وضع داكن
02-04-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 004 - الإخلاص
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

آيات في الإخلاص:

 

الآية الأولى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ:

أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس الرابع من سلسة دروس تعبُّد القلب بما ينبغي له أن يكون عليه من رضوان الله تعالى.
في درسين سابقين تحدثنا عن موضوع المحبة، وكيف أن المحبة هي روح الدين، واليوم ننتقل إلى موضوع جديد ألا وهو الإخلاص.
أيها الإخوة الأكارم؛ ربنا سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)﴾

[ سورة البينة ]

أُمِروا أن يعبدوا الله مخلصين، الحالة الداخلية هي الإخلاص، والحالة الخارجية هي العبادة. 

الآية الثانية: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ:

آية أخرى يقول الله سبحانه وتعالى: 

﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)﴾

[ سورة الزمر ]  

الآية الثالثة: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي:

في آية ثالثة: 

﴿ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)﴾

[ سورة الزمر ]  

الآية الرابعة: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا:

في آية رابعة:

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾

[ سورة المُل ]

الفضيلُ رحمه الله تعالى فسّرَ: ﴿أيّكم أحسن عملاً﴾ أي أن يكون العمل صواباً وخالصاً؛ صواباً وفق السنّة، وخالصاً ما ابتغي به وجه الله. 

الآية الخامسة: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا:

في آية أخرى: 

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾

[ سورة الكهف ]

الإشراك هنا إشراكٌ في النيّة، ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ لا يشرك في قصده ولا نيّته أحداً مع الله عزّ وجل. 

الآية السادسة: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ:

في آية أخرى يقول الله عزّ وجل: 

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)﴾

[ سورة النساء ]

فإسلام الوجهِ لله عزّ وجل إسلامٌ القصد والعمل للهِ عزّ وجل، والإحسان متابعة النبي عليه الصلاة والسلام، آيات كثيرة إذاّ كلها حولَ محورٍ واحد، أُمرتَ أن تعبد الله، وأن تكون هذه العبادة في إخلاصٍ لله عزّ وجل، انطلقت من هذا الموضوع من قول النبي عليه الصلاة والسلام:

(( عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين بعثه إلى اليمن: يا رسول الله أوصني، قال:  أخلص دينك يكفك العمل القليل. ))

[  المستدرك على الصحيحين: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه  ]

وانطلقت في هذا الموضوع من قوله تعالى: 

﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)﴾

[ سورة الفرقان ]

أي عملٌ عظيمٌ عظيم بلا إخلاص يجعله الله هباءً منثوراً، وعملٌ قليلٌ مع الإخلاص يتقبّله الله عزّ وجل، وربما كان هذا العمل مع الإخلاص سبباً لنجاةِ صاحبه من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرة،

(( يقول عليه الصلاة والسلام يخاطبُ سيدنا سعد بن أبي وقاص: عَادَنِي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِن مَرَضٍ أشْفَيْتُ منه علَى المَوْتِ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، بَلَغَ بي مِنَ الوَجَعِ ما تَرَى، وأَنَا ذُو مَالٍ، ولَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لي واحِدَةٌ، أفَأَتَصَدَّقُ بثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فأتَصَدَّقُ بشَطْرِهِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ يا سَعْدُ، والثُّلُثُ كَثِيرٌ، إنَّكَ أنْ تَذَرَ ذُرِّيَّتَكَ أغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِن أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، ولَسْتَ بنَافِقٍ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وجْهَ اللَّهِ، إلَّا آجَرَكَ اللَّهُ بهَا، حتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا في فِي امْرَأَتِكَ. قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أُخَلَّفُ بَعْدَ أصْحَابِي؟ قَالَ: إنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بهَا وجْهَ اللَّهِ إلَّا ازْدَدْتَ به دَرَجَةً ورِفْعَةً، ولَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حتَّى يَنْتَفِعَ بكَ أقْوَامٌ، ويُضَرَّ بكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أمْضِ لأصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، ولَا تَرُدَّهُمْ علَى أعْقَابِهِمْ، لَكِنِ البَائِسُ سَعْدُ ابنُ خَوْلَةَ. يَرْثِي له رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ تُوُفِّيَ بمَكَّةَ. [وفي رِوايةٍ]: أنْ تَذَرَ ورَثَتَكَ. ))

[ صحيح البخاري ]

 ما من عملٍ تعمله تبتغي وجه الله تعالى إلا ازددتَ به رفعة ودرجةً وخيراً.
 

المخلص وغير المخلص:


قد يسألُ سائل: كيفَ أعرفُ ما إذا كنت مخلصاً أو غيرَ مخلص؟ من يجيب عن هذا السؤال؟ كيف أعلم ما إذا كنت مخلصاً أو غير مخلص؟ هناكَ إجابات عديدة أبرزها أن يستوي عندك مدح الناس وذمهم، هذه علامةٌ طيبة، أيضاً أن تبتعدَ عن الرياء، معنى الرياء أن تُرائي الناس.
علامةٌ ثالثة؟ العلامة الثالثة: 

﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)﴾

[ سورة القيامة ]

أي لِحكمةٍ أرادها الله عزّ وجل جَعَلَ الإنسانَ مُطلّعاً على نفسه، يعرف سرّها ونجواها، يعرف انحرافها واستقامتها، يعرف إخلاصها ورياءها، يعرف أمانتها وخيانتها، هذا سِرّ من أسرارِ هذه النفسِ البشرية: 

﴿ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)﴾

[ سورة الليل ]

وفي الحديث الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه،

(( عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ. ))

[ الترمذي: صحيح ]

أي إذا أخلصتَ العملَ لله، ونصحتَ ولاة الأمور، ولَزِمتَ جماعة المسلمين، لا يمكن أن ينطوي قلبكَ على غلّ لأحد، كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطانا بعض المقاييس، قيل: بَرِئ من الكِبرِ من حملَ حاجته بيده، مقياس، وقيل: وبَرِئ من النِفاقِ من أكثَرَ من ذِكرِ الله، مقياس آخر، وبَرِئ من الشُحِ من أدى زكاةَ ماله، وهذا مقياس رابع، وبَرِئ من الغلِّ من أخلصَ في العمل، ونصحَ ولاةَ الأمر، ولَزِمَ جماعة المسلمين.
إذا لَزِمتَ جماعة المسلمين ماذا يعني ذلك؟ هل عندك دليلٌ على أن جماعة المسلمين على حقّ دائماً؟ ما هم عليه مجموع المسلمين، ما هم عليه أهلُ السنّةِ والجماعة، ما أجمعَ عليه المسلمون، الدليل:  

(( لا تجتمع أمتي على خطأ. ))

[  العراقي: تخريج مختصر المنهاج: حكم المحدث: فيه نظر ]

الأمة بمجموعها معصومة، والنبي عليه الصلاة والسلام بمفرده معصوم، إذاً ((لا تجتمع أمتي على خطأ)) إذا كنتَ مع جماعة المسلمين، مع مجموع المسلمين، مع ما هم عليه المسلمون، مع جمهور العلماء، فقد بَرِئ قلبكَ من الغِلّ.
سُئلَ عليه الصلاة والسلام عن الرجلِ يُقاتل رياءً، ويُقاتل شجاعةً، ويُقاتل حميّةً، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ قد يُقاتل الإنسان، قد يضع روحه على كفه كما يقولون، قد يقتحم المعركة، قد يخاطر بحياته، قد يموت في المعركة، قد يُقتَل، هذا يقاتل رياءً، وهذا يُقاتل شجاعةً، وهذا يُقاتل حمية وعصبيةً أي ذلك في سبيل الله؟

(( عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ، قَالَ: وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ إِلا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا، فَقَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ))

[ صحيح البخاري ]

موتٌ على حمية، وموتٌ على رياء، وموتٌ على شجاعة، كلها ليست في سبيل الله، ((مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) والشيء المخيف أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبرَ عن أولِ من تُسعّرُ بهم النار يوم القيامة، قالَ عليه الصلاة والسلام: 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ. وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ ))

[ صحيح مسلم  ]

قارئ القرآن إن راءى بقراءة القرآن، والمجاهد الذي يجاهد حميةً أو شجاعةً أو رياءً، والمتصدقُ بماله الذي يبتغي من صدقته أن يقول الناس: فلان فعلَ كذا وكذا، الذين فعلوا ذلك ليقال: قارئٌ، وفلان شجاع، وفلان متصدق، ولم تكن أعمالهم خالصة لوجه الله.
 

على الإنسان أن يكون قلبه مفعماً بالإخلاص لله عزّ وجل:


لماذا اخترتُ موضوع الإخلاص؟ لأنه موضوعٌ خطيرٌ جداً، قد يكون لكً عملٌ كالجبال، ولكن تبتغي به الدنيا، تبتغي به السمعة، تبتغي به الوجاهة، تبتغي به أن تَصرفَ وجوه الناس إليك، تبتغي به المديح، تبتغي به الرِفعة، موضوع المحبة موضوعٌ خطير، وموضوع الإخلاصِ موضوعٌ أخطر.
الله سبحانه وتعالى في بعض الأحاديث القدسية يقول:

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال اللهُ عزَّ وجلَّ: أنا خَيرُ الشُّركاءِ، مَن عَمِلَ لي عَمَلًا أشرَكَ فيه غَيري فأنا بَريءٌ منه، وهو لِلَّذي أشرَكَ. ))

[  شعيب الأرناؤوط : تخريج المسند لشعيب: خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح على شرط مسلم ]

أي هذا العمل أكثره لله وقليل منه لزيد أو عبيد، الله سبحانه وتعالى كلُّ هذا العمل لا يقبله، سهمان من مئة لزيد أو عبيد وثمانية وتسعون سهماً لله، هذا العمل عند الله كله مرفوض، لذلك:

((  عن أبي هريرة: قال رسولُ الله ﷺ: إنَّ الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المُرسلين؛ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] ، ثم ذكر الرجلَ يُطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنَّى يُستجاب له؟!  ))

[ صحيح مسلم  ]

والطيبُ هنا ما كانَ العملُ خالصاً لوجه الله تعالى، لذلك القصد أن ننتبه لقلوبنا، أن نتفحصَ أعمالنا، أن نُدققَ في نوايانا، أن نستبطن نفوسنا، أن نتأملَ الغايات البعيدة التي وراءَ أعمالنا.
في حديثٍ قدسيٍ آخر يقول الله عزّ وجل للمرائي يومَ القيامة: اذهب فخذ أجرك ممن عَمِلتَ له لا أجرَ لكَ عندنا، أنتَ عَمِلتَ لمن؟ لفلان؟ خذ أجركَ منه. إسناده ضعيف.
وفي الحديث الصحيح:

(( عن أبي هريرة: إِنَّ اللهَ لا ينظرُ إلى أَجْسامِكُمْ، ولا إلى صُورِكُمْ، ولكنْ ينظرُ إلى قُلوبِكُمْ. ))

[  صحيح الترغيب: خلاصة حكم المحدث : صحيح  ]

أي إنسان وسيم الطلعة، عريض المنكبين، ضخم الجثة.
كلكم يعلم حديث الأحنف بن قيس الذي وصفه الواصفون فقالوا: كانَ قصيرَ القامة، أسمرَ اللون، أحنفَ الرِجل، مائلَ الذقنِ، ناتئَ الوجنتين، غائرَ العينين، ليس شيء من قُبحِ المنظر إلا وهو آخذ منه بنصيب، وهو مع ذلك سيد قومه، إن غَضِبَ غَضِبَ لغضبته مئة ألف سيفٍ لا يسألونه فيم غضب؟ وكان إذا علمَ أن الماءَ يفسد مروءته ما شربه.
إذاً ((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم)) مهما يكن جسمك، مهما يكن وصفك، مهما يكن طولك، مهما يكن لونك، مهما تكن عيناكَ واسعتين، مهما يكن شكلك جذاباً، مهما يكن لباسك أنيقاً، مهما تكن العطور منك فوّاحة، ((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم)) بعض العلماء قال: يدخل في الصور بيتكم، مركبتكم، أثاث البيت، هذه الحاجات الثمينة التي تقتنيها، الإمام عليٌّ كرّمَ الله وجهه يتحدث عن علامات آخر الزمان: يكون فيه قيمة المرء متاعه، أي قيمة المرء ما عنده من متاع، لا قيمة المرء ما يُحسن، قيمة المرء متاعه، ((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) أعمالكم في الظاهر وقلوبكم في الباطن، محور الدرس كله أن يكون القلبُ مفعماً بالإخلاص لله عزّ وجل.
أثرٌ مرويّ عن الله عزّ وجل قيل في حديثٍ قدسي: الإخلاص سِرّ من سري، استودعته قلبَ من أحببته من عبادي، سرّ من أسرار الحق، لذلك غير المخلص بحاجة ملحّة إلى أن يثني الناس عليه، عنده حاجة ملحة، بل الأصح من هذا أنه يستجدي الثناء، أما المخلص تشعر أنه في غنى عن أن تثني عليه، لأن إخلاصه لله أكسبه صلة مُسعدة مع الله عز وجل فهو في غنى من أن يستجدي ثناء الناس ومديحهم، هذا الذي يتّبع أي يهتم اهتماماً كبيراً لثناءِ الناسِ في إخلاصه شائبة، في إخلاصه خلل.
 

أقوال العلماء في الإخلاص:


ماذا قالَ العلماء عن الإخلاص؟ أحاديثُ قدسيّة، وأحاديثُ صحيحة، وآياتٌ قرآنية، تجعلُ الإخلاصَ نصف العمل، العمل له ظاهر وله باطن، في الظاهر ينبغي أن يكون وفقَ السنّة، وفي الباطن ينبغي أن يكون مخلصاً. 
قال بعض العلماء: الإخلاص إفراد الحق سبحانه وتعالى بالقصد في الطاعة ، أحياناً الإنسان يدخل المسجد ليصلي، كان مع أصدقائه، مُحرج، يجب أن يدخل معهم ليصلي ويصلي، لكن ما أفردَ الله عزَ وجل في هذه الطاعة، صلّى حياء، صلّى مجاملةً، صلّى مسايرةً، صلّى ليجلبَ مدح الناسِ له، فأيُّ عملٍ يفعله الإنسان يستجلبُ به مديح الناس، هذا عملٌ بعيد عن الإخلاص، الإخلاص إفراد الحق سبحانه بالقصدِ في الطاعة.
من تعريفات الإخلاص الأخرى: تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين ، من رآني؟ رآني فلان؟ أي حينما ينشأ في قلبِ الإنسان رغبة أن يطلّعَ الناسُ على عملك، إذا اطّلع الناس على عملك ترتاح راحةً كبرى، هذه الراحة التي تعقب اطلاع الناس على عملك نوع من ضعف الإخلاص.
بعضهم قال: الإخلاص التوقي من ملاحظة الخلقِ على نفسك ، أي لا يعنيك أمر الخلق لاحظوا أو لم يلاحظوا.
بعضهم قال: من شَهِدَ في إخلاصه الإخلاص فإخلاصه يحتاج إلى إخلاص.
مرةً ثانية، من أخطر موضوعات الدعوة إلى الله عزّ وجل موضوع الإخلاص، لأن النبي عليه الصلاة والسلام في حديثٍ صحيح متواترٍ يُعّدُ أصلاً من أصول الدين:

(( عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يتزوجها، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ. ))

[ أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح ]

قيمة العملِ تنبُع من نيته، كما قال بعض إخوتنا الأكارم: الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، من لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيءٍ من عمله، العمل يستوي في الظاهر وفي الباطن، والرياء أن يكون الظاهر خيراً من الباطن، والصدق في الإخلاص أن يكون الباطن أعمر من الظاهر، إذا استوى الظاهر مع الباطن، إذا استوت عبادتك في خلوتك كعبادتك في جلوتك، إذا استوى عملك في السر كعملك في العلانية، إذا استوى ظاهرك مع باطنك فأنت مخلص، إذا كان باطنك أعمر من ظاهرك فأنت صادق في إخلاصك، إذا كان ظاهرك أعظم من باطنك فهذا أحد أنواع الرياء، الحد الأدنى الأساسي أن يستوي الظاهر مع الباطن، السريرة مع العلانية، السرّ مع الجهر، الخلوة مع الجلوة.
قال بعضهم: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الحق، مشغولٌ بالله عمّا سِواه، ومن تزيّنَ للناسِ بما ليسَ فيه سقطَ من عين الله، ولئن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتنحطم أضلاعه أهون من أن يسقط من عين الله.
قيل لأحد العلماء واسمه سهل التستري: أيُّ شيء أشدّ على النفسِ؟ قالَ: الإخلاص، لأنه ليسَ للنفسِ فيه نصيب، ليس هناك شهوة الإخلاص يُرَويّها، ليس هناك حظّ نفسٍ الإخلاص يحققه، الإخلاص عِبء على النفس، ربما أمرك الإخلاص أن تفعلَ شيئاً مخالفاً لرغبة النفس، النفس ترغب أن ترتفع، الإخلاص يأمرك أن تبتعد عن مواطن الرِفعة. 
الإخلاص ألا تطلبَ لعملكَ شاهداً غير الله عزّ وجل، ما دامَ اللهُ قد رآك هذا شيء كاف، ما الذي يحصل مع الناس؟ الإنسان يتمنى أن يراه الناس في أحسن حالاته، إذا صلّى صلاةً خاشعة، وشعر أن الناس رأوه يبكي، ترتاح نفسه، معنى ذلك هو يبتغي السمعة، إذا عمل عملاً صالحاً وشعر أن أحداً عَلِمَ هذا العمل، ترتاح نفسه، قال: الإخلاص ألا تطلبَ على عملكَ شاهداً غير الله عزّ وجل، ولا مُجازياً سواه، ألا تطمع بشاهد ولا مجاز، هذا هو الإخلاص. 
قال أحد العلماء: ما أخلص عبدٌ قطّ أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحِكمة في قلبه، وأجراها الله على لسانه، أربعون يوماً في إخلاصٍ شديد ترى أن الله سبحانه وتعالى أنطقكَ بالحكمة، سددَ خطاك، ألهمك الصواب، عَمّرَ قلبكَ بالإيمان، غَمَسَكَ في سعادةٍ لا يعلمها إلا الله.
قال بعض العلماء: إذا أخلصَ العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء.
 

تعريف الإخلاص:


الآن ندخل في موضوع آخر ألا وهو تعريف الإخلاص، ذكرنا آيات، وأحاديث صحيحة، وأحاديث قدسية، وأقوال بعض العلماء عن الإخلاص، وكيف أن الإخلاص هو نصف الدين؟ الدين عمل وحال، الحال الداخلي يجب أن يكون إخلاصاً لله عزّ وجل، والظاهر هو العمل.
قال: الإخلاص تصفية العمل من كلِّ شائبة، تقول: هذا الحديد نسبة الشوائب فيه مرتفعة، إذاً سعره متدنٍ، إذاً قد ينكسر، كلما قلّت نسبة الشوائب في الحديد ارتفع ثمنه، وكلما زادت هذه النسبة قلّت قيمته، إذاً الإخلاص تصفية العمل من كلِّ شائبة.
قال بعضهم: ألا يُمازج العمل ما يشوبه من شوائب النفس، إما طلبُ التزيّنِ في قلوب الخلق، واحد، أو طلب مدحهم، أو الهرب من ذمهم، أو طلب تعظيمهم، أو طلب أموالهم، أو طلب خدمتهم ومحبتهم، أو طلب قضاء حوائجه، أو غير ذلك من العلل والشوائب التي عَقْد متفرقاتها أن تريد ما سوى الله بعملك، إذا أردت سوى الله بعملك فهذه أكبر شائبة تشوب هذا العمل.
 

درجات الإخلاص:


الآن درجات الإخلاص؛ الدرجة الأولى: ألا ترى لك عملاً، قد يكون لك عملٌ عظيم، ولكنك ما دمت ترى هذا العمل، وحجم العمل، وخطورة العمل، وشأن العمل، وماذا فعلت، وماذا قدمت، وما تركت من بصمات في المجتمع، والأثر الكبير الذي أجراه الله على يديك، مادمت ترى لك عملاً ضخماً، رؤية هذا العمل نوع من عدم الإخلاص، لماذا؟ لأنك رأيت لك عملاً مستقلاً عن الله عزّ وجل، والشيء الثابت أن العملَ الصالح بتوفيق الله، وأنتَ في الصلاة تقرأ كلَّ يوم:

﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)﴾

[ سورة الفاتحة ]

ولا حولَ عن معصية الله إلا بالله، ولا قوة على طاعته إلا به، إذاً الإنسان إذا نظرَ إلى عمله، واستعظمَ عمله، وعرفَ حجمَ عمله، وباهى بعمله، وألقى الأضواء على عمله، ومنَّ الناس بعمله، وقال: أنا فعلتُ كذا وكذا، رؤية العملِ مُضخّماً نوعٌ من ضعفِ الإخلاص، النبي عليه الصلاة والسلام قالَ في بعض أدعيته: 

(( عن علي بن أبي طالب  كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا استفتَح الصَّلاةَ كبَّر ثمَّ يقولُ: وجَّهْتُ وجهيَ للَّذي فطَر السَّمواتِ والأرضَ حنيفًا وما أنا مِن المُشرِكينَ، إنَّ صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي للهِ ربِّ العالَمينَ لا شريكَ له، وبذلكَ أُمِرْتُ وأنا أوَّلُ المُسلِمينَ، اللَّهمَّ أنتَ الملِكُ لا إلهَ إلَّا أنتَ، أنتَ ربِّي وأنا عبدُكَ، ظلَمْتُ نفسي واعترَفْتُ بذَنْبي فاغفِرْ لي ذُنوبي جميعًا لا يغفِرُ الذُّنوبَ إلَّا أنتَ، لبَّيْكَ وسعدَيْكَ والخيرُ كلُّه في يدَيْكَ والشَّرُّ ليس إليكَ، أنا بكَ وإليكَ، تبارَكْتَ وتعالَيْتَ أستغفِرُكَ وأتوبُ إليكَ. ))

[ تخريج صحيح ابن حبان: خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح على شرط مسلم  ]

اللهم أنا بك وإليك، أنا قائمٌ بك، كلُّ ما عندي من فضلك، وإليك قصدي كله إليك، هذا الدعاء: اللهم أنا بك وإليك، أي أنتَ قائمٌ بالله، ذكاؤك، خبراتك، أعمالك، توفيقاتك، إنفاقك، دعوتك، هذه كلها بالله، ويجب أن تكون لله، كُن به وله، فإذا قلت: أنا بما عندي، هذه قالها قارون، قال تعالى:

﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)﴾

[ سورة القصص ]

دعاءٌ مختصرٌ اختصاراً شديداً، ((اللهم أنا بك وإليك)) إذاً الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)﴾

[ سورة الإنسان ]

لولا أن الله سبحانه وتعالى سمحَ لك أن تكون هكذا ما كنت، لولا أن الله سبحانه وتعالى أمدّك بهذا العمل لما كنت، لولا أن الله سبحانه وتعالى جمعك مع أهل الحق ما كنتَ هكذا، لولا أنه أعطاك قوة وأعطاك مالاً ما كنتَ هكذا، إذاً حينما تنظر إلى عملك فهذا ضعفٌ في إخلاصك، أما إذا ثنيتَ عن رؤية عملك، ورأيت أن هذا العمل العظيم الذي أجراه الله على يديك إنما هو محض فضلٍ من الله عزّ وجل، هذا بعض ما في الإخلاص من معنى.
شيء آخر؛ قيل: إذا أراد ربك إظهارَ فضله عليك خلقَ الفضلَ ونَسبه إليك، أي شخص قالَ كلمة أعجبتني، قال: المؤمن صفيحة ذهب، فإذا ظنَّ أنه ممتلئٌ ذهباً أُفرغت هذه الصفيحة من الذهب فبقيت صفيحة، فإذا عزا الفضل إلى صاحبه وهو الله سبحانه وتعالى، بقي هذا الذهب في هذه الصفيحة، وكان ثميناً جداً، أي أنتَ بفضلِ الله لا بفضلك، بقوة الله لا بقوتك، بعلم الله لا بعلمك، ماذا قال الله عزّ وجل تأكيداً لهذا المعنى؟

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)﴾

[ سورة النور ]

آية واضحة كالشمس، إذاً أخلاقك العلية، الرضية، صلاتك المتقنة، تهجدك، إقبالك، ذكرك، عملك الصالح، دعوتك إلى الله، قوة تأثيرك في الناس، هذا فضلٌ من الله عزّ وجل، فإذا رأيته منك فهذه الرؤية فيها ضعفٌ في الإخلاص.
آية ثانية، قال تعالى:

﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)﴾

[ سورة الأعراف ]

هذا دعاء النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى:

﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)﴾

[ سورة الحجرات ]

سؤال: إذا الإنسان رأى عمله، كان له عمل، الله عزّ وجل أجرى على يده الخير، وكان له عملاً صالحاً، ورأى هذا العمل من جهده، ومن ذكائه فقد ضَعُفَ إخلاصه، قال: كمن يرى أنه جميل الصورة، هو خلق نفسه؟ أنا جعلت شكلي بهذا الشكل؟ لا، هذا من فضل الله عليك، إذاً كما أن الله سبحانه وتعالى له الفضل كله في قِوامك، وفي حُسنك، وفي جمالك، وفي وسامتك، له الفضل كله فيما حصّلت من عمل صالح.
 

الأشياء التي تُضعف الإخلاص:


شيء آخر؛ الإنسان مما يُضعفُ إخلاصه أن يُطالبَ الله بجزاءٍ على عمله، يا رب هكذا فعلت يا رب؟ أين الجزاء؟ أين الثواب؟ أين رحمتك؟ فعلت كذا وكذا، مثل لطيف وإن كان مبالغاً به، دائماً في الأمثلة ينبغي أن تكون الأمثلة حادةً، أحياناً-والقصة وقعت هذه-إنسان ذهبَ ليلقي قمامته في الحاوية، فإذا في الحاوية كيسٌ أسود فيه حركة، أطلَّ على هذا الكيس وأمسكه فإذا غلامٌ صغير وُلِدَ لتوه، أخذه من الحاوية، وتوجّه به إلى مستشفى، ووضعه في حاضنة، واعتنى به عنايةً فائقة، ثم جلبه إلى البيت، وأحسنَ رعايته وتربيته، إلى أن صارَ هذا المولود طفلاً، وكَبُرَ الطفلُ، وأدخله في أفضل مدرسة في رياض الأطفال، ونقّله إلى مدرسة ابتدائية، ثم إلى إعدادية، وثانوية، وأنفقَ عليه، حتى حصّلَ أعلى شهادات وصارَ طبيباً، ولم يكتفِ أن يكون طبيباً، أرسله إلى بلادٍ غربيّةٍ، وحصّلَ أعلى شهادات الطب، وفتحَ هذا الطبيب عيادةً، وأقبلَ الناس عليه، ونما دخله كثيراً، واشترى بيتاً فخماً، ومركبة فارهة، وصار له اسمٌ لامع، وصيتٌ ذائع، ومرةً شعرَ وليُّ نعمته الذي رباه، الذي التقطه من الحاوية، شعرَ بمغص في أمعائه فتوجّه إلى هذا الطبيب الذي ربّاه، وعالجه الطبيب، وشخّصَ له المرض، وصفَ له الدواء، وخطرَ في بالِ هذا الطبيب أن يأخذَ أجراً من سيده ومولاه وربيب نعمته، أليسَ تفكير هذا الطبيب أن يأخذَ أجرةً من هذا الإنسان بالذات جريمة؟ لو أنه فكر تفكيراً أن هذا وقت، أنا اختصاص، أحمل بورد، وهذا وقت حجزت ربع ساعة، وتكلفت وأنا عندي أجهزة دفعت ثمنها آلاف مؤلفة، وهذا مريض وأنا عليّ أن أعالجه، وأتقاضى الأجر، لمجرد أن يفكر هذا الطبيب أن يأخذ أجراً من هذا المريض هذا التفكير في حقه جريمة، أليس كذلك؟ فهذا الذي يطالب الله بجزاءِ عمله من أنت؟ قال تعالى: 

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)﴾

[ سورة الإنسان ]

يؤكّد هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام في معركة مؤتة أرسلَ إليها جيشاً، وعلى رأسه زيد بن ثابت، فإذا قُتلَ زيد فالقائد جعفر، فإذا قُتلَ جعفر فالقائد عبد الله بن رواحة، ما الذي حصل؟ حينما دارت رحى المعركة سريعاً ما سقطَ سيدنا زيد شهيداً، أخذَ الراية منه سيدنا جعفر، وسريعاً ما سقطَ شهيداً، جاء دور سيدنا عبد الله بن رواحة، وكان شاعراً، ورأى صاحبيه تساقطا تِباعاً بسرعةٍ بالغة، يبدو أنه تردد وقال:

يا نفسُ إلا تُقتلي تموتــي         هذا حِمامُ الموتِ قد صليتِ

إن تفعلي فعلهما رضيتِ         وإن توليتِ فقـــد شقــــيتِ

[ عبد الله بن رواحة ]

* * *

ثم أخذَ الراية فقاتلَ بها حتى قُتل، نريد من هذه القصة أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما بلغه النبأ جمعَ أصحابه وقالَ لهم: أخذَ الراية أخوكم زيد وقاتلَ بها حتى قُتل، وإني لأرى مقامه في الجنة، ثم أخذَ الراية أخوكم جعفر فقاتلَ بها حتى قُتل، وإني لأرى مقامه في الجنة، وسكتَ النبي عليه الصلاة والسلام، فلما سكتَ النبي عليه الصلاة والسلام قَلِقَ أصحابه على عبد الله بن رواحة، قالوا: يا رسول الله! ما فعلَ عبدُ الله؟ قالَ: ثمَّ أخذَ الراية أخوكم عبدُ الله فقاتلَ بها حتى قُتل، وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه، أي مرتبته هبطت درجة، لأنه تردد ثلاثين ثانية، تردد، تردد في ماذا؟ لا في إنفاق ماله، لا في أن يذهبَ معكَ ليخدمكَ في موضوعٍ ما، ما تردد ليُنفق بعض ماله، ما تردد ليستقبلكَ في بيته، تردد في بذلِ نفسه في سبيل الله، ومع ذلك هبطت مرتبته درجة. 
لذلك هذا الذي يريد من الله تعويضاً على استقامته، وعلى إخلاصه، وعلى عمله، وعلى دعوته، وعلى بذله، إذا أردتَ تعويضاً من الله عزّ وجل على عملك فهذا يقدحُ في إخلاصك، هذه نقطة ثانية، أنتَ في خدمة خلقِ الله عزّ وجل لأنك عبدٌ له.
 

أشياء ثلاث تقدحُ في إخلاص الإنسان:


الشيء الآخر؛ الإنسان حينما يرضى عن نفسه، وحينما تُعجبه نفسه، وحينما يرتاح لها، وحينما يثني عليها، وحينما يُنزهها، وحينما يعتقد فيها العِصمة، وحينما يعتقد فيها الكمال، هنا قد قُدِحَ في إخلاصه، لماذا؟ لأنَ الناسَ جميعاً عدا النبي عليه الصلاة والسلام ليسوا معصومين، ما من واحدٍ إلا وله نقطة ضعفٍ، والدليل أنَّ أحدَ التابعين رِضوان الله عليهم قالَ: التقيتُ بأربعين صحابياً ما منهم واحدٌ إلا وهو يظنُّ نفسه منافقاً، هؤلاءِ أصحاب رسول الله، الذين رضيَ الله عنهم، والذين كانوا مع رسولِ الله في السرّاءِ والضرّاء، في المنشطِ والمكره، الذين بذلوا الغالي والرخيص، والنفسَ والنفيس، ومع ذلك قالَ أحد التابعين: التقيتُ بأربعين صحابياً ما منهم واحدٌ إلا وهو يظنُّ نفسه منافقاً، لِعِظمِ حق الله عليهم، فإذا رضي الإنسان عن نفسه، وأعجبته نفسه، وأثنى على نفسه، ورأى نفسه إنساناً متفوقاً، هذا مما يقدحُ في إخلاصه.
إذاً أشياء ثلاث تقدحُ في إخلاص الإنسان، الشيء الثالث أن تعجبه نفسه، أن يُثني عليها، أن يبرئها، ألا يتهمها، وأما السلفُ الصالح فكانوا دائماً يتهمونَ أنفسهم، ويُحسنون الظنَّ بغيرهم، هذه أخلاق المؤمن، إن رأيتُ قد ألمّت بأخي مصيبة أُحسن الظنَّ به، وأقول: هذه مصيبة رفعٍ، وإن ألمّت بيَّ مصيبة أتهمُ نفسي، أما العكس، العكس غير صحيح، إن ألمّت بيَّ مصيبة أُبرئ نفسي، وإن ألمّت مصيبةٌ بأخي أتهمه، هذا ليسَ من الدين في شيء.
والشيء الثاني: أن تُطالبَ الله بأجرةٍ على عملك الطيب وكأنك لا تعرفُ فضله عليك: ﴿هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً﴾ .
والشيء الأول أن تلاحظَ عملك، أن تكون معتداً به، مفتخراً به، عملك بارزٌ أمامك، تثني عليه، أو تنتظرُ الثناء عليه، هذه الأشياءُ الثلاث تقدحُ في إخلاصِ العبدِ مع ربه سبحانه وتعالى.
 

مواقف عن عمر بن الخطاب لا يعلمها إلا الله:


شيء آخر، الحقيقة قد نقف نحن مشدوهين أمام قول سيدنا عمر، من عمر؟ عمر ثاني الخلفاء الراشدين، سيدنا عمر عملاق الإسلام، سيدنا عمر حينما كان مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما في المدينة يطوفان في أسواقها في الليل، رأيا قافلةً قد حطت رحالها في بعض أطراف المدينة، قالَ: يا عبد الرحمن تعالَ نحرس هذه القافلة لوجه الله تعالى، فوقفا أو جلسا يحرسانها، يبدو أن طفلاً صغيراً بكى، فتوجه عمر إلى أمه وقال: يا أمة أرضعي طفلك، بعدئذٍ بكى مرة ثانية، توجه لها وقالَ: يا أمة الله أرضعي طفلكِ، بكى مرة ثالثة فغضب، وكان غضوباً، حاداً، قيل: الحِدةُ تعتري خيارَ أمتي، توجّه إلى هذه المرأة وقالَ: يا أمةَ السوء أرضعي ولدكِ، فقالت: دعنا يا رجل ما شأنك بنا؟ إنني أفطِمه-ما كنت تفهم علينا-قالَ: ولِمَ تفطمينه؟ قالت: لأن عمر لا يعطينا العطاء إلا بعدَ الفِطام، المعاش التقاعدي، التعويض العائلي، لا يستحق عند عمر إلا بعدَ الفِطام، إني أفطِمه، قال: يروي التاريخ أن عمرَ بن الخطاب صاحَ صيحة صُعِقَ الناسُ بها، قال: ويحك يا بن الخطاب كم قتلتَ من أطفال المسلمين؟ وقال لها: تعالي غداً، وأصدرَ أمراَ فورياً وعممه باللغة المعاصرة على أنَّ العطاء للأطفال يُصرفُ عِندَ الولادة لا بعدَ الفِطام، ويروي أصحابه أنه صلّى بهم الفجر، فما استطاعوا أن يفهموا الآيات التي قرأها لشدة بكائه، وكان يقول: ربي هل قَبِلتَ توبتي فأُهنئ نفسي أم رددتها فاُعزيّها؟ 
ولما جاءه رسولٌ من أذربيجان، هذا الرسول كما تعلمون كَرِه أن يطرقَ بابه ليلاً فتوجه إلى المسجد، فإذا في المسجد رجلٌ يصلي ويبكي، قالَ: من أنتَ يرحمك الله؟ قالَ: أنا عمر، قالَ: يا أمير المؤمنين ألا تنام الليل؟ قالَ: أنا إن نِمتُ ليلي كله أضعتُ نفسي أمام ربي، وإن نِمتُ نهاري أضعتُ رعيتي، النتيجة، بقي معه حتى أذّنَ الفجر، وصلّى معه، وأخذه إلى البيت، وقال: ما الذي أقدمك إلينا؟ قال: يا أمير المؤمنين معي هدية من عاملك على أذربيجان، فتحها عمر فإذا بها طعامٌ نفيس، أكلَ لُقمة واحدة، قالَ: يا هذا، هل يأكلُ عندكم عامةُ المسلمين هذا الطعام؟ قالَ: لا، هذا طعام الخاصّة، فقال: حرامٌ على بطنِ عمر أن يذوقَ حلوى لا يطعمها فقراء المسلمين، والقصص التي تُروى عن هذا الخليفة الراشد كثيرة جداً.
مرةً جاءه ملك، جَبَلَة مَلِكٌ في الجزيرة، مَلِكٌ غساني، جاءه مسلماً، طبعاً رحّبَ به، وأسلمَ هذا الملك، وطافَ بالكعبة، فجاءَ بدويّ داسَ طرفَ إزاره، فلما داسَ طرفَ إزاره وهو لا يدري ولا يقصد انخلعَ عن كَتِفه إزاره، فالتفتَ إلى هذا البدوي الملك جَبَلة وضربه ضربةً هشمّت أنفه، هذا البدوي ليسَ له إلا عمر، توجّه إليه، وقالَ: يا أمير المؤمنين، فلان لطمني هذه اللطمة، وهشمَّ أنفي، خذّ لي الحق منه، طلبه عمر، هناك إنسان صاغ هذا الموقف صياغةً أدبيّةً، قال له: أصحيح ما ادعّى هذا الفزاريُّ الجريح؟ قالَ جَبَلَة: لست ممن يكتم شيئاً أنا أدبّتُ الفتى أدركتُ حقيّ بيديَّ، قالَ عمر: أرض الفتى، له عندك حق، لابد من إرضائه ما زال ظـفرك عالقاً بدمائه أو يهشمـــنَّ الآن أنـفك وتنـــالَ ما فعــلته كفك، قالَ: كيفَ ذاك يا أمير المؤمنين؟ هو سوقةٌ وأنـا عرشٌ وتاج كيفَ ترضى أن يَخِرَّ النجمُ أرضاً؟ فقالَ عمر: نزوات الجاهلية ورياح العنجهية قد دفناها، أقمنا فوقها صرحاً جديداً وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً، فقالَ جَبَلَة: كانَ وهمــاً ما جــــرى في خَلدي أنني عنـــدكَ أقوى أعز، أنا مرتدٌ إذا أكرهتني، فقالَ عمر: عُنُقُ المرتدُ بالسيفِ تُحز عالمٌ نبنيه كلُّ صدعٍ فيه بشبا السيفِ يداوى، وأعزُّ الناس بالعبدِ بالصعلوكِ تساوى، هذا موقف.
ولمّا امتحنَ أحدَ ولاته وقالَ: يا فلان، ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارقٍ أو ناهب؟ قالَ: أقطعُ يده، قالَ: إذاً فإن جاءني من رعيتكَ من هو جائعٌ أو عاطل فسأقطع يدك، إن الله قد استخلفنا عن خلقه، لنسدَ جوعتهم، ونسترَ عورتهم، ونوفّرَ لهم حِرفتهم، فإن وفينا لهم ذلك، تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خُلقت لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعةِ عملاً التمست في المعصيةِ أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبلَ أن تَشغلكَ بالمعصية.
طبعاً هذه بعض المواقف، وله مواقف لا يعلمها إلا الله، كان عملاق الإسلام، ليسَ هذا الموضوع، هذا الموضوع تعرفونه، ولكن علاقة هذه القصص بهذا الدرس كيف يقول عمر: ليتَ أمَّ عمر لم تلد عمر، ليتها كانت عقيمة؟ كيف يقول عمر: أتمنى أن أقدُمَ على ربي لا ليَّ ولا علي؟ كيف؟ لأنه كانَ مخلصاً لله، طبعاً كان مخلصاً، لكن لأنه رأى عِظم حقِّ الله عليه، عِظم حقِّ الله عليه، مهما عبده، مهما أخلص له، مهما بذلَ من وقته، مهما بذلَ من جهده، مهما بذلَ من ماله، لا يؤدي شيئاً من حقِّ الله عليه، إذاً هذا الذي يمنُّ على الله عزّ وجل ما عَرَفَ الله، ما ذاقَ طعمَ الإخلاص:

﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)﴾

[ سورة الحجرات ]

إذا الإنسان أطلق الله لسانه بالحق، إن كان مخلصاً يقول: يا ربي لك الحمد، الذي سمحت لي أن أقولَ عنك كلاماً طيباً، يا ربي لكَ الحمد، سمحتَ لي أن أكون من عبادك الصالحين، يا ربي لكَ الحمد والشكر على أن قيّضت ليّ من يهديني إلى سواء السبيل، هذا المخلص، أما الذي يُدلُّ بعمله يقول: أنا وأنا، أنا فعلت، أنا تركت، أنا وجهت، أنا ربيت، هذا بعيد عن أن يكون مخلصاً لله عزّ وجل، إذاً الذي يعنينا أن نكونَ مخلصين لله عزّ وجل في كلِّ أعمالنا، لأن الله عزّ وجل طيبٌ ولا يقبلُ إلا طيباً، وإن الله أمرَ المؤمنين بما أمرَ به المرسلين.
 

تلخيص لعلامات الإخلاص:


مرةً ثانية، علامة الإخلاص كملخص للدرس، أول علامة من علامات الإخلاص أن يستوي العمل في السرِّ والعلانية، في الباطن والظاهر، في الخلوة وفي الجلوة.
علامة ثانية، أن يستوي المدح والذم عندك: 

فليتك تحلو والحيـــاة مريــــــرة             وليتك ترضى والأنام غِضابُ

وليتَ الذي بيني وبينك عامـــــرٌ            وبيني وبين العالمـين خـــراب

إذا صحَّ منك الوصل فالكلُّ هيّن            وكل الذي فوقَ الترابِ تــرابُ

[ أبو فراس الحمداني ]

* * *

إذاً أن يستوي العمل في الظاهر والباطن، في الخلوة والجلوة، في السر والعلانية، وأن يستوي عنده مدح الناس وذمهم، أيضاً؟ ألا تطلبَ شهوداً على عملك إلا الله، وألا تطلب الجزاء على عملك إلا الله، لست محتاجاً لمن يشهد لك عملك، يا أخي شاهدوني؟ أحدهم ذهب إلى المسجد، عنده مال، وينوي أن يذهب إلى الحج، فقال: أدخل المسجد وأتفحص وجوه المصلين، أيهم كان أشدّ خشوعاً أدفعُ له هذا المال، وقف في زاوية، وتأملَ وجوه المصلين، فرأى أحدهم يعصر نفسه، ويُغمض عينيه، ويتطامن، أعجبه خشوعه، فتوجه إليه بعد الصلاة، وقال: أنا واللهِ أحببت صلاتك، ومعي مالٌ أريد أن أودعه عندكَ لأنني ذاهبٌ إلى الحج، قالَ له: وأنا أيضاً صائم سيدي، قال له: والله لكن صيامك لم يعجبني.
إذاً حينما الإنسان يستوي عنده المدح والذم، وحينما يستوي ظاهره مع باطنه، يكون مخلصاً، وحينما لا يطلب على عمله، والله أنا ألبي رغبة كل إخواننا، لكن إنسان يُصرّ لا يدفع مبلغاً للمسجد حتى يضع رخامة باسمه، إذا كنت لا تقبل أن تعمل رخامة أن هذا العمل قام به المحسن الكبير فلان الفلاني، هذا الماء كان بنفقة فلان لا يرضى، أنا أعاني هذا، لا يقبل إلا بلوحةٍ عليها اسمه، هذا ضعفٌ في الإخلاص، الله عزّ وجل رآك ماذا فعلت، وعَلِمَ فعلك، قال تعالى:

﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)﴾

[ سورة البقرة ]

علامة رابعة؟ أن تؤثره على كلِّ ما سِواه.
علامة خامسة؟ الخلق كلهم عنده سواسية، الله سبحانه وتعالى هو قصده ومبتغاه.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور