- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
الإخلاص :
أيها الأخوة الأكارم ؛ مع الدرس الرابع من سلسة دروس تعبد القلب بما ينبغي له أن يكون عليه من رضوان الله تعالى ، في درسين سابقين تحدثنا عن موضوع المحبة , وكيف أن المحبة هي روح الدين ؟ واليوم ننتقل إلى موضوع جديد ألا وهو الإخلاص .
الآية الأولى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين ...........
أيها الأخوة الأكارم ؛ ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾
أمِروا أن يعبدوا الله مخلصين، الحالة الداخلية هي الإخلاص, والحالة الخارجية هي العبادة .
الآية الثانية : فاعبد الله مخلصا له الدين .
وآية أخرى : يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ﴾
الآية الثالثة : قل الله أعبد مخلصا له ديني...........
وفي آية ثالثة :
﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي﴾
الآية الرابعة : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم ..........
وفي آية رابعة :
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾
الفضيلُ- رحمه الله تعالى- فسّرَ:
﴿أيّكم أحسن عملاً﴾
أن يكون العمل صواباً وخالصاً؛ صواباً وفق السُنّة، وخالصاً ما ابتغي به وجه الله .
الآية الخامسة : قل إنما أنا بشر مثلكم ...........
وفي آية أخرى :
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾
الإشراك هنا إشراكٌ في النيّة, فمن كان يرجو لقاء ربه, فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً, لا يشرك في قصده ولا نيّته أحداً مع الله عزّ وجل .
الآية السادسة : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله ...........
وفي آية أخرى يقول الله عزّ وجل :
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾
فإسلام الوجهِ لله عزّ وجل إسلامٌ القصد والعمل للهِ عزّ وجل، والإحسان متابعة النبي عليه الصلاة والسلام .
آيات كثيرة كلها حولَ محورٍ واحد : أُمرتَ أن تعبد الله وأن تكون هذه العبادة في إخلاصٍ لله عزّ وجل .
انطلقت من هذا الموضوع من قول النبي عليه الصلاة والسلام:
((يا معاذُ, أخلص دينك يَكفِكَ القليلُ من العمل))
وانطلقت في هذا الموضوع من قوله تعالى :
﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً﴾
عملٌ عظيمٌ؛ عظيم بلا إخلاص, يجعله الله هباءً منثوراً, وعملٌ قليلٌ مع الإخلاص يتقبلّه الله عزّ وجل, وربما كان هذا العمل مع الإخلاص سبباً لنجاةِ صاحبه من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرى .
يقول عليه الصلاة والسلام يخاطبُ سيدنا سعد بن أبي وقاص:
((يا سعدُ, إنكَ لن تُخلّفَ فتعملَ عملاً تبتغي به وجه الله تعالى, إلا ازددتَ به خيراً ودرجةً ورِفعةً))
ما من عملٍ تعمله تبتغي وجه الله تعالى, إلا ازددتَ به خيراً ودرجةً ورِفعةً.
المخلص وغير المخلص :
وقد يسألُ سائل كيفَ أعرفُ ما إذا كنت مخلصاً أو غيرَ مخلص ؟
هناكَ إجابات عديدة أبرزها :
أن يستوي عندك مدح الناس وذمهم , هذه علامةٌ طيبة .
أن تبتعدَ عن الرياء , معنى الرياء : أن تُرائي الناس .
علامةٌ ثالثة :
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾
لِحكمةٍ أرادها الله عزّ وجل : جَعَلَ الإنسانَ مطلّعاً على نفسه , يعرف سرّها ونجواها، يعرف انحرافها واستقامتها ، يعرف إخلاصها ورياءها ، يعرف أمانتها وخيانتها ، هذا سِرٌ من أسرارِ هذه النفسِ البشرية :
﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى ﴾
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا, فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ, ثَلاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ, وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ, وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ, فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ))
فإذا أخلصتَ العملَ لله, ونصحتَ ولاة الأمور, ولَزِمتَ جماعة المسلمين, لا يمكن أن ينطوي قلبكَ على غلِّ لأحد .
النبي عليه الصلاة والسلام أعطانا بعض المقاييس قالَ :
(( بَرِئ من الكِبرِ من حملَ حاجته بيده))
وقالَ عليه الصلاة والسلام :
((وبَرِئ من النِفاقِ من أكثَرَ من ذِكرِ الله))
مقياس آخر :
(( وبَرِئ من الشُحِ من أدى زكاةَ ماله ))
هذا مقياس رابع :
(( وبَرِئ من الغلِّ من أخلصَ في العمل, ونصحَ ولاةَ الأمر, ولَزِمَ جماعة المسلمين ))
إذا لَزِمتَ جماعة المسلمين, ماذا يعني لك؟ هل عندك دليلٌ على أن جماعة المسلمين على حق؟ دائماً ما عليه مجموع المسلمين حق عليه أهلُ السُنّةِ والجماعة حق, ما أجمعَ عليه المسلمون حق, الدليل: قول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( لا تجتمع أمتي على خطأ ))
الأمة بمجموعها معصومة، والنبي عليه الصلاة والسلام بمفرده معصوم:
(( لا تجتمع أمتي على خطأ ))
إذا كنتَ مع جماعة المسلمين, مع مجموع المسلمين, مع ما هم عليه المسلمون مع جمهور العلماء, فقد بَرِئ قلبكَ من الغِلّ .
سُئلَ عليه الصلاة والسلام عن الرجلِ, يقاتل رياءً, ويقاتل شجاعةً, ويقاتل حميّةً, أيُّ ذلك في سبيل الله؟.
عَنْ أَبِي وَائِلٍ, عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ:
(( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا, وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً, فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ, قَالَ: وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ إِلا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا, فَقَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ))
موتٌ على حمية, وموتٌ على رياء, وموتٌ على شجاعة, كلها ليست في سبيل الله، من قاتلَ لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله, والشيء المخيف: أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبرَ عن أولِ من تُسعّرُ بهم النار يوم القيامة، قالَ عليه الصلاة والسلام: قارئ القرآن إن رآى بقراءة القرآن، والمجاهد الذي يجاهد حميةً أو شجاعةً أو رياءً، والمتصدقُ بماله الذي يبتغي من صدقته, أن يقول الناس: فلان فعلَ كذا وكذا .
الذين فعلوا ذلك ليقال: هذا قارئٌ, وفلان شجاع, وفلان متصدق, ولم تكن أعمالهم خالصة لوجه الله.
الإخلاص :
لماذا اخترتُ موضوع الإخلاص؟ لأنه موضوعٌ خطيرٌ جداً، قد يكون لكً عملٌ كالجبال, ولكن تبتغي به الدنيا, تبتغي به السُمعة, تبتغي به الوجاهة, تبتغي به أن تصرفَ وجوه الناس إليك, تبتغي به المديح, تبتغي به الرِفعة .
موضوع المحبة موضوعٌ خطير, وموضوع الإخلاصِ موضوعٌ أخطر .
الله سبحانه وتعالى في بعض الأحاديث القدسية يقول :
(( أنا أغنى الأغنياء عن الشِرك, من عَمِلَ عملاً أشرَكَ فيه غيري, فهو للذي أشركَ فيه, وأنا منه بريء ))
يعني هذا العمل أكثره لله وقليل منه لزيد أو عبيد، الله سبحانه وتعالى كلُّ هذا العمل لا يقبله, سهمين من مائة لزيد أو عبيد و 98 سهم لله, هذا العمل عند الله كله مرفوض .
إن الله طيبٌ ولا يقبل إلا طيباً, والطيبُ هنا ما كانَ العملُ خالصاً لوجه الله تعالى, لذلك القصد أن ننتبه لقلوبنا، أن نتفحصَ أعمالنا، أن ندققَ في نوايانا، أن نتفحصَ نفوسنا، أن نتأملَ الغايات البعيدة التي وراءَ أعمالنا .
في حديثٍ قدسيٍ آخر: يقول الله عزّ وجل للمرائي يومَ القيامة:
(( اذهب فخذ أجرك ممن عَمِلتَ له لا أجرَ لكَ عندنا ))
أنتَ عَمِلتَ لمن؟ لفلان؟ خذ أجركَ منه .
وفي الحديث الصحيح: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
((لا تَحَاسَدُوا, وَلا تَنَاجَشُوا, وَلا تَبَاغَضُوا, وَلا تَدَابَرُوا, وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ))
((إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلا إِلَى صُوَرِكُمْ, وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ, وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى صَدْرِهِ))
إنسان وسيم الطلعة, عريض المنكبين، ضخم الجثة، لا ينظر الله إليه, كلكم يعلم حديثَ الأحنف بن قيس الذي وصفه الواصفون, فقالوا: كانَ قصيرَ القامة، أسمرَ اللون، أحنفَ الرِجل, مائلَ الذقنِ, ناتئَ الوجنتين، غائرَ العينين، شيء من قُبيحِ المنظر, وهو مع ذلك سيد قومه, إن غَضِبَ غَضِبَ لغضبته مئة ألف سيفٍ, لا يسألونه فيما غضب, وكان إذا علمَ أن الماءَ يفسد مروءته ما شربه .
إن الله لا ينظر إلى أجسامكم: مهما يكن جسمك، مهما يكن وصفك، مهما يكن طولك ، مهما يكن لونك، مهما تكن عيناكَ واسعتين، مهما يكن شكلك جذاباً، مهما يكن لباسك أنيقاً، مهما تكن العطور منك فواحة .
بعض العلماء قال: يدخل في الصرر بيتكم، مركبتكم، أثاث البيت، الحاجات الثمينة التي تقتنيها، الإمام عليٌّ كرّمَ الله وجهه, يتحدث عن علامات آخر الزمان: يكون فيه قيمة المرء متاعه, لا قيمة المرء ما يحسن.
((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))
أعمالكم في الظاهر وقلوبكم في الباطن .
يجب أن يكون القلبُ مفعماً بالإخلاص لله عزّ وجل .
أثرٌ مرويٌ عن الله عزّ وجل في حديثٍ قدسي:
((الإخلاص سِرٌ من سري, استودعته قلبَ من أحببته من عبادي))
سر من أسرار الحق، لذلك غير المخلص بحاجة ملحّة إلى أن يستجدي الثناء, أما المخلص تشعر أنه لا يحتاج ثناءك, لأن إخلاصه لله أكسبه صِلةً مُسعدةً مع الله عزّ وجل, فهو لن يستجدي ثناء الناس ومديحهم، هذا الذي يهتم اهتماماً كبيراً لثناءِ الناسِ, في إخلاصه شائبة، في إخلاصه خلل.
ماذا قالَ العلماء عن الإخلاص؟
أحاديثُ قدسيّة , وأحاديثُ صحيحة , وآياتٌ قرآنية , تجعلُ الإخلاصَ نصف العمل , العمل له ظاهر وله باطن , في الظاهر ينبغي أن يكون وفقَ السُنّة , وفي الباطن ينبغي أن يكون مخلصاً .
قال بعض العلماء الإخلاص :
إفراد الحق سبحانه وتعالى بالقصد في الطاعة .
الإنسان يدخل المسجد ليصلي , كان مع أصدقائه , يدخل معهم ليصلي , ويصلي , لكن ما أفردَ الله عزَ وجل في هذه الطاعة , صلّى حياء ، صلّى مجاملةً ، صلّى مسايرةً ، صلّى ليجلبَ مدح الناسِ له ، فأيُّ عملٍ يفعله الإنسان , يستجلبُ به مديح الناس , هذا عملٌ بعيد عن الإخلاص .
الإخلاص : إفراد الحق سبحانه بالقصدِ في الطاعة .
من تعريفات الإخلاص :
تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين.
من رآني ؟ رآني فلان , يعني حينما ينشأ في قلبِ الإنسان رغبة أن يطلّعَ الناسُ على عمله , يرتاح راحةً كبرى , هذه الراحة من ضعفِ الإخلاص .
بعضهم قال :
الإخلاص: التوقي من ملاحظة الخلقِ على نفسك .
لا يعنيك أمر الخلق لاحظوا أو لم يلاحظوا .
بعضهم قال :
من شَهِدَ في إخلاصه الإخلاص , فإخلاصه يحتاج إلى إخلاص .
مرةً ثانية :
من أخطر موضوعات الدعوة إلى الله عزّ وجل ، موضوع الإخلاص , لأن النبي عليه الصلاة والسلام في حديثٍ صحيح متواترٍ , يُعّدُ أصلاً من أصول الدين :
عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ , وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى , فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا , أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يتزوجها , فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ))
قيمة العملِ تنبع من نيتك .
كما قال بعض أخوتنا الأكارم :
الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن .
من لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا, لم يعبأ الله بشيءٍ من عمله.
العمل يستوي في الظاهر وفي الباطن, والرياء أن يكون الظاهر خيراً من الباطن، والصدق في الإخلاص أن يكون الباطن خيراً من الظاهر, إذا استوى الظاهر مع الباطن، إذا استوت عبادتك في خلوتك كعبادتك في جلوتك, إذا استوى عملك في السر كعملك في العلانية، إذا استوى ظاهرك مع باطنك فأنت مخلص, الحد الأدنى الأساسي أن يستوي الظاهر مع الباطن، السريرة مع العلانية.
قال بعضهم :
الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الحق .
مشغولٌ بالله عمّا سِواه ، ومن تزيّنَ للناسِ بما ليسَ فيه سقطَ من عين الله, ولئن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتنحطم أضلاعه, أهون من أن يسقط من عين الله .
قيل لأحد العلماء واسمه سهل التستري: أيُّ شيء أشدُ على النفسِ؟ قالَ: الإخلاص, لأنه ليسَ للنفسِ فيه نصيب، ليس هناك شهوة الإخلاص يرويّها، ليس هناك حظُ نفسٍ الإخلاص يحققه ، الإخلاص عِبء على النفس, ربما أمرك الإخلاص أن تفعلَ شيئاً مخالفاً لرغبة النفس, النفس ترغب أن ترتفع, الإخلاص يأمرك أن تبتعد عن مواطن الرِفعة .
الإخلاص أن لا تطلبَ لعملكَ شاهداً غير الله عزّ وجل, ما دامَ اللهُ قد رآك هذا شيء كاف, ما الذي يحصل مع الناس؟ الإنسان يتمنى أن يراه الناس في أحسن حالاته، إذا صلّى صلاةً خاشعة, وشعر أن الناس رأوه يبكي, ترتاح نفسه, معنى ذلك هو يبتغي السمعة، إذا عمل عملاً صالحاً, وشعر أن أحداً علمَ هذا العمل, ترتاح نفسه.
قال :
الإخلاص أن لا تطلبَ على عملكَ شاهداً غير الله عزّ وجل ولا مجازياً سواه .
أن لا تطمع بشاهد ولا مجاز, هذا هو الإخلاص.
قال أحد العلماء :
ما أخلص عبدٌ قطُ أربعين يوماً , إلا ظهرت ينابيع الحِكمة في قلبه , وأجراها الله على لسانه .
أربعون يوماً في إخلاصٍ شديد , ترى أن الله سبحانه وتعالى أنطقكَ بالحكمة ، سددَ خطاك , ألهمك الصواب , عَمّرَ قلبكَ بالإيمان , غَمَسَكَ في سعادةٍ لا يعلمها إلا الله .
قال بعض العلماء :
إذا أخلصَ العبد , انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء .
ندخل في موضوع آخر ألا وهو تعريف الإخلاص ، ذكرنا آيات , وأحاديث صحيحة , وأحاديث قدسية , وأقوال بعض العلماء عن الإخلاص, وكيف أن الإخلاص هو نصف الدين؟ الدين عمل وحال، الحال الداخلي يجب أن يكون إخلاصاً لله عزّ وجل, والظاهر هو العمل .
قال الإخلاص : تصفية العمل من كلِّ شائبة .
تقول: هذا الحديد نسبة الشوائب فيه مرتفعة, إذاً: سعره متدنٍ, قد ينكسر، كلما قلّت نسبة الشوائب في الحديد ارتفع ثمنه، وكلما زادت هذه النسبة قلّت قيمته .
الإخلاص تصفية العمل من كلِّ شائبة .
قال بعضهم : أن لا يمازج العمل ما يشوبه من شوائب النفس .
إما طلبُ التزيّنِ في قلوب الخلق, أو طلب مدحهم، أو الهرب من ذمهم، أو طلب تعظيمهم، أو طلب أموالهم، أو طلب خدمتهم ومحبتهم، أو طلب قضاء حوائجه، أو غير ذلك من العلل والشوائب: أن تريد ما سوى الله بعملك .
درجات الإخلاص :
الدرجة الأولى : أن لا ترى لك عملاً .
قد يكون لك عملٌ عظيم ، وما دمت تراه لك عملاً ضخماً , فهذا من عدم الإخلاص , لأنك رأيت لك عملاً مستقلاً عن الله عزّ وجل , والشيء الثابت : أن العملَ الصالح بتوفيق الله , وأنتَ في الصلاة تقرأ كلَّ يوم : إيّاكَ نعبدُ وإيَّاكَ نستعين , ولا حولَ عن معصية الله إلا بالله , ولا قوة على طاعته إلا به .
الإنسان إذا نظرَ إلى عمله , واستعظمَ عمله , وعرفَ حجمَ عمله , وباهى بعمله , وألقى الأضواء على عمله , ومنَّ الناس بعمله , وقال : أنا فعلتُ كذا وكذا , رؤية العملِ ضخماً نوعٌ من ضعفِ الإخلاص .
النبي عليه الصلاة والسلام قالَ في بعض أدعيته : اللهم أنا بك وإليك، أنا قائمٌ بك، كلُّ ما عندي من فضلك، وإليك قصدي كله إليك.
هذا الدعاء : اللهم أنا بك وإليك, يعني أنتَ قائمٌ بالله, ذكاؤك, خبراتك, أعمالك, توفيقاتك, إنفاقك, دعوتك, هذه كلها بالله, ويجب أن تكون لله, كنّ به وله, فإذا قلت: أنا بما عندي, هذه قالها قارون, قال: إنما أوتيته على علمٍ عندي, دعاءٌ مختصرٌ اختصاراً شديداً, اللهم أنا بك وإليك, الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾
لولا أن الله سبحانه وتعالى سمحَ لك أن تكون هكذا ما كنت، لولا أن الله سبحانه وتعالى أمدك بهذا العمل لما كنت، لولا أن الله سبحانه وتعالى جمعك مع أهل الحق ما كنتَ هكذا، لولا أنه أعطاك قوة وأعطاك مالاً ما كنتَ هكذا .
حينما تنظر إلى عملك فهذا ضعفٌ في إخلاصك، أما إذا فنيتَ عن رؤية عملك, ورأيت أن هذا العمل العظيم الذي أجراه الله على يديك, إنما هو محض فضلٍ من الله عزّ وجل, هذا بعض ما في الإخلاص من معنى .
يقول عليه الصلاة والسلام في بعضِ الأحاديث الشريفة:
((إذا أراد ربك إظهارَ فضله عليك, خلقَ الفضلَ ونَسبه إليك))
واحد قالَ كلمة أعجبتني قال: المؤمن صفيحة ذهب, فإذا ظنَّ أنه ممتلئٌ ذهباً, أُفرغت هذه الصفيحة من الذهب, فبقيت صفيحة, فإذا عزى الفضل إلى صاحبه, وهو الله سبحانه وتعالى, بقي هذا الذهب في هذه الصفيحة, وكان ثميناً جداً, يعني أنتَ بفضلِ الله لا بفضلك، بقوة الله لا بقوتك، بعلم الله لا بعلمك, ماذا قال الله عزّ وجل تأكيداً لهذا المعنى؟ :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
آية واضحةٌ كالشمس :
﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحدٍ أبداً ولكن الله يزكّي من يشاء﴾
أخلاقك العليّة الرضيّة, صلاتك المتقنة، تهجدك، إقبالك، ذِكرك، عملك الصالح، دعوتك إلى الله، قوة تأثيرك في الناس، هذا فضلٌ من الله عزّ وجل، فإذا رأيته منك, فهذه الرؤيا فيها ضعفٌ في الإخلاص، آية ثانية :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
هذا دعاء النبي عليه الصلاة والسلام:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾
إنسان له عمل، الله عزّ وجل أجرى على يده الخير، وكان هذا العمل صالحاً، ورأى هذا العمل من جهده, ومن ذكائه, فقد ضَعُفَ إخلاصه, قال: كمن يرى أنه جميل الصورة, هو لم يخلقَ نفسه, لا, هذا من فضل الله عليه .
الإنسان مما يُضعفُ إخلاصه, أن يطالبَ الله بجزاءٍ على عمله: يا رب هكذا فعلت يا رب؟ أين الجزاء؟ أين الثواب؟ أين رحمتك؟.
مثل لطيف وإن كان مبالغ به، دائماً في الأمثلة, ينبغي أن تكون الأمثلة حادةً أحياناً, والقصة وقعت: إنسان ذهبَ ليلقي قمامته في الحاوية, فإذا في الحاوية كيسٌ أسود, فيه حركة, أطلَّ على هذا الكيس, وأمسكه, فإذا غلامٌ صغير, وُلِدَ لتوه, أخذه من الحاوية, وتوجّه به إلى مستشفى, ووضعه في حاضنة, واعتنى به عنايةً فائقة, ثم جلبه إلى البيت, وأحسنَ رعايته وتربيته, إلى أن صارَ هذا المولود طفلاً, وكَبُرَ الطفلُ, وأدخله في أفضل دار حضانة, ونقّله إلى مدرسة ابتدائية, ثم إلى إعدادية, وثانوية, وأنفقَ عليه, حتى حصّلَ أعلى شهادات, وصارَ طبيباً, ولم يكتفِ أن يكون طبيباً, أرسله إلى بلادٍ غربيّةٍ, وحصّلَ أعلى شهادات الطب, وفتحَ هذا الطبيب عيادةً, وأقبلَ الناس عليه, ونما دخله كثيراً, واشترى بيتاً فخماً, ومركبة فارهة, وصار له اسمٌ لامع, وصيتٌ ذائع, ومرةً شعرَ وليُّ نعمته, الذي رباه, الذي التقطه من الحاوية, شعرَ بألم في أمعائه, فتوجّه إلى هذا الطبيب الذي رباه, وعالجه الطبيب, وشخّصَ له المرض, وصفَ له الدواء, وخطرَ في بالِ هذا الطبيب, أن يأخذَ أجراً من سيده ومولاه وربيب نعمته، أليسَ تفكير هذا الطبيب أن يأخذَ أجرةً من هذا الإنسان بالذات جريمة؟ فهذا الذي يطالب الله بجزاءِ عمله ضعُف إخلاص:
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾
يؤكّد هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام في معركة مؤتة, أرسلَ إليها جيشاً, وعلى رأسه زيد بن ثابت, فإذا قُتلَ زيد, فالقائد جعفر, فإذا قُتلَ جعفر, فالقائد عبد الله بن رواحة, ما الذي حصل؟ حينما دارت رحى المعركة سريعاً, ما سقطَ سيدنا زيد شهيداً, أخذَ الراية منه سيدنا جعفر, وسريعاً ما سقطَ شهيداً, جاء دور سيدنا عبد الله بن رواحة, وكان شاعراً, ورأى صاحبيه تساقطاً تِباعاً بسرعةٍ بالغة, يبدو أنه تردد وقال :
يا نفسُ إلا تُقتلي تموتي هذا حِمامُ الموتِ قد صليتِ
إن تفعلي فعلهما رضيتِ وإن توليـــتِ فقد شقيتِ
ثم أخذَ الراية فقاتلَ بها حتى قُتل .
نريد من هذه القصة: أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما بلغه النبأ, جمعَ أصحابه, وقالَ لهم: أخذَ الراية أخوكم زيد, وقاتلَ بها حتى قُتل, وإني لأرى مقامه في الجنة، ثم أخذَ الراية أخوكم جعفر, فقاتلَ بها حتى قُتل, وإني لأرى مقامه في الجنة, وسكتَ النبي عليه الصلاة والسلام، فلما سكتَ النبي عليه الصلاة والسلام, قَلِقَ أصحابه على عبد الله بن رواحة, قالوا: يا رسول الله! ما فعلَ عبدُ الله؟ قالَ: ثمَّ أخذَ الراية أخوكم عبدُ الله, فقاتلَ بها حتى قُتل, وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه .
مرتبته هبطت درجة, لأنه تردد ثلاثين ثانية، تردد, لا في إنفاق ماله، لا في أن يذهبَ معكَ ليخدمكَ في موضوعٍ ما، ما تردد ليستقبلكَ في بيته، تردد في بذلِ نفسه في سبيل الله، ومع ذلك هبطت مرتبته درجة.
لذلك: هذا الذي يريد من الله تعويضاً على استقامته، وعلى إخلاصه، وعلى عمله، وعلى دعوته، وعلى بذله, إذا أردتَ تعويضاً من الله عزّ وجل على عملك, فهذا يقدحُ في إخلاصك, هيّ نقطة ثانية: أنتَ في خدمة خلقِ الله عزّ وجل لأنك عبدٌ له .
الإنسان حينما يرضى عن نفسه، وحينما تُعجبه نفسه، وحينما يرتاح لها، وحينما يثني عليها, وحينما ينزهها، وحينما يعتقد فيها العِصمة، وحينما يعتقد فيها الكمال، هنا قد قُدحَ في إخلاصه, لأنَ الناسَ جميعاً عدا النبي عليه الصلاة والسلام ليسوا معصومين، ما من واحدٍ إلا وله نقطة ضعفٍ, والدليل:
أنَّ أحدَ التابعين رِضوان الله عليهم قالَ: التقيتُ بأربعين صحابياً, ما منهم واحدٌ إلا وهو يظنُّ نفسه منافقاً, هؤلاءِ أصحاب رسول الله, الذين رضيَ الله عنهم, والذين كانوا مع رسولِ الله في السرّاءِ والضرّاء، في المنشطِ والمكره، الذين ذللوا الغالي والرخيص, والنفسَ والنفيس، ومع ذلك قالَ أحد التابعين: التقيتُ بأربعين صحابياً, ما منهم واحدٌ إلا وهو يظنُّ نفسه منافقاً, لِعِظمِ حق الله عليهم, فإذا رضي الإنسان عن نفسه, وأعجبته نفسه, وأثنى على نفسه, ورأى نفسه إنساناً متفوقاً, هذا مما يقدحُ في إخلاصه .
أشياء ثلاثة تقدحُ في إخلاص الإنسان، الشيء الثالث أن تعجبه نفسه، أن يُثنى عليه، أن يبرئها, أن لا يتهمها، وأما السلفُ الصالح فكانوا يتهمونَ أنفسهم, ويحسنون الظنَّ بغيرهم, هذه أخلاق المؤمن, إن رأيتُ قد ألمّت بأخي مصيبة أُحسن الظنَّ به, قل: هذه مصيبة رفعٍ، وإن ألمّت بيَّ مصيبة أتهمُ نفسي, أما العكس: العكس غير صحيح، إن ألمّت بيَّ مصيبة أُبرئ نفسي، وإن ألمّت مصيبةٌ بأخي أتهمه, هذا ليسَ من الدين في شيء .
والشيء الثاني: أن تُطالبَ الله بأجرةٍ على عملك, وكأنك لا تعرفُ فضله عليك:
﴿هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً﴾
والشيء الأول: أن تلاحظَ عملك, أن تكون معتداً به, مفتخراً به، عملك بارزٌ أمامك، تثني عليه, أو تنتظرُ الثناء عليه .
هذه الأشياءُ الثلاثة تقدحُ في إخلاصِ العبدِ مع ربه سبحانه وتعالى.
عمر بن الخطاب :
الحقيقة: قد نقف مشدوهين أمام عمر, ثاني الخلفاء الراشدين، سيدنا عمر عملاق الإسلام، سيدنا عمر حينما كان مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما في المدينة, يطوفان في أسواقها في الليل, رأيا قافلةً قد حطت رحالها في بعض أطراف المدينة, قالَ: يا عبد الرحمن, تعالَ نحرس هذه القافلة لوجه الله تعالى, فوقفا يحرسانها, يبدو أن طفلاً صغيراً بكى, فتوجه عمر إلى أمه, وقال: يا أمة اللهَ أرضعي طفلك، بعدئذٍ بكى مرة ثانية, توجه إليها, وقالَ: يا أمة الله أرضعي طفلكِ، بكى مرة ثالثة فغضب, وكان غضوباً حاداً.
-النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((الحِدةُ تعتري خيارَ أمتي))
توجه إلى هذه المرأة وقالَ: يا أمةَ السوء أرضعي ولدكِ, فقالت: دعنا يا رجل ما شأنك بنا؟ إنني أفطِمه، قالَ: ولِمَ تفطمينه؟ قالت: لأن عمر لا يعطينا العطاء إلا بعدَ الفِطام -المعاش التقاعدي, التعويض العائلي, لا يستحق عند عمر إلا بعدَ الفِطام, إني أفطِمه- قال: يروي التاريخ: أن عمرَ بن الخطاب صاحَ صيحة صُعِقَت الناسُ، قال: ويحك يا بن الخطاب, كم قتلتَ من أطفال المسلمين؟ وقال لها: تعالي غداً, وأصدرَ أمراَ أنَّ العطاء للأطفال يُصرفُ عِندَ الولادة لا بعدَ الفِطام .
ويروي أصحابه: أنه صلّى بهم الفجر, فما استطاعوا أن يفهموا الآيات التي قرأها, لشدة بكائه, وكان يقول لربه: هل قَبِلتَ توبتي فأُهنئ نفسي, أم رددتها فاُعزيّها؟.
ولما جاءه رسولٌ من أذربيجان, هذا الرسول -كما تعلمون- كره أن يطرقَ بابه ليلاً, فتوجه إلى المسجد, فإذا في المسجد رجلٌ يصلي ويبكي, قالَ: من أنتَ يرحمك الله؟ قالَ: أنا عمر, قالَ: يا أمير المؤمنين ألا تنام الليل؟ قالَ: أنا إن نِمتُ ليلي كله أضعتُ نفسي أمام ربي, وإن نِمتُ نهاري أضعتُ رعيتي, بقي معه حتى أذّنَ الفجر, وصلّى معه, وأخذه إلى البيت, وقال: ما الذي أقدمك إلينا؟ قال: يا أمير المؤمنين, معي هدية من عاملك على أذربيجان, فتحها عمر, فإذا بها طعامٌ نفيس, أكلَ لُقمة واحدة، قالَ: يا هذا, هل يأكلُ عندكم عامةُ المسلمين هذا الطعام؟ قالَ: لا, هذا طعام الخاصّة, فقال: حرامٌ على بطنِ عمر أن يذوقَ حلوى لا يطعمها فقراء المسلمين, والقصص التي تروى عن هذا الخليفة الراشد كثيرة جداً .
مرةً جاءه ملك, جَبَلَة مَلِكٌ في الجزيرة, مَلِكٌ غساني, جاءه مسلماً، طبعاً رحّبَ به, وأسلمَ هذا الملك, وطافَ بالكعبة, فجاءَ بدويٌ داسَ طرفَ إزاره, فلما داسَ طرفَ إزاره, وهو لا يدري ولا يقصد, انخلعَ عن كَتِفه إزاره, فالتفتَ إلى هذا البدوي الملك جَبَلة, وضربه ضربةً هشمّت أنفه, هذا البدوي ليسَ له إلا عمر, توجه إليه, وقالَ: يا أمير المؤمنين, فلان لطمني هذه اللطمة, وهشمَّ أنفي, خذّ لي الحقَ منه، طلبه عمر, في إنسان صاغ هذا الموقف صياغةً أدبيّةً, قال له:
أصحيح ما ادعّى هذا الفذاريُّ الجريح؟
قالَ جَبَلَة:
لست ممن يكتم شيئاً أنا أدبّتُ الفتى أدركتُ حقيّ بيديَّ
قالَ عمر:
أرض الفتى لا بد من إرضائه ما زال ظـفرك عابئٌ بدمائه
أو يهشمـــنَّ الآن أنـفكوتنـــالَ ما فعــلته كفك
قالَ:
كيفَ ذاك يا أمير المؤمنين؟
هو سوقةٌ وأنـا عرشٌ وتاج
كيفَ ترضى أن يَخِرَّ النجمُ أرضاً؟
فقالَ عمر:
نزوات الجاهلية ورياح العنجرية قد دفناها
أقمنا فوقها صرحاً جديداً
وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً
فقالَ جَبَلَة:
كانَ وهمــاً ما جــــرى في خَلدي
أنني عنـــدكَ أقوى أعز
أنا مرتدٌ إذا أكرهتني
فقالَ عمر:
عُنُقُ المرتدُ بالسيفِ تُحزعالمٌ نبنيه كلُّ صدعٍ فيه بشبا السيفِ يداوى
وأعزُّ الناس بالعبدِ بالصعلوكِ تساوى
هذا موقف .
ولمّا امتحنَ أحدَ ولاته, وقالَ: يا فلان, ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارقٍ أو ناهب؟ قالَ: أقطعُ يده, قالَ: إذاً: فإن جاءني من رعيتكَ من هو جائعٌ أو عاطل فسأقطع يدك, إن الله قد استخلفنا عن خلقه, لنسدَ جوعتهم, ونسترَ عورتهم, ونوفّرَ لهم حِرفتهم, فإن وفيّنا لهم ذلك, تقاضيناهم شكرها, إن هذه الأيدي خُلقت لتعمل, فإذا لم تجد في الطاعةِ عملاً, التمست في المعصيةِ أعمالاً, فاشغلها بالطاعة قبلَ أن تَشغلكَ بالمعصية .
طبعاً: هذه بعض المواقف, وله مواقف لا يعلمها إلا الله, كان عملاق الإسلام, ليسَ هذا الموضوع, هذا الموضوع تعرفونه, ولكن علاقة هذه القصص بهذا الدرس: كيف يقول عمر: ليتَ أمَّ عمر لم تلد عمر, ليتها كانت عقيمة؟ كيف يقول عمر: أتمنى أن أقدُمَ على ربي لا ليَّ ولا علي؟ لأنه كانَ مخلصاً لله, لأنه رأى عِظم حقِّ الله عليه، عِظم حقِّ الله عليه مهما عبده، مهما أخلص له، مهما بذلَ من وقته، مهما بذلَ من جهده، مهما بذلَ من ماله، لا يؤدي شيئاً من حقِّ الله عليه .
هذا الذي يمنُّ على الله عزّ وجل ما عَرَفَ الله, ما ذاقَ طعمَ الإخلاص:
﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
إذا أطلق الله لسان الإنسان بالحق, إن كان مخلصاً يقول: يا ربي لك الحمد, الذي سمحت لي أن أقولَ عنك كلاماً طيباً، يا ربي لكَ الحمد, سمحتَ لي أن أكون من عبادك الصالحين، يا ربي لكَ الحمد والشكر على أن قيّضت ليّ من يهديني سواء السبيل, هذا المخلص، أما الذي يدلُّ بعمله يقول: أنا فعلت, هذا بعيد عن أن يكون مخلصاً لله عزّ وجل .
الذي يعنينا أن نكونَ مخلصين لله عزّ وجل في كلِّ أعمالنا, لأن الله عزّ وجل طيبٌ ولا يقبلُ إلا طيباً, وإن الله أمرَ المؤمنينن بما أمرَ به المرسلين .
ومرةً ثانية: علامة الإخلاص: أن يستوي العمل في السرِّ والعلانية, في الباطن والظاهر, العلامة الثانية: أن يستوي المدح والذم عندك:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غِضابُ
وليتَ الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمـين خراب
إذا صحَّ منك الوصل فالكلُّ هيّن وكل الذي فوقَ الترابِ ترابُ
العلامة الثالثة: ألا تطلبَ شهوداً على عملك إلا الله, وألا تطلب الجزاء على عملك إلا الله, لست محتاجاً لمن يشهد لك عملك.
أحدهم ذهب إلى المسجد, عنده مال, وينوي أن يذهب إلى الحج, فقال: أدخل المسجد, وأتفحص وجوه المصلين, أيهم كان أشدَ خشوعاً أدفعُ له هذا المال, وقف في زاوية, وتأملَ وجوه المصلين, فرأى أحدهم يعصر نفسه, ويغمض عينيه, ويتطامن, أعجبه خشوعه, فتوجه إليه بعد الصلاة, وقال: أنا واللهِ أحببت صلاتك, ومعي مالٌ أريد أن أودعه عندكَ, لأنني ذاهبٌ إلى الحج, قالَ له: وأنا أيضاً صائم سيدي, فقال له: صيامك لم يعجبني .
أنا ألبي رغبة كل أخواننا, يصرّ بعضهم ألا يدفع مبلغاً للمسجد, حتى توضع رخامة باسمه، المحسن الكبير فلان الفلاني, أنا أعاني هذا, لا يقبل إلا بلوحةٍ عليها اسمه, هذا ضعفٌ في الإخلاص، الله عزّ وجل رآك ماذا فعلت, وعَلِمَ فعلك, وما تفعل من خيرٍ يعلمه الله .
العلامة الرابعة: أن تؤثره على كلِّ ما سِواه، العلامة الخامسة: الخلق كلهم عنده سواسية, والله سبحانه وتعالى هو قصده ومبتغاه .