الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الشيء الخطير في حياة الإنسان هو المعتقد الذي يسلكه:
أيها الإخوة المؤمنون؛ ملخص سريع لما مرّ بنا في الدروس السابقة، لأنه متعلق أشدّ التعلق بهذا الدرس.
تعلمون أن الإنسان في مواقفه وسلوكه وحركاته وسكناته وأعماله إنما ينطلق من عقيدة، بتعبير آخر من مفهوم، فلو أن الإنسان رأى ما يراه المُبصر لسلك سلوكه، ولو أن المُبصر فقد الرؤية لسلك سلوك الأعمى، بمثال بسيط، إنسان مبصر يمشي في الطريق، إن رأى حفرة حاد عنها، وإن رأى حجراً أزاحه عن الطريق، وإن رأى ماءً قذراً ابتعد عنه، لو أن هذا المُبصر فقد بصره ومشى في هذا الطريق لسلك سلوك الأعمى، ولو أن الأعمى رُدّ إليه بصره لسلك سلوك المُبصر، إذاً الشيء الخطر ليس في السلوك، ولكن في الاعتقاد، لأنك إذا اعتقدت أن هذا الشيء صالح ومفيد ونافع أقبلت عليه، وإذا اعتقدت أن هذا الشيء ضار لابتعدت عنه، فالمشكلة هي مشكلة رؤية وعدم رؤية.
كيف نتعرف إلى الحقيقة؟ وكيف نسمح للحقائق بأن تصل إلى مركز الاعتقاد منا؟ هناك ثلاثة طرق: الطريق تذكر وتُؤنث، تقول: هذا الطريق وهذه الطريق، إذاً لك أن تقول هناك ثلاثة طرق أو هناك ثلاث طرق.
الطريق الأول طريق اليقين الحسي، الشمس ساطعة والنار مشتعلة والمصباح متألق.
والطريق الثاني طريق الاستدلال العقلي، اليقين الاستدلالي، أنت تتأكد، أنت موقن بأن في الشريط طاقة كهربائية بسبب تألق المصباح، وأنت متأكد أن في هذا الإنسان روحاً لأنه يتحرك، وأن لهذا الكون إلهاً لأن هذه الصنعة تدل على الصانع، وهذا النظام يدل على المنظم، وهذا الوجود يدل على الموجد، هذا الطريق الثاني.
والطريق الثالث، قلنا في الدرس السابق: إذا ظهرت عين الشيء فطريق معرفته اليقين الحسي، فإذا غابت عينه وبقيت آثاره فطريق معرفته طريق الاستدلال العقلي، فإذا غاب الشيء وعينه وكان مُغَيّباً عنا كلياً هو وآثاره فطريق معرفته طريق الخبر الصحيح.
وقد تحدثنا في الدرس الماضي عن الخبر الصحيح، وعن مراتب الخبر الصحيح، والتواتر اللفظي، والتواتر المعنوي، وكيف أن الصحة على ست درجات: درجة الوحي، ودرجة الحديث الشريف، ودرجة الاتهام بالزنا، ودرجة الحقوق الثابتة بين البشر، ودرجة الأخبار العادية، ودرجة المصالح المرسلة، ست درجات.
وبيّنا أنَّ الذي ينقل الخبر يجب أن يكون عدلاً ضابطاً غير متهم، العدل صفة أخلاقية، والضبط صفة عقلية، وغير متهم ليس له مصلحة في هذه الشهادة أو تلك الرواية، هذا ملخص الدروس السابقة بشكل موجز سريع.
المسلك الرابع هو الإشراق الروحي:
هناك مسلك اليقين الحسي، مسلك الاستدلال العقلي، مسلك الخبر الصحيح، الآن يوجد مسلك رابع هذا دقيق جداً وحساس، ولا ينبغي التوسع في استخدامه، هذا المسلك الرابع هو مسلك الإضاءة الفطرية والإشراق الروحي، أي الإنسان إذا صَفَت نفسه واقترب من الله عز وجل، إذا أقبل على الله، في هذا الإقبال يتجلّى الله بنوره فيكشف له بعض الحقائق، قال صلى الله عليه وسلم:
(( عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ أَوْ تَمْلأ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ، وَالصَّلاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا. ))
هذه رؤية القلب، هذه الرؤية لا تحتاج لا إلى اليقين الحسي، ولا إلى الاستدلالي العقلي، ولا إلى الخبر الصحيح، إنما هي إشراقة روحية، إنما هو نور الله يقذفه في قلب المؤمن، الإمام الغزالي رضي الله عنه يقول: التقوى نور يقذفه الله في القلب، بهذا النور ترى الحق حقاً والباطل باطلاً، قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)﴾
﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)﴾
﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)﴾
آيات كثيرة وأحاديث كثيرة تؤكد هذه الإشراقة الروحية وهذه الإضاءة الفطرية، إضاءة فطرية أو إشراق روحي أو نور الله عز وجل يُلقى في قلب المؤمن يكشف له الحقائق، أي إذا استقمت على أمر الله عز وجل استقامة تامة، وجاهدت نفسك وهواك، وبذلت كل ما تملك من أجل أن تتقرب إلى الله عز وجل، واتصلت بالله اتصالاً صحيحاً، عندئذ يكافئك الله عز وجل بنور يقذفه في قلبك، بهذا النور ترى الحق حقاً والباطل باطلاً.
ينبغي أن يكون ضابط الإشراق الروحي وفق الكتاب والسنة:
لكن هناك تحفظات على هذا المسلك الرابع، لأن هذا المسلك الرابع مشكلته أن هناك من الناس من يدّعيه بُطلاناً وزوراً، هذا المسلك إذا كان الاعتماد فيه على الفطرة السليمة، وفي الحدود التي يشترك بها، وبالتذوق عن طريقها كافة الناس أو أكثرهم فهو مسلك صادق النتائج قطعاً، أي أحياناً تقرأ كتباً لعلماء كثيرين تجد أن هناك حقائق مشتركة، هناك معارف موحدة قالوها جميعاً، ما تفسير ذلك؟ أنهم جميعاً أقبلوا على الله، وبإقبالهم العالي على الله عز وجل قذف الله في قلبهم النور فرأوا به الحقائق، فهناك تشابه في أقوال العلماء الصادقين الذين استنارت قلوبهم، فإذا كان هذا الكلام الذي يقوله من يدّعي أن نفسه الصافية الشفافة أدركت الحقائق، هذا الكلام إذا توافق مع إشراقات بقية العلماء فهو مقبول شرعاً، إذا شخص بساعة صفاء قال لك: والله الذي لا إله إلا هو رأيت الدنيا صغيرة لا قيمة لها، هذا الكلام قاله معظم العلماء، معظم المقربين قالوه، معظم الأتقياء قالوه، والله الذي لا إله إلا هو ما وجدت في الدنيا أثمن من أن تنال مرتبة رضاء الله عز وجل، كلام صحيح، مادام هذا الاشراق الروحي مُتَوافقاً مع الكتاب والسنة ومع أقوال العلماء الكبار الذي يتمتعون بمثل هذا الاشراق فهو إشراق صحيح معتمد.
أحياناً الإنسان يقول لك: يا أخي الزواج غيّر حياة، كلام صحيح، إذا مؤمن تزوج، قبل الزواج كان عفيفاً، غضّ بصره، بعد الزواج من لا شيء إلى كل شيء، الله وهبه نظير استقامته وعفته وغضّ بصره زوجة صالحة، مؤمنة، وفية، مُحِبة، صادقة، متواضعة، في خدمته، يقول لك: والله أخي الزواج غير حياة، تعال اسأل مؤمناً آخر، أيضاً مستقيم على أمر الله ومتزوج، نعم والله الزواج غير حياة.
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ. ))
فالإنسان عندما يتزوج ويكون مؤمناً، وفي ساعة صفاء يرى أن الزواج شيء ثمين جداً في حياته، هذا كلام صحيح لأنه قاله معظم المؤمنين، أي هذه الإشراقة صحيحة لأنها مشتركة بين الناس، هذا المستوى المشترك هو إشراق صحيح.
الفرق بين القناعة العقلية التي يؤمن بها الفرد وبين الإحساس القلبي بها:
أحياناً الإنسان عنده إحساس يفوق حدّ القناعة، لو فرضنا إنساناً معتقداً اعتقاداً جازماً أن الاستماع إلى الغناء حرام، فهو لا يستمع إلى الغناء، هذا ينطلق من عقيدة نُقلت له عن طريق الخبر الصحيح المتواتر، لكن إذا صَفَت نفسه، وأشرقت روحه، وكان في مركبة عامة وفُتح المذياع على الغناء يحسّ أنه متألم، أنه يمقت هذا الصوت، وهذه المعاني، وهذه الأنغام، أنه متضايق، هذا ارتقى إلى مرتبة الذوق، فإذا ارتقيت أكثر من ذلك انتقلت إلى مرتبة الرؤية، إنك ترى هؤلاء الذين يستمعون ويطربون ويهزون رؤوسهم إنهم خاسرون، شغلوا أنفسهم بالتافه، تعلقوا بحطام الدنيا، تعلقوا بزينتها، وهذه المعاني لا تروق لهم، فالإنسان ينتقل من درجة لدرجة لدرجة، من درجة القناعة إلى درجة الذوق إلى درجة الرؤية، القناعة هي مرتبة الإسلام، والذوق مرتبة الإيمان، والرؤية مرتبة التقوى، إذا انتقل الإنسان إلى مرتبة التقوى فأنى له أن يُخَالف رؤيته.
مرتبة الذوق والرؤية القلبية أقوى للانصياع لأوامر الشرع من القناعة التي تحكمها الأهواء:
قد يخالف الإنسان قناعته، أي دخلت على طبيب من مشاهير الأطباء في أمراض القلب، وأنا بحسب معلوماتي المتواضعة التي قرأتها من عدة مصادر بأن الدخان يُسَبب انسداداً في شرايين القلب، وهناك أخ صديق حدثني بأن شخصاً كان يدخن في النهار أربع علب دخان، الشرايين التاجية خمسة فروع، هذه الفروع الخمس سُدّت، ولما ذهب إلى بلد أجنبي بغية المعالجة اعتذرت الجهات الطبية العليا عن إجراء عملية له لعدم جدواها، لأن الشرايين الخمس مسدودة ومات هناك في هذا البلد الأجنبي، فأنا حينما أتيقن أن هذا الدخان يُسَبب انسداداً في شرايين القلب، كيف أدخن؟ إذاً الإنسان قد يخالف قناعته، قد تغلبه شهوته ويخالف قناعته، ولكنه إذا انتقل إلى مرتبة الذوق احتمال المخالفة صار أضعف، فإذا انتقل إلى مرتبة الرؤية يستحيل عليه أن يُخَالف رؤيته، أي أنت إذا صحن الطعام وجدت عليه حشرة تدعو إلى الاشمئزاز هل تأكل؟ لا تأكل، إذا كان الموضوع قولاً، إذا قال لك أحدهم: مرت على هذا الصحن هذه الحشرة، قد تعدُّها مزحة أو قد تعدُّها حيلة من أجل ألا تأكل وقد تأكل، أما إذا رأيت هذه الحشرة الكريهة على صحن الطعام بعينك لا تأكل أبداً، أي الشيء الثابت أن الذي يرى لا يسلك سلوكاً مضاداً لرؤيته، لذلك الله سبحانه وتعالى يدعونا دائماً إلى التقوى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)﴾
لأنك بالتقوى تنتقل إلى مرتبة الرؤية.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾
المؤمن له نور يمشي به بين الناس:
دعته امرأة ذات منصب وجمال، سيدة القصر، امرأة العزيز، في أبهى زينتها، وغَلّقت الأبواب وهو شاب في ريعان الشباب، غير متزوج، وهو عبد لها عليه أن يأتمر بأمرها، وهي لن تفضحه لأن هذا ليس في مصلحتها، وزوجها ليس غيوراً، مرة ذكرت لكم اثني عشر سبباً يدعوه إلى أن يزني بها ومع ذلك قال: معاذ الله، لماذا قال: معاذ الله؟ لأنه في مرتبة الرؤية، لأنه رأى ما في هذا العمل من نتائج وخيمة، إنسان يمنع شيئاً ويتوعد من يفعله بكذا وكذا من عقوبات، ترى الناس جميعاً يمتنعون، لا يوجد معها لعبة أخي، لماذا تمتنع عن هذا العمل الذي مُنِع بنص القانون وقد ذُكِر بنص هذا القانون العقوبات الكبيرة جداً التي يتحملها مخالف هذه المادة؟ فالرؤية ليس بعد الرؤية معصية، هذا الشيء الذي أود أن أقوله لكم:
﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)﴾
﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)﴾
﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)﴾
المؤمن له نور يمشي به بين الناس، إذاً هذه المرتبة مرتبة الإشراق الروحي، مرتبة الإضاءة الفطرية، هذه مرتبة تلي مرتبة الإيمان، إسلام يُحركه القناعات، إيمان يُحَركه الذوق، التقوى تُحَركها الرؤية:
﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)﴾
أؤكد لكم تأكيداً قاطعاً أنَّ المؤمن إذا تابع طريق الإيمان بكل جوارحه وصدق في معرفة الله فإن الله سبحانه وتعالى لابد من أن يُلقي في قلبه نوراً، هذا المسلك إذا كان معتمداً على الفطرة السليمة، وفي الحدود التي يشترك بها الناس جميعاً فهو مسلك صادق النتائج، وتقام به الحجة نظراً لتوافقه مع بقية الرؤى، ومع بقية الأذواق، سيدنا رسول الله، قال تعالى:
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)﴾
رؤية خاصة وليست عامة، لذلك هذه الرؤية خاصة.
ينبغي على المسلم أن يكون حَذِراً من الذين يتلاعبون بأحكام الدين:
هذا بالنسبة إلي ما يدّعيه بعض الناس من إشراق روحي، ومن كشف رباني، ومن شفافية نفسية، هذا عندي يجب أن يُضبط بكتاب الله وسنة رسول الله، فإذا تجاوزه فهو من الشيطان، قولاً واحداً، أنا بدا لي أنني بعد أن بلغت هذه المرتبة رُفِعت عني التكاليف، أنت الشيطان يركبك، قل له: الشيطان يركبك، سيد الأنبياء ما ترك الصلاة، لا يوجد إنسان في الأرض يستطيع أن يزعم أنه رُفِع عنه التكليف إلا أن يكون هذا من الشيطان.
لذلك هذا المسلك خطر جداً، لأن أكثر الدجالين يأتون من هذا الباب، أنا حدثني قلبي عن ربي، من أنت؟ من أنت حتى يُحَدّثك قلبك عن ربك؟ أنت عندك وحي؟ أما إذا كان هذا الإشراق شيئاً من صُلب القرآن، من صُلب السنة، أي فيه إغناء لآيات كتاب الله هذا على العين والرأس، وكان صاحبه مستقيماً.
فأحبابنا اختاروا المحبة مذهباً وما خالفوا في مذهب الحب شرعنا
أي أنا شخصياً إذا إنسان لا أجده مستقيماً، كل ما يدّعيه عن إشراقه الروحي لا أصدقه، لأن الله سبحانه وتعالى لا يتفضل على إنسان عاص بتجليّاته الرحمانية، مستحيل، هذه وساوس شيطانية، أما إذا رأيته ورعاً وملتزماً وعند أمر الله وعند نهيه، وعند الحلال تاركاً الحرام، ورأيت منه معنىً رفيع المستوى يتوافق مع كتاب الله، هذا المعنى الذي منّ الله به عليه على العين والرأس، أما إذا كان بالسلوك خلل، انحراف، تقصير، نظرات للنساء مُريبة، سماع للغناء، وبعد ذلك حدثني قلبي عن ربي، هذا دجّال، الله سبحانه وتعالى لا يُلقي نوره إلا في قلب كل عبد منيب، الإمام الشافعي فيما تروي كتب التاريخ أي في حدود الأشياء الهامشية جداً، فلم يستيقظ على قيام الليل، شكا ذلك إلى شيخه وكيع فقال الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأنبأني بـــأن العلـــــم نـــــور ونور الله لا يهدى لعاصـــــي
وقد قيل: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية، أنا في اعتقادي مستحيل أن يتجلى الله عز وجل بأنواره الكاشفة على قلب عبد عاص، هذا التجلي خاص بالمتقين، بالورعين، بالمستقيمين، بالملتزمين، فلذلك مقياس الاستقامة والورع يكشف الدجالين، إذا لم يكن هناك ورع، لا يوجد كلام متوافق مع روح هذا الكتاب الكريم والسنة المُطهرة هذا دجل في دجل.
النص القطعي من أنكره يكفر أما الظني الاجتهادي فلا يكفر:
الآن هناك مرتبة بعد اليقين اسمها: غلبة الظن، أي رأيت دخاناً وراء جدار، رأيت جداراً وخلفه دخان يتصاعد من بعض ألسنة اللهب، فأنا أقول بحسب المنطق: لا دخان بلا نار، وقد لمحت عيني بعض ألسنة اللهب، هذا يقين قطعي، يقين استدلالي، لكن رأيت دخاناً، هذا الدخان أبيض غريب وأنا في مكان بعيد، هل هذا الدخان دخان نار أم دخان مبيد ترشه المحافظة في الطرقات؟ قد يغلب على ظنك أنه دخان نار، فهذه المرتبة ليست في مرتبة اليقين بل في مرتبة غلبة الظن، أي من بعيد يبدو أن هناك ماء، لكن ماء أم سراب؟ عيني تريني ماء، لكن حينما أقترب هذا الماء يتلاشى، إذاً هو سراب.
هناك مرتبة بمستوى الحس هي دون اليقين الحسي، وهناك مرتبة بالاستدلال العقلي هي دون اليقين العقلي، وهناك مرتبة بالأخبار هي دون اليقين الإخباري، قلنا لكم من قبل إن القرآن يحتل أعلى درجة، قطعي الثبوت، هناك نصوص ظنية الثبوت، قطعية الدلالة، هناك نصوص قطعية الثبوت ظنية الدلالة، هناك نصوص ظنية الدلالة ظنية الثبوت، أي من حيث الثبوت أو من حيث الدلالة هناك مرتبة دون اليقين هي مرتبة غلبة الظن، يوجد عندنا عقيدة مستنبطة من نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة من أنكرها فهو كافر، كل من يُنكر عقيدة ثبتت بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، إذا أنكر الإنسان هذه العقيدة فهو كافر، أما إذا أنكر عقيدة ظنيّة الدلالة أو ظنيّة الثبوت أو ظنيّة الثبوت والدلالة فهذا الإنسان لا يُكَفّر، موضوع خلافي، العلماء استنبطوا من أنه:
﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)﴾
وهو في السماء السابعة، أن العبد مؤلف من نفس ومن روح ومن جسد، إذاً النبي صلى الله عليه وسلم عرج إلى السماء بجسده، أغلب الظن هكذا، لكن هذا الاستنباط استنباط ظني وليس قطعياً، الاستنباط القطعي:
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)﴾
هذا استنباط قطعي، فمن أنكر هذه الحقيقة فهو كافر:
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)﴾
هذه آية، والآية قطعية الثبوت أنها من كتاب الله، وقطعية الدلالة أنها تأمرنا بالصلاة، فمن أنكر الصلاة فهو كافر، لكن: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ والله أغلب الظن أن العبد المقصود به الإنسان بروحه ونفسه وجسده، لكن هذه العبارة لا تعني بالضرورة أنه عرج بالجسد، فمن أنكر عروجه بالجسد لا يُعدّ كافراً، أما هناك دليل يرقى إلى مستوى غلبة الظن أنه عرج بجسده والدليل غير القطعي: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ .
طبعاً ليس بصدد الأمثلة، الأمثلة كثيرة جداً، نحن الآن في الكليات، الكليات تقول: هناك عقائد لا تُلزم صاحبها بفعل ما، مثلاً: أنا أعتقد أن الصلاة فرض، هذه عقيدة جازمة، هذه العقيدة ينبغي أن ينتج عنها أن أُقيم الصلاة وأُصلي، فإن لم أُصلِّ إنكاراً للعقيدة فأنا كافر، إذا لم يصلِّ الإنسان مُنكراً فريضة الصلاة فهو كافر، وإن لم يصلِّ تهاوناً فهو فاسق، هناك فرق بين من لم يصلّ إنكاراً وبين من لم يصلّ تهاوناً، أما إذا استنبط العلماء من بعض الآيات:
﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)﴾
قال مفسرون: إن هناك لا محذوفة، لا يطيقونه، هذا استنباط ليس قطعياً، هناك من يفسر يطيقونه على الذين يطيقونه في السفر والمرض وأفطروا عليهم فدية، وهناك من يفسر على الذين لا يطيقونه هناك (لا) محذوفة فدية إذا أفطروا، هذا استدلال ليس قطعياً إنما هو استدلال ظني، إذاً الذي يُنكر الاستدلال الظني لا يُكفّر، لأنه قد يأتي شيء يؤكده أو شيء ينقضه.
مجال النصوص ظنية الدلالة والثبوت أجاز العلماء العمل بها في فروع الدين:
قد رأينا أن مسالك الظنون الغالبة لا تؤدي إلى علم يقيني، ومن ثمَّ فلا يصح أن تتحول الظنون إلى عقائد جازمة راسخة غير قابلة للتعديل أو النسخ، بل تدخل في زاوية العلوم الظنية، ويُعتقد بها، ويُعمل بموجبها حتى يأتي ما يعدلها أو يُثبّتها.
فالإنسان يجب أن يعرف، هناك أشياء يجب أن يعتقد بها اعتقاداً جازماً، وما دام يعتقد بها اعتقاداً جازماً لأن أصلها نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، هذا ينبغي أن ينطلق إلى تنفيذها، أما في العقائد التي يغلب الظن فيها فهو يعمل بها ما لم يظهر دليل على عكسها أو دليل ينقلها إلى مرتبة الأخبار اليقينية.
قال العلماء: والعمل بالظن الغالب في فروع الأحكام الشرعية وارد، أي أنت هناك حديث الآحاد، الحديث المتواتر باللفظ أو المعنى يرقى إلى مستوى النص القطعي الثبوت قطعي الدلالة، أما حديث الآحاد أي هذا يجعل الاعتقاد به ظني الثبوت أو ظني الدلالة، قال العلماء: وهذا المسلك يُكتفى به في إثبات فروع الأحكام الشرعية العملية، الأصول تحتاج إلى قطع في الثبوت والدلالة، أما الفروع مقبول أن نستخدم بها النصوص الفرعية ذات الظن الغالب.
بقي علينا طريق أخير مزيف وهو طريق الأوهام، وطريق الخرافات، وطريق الخزعبلات، وطريق السحر، وطريق العوام، وهذا الطريق فاسد فساداً قطعياً، لأن الإنسان إذا تحرك بموجبه هلك، يسمع الإنسان من العوام أن هذا الزوج لا يحب زوجته لأنها قد سحرته، عوضاً من أن يستقيم على أمر الله ويغض بصره ويعاملها بالإحسان حتى تنشأ مودة يذهب إلى دجالين ليعطوه بعض المحاليل وبعض الأدوية وبعض الحُجب من أجل أن تحبه زوجته.
هذه مسالك كلها فيها أوهام وأباطيل، ويقول لك: إن الشيطان هو الذي وسوس لي، وهو الذي جرني إلى هذه المعصية، عندما يكون الإنسان كلامه بعيداً عن كلام الله فهو في بطل وفي ضلال.
دائماً وأبداً طابق بين كلامك وبين كلام الله عز وجل، صار عندنا طريق مزيف طريق الوساوس، طريق الخزعبلات، طريق الأوهام، طريق الشكوك، طريق العادات والتقاليد البالية التي ما أنزل الله بها من سلطان، هذه الطرق طرق خطرة في وصولها إلى مركز الاعتقاد.
إما أن الإنسان يسلك طريقاً مضحكاً في معالجته للأمور، هذا كله مبني على عقائد زائغة وأوهام وأباطيل وخزعبلات وترهات ما أنزل الله بها من سلطان، هذا كله لا يليق بالمؤمن أن يعتقد به، المؤمن يعتقد بما جاء في كتاب الله، وبما جاء فيما صحّ عن رسول الله.
ودائماً اجعل علاقتك مع الناس هذه العلاقة التالية؛ الذي ينقل لك خبراً ما اسأله عن الصحة، إن كنت ناقلاً فالصحة، والذي يبتدع لك نظرية ما اسأله عن الدليل، إن كنت ناقلاً فالصحة وإن كنت مبتدعاً فالدليل، يقول لك: يا أخي قال العالم الفلاني: إن القضية الفلانية حلال، شيء جميل، انظر الجاهل، هو قال؟ أعوذ بالله هو قال، وفي أي مجلس قالها؟ هل مطبوعة في كتابه؟ أين هي؟ تحقق، أكثر الدجاجلة يُعزون بعض المعاصي إلى فتاوى مزيفة قالها بعض العلماء، والعلماء منها بريئون، هل سمعته أنت هو يقول هذا؟ يقول لك: لا، هل قرأت هذا في كتابه؟ يقول لك: لا، اذهب إليه واسأله، إن كنت ناقلاً فالصحة وإن كنت مبتدعاً فالدليل.
أنا أرى أن الإنسان لا ينبغي له أن ينظر إلى زوجة أخيه، ما هذا الكلام؟ الناس كلهم هكذا، هذه نظريتي، قل له: ما الدليل؟ يأتيك بآية وهذا تفسيرها، انتهى الأمر، يأتيك بحديث صحيح، انتهى الأمر، تعامل مع الناس بهاتين الطريقتين، إذا نقل لك إنسان شيئاً قل له: ما برهان صحة هذا النقل؟ وإذا إنسان ادّعى شيئاً قل له: ما الدليل العقلي والنقلي؟ طالبه بالدليل النقلي حديثاً أو آية، وطالبه بالدليل العقلي، إذا قدّم لك دليلاً عقليّاً ودليلاً نقلياً انتهى الأمر، وسوف ننتقل في درس قادم إن شاء الله إلى متابعة هذه الفصول من العقائد الإسلامية.
الملف مدقق