الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تزكية النفس وسلامة القلب:
أيها الإخوة الأكارم؛ الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)﴾

العبادة تمام الخضوع للهِ عزّ وجل، أما مخلصاً إعرابها حال، أي إذا عبدت الله عزّ وجل يجب أن تكون حالك المرافقة لهذه العبادة هي الإخلاص، إذا عبدت الله عزّ وجل، واستسلمت لأمره، وتوجهت إليه، ينبغي أن تكون حالك التي ترافق هذه العبادة حالة الإخلاص.
إذاً في الإنسان شيءٌ ظاهر هذه الجوارح، وشيءٌ باطن القلب، للجوارح عبادة، وللقلب عبادة، حينما سأل سيدنا داود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، حينما سأل ربه قال: يا ربي، أيُ عبادك أحب إليك –الحديث معروف-حتى أحبه بحبك؟ قال: أحبُ العباد إليّ تقي القلبِ، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحدٍ بسوء، أحبني وأحب من أحبني، وحببني إلى خلقي، قالَ: يا ربي، إنك تعلمُ أني أحبك، وأحبُ من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ هنا الشاهد، قالَ: ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي، الآلاء من أجل ماذا؟ من أجلِ أن يشعر القلب بعظمة الله، والنعماء من أجلِ ماذا؟ من أجل أن يشعر القلب بمحبة الله، والبلاء من أجل ماذا؟ من أجلِ أن يشعر القلب بالخوف من الله، أنا أذكر لكم الآن أن القلب له عبادة، يجب أن يمتلئ القلب تعظيماً للهِ عزّ وجل، قال تعالى:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)﴾
يجب أن يمتلئ القلب حباً للهِ عزّ وجل، قال تعالى:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)﴾
يجب أن يمتلئ القلب خوفاً من الله تعالى، إذاً لا بد من التعظيم، ولابد من الخوف، ولابد من المحبة، هذه مشاعر، الدروس كلها تتعلق بفهم كتاب الله، تتعلق بفهم سنة النبي عليه الصلاة والسلام، أحكام الفقه، لكن هذا الدرس له هوية خاصة، هذا القلب الذي بين جوانحنا، هذه النفس التي هي ذاتنا، التي أمرنا الله عزّ وجل أن نزكيّها، أين نحن من تزكيتها؟ أين وصلنا؟ ماذا قطعنا؟ كم بقي أمامنا؟
محور هذا الدرس إن شاء الله تعالى تزكية النفس وسلامة القلب، وأن يكون القلب مفعماً بالمشاعر التي أرادها الله عزّ وجل.
علاقة المحبة علاقة بين العبد وربه:
الحقيقة لو استعرضتم كتاب الله عزّ وجل لوجدتم أنه أكثر من مئة آية أو تزيد تتحدث عن الحب، الحب مادته في القاموس حَبَبَ، ميلُ القلب، فقلبُ المؤمن لابد من أن يميل إلى الله عزّ وجل، لابد من أن يميل إلى الله، لو أن الإنسان طبّق الأشياء الظاهرة، ولم يجد في قلبه ميلاً إلى الله، لم يجد في قلبه أُنساً بالله، يجب أن يُراجع نفسه، أحياناً تفعل شيئاً، وترى أن هذا الشيء الذي فعلته لم يحقق الهدف، إذاً تُراجع نفسك، فنحن نريد في هذا الدرس أن يُراجع الإنسان نفسه، قلبي هل هو سليمٌ كما أراد الله عزّ وجل؟ قال تعالى:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾

هل أنا أشدّ حباً لله؟
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)﴾
كلمة أحبَّ ويُحبُّ، مادة الحب في القرآن الكريم تزيد عن مئة آية، فما هو الحب؟ أول فكرة في الموضوع هناك مقولةٌ شهيرة أن الربَّ ربّ والعبدَ عبدٌ، الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، هل يشبه عباده؟ حاشا وكلا، كل ما خَطَرَ في بالك فالله سبحانه وتعالى بخِلاف ذلك، إذاً الربّ ربّ والعبدُ عبد، ولا نسبة بينهما، ليس بمتجزئ، ولا بمتبعضٍ، ولا صورةٍ، ولا متلونٍ، ولا يسألُ عنه بأين هو لأنه خالقُ المكان، ولا بمتى هو لأنه خالقُ الزمان، وكل ما خَطَرَ ببالك فالله بخلاف ذلك، عَلِمَ ما كان، وعَلِمَ ما يكون، وعَلِمَ ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كلام سيدنا علي، إذاً الله تعالى بخلاف خلقه، كل ما خطر في بالك فالله بخلاف ذلك، شيء جميل، والعبد عبد، هل هناك من نسبةٍ بين العبد وبين الربّ؟ قال العلماء: إنه الحب، هناك علاقةٌ بين العبدِ وبين الربّ، العبد يحب الله عزّ وجل، والله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)﴾

الله سبحانه وتعالى يحبّ المؤمنين والمؤمن أشدّ حباً لله، إذاً هناك علاقةٌ بين العبد وبين الرب، إنها علاقة المحبة، لذلك قال بعض العلماء: إن الكون كله دليل أن الله سبحانه وتعالى قاهرٌ، إرادته هي القاهرة، إلا أن الإنسان وحده والجن:
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)﴾
إذا التفت إلى الله عز وجل وإذا أحبه فاتجاه الإنسان إلى اللهِ وحبه له دليلُ أن الله سبحانه وتعالى أسماؤه حسنى، أي المخلوقات جاءته مقهورة، أما الإنسان جاءه مُحباً، وشتان بين أن يأتي المخلوق مقهوراً وبين أن يأتي مُحباً، هو الاختيار هكذا، أنت تأتي ربك طائعاً، مختاراً، مستسلماً، طواعيةً، من دون قهر.
الفكرة الأولى أن نسبة العبد إلى الرب ونسبة الرب على العبد إنما هي الحب، بالحب تنتسب إليه:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾
﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)﴾
هذا تشريف، علماء البلاغة يقولون: هذه نسبة تشريف، عبادي، أُضفنا إلى ذاته العظيمة، أُضفنا إلى ذاته إضافة تشريف وتكريم: ﴿قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن﴾ هذه الفكرة الأولى.
الفكرة الثانية العبادة التي من أجلها خُلقنا، الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
العبادة لو فقدت معنى الحب ليست عبادة، لو فقدت العبادة معنى الحب أصبحت طاعة، وقد تطيع من لا تحبه، قد تحب من لا تطيعه، وقد تطيع من لا تحبه، أما إذا أحببته وأطعته فقد عبدته.
من تعريف العبادة: غاية الخضوع مع غاية الحب، هذه هي الفكرة الثانية في موضوع الحب.
الإسلام له مظهر، يوجد صلاة؛ نتوضأ، ونقف، ونقرأ، ونركع، ونسجد، هناك صيام، هناك حج، هناك زكاة، هناك تعامل، تعامل يومي،

هناك أخذ، هناك عطاء، أحكام الزواج، أحكام الطلاق، أحكام المواريث، أحكام البيوع، هذا كله أحكام ظاهرة، هذه الأحكام روحها محبة الله عزّ وجل، فإذا خلا الدين من الحب أصبح جسداً بلا روح، الحب مُحرك والعقل مِقود، أنت بالعقل تقود نفسك إلى الطريق الصحيح أو إلى الهدف الصحيح، أو أنت بالعقل تحافظ على بقائك على الطريق ولا تَزِلُ بك القدم، ولكنك بالحب تتحرك، تسير، تنطلق.
لذلك المعلومات وحدها، دقائق العلم وحدها، الأفكار الدقيقة وحدها، اللفتات العقلية وحدها، الثقافات مهما تعمّقت، الكتب مهما كان لها صورة بائعة، قِوام العلم الحب، فإذا خلا العلم من الحب أصبح جسداً بلا روح، المنافقون:
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلً ا (142)﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)﴾
نحن إذا تحدثنا عن موضوع الحب لأنه أصلٌ في الإيمان، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه –ميل قليه-تبعاً لِما جئت به، والآية التي قلتها قبل قليل:
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ﴾ إذاً لابد من أن تُحبّ الله ورسوله قبل كلِ شيء، يا عمر كيف أصبحت؟ قال: واللهِ يا رسول الله، أصبحت أُحبك أكثر من أهلي، وولدي، والناسِ أجمعين،
(( عن عبد الله بن هشام: كُنَّا مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو آخِذٌ بيَدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فَقالَ له عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِن نَفْسِي، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لَا، والَّذي نَفْسِي بيَدِهِ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْكَ مِن نَفْسِكَ، فَقالَ له عُمَرُ: فإنَّه الآنَ، واللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن نَفْسِي، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: الآنَ يا عُمَرُ. ))
أي الآيات، والأحاديث الصحيحة الثابتة، وأقوال أصحاب رسول الله المتعلقة بالحب كثيرةٌ جداً جداً، إذاً نحن إذا تحدثنا عن موضوع الحب، موضوع أساسي في الدين، بعض الأحاديث الضعيفة: ألا لا إيمان لمن لا محبة له، ألا لا إيمان لمن لا محبة له، ألا لا إيمان لمن لا محبة له.
قال: أهل الحب فازوا بشرف الدنيا والآخرة معاً، كيف؟ الحقيقة الإنسان لابد من أن يحب، الإنسان عقلٌ يدرك وقلبٌ يحب، لابد من أن تُحِب ولكن من هو البطل؟ البطل الذي يعرف من يُحِب، هذا القلب لابد من أن يُحِب، قد تُحبّ امرأةً، قد تُحبّ مسكناً، قد تُحبّ مهنةً، قد تُحبّ مُتعةً، قد تُحبّ لذّةً، قد تُحبّ صديقاً، قد تُحبّ أخاً، قد تُحبّ بلداً، قد تُحبّ مكاناً، قد تُحبّ زماناً، ولكن المؤمن نَظَرَ فرأى:
﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)﴾
فأحبَّ الله، القلب لابد من أن يُحِب، البطل هو الذي يعرف من يُحِب، إما أن تُحبّ شيئاً فانياً، وإما أن تُحبّ الباقي على الدوام.
الإنسان عندما يموت-هكذا جاء في بعض الأحاديث الشريفة-أن الله عز وجل يخاطب الرجل في الليلة الأولى في قبره، يقول: عبدي رجعوا وتركوك، أول يوم الحزن شديد، على عدة أيام يخف الحزن، الثريات كانت مغطاة بقماش، أزيح القماش، الصور قلبوها أعادوها كما كانت، بعد أسبوع صار يضحك ويبتسم في البيت، بعد أسبوعين أولَمَ وليمة، بعد شهر ذهب يتنزه، أين الميت؟ الجماعة نسوه، يقول له: عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبقَ لك إلا أنا، وأنا الحيُّ الذي لا يموت.
أتحبّ الشيء الفاني أم تُحبّ الباقي؟ لذلك قال: أهلُ الحب ذهبوا بخير الدنيا والآخرة، بل ذهبوا بشرف الدنيا والآخرة، كيف؟ لِقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عن أنس بن مالك: المرء مع من أحب. ))

ألا يكفينا هذا الحديث؟ المرء مع من أحب، أنت مع من؟ قد تكون مع زيد أو عبيد، أما المؤمن مع الله، فالمرء مع من أحب، الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى يرزق عباده جميعاً، قال له: عبدي لي عليك فريضة، ولك عليَّ رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك، فأنت تأكل وتشرب، ليس معنى هذا أن الله يحبك، أن تُوّفقَ في تجارتك، ليس معنى هذا أن الله يحبك، أن تكون صحتك طيبة قوية، ليس معنى هذا أن الله يحبك، أن تكون غنيّاً، ليس معنى هذا أن الله يحبك، قارون آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبةِ أولي القوة:
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)﴾
أن تكون قوياً، ليس معنى هذا أن الله يحبك، فرعون قال:
﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)﴾
الحبّ شيء والرحمة شيء آخر:
إذاً الحب شيء والرحمة شيء آخر، لذلك علماء التوحيد قالوا: محبة الله لعباده صِفةٌ زائدة على رحمته،

أنت قد ترحم إنساناً سيئاً، قد ترحم إنساناً جاهلاً، قد ترحم إنساناً لئيماً، مثل الإنسان يُطعِم أولاده جميعاً، ولكن الأب أحياناً قلبه يتجه إلى أحدِ أولاده، فاتجاه قلب الأب إلى أحدِ أولاده هذه صفة زائدة على رحمته بهم، الله سبحانه وتعالى يرزق عباده جميعاً، يرحم عباده جميعاً، يعطي عباده جميعاً:
﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)﴾
ولكن الله سبحانه وتعالى لا يحب إلا المؤمنين الصادقين، إذاً الحب شيء ثمين جداً، الحقيقة: سِلعةُ الله غالية:
فأحبابنا اختاروا المحبة مذهبـاً وما خالفوا في مذهب الحب شرعنا
فلو شاهدت عيناك من حسننــا الذي رأوه لما وليت عنـــا لغـيرنــا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنــــا
ولو ذقت مـن طعم المحبـة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنـــــا
ولو نسمت من قربنا لك نسمــة لمــــت غريباً واشتيـــــاقاً لقربنـــا
فما حبنا سهل وكل من ادعـــى سهولته قلنا له قــــــــد جهلتنـــــــا
فأيسر ما في الحب للصب قتله وأصعب من قتل الفتى يوم هجرنــا
فالحب ثمنه باهظ، لذلك قالوا: ألا إن سِلعةَ الله غالية، لكن المشكلة أُناس كثيرون يدّعون الحب:
وخاضوا بحار الحبّ دعوى فما ابتلّو فهُمْ في السُّرى لم يَبْرَحوا من مكانهم
قضية سهلة:
كل يدّعي وصلاً بليلى وليلى لا تُقرُ لهم بذاكَا
ادّعاء الحب سهلٌ جداً، لذلك لمّا أعرض بعض المدرّسين عن الخوض في موضوعات الحب، موضوعات القلب هناك سبب أن كل إنسان مما هبَّ ودبّ يدّعي أنه مُحب لله عزّ وجل، الدعوى سهلة، يقول لك: أنا أحب الله، فقال: لمّا كَثُرَ مدّعو المحبة طولِبوا بإقامة البيّنة، إذا توفي رجل وله أموال، فطرق الباب طارق، قال: أنا لي عنده مئة ألف، تكرم، هذه مئة ألف، طرق الباب طارق آخر قال: أنا لي عنده نصف مليون، أيعقل أن يعطي الورثة كل من يدّعي أن له عندَ الميتِ مبلغاً؟ هناك سؤال بسيط جداً، أخي معك إيصال؟ معك سند؟ هل هناك شهود؟ أمعك بيّنة؟ أمعك دليل؟ إذاً دعوى الحب عريضة جداً، وواسعة جداً، لمّا كَثُرَ الأدعياء طولِبوا بإقامة الدليل والبيّنة، والدليل، طبعاً قيل: لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى الخليُّ حُرقةَ الشجيّ، إذاً لمّا كَثُرَ مدّعُو المحبة طالبهم الله بالدليل، ماذا قال؟ من يذكر هذه الآية؟ قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)﴾
تعصي الإله وأنت تُظهر حبه ذاكَ لعمري في المقامِ بديعُ
لو كان حبك صادقاً لأطعتـــه إن المحّبَ لمن يحبُ يطيع
أتمنى على كل أخ مؤمن ألا يسمح لنفسه، ألا يسمح لخاطره، أن يقول: أنا أحبّ الله، وهو مُقيم على مخالفة أمره، هذه وقاحة، هذه دعوى كاذبة، هذا سوءُ أدب، هذا ذنبٌ يُضيفه إلى ذنوبه.

أي مثلاً لو أنَّ أباً تناولَ أطيبَ الطعام أمام أولاده، والأولاد ساكتون، إذا قال لهم: أنا أحبكم يا أولادي، هذه الكلمة ذنبٌ جديد يضافُ إلى ذنوبه، لأن فعله يتناقض مع قوله، فلذلك لا أحد يدّعي، ولا أحد يقول: أنا أحب الله، إذا كانَ مقيماً على معصية، لأنك إذا أقمت على معصية معنى ذلك أن اللّذةَ التي تأتيك من هذه المعصية أغلى عليك من الله عزّ وجل، أغلى عليك من رضوان الله، ما معنى:
﴿قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم﴾ ما معنى ذلك؟ أي إذا أطعت زوجتك وعصيتَ ربك فإنك محبّ لزوجتك أكثرَ من حبك لربك، قولاً واحداً بالدليل القطعي، إذا آثرت هذا البيت على طاعة الله، إذا آثرت بيتاً على طاعة الله، في الإقامة فيه شُبُهة، في اقتنائه شُبُهة، إذا آثرت مسكناً، آثرت تجارةً مشبوهة على طاعة الله عزّ وجل، آثرت طريقة في كِسبِ المال على طاعة الله عزّ وجل، آثرت أن تكون مع ابنك على غير ما يرضي الله، آثرت أن تُرضي جارك، آثرت أن ترضي شريكك على حسابِ طاعتك لربك، بالدليل القطعي إنك تُحبّ هذا الذي آثرته أكثر مما تُحبّ الله، أما المؤمنون:
﴿والذين آمنوا أشدُ حباً لله﴾ .
كلُّ من يتبّع النبي عليه الصلاة والسلام محبّ لله:
الآن كلُّ من يتبّع النبي عليه الصلاة والسلام محبّ لله، الآن نريد أن نعمل ترتيباً، كلهم نال فوق المئتين في المجموع العام، نريد لكلية الطب مثلاً أعلى مجموع، نُسلسل هؤلاء الطلاب وفق مجموعهم، الآن الله عزّ وجل يقول يصف المؤمنين بأنهم:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)﴾
أنت قد تطيع الله ومع ذلك تخاف لومة لائم، أما هناك مستوى أعلى من هذا المستوى، الطاعة محبة، أما ألا تخافَ في الله لومةَ لائم هذه محبةٌ أعلى، أما أن تجاهدَ في سبيل الله نفسكَ وهواك، أما أن تضع كل شيء في سبيل الله، هذه محبةٌ أعلى، أما أن تبيع نفسك ووقتك وجهدك وخِبرتك واختصاصك وكُلَ ما تملك هذه محبةٌ أعلى، الطاعة درجة،

والجهاد درجة أعلى، والبيع درجة أعلى، لكنك إذا بِعتَ كلَّ شيء نِلتَ كلَّ شيء، الله سبحانه وتعالى أكرمُ الأكرمين، إذا بِعته كلَّ شيء أعطاكَ كلَّ شيء وزيادة، لذلك الحديث والله الذي لا إله إلا هو لو أردده آلاف المرات لا أشبع منه.
(( عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الرب عز وجل: منْ شَغلهُ ذِكري عن مَسألَتي أعطيتُه أفضَلَ ما أُعطِي السَّائلينَ. ))
[ الزيلعي: تخريج الكشاف: صحيح ]
إذا كنت مشغولاً بذكر الله، مشغولاً بطاعة الله، مشغولاً بالتقرب إلى الله، مشغولاً بخدمة خلقه، مشغولاً بإرضاء الله، تأتيك الدنيا وهي راغمة، هم في مساجدهم والله في حوائجهم، كنّ لي كما أريد أكن لك كما تريد، كن لي كما أريد ولا تُعلمني بما يُصلحك، من أحبّنا أحببناه، ومن طَلَبَ منّا أعطيناه، ومن اكتفى بنا عما لنا كنّا له وما لّنا، أي إذا بِعت الله عزّ وجل وقتك وجهدك وخِبرتك وطاقتك وعضلاتك، بعته كلَّ شيء، نِلتً كلَّ شيء، يا ربي ماذا فَقَدَ من وجدك؟ وماذا وَجَدَ من فقدك؟ ماذا فقد من وجدك؟ واللهِ ما فقد شيئاً، إذا سلّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تُسلّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تُريد ثمَ لا يكون إلا ما أريد.
الفرق الكبير بين ادّعاء الحب وبين أن تكون مُحباً:
الحقيقة الحديث عن المحبة موضوع شاق، لماذا؟ لو قلتُ لك: صفٍ لي العسل؟ ماذا تقول؟ العسل حلوُ الطعمِ، والسكر حلوُ الطعم، أنا آتيك بعشرات الأصناف، بمئة صنف كلها حلوة الطعم، أريد العسل، تقول لي: حلوُ الطّعم، لزج القِوام، والقطر لزج القوام، هل تستطيع اللغة أن تصف بدقة بالغة طعم العسل؟ لو أن إنساناً كَتَبَ مجلداً عن طعم العسل، يُغني عن هذا المجلّد أن تلعق لعقة عسلٍ واحدة.

مثلاً واللهِ أريد أن ألقي عليكم أمثالاً، لا حُباً بطرح الأمثال، لأن لها محاذير بصراحة، ولكن بين ادّعاء الحب وبين أن تكون مُحباً مسافة كبيرة جداً، أي من قال: خمسمئة مليون ليرة سورية، أيُّ إنسان يستطيع أن يقول: خمسمئة مليون ليرة، وقد لا يملك ثمن رغيف خبز، ولكن شتان بين من يقول هذا الرقم وبين من يملكه، كم هي المسافة كبيرة بين من يقول: خمسمئة مليون وبين من يملك هذه الملايين الخمسمئة؟ والله الذي لا إله إلا هو يكاد الفرق نفسه بين من يدّعي المحبة وبين من يُحب، أي مثلاً: كل إنسان بإمكانه أن يدّعي الحب، ولكن يدّعي الحب وهو من أشقى الأشقياء، يدّعي الحب وقلبه مُقفِر، يدّعي الحب وهو خائف، يدّعي الحب وهو قَلِق، يدّعي الحب وهو ممزق، يدّعي الحب وهو ضائع، ادعاء، ولكنك إذا أحببت الله فعلاً، وألقى الله نوره في قلبك، وأطلقَ لسانك بالحكمة، قلت لكم مرةً: إن أكثر الأمراض أسبابها حالات نفسية صعبة، فالحالة النفسية مهمة جداً، الإنسان يرتفع بحالته النفسية وينخفض بحالته النفسية:
﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)﴾
لذلك هناك إدارات بكاملها؛ إدارة التوجيه المعنوي لماذا؟ لرفع الحالة المعنوية للجنود، إذاً أنت إذا كنت تنطوي على قلبٍ متصلٍ باللهِ، مفعمٍ بالحب، لك حالةٌ معنويةٌ طيبةٌ جداً، هذه لها ثمن.
المعاني المستفادة من كلمة الحب:
على كُلّ؛ كلمة الحب إذا أردنا أن نبحث في اشتقاقاتها اللغوية إلى أيّ الأبوابِ تعود؟ قال بعض العلماء: الحب مأخوذٌ من الصفاء والبياض، تقولُ: حَبَبُ الأسنانِ؛ أيّ بياض الأسنان، فالحب فيه صفاءٌ وفيه بياض، والبياض له معانٍ كثيرة في المجتمعات، والحب بمعنى العلو والظهور، شيء عالٍ، سامٍ، صارخ، ظاهر، تقول مثلاً: حَبَب الماءِ فقاعات الهواء التي تعلو الماء، والحب: اللزومُ والثبات:
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)﴾
أي أنت عاهدت الله عزّ وجل في المنشطِ والمكرهِ، في السّراءِ والضرّاءِ، في الغِنى والفقرِ، في الصحةِ والمرضِ، في إقبال الدنيا وإدبارها، في الراحةِ وفي التعبِ، في كل شيء تُعاهدُ خالقَ الكون، إذاً من معاني الحب اللزوم والثبات، تقولُ مثلاً: حبَّ البعيرُ أي بَرَكَ ولم يقم.
المعنى الرابع: الحب بمعنى اللبّ، قال بعضهم: الحبُّ لبابُ الدين، وبالدين مظاهر، يجب أن نؤديها كاملةً، ويجب أن نحترمها، ولكن لبَّ الدين هو أن تُحب الله عزّ وجل، الإيمان أن تُحب الله عزّ وجل كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
والمعنى الخامس: الحب هو الحِفظُ والإمساك، ومنه حِبّ الماء أي وعاء الماء.
الصفاء والبياض، العلو والظهور، اللزوم والثبات، اللباب، الحِفظُ والإمساك، هذه كُلها المعاني المستفادة من كلمة الحب.
الحقيقة الحبّ شعور داخلي لا يظهر، له مظاهر مادية، كل شيء في داخل النفس له ما يؤكده في خارجها، العلماء تنوعت تعريفاتهم للحب،

قال بعضهم: المحبة هي الميل الدائم للقلب الهائم، هناك ميل إلى الله، أما أهل النفاق ينسون الله، يغرقون في دنياهم، يغرقون في مشكلاتهم، يتيهون في الحياة، لكن أهل الإيمان يذكرون الله كثيراً، لأنهم يحبونه كثيراً، ومن أحبَّ شيئاً أكثرَ من ذكره، قاعدة.
لو فرضنا إنساناً قدّمَ لكَ خِدمة ثمينة، راقب نفسك؛ بأول لِقاء تتكلم عنه، تأتي للبيت تتكلم عنه، تلتقي مع صديق تتكلم عنه، راقب نفسك خِلالَ أسبوعين أو أكثر كلما التقيت بإنسان تحدثتَ عنه، من أحبّ شيئاً أكثرَ من ذِكره، إذاً علامة حُبّ الله عزّ وجل أن تُكثر من ذِكره، الميل الدائم للقلب الهائم، وقيلَ في الحب: إيثار المحبوب على جميع المصحوب، جلسةٌ ممتعةٌ، وذِكرٌ للهِ عزّ وجل، نُزهةٌ رائعةٌ، ومجلسُ علمٍ للهِ عزّ وجل، طعامٌ نفيسٌ، وخِدمةٌ لإنسانٍ طيب.
الله عز وجل ما الذي يرضيه؟ ما الذي يجعلك تقترب منه؟ إذا كنت مُحباً لله دائماً وأبداً تؤثر مرضاة الله عزّ وجل على حظوظ نفسك حتى المباحة، لكن الإنسان إذا أخذَ من الدنيا نصيبه، من دون أن تشغله عن طاعةٍ،

أو عن أداءِ صلاةٍ، أو عن مجلسِ علمٍ، أو عن قضاء واجبٍ، أداء واجب، فهذا ليسَ من الدنيا، لأن الدنيا قِوام الحياة فقد ورد: ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا من ترك آخرته لدنياه، إلا أن يأخذَ منهما معاً، فإن الأولى مطيةٌ للثانية.
وقيلَ: الحب موافقة الحبيب في المشهدِ والمغيب، من دلائل الحب في الإنسان، لو الإنسان يصلي في المسجد يُتقن صلاته حِفاظاً على مكانته، لكن إذا كانَ وحده خالياً يصليها سريعاً، إذا كان هناك فرق بين صلاتك مع الناس وبين صلاتك مع نفسك هناك خلل بالحب، إذا كنتَ أمامَ مشهدٍ ممن يعجبون بك لك موقف، فإذا كنتَ وحدك لك موقف، إذا كنت في بلدك لك موقف، إذا كنت في بلدٍ أجنبي لك موقف، إذا كنت في موضعٍ مراقبٍ فيه لك موقف، وإذا كنت في موضعٍ لستَ مراقباً فيه لك موقف، والله هذه مشكلة، لذلك ورد: من لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله، دَخَلَ في النفاق.
1- استكثار القليل من ذنوبك واستقلال الكثير من طاعتك:
من علامات الحب استكثار القليل من ذنوبك واستقلال الكثير من طاعتك، المحبون للهِ عزّ وجل مهما قلّت ذنوبهم يخشونها، ومهما كَثُرت طاعاتهم يستقلونها، أما المنافقون لو فعلَ عملاً صالحاً يملأ الدنيا صخباً وضجيجاً، ويمن به، ويقول: فعلتُ كذا وكذا، وعملنا كذا،

من علاماتِ المُحب أنه يستكثر القليل من ذنوبه، ويستقلّ الكثير من طاعته، دائماً خائف، لذلك قيلَ: ذنبُ المؤمن كأنه جبلٌ جاثمٌ على صدره، وذنبُ المنافق كأنه ذبابة لا قيمة لها.
2- معانقة الطاعة ومباينة المخالفة:
قيلَ: الحب معانقة الطاعة ومباينة المخالفة؛ دائماً مع الطاعة، دائماً مبتعدٌ عن المعصية، مع الطاعة، مقتربٌ من الطاعة مبتعدٌ من المعصية، هذه من علامات الحب.
من علامات الحب أن تَهَبَ كُلَكَ لمن أحببت، فلا يبقى لك منه شيء، سيدنا الصدّيق أعطى ماله كله لسيدنا رسول الله، قالَ: يا أبا بكر ماذا أبقيتَ لنفسك؟ قال: الله ورسوله، هذا ليسَ حكماً شرعياً، هذا موقف، لأن الله سبحانه وتعالى جعل المال قِوامَ الحياة، أما لو إنسان غَلَبَهُ حبه، وأنفقَ جزءاً كبيراً من ماله، الله سبحانه وتعالى يقبل اجتهاده، ويكافئه على هذا الكثير بأكثرَ منه.

بعضهم قالوا: أن تَهَبَ إرادتكَ وعزمكَ وأفعالكَ ونفسكَ ومالكَ ووقتكَ لمن تُحبه، وتجعلها جميعاً حبساً في مرضاته ومحابه، فلا تأخذُ منها إلا ما أعطاكَ هو، سمح لك بالزواج تزوجت، سمح لك أن تأكل أكلت، لا تأخذ من الدنيا من كل هذا الذي تملكه، إلا ما سمح لك هو أن تأخذه فقط، دون زيادة، من دون إسراف، من دون كِبر.
قال: جرت مساءلة في مكة المكرّمة بين علماءٍ كُثر، وكان الجُنيدُ أصغرهم، الإمام جُنيد هذا الذي قيل له: من وليُّ الله؟ قالَ: الذي تجده عندَ الحلال والحرام، فلما تحاوروا وسألَ بعضهم بعضاً، وكانَ الجُنيدُ أصغرهم سِناً فقالوا: هاتِ ما عِندكَ يا عراقي، فأطرقَ رأسه ودمعت عيناه، ثم قال: عبدٌ ذاهبٌ عن نفسه، متصلٌ بربه، قائمٌ بأداء حقوقه، ناظرٌ إليه بقلبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطقَ فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكنَ فمعَ الله، فهو باللهِ وللهِ ومع الله، قالَ: فبكوا جميعاً، وقالوا: ما على هذا مزيد.
عبدٌ ذاهبٌ عن نفسه، أي نفسه تحتَ قدميه، يُخضعها لطاعة الله، يحملها على مرضاة الله، لا يثأرُ لها أبداً، ذاهبٌ عن نفسه، متصلٌ بربه، قائمٌ بأداء حقوقه، ناظرٌ إلى الله بقلبه، إن تكلم فبالله، وإن نطقَ فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكنَ فمعَ الله، فهو باللهِ وللهِ ومع الله.
من الطرائق أن تكون محبوباً عند الله:
نريد أن نختم الدرس، أي أهل الحب، أهل الإيمان، أهل الإحسان، أهل التقوى، أهل القرب، بيّنوا أن للحب وسائل، الله عزّ وجل من رحمته جعل إليه طرائق، أحياناً جهة من الجهات ليس لك إليها سبيل، الطريق مغلق، مهما حاولت، لكنَ الله سبحانه وتعالى جعلَ الطرائقَ إلى الخالق -كما يقال-بعدد أنفاس الخلائق، فقيل: من الطرائق أن تكون محبوباً عند الله عزّ وجل:
1 ـ قراءة القرآن بالتدبّر والتفهم لمعانيه وما أُريدَ به:
أولاً: قراءة القرآن بالتدبّر والتفهم لمعانيه وما أُريدَ به، ما قالوا: تؤخذُ ألفاظه من حفاظه، وتؤخذُ معانيه ممن يعانيه؟ قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه، وما أُريدَ به، يجب أن تقرأه، وأن تفهمه، وأن تُطبقه كما أراد الله عزّ وجل.

وقد قالَ العكبري: تؤخذُ ألفاظه من حُفّاظه، وتؤخذُ معانيه ممن يعانيه.
2 ـ التقرب إلى الله بالنوافل:
ثانياً: التقرب إلى الله بالنوافل:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ».))

في الصلوات، في الصيام، في الإنفاق، في المال حقّ سِوى الزكاة، بالأعمال الصالحة، بخدمة الخلق.
3 ـ المداومة على ذكر الله:
دوام ذكره:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)﴾
الأمر منصب على الذِكر الكثير، لا على الذِكر فقط، على كل حالٍ باللسان والقلب، والعمل والحركة، نصيبك من محبة اللهِ على قدرِ نصيبك من الذِكر.
4 ـ أن تؤثر محابه على محابك عند غلبات الهوى:
الرابع: أن تُؤئر محابه على محابك عند غلبات الهوى، أحياناً ينشأ صِراع، إذا آثرت ما يُحِب على ما تُحب فأنتَ مُحب، أما إذا غَلَبتكَ نفسك، وآثرت ما تُحب على ما يحب، فقد ضَعفَ حبك.
5 ـ مشاهدة بره وإحسانه وآلائه:
مشاهدة برّه وإحسانه وآلائه، التأمل في الآيات، تذكّر النعم، تأمل العطايا، أي النبي الكريم كان إذا أفرغَ ما عنده قال: الحمد لله الذي أذاقني لذّته، وأبقى فيَّ قوته، وأذهبَ عني أذاه.

كلما تحرك: الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني، كانت تَعْظمُ عنده النعمةُ مهما دقت، من علامات الحب، إذا شربت كأس ماءٍ، إذا استيقظتَ صباحاً نشيطاً: الحمد لله، إذا تمتعتَ بسمعك وبصرك وقوتك: الحمد لله، دائماً أنتَ مع النعم، وأنتَ شاكرٌ لهذه النعم.

قال أيضاً: من علامات الحب: انكسار القلب بكليّته إلى الله، أبواب الله كثيرة، هناك باب واسع وسريعٌ، ليسَ عليه ازدحام، إنه باب الانكسارِ إلى اللهِ عزّ وجل، كلما ازدادَ حبك جئته منكسراً، مُعلناً عن فنائكَ في ذاته.
من علامات حبك لله قال: مجالسة المحبين الصادقين، لا تُحبّ إلا المحبين، إذا مالَ قلبكَ إلى أهلُ الدنيا، وأردتَ أن تكون معهم، وأن تُقيم علاقاتٍ وشيجة معهم وهم بعيدون،

والله هذه علامة بعد عن الله عز وجل، كلما كنتَ محباً تمنيت أن تكون مع المحبين في مجالسهم، في جَلساتهم، في خلواتهم، مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطيب ثمرات كلامهم كما تُنتقى أطايبُ الثمر.
إذا كنت فعلاً محباً للهِ عزّ وجل كل شيء يقطعك عن الله عزّ وجل تَفر منه فِرارك من وحشٍ كاسر، أي مخالفة نظرةٌ تُبْعِدك عن الله تبالغ في غضّ البصر، شُبهة في لقمة.
النبي عليه الصلاة والسلام –هكذا قرأت-تأخّر عليه الوحيُ فقالَ: يا عائشة لعلي أكلت تمرة من تمر الصدقة وأنا لا أدري، فكل شيء يمكن أن يبعدك عن الله عز وجل تبتعد عنه، هذه بعض الأشياء التي إذا فعلتها، كانت هذه الأشياء وسيلةً إلى أن تنالَ حبَّ اللهِ عزّ وجل، وإذا ذقتَ طعمَ الحب، أي كما قالَ الشاعر:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
[ محمد بن بختيار بن عبد الله البغدادي ]
الملف مدقق