سبّحته ذكرته، وإذا وحدته ذكرته، وإذا كبّرته ذكرته، وإذا دعوته ذكرته، أمرَ الله عزّ وجل بِذكره في القرآن ذِكراً مُطلقاً: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)﴾

[ سورة الأحزاب ]

الآن الله عز وجل أمر بذكره ذكراً مقيداً، كيف؟ قال تعالى: 

﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)﴾

[ سورة الأعراف ]

الذكر يجب أن يُقيّد بالتضرع، بالتذلل، بالخضوع، ﴿وَخِيفَةً﴾ يجب أن تذكره متضرعاً وخائفاً، جهراً وسِراً، يجب أن تذكره في سِركَ وقلبك، ويجب أن تذكره بلسانكَ وقولك. 

الوجه الثاني: نهى الله عن الغفلة والنسيان:

الله عزّ وجل نهى عن الغفلة والنسيان، قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ غَفَلَ عن ماذا؟ غَفَلَ عن ذِكر الله: 

أيا غافلاً تبدي الإســــاءة والجهلا        متى تشكر المولى على كلِّ ما أولى؟

عليكَ أياديه الكِرام وأنت لا تراهـا        كأن العــيــــنَ حــــولاءُ أو عميــــــا

لأنتَ كمزكومٍ حوى المِسـكَ جيبه        ولكنــه المــحروم ما شـمـّـــــه أصلاً

[ جعفر بن أبي طالب ]

 * * *

أي أكبر خطر يعيشه الإنسان أن يكونَ غافلاً،  الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا، قال تعالى: 

﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)﴾

[ سورة الزخرف ]

﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)﴾

[ سورة الطور ]

يأتي يومٌ يُصعقُ الإنسان كانَ غافلاً فَعرفَ الحقيقة بعدَ فوات الأوان، فربنا عزّ وجل نهانا عن أن نغفلَ عنه، أحياناً الإنسان الحياة تجذبكَ إليها، قد تُستهلك من عملٍ إلى عمل، ومن لقاءٍ إلى لقاء، ومن مشروعٍ إلى مشروع، ومن صفقةٍ إلى صفقة، ومن اهتمامٍ إلى اهتمام، ومن متعةٍ إلى متعة، ومن لقاء إلى لقاء، إذا أنتَ مستهلك، هذا غافل، لذلك العمل لو درَّ عليكَ ألوف الألوف، واستهلكَ وقتكَ كله فأنتَ في خسارةٍ كبيرة، إذا استهلكَ عملكَ كلَّ وقتك فأنتَ في خسارةٍ كبيرة لأنه جعلكَ من الغافلين: 

﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)﴾

[ سورة الحشر ]

أمركَ بالذكرِ مطلقاً، أمركَ به مقيّداً، تضرعاً وخيفة، سِراً وجهراً، بقلبكَ وبلسانك، ونهاكَ عن ضده، نهاكَ عن الغفلة، ونهاكَ عن النسيان، ﴿وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ ، ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ نسيانهم لله أنساهم سِرَّ وجودهم، نسيانهم لله أنساهم مهمتهم، نسيانهم لله أنساهم حقيقتهم، نسيانهم لله أنساهم التكليف، أنساهم الأمانة، أنساهم العمل الصالح. 

الوجه الثالث: تعليق الفلاح بذكر الله:

شيءٌ آخر، الله سبحانه وتعالى علّقَ الفلاحَ بذكر الله، أي كلمة فلاح، أحياناً الإنسان يقول لك: فلان نجحَ في حياته، أي أتقن عملاً معيناً ودرَّ عليه هذا العمل رزقاً وفيراً، تزوج، وسكنَ بيتاً مريحاً، وله مركبة، وله مكانة اجتماعية، واعتنى بصحته، يقول الناس: فلان ناجح في الحياة، فالإنسان النجاح شيء له بريق، ولكن البطولة لا أن تنجح في الحياة وحدها، أهل الدنيا نجحوا في الحياة، الأغنياء نجحوا في الحياة، الأقوياء نجحوا في الحياة، أي أصحاب الحظوظ نجحوا في الحياة, ولو أنَّ مالهم اغتصبوه من غيرهم، ولكنَّ البطولة أن تنجحَ في الحياة الآخرة، أن تنجحَ في الدار الآخرة، ذلكَ هو النجاح، ذلكَ هو الغِنى، ذلكَ هو التفوق، ذلكَ هو الفوز، لذلك سيدنا علي قال: الغِنى والفقر بعدَ العرضِ على الله. 
الله عزّ وجل علّقَ الفلاحَ بالإكثار من ذِكر الله, إذا أردتَ أن تُفلح في الدنيا والآخرة، إذا أردتَ أن تفوز بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة، إذا أردتَ أن تتفوق، إذا أردتَ أن تنجح، إذا أردتَ أن تكون من السعداء، فربنا عزّ وجل ربطَ ذِكره بالفلاحِ, قال تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)﴾

[ سورة الأنفال ]

هذا قرآن، كلام خالق الكون: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ اذكروا الله في أنفسكم، اذكروه في ألسنتكم، اذكروا الله للناس، ما من جلسةٍ، ما من لقاءٍ، ما من سهرةٍ، ما من نزهةٍ, أي شيء إذا ذكرتَ الله عزّ وجل امتلأ القلب طمأنينةً, واستبشر الناس من حولك, وعلت البسمة الوجوه، فإذا ذكرت الدنيا تفرّق الناس، إذا ذكرتَ الدنيا حَزِنَ بعض الناس، إذا ذكرتَ الدنيا نفرَ منك بعض الناس، ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ . 

الوجه الرابع: الله عزّ وجل أثنى على أهل الذكرِ:

أما الوجه الرابع فالله عز وجل أثنى على أهله فقال: 

﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)﴾

[ سورة الأحزاب ]

 ليسَ الأمر أن تذكره, ولكنَ الأمر أن تُكثرَ من ذِكره: ﴿والذاكرين الله كثيرا ًوالذاكرات أعدَّ الله لهم جميعاً مغفرةً وأجراً عظيماً﴾ . 

الوجه الخامس: أخبرَ عن خسران من لها وسها:

نهانا عن أن نغفلَ عنه وبيّنَ الخسران الكبير فقال تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)﴾

[ سورة المنافقون ]

فإذا إنسان قال: أنا والله مشغول, شغلتني الدنيا، شغلني عملي، شغلتني بعض مباهج الحياة عن حضور مجلس علمٍ, هذا ممن انطبقت عليه الآية الكريمة: ﴿لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ . 

الوجه السادس: جعلَ ذِكره جزاءً لذِكر عباده له:

الحقيقة هل نصدق أنَّ العبدَ إذا ذكرَ الله عزّ وجل الله في عُلاه يذكره؟ دخل على النبي الكريم رجل, يبدو أنه من عامّة صحابته, رجل فقير، قال النبي الكريم: أهلاً بمن خبرني جبريل بقدومه، قالَ: أو مثلي؟ من أنا؟ قالَ: نعم يا أخي خامِلٌ في الأرضِ علمٌ في السماء، ربنا عزّ وجل يقول: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ والله إذا الإنسان ذكره إنسان له قيمة، لا ينسى هذا الذكر, إذا كان هناك صورة يطبعها يكبّرها ويضعها في البيت، كيف يجلس معه، كيف يضيّفه؟ كيف يصافحه؟ كيف استقبله؟ كيف ودّعه؟ وكلما زاره إنسان يريه الصور, فإذا ذكرك الله عز وجل بماذا تكون؟ ربنا عز وجل قال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ . 

الوجه السابع: أكبر شيء هو ذِكر الله:

أما في درس من دروس التفسير حينما وصلنا إلى قوله تعالى: 

﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)﴾

[ سورة العنكبوت ]

أمضينا درساً بأكمله في تفسير قوله تعالى: ﴿ولذِكرُ الله أكبر﴾ أي أكبر من كلِّ طاعة، أكبر من كلِّ عمل، لأنَّ ذِكرَ الله هو محطّ الرِحال ومنتهى الآمال، به تسعد، أكبر ما في الصلاة، أكبر من الركوع والسجود، ومن القيام، ﴿ولذكرُ الله أكبر﴾ الله عزّ وجل ختمَ به الأعمال الصالحة كلها، ختمَ به مثلاً الصيام، قال تعالى:

﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)﴾

[ سورة البقرة ]

الناس في رمضان في أيام العيد يُكبّرون الله عزّ وجل، لماذا شُرعَ التكبير بعدَ الصيام؟ هكذا قالَ الله عزّ وجل: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون﴾ وختمَ بالذكر الحج، فقال:

﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)﴾

[ سورة البقرة ]

ختمَ به الصيام، وختمَ به الحج، وختمَ به الصلاة: 

﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)﴾

[ سورة النساء ]

وختمَ به الجمعة: 

﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)﴾

[ سورة الجمعة ]

إذاً العبادات الكبرى من صلاة وصيام وحج خُتمت بالذكر. 

الوجه الثامن: لا ينتفعُ بآيات الله إلا من ذكرَ الله عزّ وجل:

الحقيقة أنَّ الذاكرين وحدهم هم الذين ينتفعون بآيات الله، الإنسان الغربي استمتعَ بالدنيا إلى أقصى درجة، عَرَفَ خصائص المواد, استغلّها استغلالاَ رائعاً، ولكن ما نَفَذَ منها إلى المُنعم، فهذه الآيات الكونية؛ المجرات، الشمس، القمر، الليل، النهار، خلق الإنسان، الذريّة، الأولاد، الزوجة، النباتات، هذه المظاهر الطبيعية التي خلقها الله عزّ وجل الذاكر لله ينتفع بها وغير الذاكر لا ينتفع بها, فالذي تعجبُ له أنَّ طبيباً مثلاً درسَ جسم الإنسان، درسَ الأعضاء، الأجهزة، الأنسجة, خصائص جسم الإنسان، دقة الصنع، دقة العمل، الفيزيولوجيا، رأى من معجزات الله في خلق الإنسان الشيء الكثير, لأنه ما ذَكَرَ الله من قبل هذه الآيات ما تأثّرَ بها, ماذا قال الله عزّ وجل؟

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾

[ سورة آل عمران ]

فكرة مهمة جداً، أي قد تكون أنتَ من رواد الفضاء, وترى بأمِّ عينكَ الأرض كرةً في الفضاء، قد تكون من علماء الطب، قد تكون من علماء الذَّرّة، قد تكون مهندساً، طبيباً، عالِماً في الفيزياء، في الكيمياء، في الرياضيات، عالِماً في النبات، في الحيوان, قد ترى العجبَ العُجاب، خلق الخلية، قد ترى وظائف الخلايا، قد ترى أشياء دقيقة جداً, لا يُسمح لغيركَ أن يراها, ومع ذلك إن لم تكن ذاكراً لله عزّ وجل الذكرَ الكثير لا تنتفعُ بهذه الآيات, إذاً لا ينتفعُ بآيات الله إلا من ذكرَ الله عزّ وجل. 

الوجه التاسع: جعلَ الذكرَ قرينَ الأعمالِ كلها:

شيء آخر؛ الذكر كما قال بعض العلماء يجب أن يُصاحبَ جميع الأعمال، فالله سبحانه وتعالى قال: ﴿أقم الصلاة لذكري﴾ يجب أن يصحبَ الصلاة, ويجب أن يصحبَ الصيام, ويجب أن يصحبَ الحج, بل هو روحُ الحج،

(( عن عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ))

[ ضعيف الترمذي ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)﴾

[ سورة الأنفال ]

معناها الذكر يجب أن يُرافقَ كلَّ عمل, هذه الآيات التي وردَ فيها الذكرُ بعشرة وجوه.
 

الأحاديث التي وردت بخصوص الذكر:


أما الأحاديث:

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ, فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: جُمْدَانُ, فَقَالَ: سِيرُوا, هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ, قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ. ))

[ صحيح مسلم ]

الحقيقة الإنسان إذا شَرِبَ كأسَ ماء, تسميته قبل الشرب, وحمده بعدَ الشرب, هو ذِكر الله عزّ وجل، إن ألقى على ابنه نظرة, تذكرَ كيف أن هذا الابنَ الذي ملأَ البيتَ بهجةً كانَ في الأصلِ نُقطةً من ماءٍ مهين، إذا أمسكَ تفاحةً ليأكلها تذكّرَ خالِقَ هذه التفاحة كيفَ أبدعها وجعلها بهذا الحجم, وبهذا القِوام, وبهذه الرائحة, وبهذا الطعم, وبهذا الشكل, وبهذا الوقت المناسب في نضجها، أي كلما عاينتَ شيئاً من خلق الله عزّ وجل يجب أن تذكر الله، هذا المؤمن دائماً ذاكر لا يغفل، أي إذا نظرَ إلى الشمس, إذا نظرَ إلى القمر, إذا نزلت الأمطار, هبت الرياح، وفي المُسند مرفوعاً من حديث أبي الدرداءِ رضي الله عنه:

(( عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ, وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ, وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ, وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ, وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ, فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ, وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى, قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى. ))

[ رواه مالك والترمذي وأحمد في المسند والحاكم في المستدرك: حسن ]

ما قولكم؟ خيرٌ لكم من كلِّ شيء.

(( عَنِ الأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ، قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ, وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أَنَّهُ قَالَ: لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلا حَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ, وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ, وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ, وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ. ))

[ صحيح مسلم ]

إذا مجموعة إخوان التقوا بسهرة، التقوا بدعوة، وذكروا الله عزّ وجل، ذكروا آياته، ذكروا أوامره، ذكروا نواهيه، ذكروا صفات النبي عليه الصلاة والسلام، ذكروا أعمال أصحابه، ذكروا ما عنده من نعيمٍ مقيم، ذكروا عذابه فخافوا، ذكروا نعيمه فاشتاقوا، ذكروا جلاله فخشوه, هذا المجلس مجلس علمٍ، مجلس ذِكرٍ, مجلس مذاكرةٍ بين الإخوة, لذلك الإنسان لابد له من جلسةٍ مع ربه, وجلسةٍ مع أخيه، إذا جلستَ مع أخيك, وحدثّته عن ربك, انطلقَ اللسانُ بذكرِ الله، هذا الحديث يجب أن يكون في أعلى موضع من مواضع قلوبنا: ((لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلا حَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ, وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ, وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ, وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)) .
يكفيكَ شرفاً إذا ذكرتَ الله عزّ وجل أنَّ الله عزّ وجل يباهي بكَ الملائكة،

(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى حَلْقَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ, قَالَ: آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إلا ذَاكَ؟ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلا ذَاكَ, قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ, وَمَا كَانَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَلَّ عَنْهُ حَدِيثًا مِنِّي, وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ, فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ, وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلإسْلامِ, وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا, قَالَ: آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ, قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ, وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ. ))

[ صحيح مسلم ]

الآن أغلب الناس يسهرون, يجتمعون، يقيمون وليمة، يفعلون شيء، في هذه الجلسة يتحادثون بأمور الدنيا, بالبيع، بالشراء, بالتجارات, بالأخبار التي يسمعونها, بكذا، بكذا، وينفضُّ المجلس, وينتهي الأمر, لكنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول لك: ((خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ, فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ - لماذا أنتم جالسون-قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ)) أي إذا جلستَ مع أخيك تُذاكر العِلم، إذا جلستَ مع أخيك لتذكر الله عزّ وجل، لتحدثه وليحدثك، لتتلو عليه بعض آيات القرآن الكريم، لتفسرها له، لتنصحه، لينصحكَ، لتقفَ على سُنّةٍ نبوية، لتقفَ على موقفٍ شريفٍ لأصحاب رسول الله، إذا فعلتَ هذا فأنتَ ممن ينطبقُ عليكَ هذا الحديث، ((فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ, وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلإسْلامِ, وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا, قَالَ: آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟)) هكذا؟ أي اصدقوني ألا يوجد نية ثانية؟ أحياناً الأخ يأتي للجامع بباله أن يلتقي بفلان, يعلم أنه يوجد في هذا المجلس, النيّة اختلفت, قد يأتي الإنسان إلى بيت الله عزّ وجل لا يرجو إلا رضاء الله عزّ وجل، لذلك إنسان كانَ في المسجد ينشدُ ضالةً, النبي عليه الصلاة والسلام غَضِبَ منه، كأنه دعا أنه لا وجدتها، قال: ((قَالَ: آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ- أي والله يا رسول الله ما اجتمعنا إلا في سبيل الله- قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ –أنا ما اتهمتكم- وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ)) الله عزّ وجل قال: 

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)﴾

[ سورة الليل ]

كل إنسان يوجد برأسه موال، أما هؤلاء الذاكرون جلسوا ليذكروا الله عزّ وجل, لا قصد الطعام, والشراب, ولا الضيافة, ولا الشوق, ولا اللقاء،

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ, أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ شَرَائِعَ الإسْلامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ, فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ؟ قَالَ: لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. ))

[ صحيح الجامع: صحيح ]

والحقيقة ربنا عزّ وجل يختم عملَ الإنسان بحسب حياته، إذا كانَ في حياته طائعاً، إذا كانَ في حياته منيباً، يختم حياته وهو في صلاة، هناك كثير من الأشخاص أعرفهم، وهو ساجد قبضه الله عزّ وجل، في طاعة، في عبادة، رجل آخر قال:

(( عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيَّانِ, فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَنْ خَيْرُ الرِّجَالِ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ, وَقَالَ الآخَرُ: إِنَّ شَرَائِعَ الإسْلامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا, فَبَابٌ نَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٌ؟ قَالَ: لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ))

[ صحيح ابن ماجه: صحيح ]

هذا أعظمُ عملٍ تفعله، يبدو أنكَ إذا ذكرتَ الله اتصلتَ به, وهذه قِمةُ العبادات كلها، الصلاة من أجل الصلة، الحجُ من أجل الصلة، الصيام من أجل الصلة، الزكاة من أجل الصلة، غَضّ البصرِ من أجل الصلة، تحري الحلال من أجلِ الصلة، كلُّ عباداتك, وكلُّ طاعاتك, وأعمالك، ومعاملاتك, وإحسانِكَ من أجلِ الصلة، فإذا اتصلتَ بالله عزّ وجل فقد حققتَ الهدفَ من وجودك، قال: ((إِنَّ شَرَائِعَ الإسْلامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا, فَبَابٌ نَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٌ, قَالَ: لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ))
في المسند وغيره من حديث أنس،

(( إذا مررتم برياضِ الجنةِ فارتعوا، قيل: يا رسولَ اللهِ وما هي رياضُ الجنةِ؟ قال: حلَقُ الذكرِ. ))

[ مجموع فتاوى: حسن ]

إذا عاملت إنساناً, رأيتَ منه وفاءً، حياءً، شهامةً، مروءةً، رحمةً، عطفاً، لُطفاً، يجب أن تحكم أنَّ هذا الإنسان له مجلسُ ذِكرٍ يحضره، له مشرب، له نبع يرتوي منه، له صِلةٌ بالله عزّ وجل، ما من إنسانٍ يرحمك, أو يعطفُ عليك, أو يُنصفك, أو يفي بعهده, إلا وله صِلةٌ بالله عزّ وجل: 

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)﴾

[ سورة العلق ]

انظر إلى عمله، انظر إلى أخلاقه، انظر إلى لؤمه، انظر إلى قذارته، إلى أنانيته، إلى إخلافه الوعد، إلى إيثاره مصالحه، انظر إليه، عمله يُنبئكَ بحاله، قال تعالى:

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)﴾

[ سورة العلق ]

إنسان آخر،

(( عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما خرج علينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: يا أيها الناس، إن لله سرايا من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر في الأرض، فارتعوا في رياض الجنة. قالوا: وأين رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر، فاغدوا وروحوا في ذكر الله، وذكروه أنفسكم من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه. ))

[ المستدرك على الصحيحين: هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه  ]

أي سافرت, اذكر الله في سفرك، رأيتَ جبلاً شامخاً، رأيتَ بحراً مضطرباً، رأيتَ سماءً صافيةً، رأيتَ بلاداً لا تعرفها، في سفرك، في حَضرك، في إقامتك، في تجارتك، في نزهتك، في سكونك، في حركتك، ((فاغدوا وروحوا في ذكر الله، وذكروه أنفسكم من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده))  أي ساحة نفسك إن صحَّ التعبير: ما الذي يشغلها؟ قد تكون الدنيا هي التي تشغلها، وقد يكون ذِكرُ اللهِ عزّ وجل هو الذي يشغلها، فإذا أردت أن تعرفَ ما لكَ عندَ الله فانظر ما للهِ عِندك.

(( عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي, فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السّلامَ, وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ, عَذْبَةُ الْمَاءِ, وَأَنَّهَا قِيعَانٌ, وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. ))

[ الترمذي: حسن غريب ]

أي يجب أن تُسبحه، أن تنزهه، وأن تمجّده، ويجب أن تحمده، وأن توحّده، وأن تكبّره، وهذا ذِكرُ الله عزّ وجل, أحياناً تُحدِّثنا عن آية كونية في الفلك، عن آية في خلق الإنسان، هذا من تسبيح الله, هذا من تكبيره, لا تفهموا من هذا الكلام أن تقول: سبحان الله! سبحان الله! سبحان الله! هذا ذِكر أيضاً, ولكن إذا عرضتَ علينا آيةً من آيات الله الباهرة, فعرضُ هذه الآية نوعٌ من أنواع الذكر، إذا عرضتَ هذه الآية سبحنا الله عزّ وجل، كبّرناه، عظمّناه، وحدّناه.

(( وفي الصحيحين من حديث أَبِي مُوسَى رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ, وَالَّذِي لا يَذْكُرُ رَبَّهُ, مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ. ))

[ صحيح البخاري ]

هذا حديث خطير جداً، فيه نبض؟ لا يوجد فيه نبض، ما دامَ قلبه غافِلاً عن ذِكرِ الله فهو ميت، ((مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)) وفي لفظ مسلم،

(( عَنْ أَبِي مُوسَى: مَثَلُ البَيْتِ الذي يُذكَرُ اللهُ فيه، والبيت الذي لا يذكرُ الله فيه: مَثَلُ الحيِّ والميِّت. ))

[  صحيح مسلم ]

هذا البيت يجب أن يكون مُفعماً بِذكر الله، بتلاوة قرآن, أما بيوت المسلمين اليوم كُلها غِناء, أبداً، في أيّ وقت الأغنيات تصدح في أرجاء البيت، فالبيت الذي يُذكر الله فيه بيتٌ حيّ، والبيت الذي لا يُذكر الله فيه بيتٌ ميت، قالَ بعضُ الشعراء: 

فنسيان ذِكر الله موت قلوبـهــــــم         وأجسامهم قبلَ القبورِ قبـــورُ

وأرواحهم في وحشةٍ من جسومهم        وليسَ لهم حتى النشورِ نشورُ

[ ابن القيم ]

* * *

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي, وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأ مِنَ النَّاسِ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَطْيَبَ. ))

[ صحيح البخاري ]

 

أنواع الذكر:

 

1-ذكر الله عز وجل وذكر أسمائه وصفاته:

الآن أنواع الذكر، قال: هناكَ ثلاثةُ أنواعٍ للذكر، ذِكرُ الله عزّ وجل, وذكِرُ أسمائه وصفاته, أي الله ربنا، الله خالقنا، الله إلهنا، وجود الله عزّ وجل، وحدانيته، كمالاته، أسماؤه الحسنى، صفاته الفُضلى، لذلك:

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه: إنَّ للهِ تسعةً وتسعينَ اسماً من أحصاها دخلَ الجنة. ))

[ صحيح الترمذي ]

إذا فهمتَ هذا الاسم، فهمتَ تعريفه، فهمتَ مظاهره، فهمتَ براهينه، فهمتَ تطبيقاته، هذا ذِكر, باب من أبواب الذكر, أن تذكرَ الله خالقاً مربيّاً مسيّراً، وأن تذكره في أسمائه الحسنى وصفاته الفضلى. 

2-أن تذكر أمره:

النوع الثاني أن تذكرَ أمره, أخي ما حُكم هذا الشيء؟ الأمر والنهي, الحلال والحرام، المكروه، المباح، المندوب، الواجب، في كل شيء, في تجارتك، في بيعك، في شرائك، في طعامك، في شرابك، أيجوز هذا؟ لا يجوز؟ هذا باب آخر من أبواب الذكر, أي أن تذكرَ الله وأن تذكرَ أمره، أن تذكرهُ كي تعرفه, وأن تذكرَ أمره كي تعبده, تذكره لتعرفه وتذكرَ أمره لتعبده، هذا نوعٌ آخر من أنواع الذكر. 

3-ذكر الآلاء والنعماء والإحسان والأيادي:

النوع الثالث ذِكرُ الآلاءِ والنعماءِ والإحسانِ والأيادي, الكون, الشمس، القمر، يا أخي الماء في الدرجة زائد أربع ينكمش، يزداد حجمه خِلافاً لكلِّ الأجسام, هذه آية من آيات الله, لولا هذه الآية لما كُنّا أحياء, كلُّ عنصر إذا برّدته ينكمش, فإذا سخنته يتمدد، إلا الماء في درجة زائد أربع إذا بردّته يزداد حجمه, لولا هذه الخاصّة لما بقيت حياةٌ على وجه الأرض، فإذا ذكرت هذه الآية، مثلاً آية النبات أنها تأخذ غاز الفحم وتطرح الأوكسجين, هذه آية عظيمة جداً, الثقب في القلب ثقب بوتال, لولا هذا الثقب لما نما الجنين, ولولا أنه يُغلَقُ عِندَ الولادة لما عاشَ الطفل, آية القلب، آية الرئتين، آية الأعصاب، العضلات، الأجهزة، هذا الطعام، النبات، الجذور، النسغ الصاعد، النسغ النازل، هناك آيات بالنبات لا يعلمُها إلا الله، آيات بالحيوان، آيات بالإنسان، آيات بالأكوان، فهذا نوعٌ من الذكر، إذاً تذكر الله عزّ وجل خالقاً ومربياً ومسيّراً، أسماءه وصفاته، وتذكر أمره ونهيّه, وحلاله وحرامه، وتذكر آلاءه ونِعمه. 
 

أنواع أخرى للذكر:


الآن الذكر أنواع أخرى، نوعٌ يتواطأ عليه القلبُ واللسانُ وهو أعلاهُما، شخص ذهبَ ليَحُج فطاف, أُخذَ بالكعبةِ فنَسيَّ أشواط الطواف, فسألَ شيخه قال: يا بنيّ لقد طفتَ بربِّ البيت ولم تَطف بالبيت, فذهبَ ليطوفَ ثانيةً, وضبطَ الأشواط, ونسيَّ ذِكرَ الله عزّ وجل، قالَ له: يا بنيّ, لقد طُفتَ بالبيت ولم تطف بربِّ البيت، المرة الثالثة جمعَ قلبه على الله, وضبطَ الأشواطَ بشكلٍ صحيح, قالَ له: الآن طُفتَ بالبيت وربِّ البيت, فأعلى أنواع الذكر أنت في صلاة تقرأ القرآن وقلبكَ مع الله.
أول أنواع الذكر ذكر يتوافق عليه القلب واللسان وهو أعلاها، الإمام الغزالي يقول: أعلى درجات ثواب القرآن الكريم أن تقرأه في بيتٍ من بيوت الله, في صلاةٍ قائماً, أي الصلاة في المسجد، وأنتَ قائم، وتقرأ القرآن, وذِكرٌ بالقلبِ وحده, وهذا في الدرجة الثانية، وذِكرٌ باللسان المُجرد, وهذا بالدرجة الثالثة، لسان فقط درجة ثالثة، قلب فقط درجة ثانية، قلب ولسان في الدرجة الأول، وقالوا: ذِكرُ العبدِ ربّه محفوفٌ بِذكْرَين، ذكركَ الله فذكرته فذكرك, ذَكركَ قبلَ أن تذكرهُ, وذَكركَ بعد أن ذكرته، قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ ، ((من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, ومن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منهم)) .
أنواع أخرى للذكر، قال: هناك ذكر الثناء، إذا قلتَ: سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر, هذا ذِكر الثناء، وإذا قُلت: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَ من الخاسرين, هذا ذِكرُ الدعاء، فأنتَ إذا سبحتَ الله, أو وحدته, أو كبرته, أو حمدته, فقد ذكرته, وإذا دعوته فقد ذكرته.
 

أدعية مأثورة:


لذلك يجب أن تحفظ بعض الأدعية: اللهم إني أعوذُ بكَ من الذلِّ إلا لك، ومنَ الفقرِ إلا إليك، ومنَ الخوف إلا منك، أعوذُ بكَ من عُضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلبِ بعد العطاء. 
اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله عوناً لي فيما تُحب، وما زويتَ عني ما أُحب فاجعله فراغاً لي فيما تُحب. 
اللهم أنا بكَ وإليك، اللهم استر عوراتنا، وآمِن روعاتنا، وآمنّا في أوطاننا.
فالإنسان أحياناً يكون ماشياً في الطريق, بدل أن يتلهّى بنظرٍ عابث, لو أنه دعا الله عزّ وجل فأقامَ هذه الصلة معه، إذاً: ينبغي للمؤمن أن يحفظَ أدعيةً أُثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، هناك أدعية جميلة جداً مثلاً: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحولُ به بيننا وبينَ معصيتك, ومن طاعتكَ ما تُبلّغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تُهونُ به علينا مصائبَ الدنيا، ومتعّنا اللهم بأبصارنا وأسماعنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارِثَ مِنّا، إلى آخر الدعاء. 
أقدمت على عمل: اللهم إني تبرأت من حولي وقوتي وعلمي، والتجأتُ إلى حولكَ وقوتكَ وعلمكَ يا ذا القوةِ المتين.
أدعية كثيرة جداً، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرنا, أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا. 
فالدعاء ذِكر, فالإنسان إذا دخلَ بيته يوجد دعاء، إذا خرجَ من بيته يوجد دعاء، اللهم إني أعوذ بِكَ من أن أظلِمَ أو أُظلم, أو أجهلَ أو يُجهلَ عليّ, أو أضِلَّ أو أُضل، دخل البيت، أقدمَ على عمل: أسألكَ خيره وخيرَ ما خُلِقَ له، ركب دابّته, ركب مركبته, فهذه الأدعية إذا حَفِظها, وأفضل كتاب بهذا الموضوع كتاب الأذكار للإمام النووي, أذكار النبي عليه الصلاة والسلام, حتى إنَّ الذي يقْربُ أهله يوجد دعاء لئلا يأتيه ولد يجعل حياته جحيماً، والله يوجد أولاد يجعلون حياة آبائهم جحيماً، فالدعاء ذِكر, والتسبيح, والتحميد, والتهليل, والتوحيد, والتكبير أيضاً ذِكر.
ففي الذكر ذِكرُ ثناء, وذِكرُ دعاء, وذِكرُ رعاية, إذا قال أحدهم: الله معي, الله ناظرٌ إليّ, الله شاهدي, هذا ذِكر رعاية، فيجب أن تُنوعَ في الذكر, ذِكرُ الدعاء, وذِكرُ الثناء, وذِكرُ الرعاية، الأذكار النبوية تجمع الأنواع الثلاث, فهي متضمنة الثناء على الله, والتعرض للدعاء والسؤال والتصريح به، قالَ عليه الصلاة والسلام:

(( عن جابر بن عبد الله: أفضلُ الدعاءِ الحمدُ لله. ))

[ تخريج شرح السنة: حسن ]

أفضلُ الدعاء، قيل لسفيان بن عُيينة: كيف جعلها دُعاءً؟ كيف جعل النبي الحمد دعاء؟ قال له: أما سَمعتَ قولَ الشاعر:

أأذكرُ حاجتي أم قد كفاني          جِباؤكَ إنَّ شيمتكَ الحِباءُ

إذا أثنى عليكَ المرءُ يوماً          كفاه مِن تعرضه الثنـــاءُ

[ أمية بن أبي الصلت ]

* * *

إذا دخل أحدهم بيتك, قال لك: أنا أعرفك كريماً وسكت، ألا تفهم منها شيئاً هذه؟ لم يقل: أريد منكَ شيئاً، قال لك: أنا أعرفكَ كريماً، قال لك: أنا أعرفك عفواً, وعَمِلَ معكَ ذنباً، ألا يعني هذا الثناء عليك أنه يُطالِبكَ أن تعفوَ عنه؟ إذاً ثناؤكَ على الله عزّ وجل نوعٌ من أنواع الدعاء، النبي الكريم يقول: ((أفضلُ الدعاءِ الحمدُ لله)) .
 

الذكر غاية العبادات ومنتهى آمال العابدين:


نحن في موضوع الذكر، الحقيقة هذا الدرس قيمته في تطبيقه, فإذا الإنسان قبلَ أن ينام، عندما يستيقظ، إذا خرجَ من بيته، دخلَ إلى عمله، أقدم على عمل مهم، قبلَ أن يعقد صفقة، هذا الدعاء هوَ صِلة بالله، هو استعانة بالله، فأنتَ إذا دعوتَ الله في كلِّ أحوالكَ فأنتَ من الذاكرين، إذا حَمِدته وأثنيتَ عليه فأنتَ من الذاكرين، إذا قلت: الله معي, الله شاهدي, الله ناظرٌ إليّ, فأنتَ من الذاكرين، إذا قرأت القرآن فأنتَ من الذاكرين، إذا سمعتَ القرآن فأنتَ من الذاكرين، إذا جلستَ تستمع إلى تفسير القرآن فأنتَ من الذاكرين، إذا فسرته فأنتَ من الذاكرين، إذا أمرتَ بالمعروف فأنتَ من الذاكرين، إذا قرأتَ كتابَ فِقهٍ فأنتَ من الذاكرين، تفعل ماذا؟ تتعلم أمره ونهيه، أي كل عملٍ ابتغيتَ به وجهَ اللهِ, وذكرتَ الله فيه, فأنتَ من الذاكرين, لذلك كـأنَّ الذكرَ هو غاية العبادات ومنتهى آمال العابدين. 

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور