وضع داكن
19-04-2024
Logo
العقيدة الإسلامية - الدرس : 06 - المسلك الرابع في العقيدة : الإشراقة الروحية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا انك العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً.

الشيء الخطير في حياة الإنسان في المعتقد الذي يسلكه:

 أيها الأخوة المؤمنون, ملخص سريع للدروس السابقة, تعلمون أن الإنسان في مواقفه وسلوكه وحركاته وسكناته وأعماله إنما ينطلق من عقيدة, فلو أن الإنسان رأى ما يراه المبصر لسلك سلوكه ولو أن المبصر فقد الرؤيا لسلك سلوك الأعمى, وبمثال بسيط: إنسان مبصر يمشي في الطريق إن رأى حفرة حاد عنها، وإن رأى حجراً أزاحه عن الطريق، وإن رأى ماءً قذراً ابتعد عنه، ولو أن هذا المبصر فقد بصره ومشى في هذا الطريق لسلك سلوك الأعمى ولو أن الأعمى رد إليه بصره لسلك سلوك المبصر, الشيء الخطر ليس في السلوك ولكن في الاعتقاد, لأنك إذا اعتقدت أن هذا الشيء صالح ومفيد ونافع أقبلت عليه، وإذا اعتقدت أن هذا الشيء ضار لابتعدت عنه، فالمشكلة هي مشكلة رؤية أو عدم رؤية.

مسالك العقيدة:

 كيف نتعرف إلى الحقيقة ؟ وكيف نسمح للحقائق بأن تصل إلى مركز الاعتقاد منا ؟ هناك ثلاثة طرق: الطريق يذكر و تُؤنث، تقول هذا الطريق وهذه الطريق.
الطريق الأول: طريق اليقين الحسي الشمس ساطعة والنار مشتعلة والمصباح متألق.
الطريق الثاني: طريق الاستدلال العقلي " اليقين الاستدلالي "، أنت موقن بأن في السلك طاقة كهربائية بسبب تألق المصباح، وأنت متأكد بأن في هذا الإنسان روحاً لأنه يتحرك، وفي هذا الكون إله لأن هذه الصفة تدل على الصانع وهذا النظام يدل على المنظم، وهذا الوجود يدل على الموجد.
الطريق الثالث: قلنا سابقاً إذا ظهرت عين الشيء فطريق معرفته اليقين الحسي، فإذا غابت عينه وبقيت آثاره فطريق معرفته الاستدلال العقلي، فإذا غاب الشيء وعينه وكان مغيباً عنا كلياً هو وآثاره فطريق معرفته طريق الخبر الصحيح.
 وقد تحدثنا في الدرس الماضي عن الخبر الصحيح، وعن مراتب الخبر الصحيح، والتواتر اللفظي والتواتر المعنوي وكيف أن الصحة على ست درجات:
1- درجة الوحي.
2- درجة الحديث الشريف.
3- درجة الاتهام بالزنا.
4- درجة الحقوق الثابتة بين البشر.
5- درجة الأخبار العادية.
6- درجة المصالح المرسلة.
 وبيّنا أنَّ الذي ينقل الخبر يجب أن يكون عدلاً ضابطاً غير متهم, العدل صفة أخلاقية والضبط صفة عقلية, وغير متهم ليس له مصلحة في هذه الشهادة أو تلك الرواية، هذا ملخص الدروس السابقة بشكل موجز سريع.

المسلك الرابع هو الإشراق الروحي:

 هناك مسلك رابع دقيق وحساس ولا ينبغي التوسع في استخدامه: هو مسلك الإضاءة الفطرية والإشراق الروحي, و إن الإنسان إذا صفت نفسه واقترب من الله عز وجل وأقبل عليه ففي هذا الإقبال يتجلّى الله بنوره فيكشف له بعض الحقائق، قال صلى الله عليه وسلم:

"عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ أَوْ تَمْلأ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالصَّلاةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا "

(أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشعري(

 هذه رؤية القلب وهذه الرؤية لا تحتاج إلى اليقين الحسي, و إلى اليقين الاستدلالي العقلي، وإلى الخبر الصحيح, إنما هي إشراقة روحية أو نور الله يقذفه في قلب المؤمن، ويقول الإمام الغزالي: التقوى نور يقذفه الله في القلب، وبهذا النور ترى الحق حقاً والباطل باطلاً وقوله تعالى:

﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾

( سورة البقرة الآية: 282)

﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾

(سورة التغابن الآية: 11(

﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾

(سورة الأنبياء الآية: 79(

 آيات كثيرة وأحاديث كثيرة تؤكد هذه الإشراقة الروحية وهذه الإضاءة الفطرية, و عبر عنه علماء التصوّف بمرتبة الكشف، أي إذا استقمت على أمر الله استقامة تامة وجاهدت نفسك وهواك وبذلت كل ما تملك من أجل أن تتقرب إلى الله عزّ وجل واتصلت بالله اتصالاً صحيحاً عندئذ يكافئك الله عز وجل بنور يقذفه في قلبك، في هذا النور ترى الحق حقاً والباطل باطلاً.

 

ينبغي أن يكون ضابط الإشراق الروحي وفق الكتاب والسنة:

 هناك تحفظات على المسلك الرابع لأن هناك من الناس من يدعيه بطلاناً وزوراً, هذا المسلك إذا كان الاعتماد فيه على الفطرة السليمة وفي الحدود التي يشترك فيها بالتذوق عن طريقها كافة الناس أو أكثرهم فهو مسلك صادق النتائج قطعاً، أي أحياناً تقرأ كتباً لعلماء كثيرين تجد أن هناك حقائق مشتركة، وهناك معارف موحدة قالوها جميعاً، وذلك أنهم جميعاً أقبلوا على الله وبإقبالهم العالي على الله عز وجل قذف الله في قلبهم النور فرأوا به الحقائق، فهناك تشابه في أقوال العلماء الصادقين والعارفين بالله الذين استنارت قلوبهم، فإذا كان هذا الكلام الذي يقوله من يدعي أن نفسه الصافية الشفافة أدركت الحقائق هذا الكلام إذا توافق مع إشراقات بقية العلماء فهو مقبول شرعاً ويمكن أن يحتل مرتبة اليقين.
 يقول الإنسان إن الزواج غيّر حياتي فهذا كلام صحيح, فإذا تزوج المؤمن الزواج انتقل من لا شيء إلى كل شيء، الله أكرمه من أجل عفته واستقامته وغض بصره زوجة صالحة مؤمنة وفية، محبة، صادقة، متواضعة بخدمته, فيقول: إن الزواج غير حياتي وإذا سألت مؤمناً آخر مستقيماً يقول إن هذا صحيح ويحلف على ذلك.

" عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ "

(أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص في الصحيح (

 هذا ما قاله صلى الله عليه وسلم فالمؤمن عندما يتزوج وفي ساعة صفاء يرى أن الزواج شيء ثمين جداً، فهذا الكلام صحيح لأن هذا ما قاله معظم المؤمنين: أي إن هذه الإشراقة صحيحة لأنها مشتركة بين الناس، وهذا المستوى المشترك هو إشراق صحيح.

الفرق بين القناعة العقلية التي يؤمن بها الفرد عن الطريق الخبر التواتر وبين الاحساس القلبي بها:

 تجد إنسان عنده إحساس يفوق حد القناعة، فلو فرضنا أن الإنسان معتقد اعتقاداً جازماً أن الاستماع إلى الغناء حرام فهو لا يستمع إلى الغناء إن هذا الإنسان ينطلق من عقيدة نُقلت له عن طريق الخبر الصحيح المتواتر، لكن إذا صفت نفسه وأشرقت روحه وكان في مركبة عامة وفُتح المذياع على الغناء يشعر أنه متألم، وأنه يمقت هذا الصوت وهذه المعاني وهذه الأنغام، وأنه متضايق فهذا الإنسان ارتقى إلى مرتبة الذوق، فإذا ارتقيت أكثر من ذلك انتقلت إلى مرتبة الرؤية, إنك ترى هؤلاء الذين يستمعون ويطربون ويهزون رؤوسهم أنهم خاسرون لأنهم شغلوا أنفسهم بالتافه، وتعلقوا بحطام الدنيا وزينتها، فهذه المعاني لا تروق لهم، فالإنسان ينتقل من درجة إلى درجة إلى درجة، من درجة القناعة إلى درجة الذوق إلى درجة الرؤية, والقناعة هي مرتبة الإسلام، والذوق مرتبة إلى الإيمان، والرؤية مرتبة التقوى، فإذا انتقل الإنسان إلى مرتبة التقوى فأنى له أن يخالف رؤيته.

مرتبة الذوق والرؤية القلبية أقوى للانصياع لأوامر الشرع من القناعة التي تتحكمها الأهواء:

 دخلت على طبيب من مشاهير الأطباء في أمراض القلب وأنا بحسب معلوماتي المتواضعة التي قرأتها من عدة مصادر بأن الدخان يسبب انسداداً في شرايين القلب, لي أخ صديق حدثني بأن شخصاً كان يدخن في النهار أربع علب دخان ومع العلم أن الشرايين التاجية خمسة فروع هذه الفروع الخمسة سدت لديه فعندما ذهب إلى بلد أجنبي بغية المعالجة، اعتذرت الجهات الطبية العليا عن إجراء عملية له لعدم جدواها, وذلك لأن الشرايين الخمسة مسدودة فمات هناك في البلد الأجنبي، فأنا حينما أتيقن في أن الدخان يسبب انسدادا في شرايين القلب، كيف إذاً أدخن ؟
 الإنسان قد يخالف قناعته، وقد تغلبه شهوته فيخالف قناعته, ولكنه إذا انتقل إلى مرتبة الذوق فاحتمال المخالفة صار أضعف، فإذا انتقل إلى مرتبة الرؤية فيستحيل عليه أن يخالف رؤيته، فإذا وجدت صحن الطعام عليه حشرة تدعو إلى الاشمئزاز فهل تأكل ؟ إنك لا تأكل لذلك فالله سبحانه وتعالى يدعونا دائماً للتقوى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾

( سورة آل عمران الآية: 102)

  لأنك بالتقوى تنتقل إلى مرتبة الرؤية، قال الله:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾

)سورة البقرة الآية: 183(

 

دليل ذلك:

 هذا يوسف الصديق دعته امرأة ذات منصب وجمال إنها " سيدة القصر " امرأة العزيز في أبهى زينتها, وغلّقت الأبواب وهو شاب في ريعان الشباب غير متزوج وهو عبد لها عليه بأن يأتمر بأمرها وهي لن تفضحه, لأن هذا ليس في مصلحتها وزوجها ليس غيوراً، ومع ذلك قال معاذ الله، لماذا قال معاذ الله ؟ لأنه في مرتبة الرؤية، لأنه رأى في هذا العمل نتائج وخيمة، إنسان يمنع شيئاً ويتوعدْ بشيء ويقول من فعل كذا وكذا فعليه كذا وكذا من عقوبات فترى الناس جميعاً يمتنعون، لأن هذا الشيء ليس لعبة ولا لهواً, فلماذا امتنع عن هذا العمل الذي منع في النص القانوني وقد ذكر هذا النص في العقوبات الكبيرة جداً التي يتحملها مخالف هذه المادة ؟ فالرؤية ليست بعدها معصية، وهذا الشيء الذي أود أن أقوله لكم:

﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

(سورة المُلك الآية: 22(

﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

(سورة الأنعام الآية: 122)

 المؤمن له نور يمشي به بين الناس، فهذه المرتبة مرتبة الإشراق الروحي، إنها مرتبة الإضاءة الفطرية وهذه مرتبة تلي مرتبة الإيمان إنه إسلام تحركه القناعات، وإيمان يحركه الذوق، التقوى تحركها الرؤية:

﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾

)سورة الأنعام الآية: 75(

 أؤكد لكم تأكيداً قاطعاً أنَّ المؤمن إذا تابع طريق الإيمان بكل جوارحه وصدق في معرفة الله فإن الله سبحانه وتعالى لابد من أن يُلقي في قلبه نوراً ،

"ومن أخلص لله أربعين صباحاً تفجرت ينابيع الحكمة في قلبه وأجراها الله على لسانه "

( ورد في الأثر )

 هذا المسلك إذا كان معتمداً على الفطرة السليمة وفي الحدود التي يشترك فيها الناس جميعاً فهو مسلك صادق النتائج قطعاً وتقام به الحجة نظراً لتوافقه مع الرؤية، ومع بقية الأذواق وكل شيء تقوله قد خطر في بالي وأشرق قلبي وفتح الله على قلبي، وانكشف لي أنَّ الجنة هي كل شيء وأن الدنيا ليست بشيء فهذا الكلام صحيح وينطبق مع نص القرآن الكريم.

 

ينبغي على المسلم أن يكون حذراً من أقوال السوقة الذين يبتغون التلاعب في أحكام الدين:

 أرى ما يدّعيه بعض الناس من إشراق روحي، ومن كشف رباني، ومن شفافية نفسية، يجب أن يضبط بكتاب الله وسنة نبيه فإذا تجاوزه فهو من الشيطان قولاً واحداً, وقد يقول أحدهم: " بدا لي أنني بعد أن بلغت هذه المرتبة رفعت عني التكاليف " و الذي يقول ذلك قولوا له: إن الشيطان يحركك وإنه راكبك فسيد الأنبياء ما ترك الصلاة ولا يوجد إنسان في الأرض يستطيع أن يزعم أنه رفع عنه التكليف إلا أن يكون هذا من الشيطان.
 لذلك فهذا المسلك خطر جداً لأن أكثر الدجالين يأتون من هذا الباب فيقولون مثلاً: حدثني قلبي عن ربي، ومن أنت حتى يحدثك قلبك عن ربك ؟ أما إذا كان هذا الإشراق شيئاً من صلب القرآن ومن صلب السنة وفي ذلك إغناء لآيات الله فهذا نسكنه في أفئدتنا ولاسيما إذا كان صاحبه مستقيماً ورعاً.

وما مقصودهم جنات عـدن ولا الحور الحسان ولا الخـيــام
سوى نظر الإله فذا مناهـم   وهذا مطلبُ القوم الكـــــرام
فأحبابنا اختاروا المحبة ملـةٍ وما خالفوا في مذهب الحب شرعنا

 و الإنسان الذي لا أجده مستقيماً فكل ما يدعيه عن إشراقه الروحي لا أصدقه, لأن الله سبحانه وتعالى لا يتفضل على إنسان عاص بتجليّاته الرحمانية، فإذا رأيته ورعاً وملتزماً وعند أمر الله وعند نهيه، وعند الحلال تاركاً الحرام، ورأيت منه معنىً رفيع المستوى يتوافق مع الكتاب والسنة فهذا الذي منّ الله به عليه يسكن في قلوبنا، أما إذا كان في خلقه خلل وانحراف وتقصير، ونظرات للنساء مريبة، واستماع غناء وبعد ذلك يقول: "حدثني قلبي عن ربي " إنه الدجال، والله سبحانه وتعالى لا يُلقي نوره إلا في قلب عبد منيب، و الإمام الشافعي فيما تروي كتب التاريخ فعل معصية في الحدود الهامشية جداً فلم يستيقظ على قيام الليل فشكى ذلك إلى شيخه وكيع فقال الشافعي:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي  فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأنبأني بأن العلم نــــور   ونور الله لا يهدى لعاصـي

 وقال صلى الله عليه وسلم: " قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية " وباعتقادي فإنه من المستحيل أن يتجلى الله عز وجل بأنواره الكاشفة على قلب عبد عاص، وهذا التجلي خاص بالمتقين والورعين والمستقيمين, ولذلك فمقياس الاستقامة والورع يكشف الدجالين، فإذا لم يكن فيه ورع ينطبق مع الكتاب الكريم والسُنة المُطهرة فهذا دجل حرام.

 

النص القطعي من أنكره يكفر أما الظني الاجتهادي لا يكفر:

 و عندنا عقيدة مستنبطة من نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة من أنكرها فهو كافر، وكل من ينكر عقيدة ثبتت بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة فهو كافر، أما إذا أنكر عقيدة ظنيّة الدلالة أو ظنيّة الثبوت أو ظنيّة الثبوت والدلالة فهذا الإنسان لا يكفّر لأنه موضوع خلافي فالعلماء استنبطوا من أنه:

﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾

( سورة النجم الآية: 10)

 وهو في السماء السابعة بأن العبد مؤلف من نفس وروح وجسد إذا النبي صلى الله عليه وسلم عرج إلى السماء بجسده أغلب الظن هكذا لكن هذا الاستنباط استنباط ظني وليس قطعياً، الاستنباط القطعي مثلاً:

 

﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً﴾

 

(سورة النساء الآية: 23(

 فمن أنكر هذه الحقيقة فهو كافر قال الله:

﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾

( سورة البقرة الآية: 43)

 هذه آية قطعية الثبوت لأنها من كتاب الله، وقطعية الدلالة لأنها تأمرنا بالصلاة فمن أنكر الصلاة فهو كافر, لكن:

﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾

(سورة النجم الآية: 10)

 أغلب الظن أن العبد المقصود به الإنسان بروحه ونفسه وجسده، لكن هذه العبارة لا تعني بالضرورة أنه عرج بالجسد فمن أنكر عروجه بالجسد لا يعد كافراً، أما هناك دليل يرقى إلى مستوى غلبة الظن أنه عرج بجسده والدليل غير قطعي قال تعالى:

﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾

( سورة النجم الآية: 10)

 نحن ليس بصدد الأمثلة، أما نحن في الكليات فالكليات تقول هناك عقائد لا تُلزم صاحبها بفعل ما، مثلاً: أنا أعتقد أن الصلاة فرض وهذه عقيدة جازمة ينبغي أن ينتج عنها أن أُقيم الصلاة وأُصلي فإن لم أُصلِّ إنكاراً للعقيدة فأنا كافر, من لم يصلِّ منكراً فريضة الصلاة فهو كافر, وإن لم يصلِّ تهاوناً فهو فاسق وهناك فرق بينهما، أما إذا استنبط العلماء في قوله تعالى:

﴿أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

)سورة البقرة الآية: 184(

  فمفسرون قالوا: إن هناك (لا) محذوفة ومعناها لا يطيقونه وهذا استنباط ليس قطعياً وهناك من يفسر يطيقونه على الذين يطيقونه في السفر والمرض وأفطروا عليهم فدية، وهناك من يفسر على الذين لا يطيقونه هناك (لا) محذوفة فدية إذا أفطروا، هذا استدلال ليس قطعياً إنما هو استدلال ظني، إذاً الذي ينكر الاستدلال الظني لا يكفر لأنه قد يأتي شيء يؤكده أو شيء ينقضه.

مجال النصوص ظنية الدلالة والثبوت أجاز العلماء على العمل بها في فروع الدين:

 لقد رأينا أن مسالك الظنون الغالبة لا تؤدي إلى علم يقيني ومن ثمَّ فلا يصح أن تحول الظنون إلى عقائد جازمة راسخة غير قادرة للتبديل أو النسخ بل تدخل في زاوية العلوم الظنية ويُعتقد بها ويُعمل بموجبها حتى يأتي ما يعدلها أو يثبتها، والإنسان يجب أن يعتقد بأشياء اعتقاداً جازماً وما دام يعتقد بها هكذا لأن أصلها نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة فهذا ينبغي له أن ينطلق إلى تنفيذها, أما في العقائد التي يغلب الظن فيها فهو يعمل بها ما لم يظن دليلاً على عكسها أو دليل ينقلها إلى مرتبة الأخبار اليقينية.
 قال العلماء: والعمل بالظن الغالب في فروع الأحكام الشرعية وارد, مثلاً الحديث الوارد بالتواتر بالنص أو المعنى يرقى إلى مستوى قطعي الثبوت قطعي الدلالة، أما حديث الآحاد وهذا يجعل الاعتقاد به ظني الثبوت أو ظني الدلالة قال العلماء: هذا المسلك يكتفى به في إثبات فروع الأحكام الشرعية العملية, والأصول تحتاج إلى قطع في الثبوت والدلالة, أما الفروع فيقبل أن نستخدم بها النصوص الشرعية ذات الظن الغالب.

من تتمة مراتب العلم:

مرتبة الوهم:

 بقي علينا طريق آخر مزيف: وهو طريق الأوهام والخرافات وهذا الطريق فاسد فساداً قطعياً لأن الإنسان إذا تحرك بموجبه هلك، وقد يسمع الإنسان من العوام أن هذا الزوج لا يحب زوجته لأنها قد سحرته, وعوضاً من أن يستقيم على أمر الله فيغض بصره ويعاملها بالإحسان حتى تنشأ مودة بينهما يذهب إلى دجالين ليعطوه بعض المحاليل وبعض الأدوية وبعض الحجب من أجل أن تحبه، و هذه مسالك كلها أوهام وأباطيل ويقول لك: إن الشيطان هو الذي وسوس لي وهو الذي جرني إلى هذه المعصية، فإذا كان الإنسان في كلامه بعيداً عن كلام الله يكون هو في ضلال, طابق بين كلامك وبين كلام الله عز وجل تجد أنه حصل عندنا طريق مزيف هو طريق الوساوس والأوهام والعادات والتقاليد البالية التي ما أنزل الله بها من سلطان، هذه الطرق خطرة في وصولها إلى مركز الاعتقاد، المؤمن يعتقد بما جاء في كتاب الله، وبما جاء فيما صح عن رسول الله، ودائماً اجعل علاقتك مع الناس هذه العلاقة التالية: الذي ينقل لك خبراً ما اسأله عن الصحة، " إن كنت ناقلاً فالصحة " والذي يبتدع لك نظرية ما اسأله عن الدليل " إن كنت ناقلاً فالصحة وإن كنت مبتدعاً فالدليل ".
 يقول لك: أرى أن الإنسان لا ينبغي له أن ينظر إلى زوجة أخيه هذه نظريتي قل له: ما الدليل ؟ فيأتيك بآية وهذا تفسيرها، و يأتيك بحديث صحيح، فتعامل مع الناس بهذه الطريقة فإذا نقل لك إنسان فقل له: ما صحته ؟ ما برهان صحة هذا النقل ؟ فإذا ادّعى شيئاً فقل له: ما الدليل العقلي والنقلي ؟ طالبه بالدليل النقلي حديثاً أو آية, وطالبه بالدليل العقلي إذا قدم لك دليلاً عقليّاً فالأمر انتهى.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور