وضع داكن
24-12-2024
Logo
العقيدة الإسلامية - الدرس : 01 - العقيدة أصل من أصول الدين – القوة الإدراكية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

العقيدة أصل من أصول الدين:


أيها الإخوة الكرام: وعدتكم في الدرس الماضي أن نبدأ موضوعات متعلقة بالعقيدة، والعقيدة تُعدّ من أصول الإسلام، الإسلام فيه أصول وفيه فروع، الفقه من الـفروع, والعقيدة من الأصول، إذا صحت العقيدة صحّ العمل, وإذا فسدت فسد العمل، أي إذا اعتقدت أن الله تعالى قبض قبضة، وقال: هذه إلى الجنة ولا أبالي، وقبض قبضة وقال: هذه إلى النار ولا أبالي، والقضية انتهت، هذه العقيدة تُثَبط همة المؤمن. 
طبعاً هذا الحديث له تفسير أيضاً، فالبحث في العقيدة مهم جداً بل هو خطير جداً، لا يعني هذا الكلام أنني الآن بعد اثنتي عشرة سنة من تدريسي أبحث معكم في موضوعات العقيدة، موضوعات العقيدة بحثناها مئـات المرات، في الخطب، وفي التفسير، وفي الحديث، وفي السيرة، وفي الدروس، لكن بحثناها على شكل موضوعات متفرقة أما بحثها على شكل موضوعات متكاملة متتابعة هذا بدأناه الآن أول مرة.  

من عرف نفسه عرف ربه:


الموضوع الأول في العقيدة هناك موضوعات تمهيدية؛ ورد: من عرف نفسه عرف ربه ، واليوم الحديث عن النفس, عن هذه التي بين جوانحنا، عن هذه التي في الصدور، والتي وصفها الله عز وجل فقال هي في الصدور، قال: 

﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)﴾

[ سورة الملك ]

وعن هذه النفس التي هي ذات الإنسان.
قبل كل شيء الإنسان مخلوق من نوع خاص، أي الكون كـلـه مــا فـي السماوات ومـا في الأرض مسخرٌ له, فإذا كان الكون كله مُسـخَّراً له فأيهمـا أكـرم عنـد الله الكـون بأكملـه أم هذا الإنسان الذي سُـخر الكون كله من أجله؟ العقل يقول: المُسخَرُ له أكرم من الشـيء المُسـخَر، المُسخَرُ له أكرم من الشـيء الذي سُخِّر له، فالإنسان كما قال الله عز وجل: 

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾

[ سورة الإسراء ]

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾

[ سورة الأحزاب ]

هذا الإنسان المُكرَّم زوَّده الله بوسائل التكريم.
 

طرق تكريم الله للإنسان:


من وسائل التكريم هذه القوة الإدراكية، في الإنـسان قوة إدراكية، هذا الحائط، هذه الطاولة، هذه الأدوات، هذه الأحجار، هذه لا تُدرك، أنت أيها الإنسان مميز، ومُفضّل، ومُكرَّم بهذه القوة الإدراكية.
مثلاً: مجتمـع الـقرود منذ أن وجدوا على ظهر الأرض وحتى الآن، هل طرأ على حياتهم تطور؟ هل سكنوا في البيوت؟ هل اخترعـوا أجـهزة؟ هل نظموا مجتمعهم؟ القرد هو القرد، لا يتغير ولا يتبدل، ما هو الفرق الجوهري بين الإنسان والحيوان؟ هذه القوة الإدراكية، الإدراك. 
الإنسان إذا عـطّل إدراكـه عطّـل إنسـانيته، أي إذا عـطّل إدراكـه جعل نفسـه فـي صفّ الحيوان، هذا قول واحد، فالموضوع متشعب جداً أنا أريد أن يبقى في مجال واحد، اليوم درسنا هذه القـوة الإدراكـية التـي خصّـهـا الله للإنـسان والتـي يتميز بها عن سائر المخلوقات ولاسيمـا الحيوان، هذه القوة الإدراكية لها مشكلة، أنها عالة على العالم الخارجي والعالم الداخلي، فهذه القوة الإدراكية مـن دون عالـم خـارجـي ومن دون عالم داخلي لا قيمة لها، تتعطل. 
 

نوافذ الإدراك:


العالم الخارجي؛ الله سبحانه وتعالى خلق لنـا نوافـذ تُطلّ عليه، فالبصر نافذة، والشم نافذة، والسمع نافذة، والذوق نافذة، والإحسـاس بالحرارة نافذة، والإحساس بالبرد نافذة، والإحساس بالضغط نافذة، الحواس، الأعصاب، السمع، البصر، الشم، الذوق، اللمس، هذه نوافـذ القوة الإدراكية على العالم الخارجي، لو تخيلنا أن إنساناً أوتي من الذكاء ما لم يؤتَ أحـد من العـالمين وكان كفيف البصر، هل يستطيع أن يفهم ما هو الـلون الأحمر؟ وما الفرق بينه وبين اللون الأخضر؟ وأيهما أجمل الأزرق أم البنفسجي؟ كـلمة أبيض، أحمـر, أصفر، أخضـر, أزرق, بنفسـجي، أسود، برتقالي، هذه كلمات لا معنى لـها إطلاقاً، إذاً هذه القوة الإدراكيـة تستعين بهذه النوافذ، لذلك ربنا عز وجل قال: 

﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)﴾

[ سورة البقرة ]

القوة الإدراكية تحتاج إلى سمع وإلى بصر وإلى نطق، مادام أصم، أبكم، أعمى إذاً لا يعقل، هذه إشارة قرآنية، وقال تعالى: 

﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)﴾

[ سورة الأنفال ]

هذا الذي خُلّق أصـم قل له: أيهما أجمل صوت البلبل أم صوت الغراب؟ يقول لك: لا أعرف، ما نوع صوت البلبل؟ ما سمع صوت البلبل ولا صوت الغراب ولا صوت الشلال ولا صوت الرعد، إذاً مهما كان الذكاء متميزاً مادامت النـوافذ المطلة على العالم الخارجي مغلقة فـالإدراك منعـدم. 
 

محدودية الحواس بقدر الله:


شيء آخر مهم جداً وهو أن هذه الحواس خلقها الله سبحانه وتعالى بقدَر، قال الله تعالى: 

﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)﴾

[ سورة القمر ]

فأنت تُمسك هذا الكأس من الماء فتـراه ماء صـافياً، لو وضعت منه قطرة تحت مجهر لرأيت في هذه القطرة آلاف الحيوانات، الجراثيم، البكتريات، الـعُصيات، آلاف بل مئات الألوف إنك لو نظرت إلى قطرة ماء تحت المجهر لاستحال عليك أن تشرب هذا الماء، ماذا تستنتج؟ إن هذه القوة الإبصارية محدودة، تستطيع أن ترى بعد مئة متر، مئتين، بعد ذلك تقول: لا أرى شيئاً، طبيب العيون يضع لك لوحة على بعد أربعة أمتار، خمسة أمتار، حرف c هذه إلى أين فتحتها؟ تقول: هذه إلى هنا، لكن حرف كبير، هذه إلى فوق ، هذه تحت، كلما صغُر الحرف تأتي إلى مستوى تقول: لا أعـرف، يقول لك:  8/10 - 7/10 - 3/ 10، 10/10، لكن لو صغرنا أيضاً لا تعرف، إذاً هذه القوة الإبصارية لـها حدود: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ وحدودها من تقدير عزيز، عليم، خبير، بصير، حكيم، لو زادت قوة الإبصار أكثر من ذلك لما رأينا في الأرض جَمالاً، لما رأينا وجهاً صبوحاً، تصوروا بعض الأمـاكـن في أنعـم جـلد بشـري مثل جبل كله مغارات ووهدان ونتوءات وشيء لا يُحتمل، عندما تمّ تـكبير أنعـم جـلـد بشـري تحت مجهر يكبر 300000 مرة كان المنظر لا يُحتمل، لو أن هذه العين كـانـت قـوة إبصـارهـا أكثـر ممـا هـي عليه لما كان في الأرض جمال أبداً، ما أحبّ أحد أحداً، أعوذ بالله له وجه يكون نفس الناظر وجهه لا يُنظر إليه، فهذه قوة الإبصار محدودة، وهذه  من نِعَم الله عز وجل. 
الهواء فيه صور، من يرى تـلك الصـور؟ الـدليـل فـي أجهزة التلفاز يلتقط الصور،  التي لا تستطيع عيناك أن تراها, الفضـاء مليء بالصور، قوة الإبصار محدودة، الهواء مليء بالأصوات, البث الإذاعي في العالم العربي كم إذاعة فيه؟! كل هذه الإذاعات أمواجها الصوتية مبثوثة في الفضاء، لكن جهاز المذياع يلتقط هذه الموجات أمـا هذه الأذن فلا تستطيع ذلك، هذه من نِعمة لله عز وجل، لو الشخص يلتقط الموجات الإذاعية كلها، ليس بمزاجك، أخي لا أريد أن اسمع هذه الإذاعة، ليس بمزاجك، كلها يجب أن تسمعها، إنكليزي، تركي، يجب أن تسمعها كلها، إذاعة لا تحب أن تسمعها، إجباري، الله عـز وجـل جعل هذه الأمواج الإذاعية لا تسمعها أنت.
 

الحكمة الربانية في تحديد الأشياء:


شيء آخر؛ هذه الأصوات لو كان سوق النحاسين عندنا هنا هل يمكن أن يكون هناك درس علم؟ لا يوجد مجال، لو أن الإنسان يسمع كل الأصوات أصوات المعامل، أصوات الرعد بجنوب الكرة الأرضية، أمواج البحر المتلاطمة، الانفجارات، تفجير بعض القنابل، بعض المناورات العسكرية، لو كانت كل شيء على وجه الأرض الأمواج كأمواج الأثير لا تخمد هذه الأمواج، فالحياة  مستحيلة بالأرض، كي تعرف معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ الموجة الصوتية عندما تضعف إلى أن تتلاشى هذه نعمة لا تقدر بثمن ، الدليل: هناك موجة لا تتلاشى, كيف بعثـوا مـركبة إلـى المشـتري بقيت هذه المركبة تسير بسرعة 40000كم في الساعة، ومع ذلك بُثّت صوراً للأرض، هذه الصور بُثّت على شكل أمواج، هذه الأمواج بقيت على حـالتـها، سـعة المـوجـة لم تَقِل، إذاً الله قادر أن يخلق موجات تحافظ على سعتها، لـو أن المـوجـات الصـوتية التـي في الأرض بقيت محافظة على سعتها لأصبحت الحياة في الأرض مستحيلة، ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ وهـكذا الســمع، والبصـر، والشـم، الشـم أيضاً محـدود، ـلو أن الإنسـان يشـم الروائـح الكريـهة لمســـافـات بعيـدة لو ماتت دابـة بطريق درعا السكنى بالشام تصبح مستحيلة، لكن رب العالمين لحكمة بالغة هذه الروائح بعد مئتي متر، ثلاثمئة متر تنتهي، تكون راكب سـيارة تشم رائحة جيفة تنزعج خمس دقائق تذهب الرائحة، معنى هذا انتهت الرائحة، إذاً يوجد محـدودية للحواس. 
 

إنكار الأشياء غير المحسوسة أمر غير علمي:


أول شيء أن هذه القوة الإدراكية تحتاج إلى نوافذ تُطلّ على العالم الخارجي، هذه النوافذ لحكمة بالغة ولرحمة بالغة ولخبرة بالغة جعلها الله محدودة، لكن هنا بالعقيدة يوجد نقطة مهمة جداً؛ مادامت هذه الحواس محدودة مثلاً هناك أجهزة تطرد البعوض والذباب، كيف؟ تصدر أصواتاً تُزعج البعوض والذباب أما الإنسان لا يسمع هذه الأصوات، تسمى هذه الأصوات دون عتبة السمع، تجد ولا ذبابة، الآن هناك أجهزة حـديثـة جداً لـلقوارض، الذي عنده مستودعات فستق، مستودعات قلوبات هذه غالية جداً، حتى يضمن عدم وجود أي قارض، يضع جهاز يُصدر صوتاً أنت لا تسمعه لكن القارض إذا سمعه هرب منه، هذه الأصوات التي  دون عتبة السمع هل يجوز لعاقل إنكارها؟ لأنه لا يسمعها، هنا سؤال، هذه الأصوات التي تُصدرها هذه الأجهزة العاقل هل يستطيع إنكارها؟ لا بحجة أنه لا يسمعها، نقول له: إن حواسك محدودة، هذه النقطة التي أريد أن أصل إليها، علماء التوحيد قالوا: عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.
أحياناً الآن يوجد أجهزة ترى في الليل في الظلام، وهناك أجهـزة تـلتقط الأصوات التي لا تسمعها أنت، هل بإمكانك أن تُنْكر هذه الأصوات؟ هناك أجهزة تكشفها، هل بإمكانك أنت أن تُنكر هذه الصور؟ هناك أجهزة تلتقطها، إذاً حواسنا محدودة، فإذا شخص قال: أنا لا أرى الله مثلاً أيـن هو؟ هذا هو الغباء وهذا هو الجهل بعينه، لأن عـدم الوجـدان لا يدل على عـدم الـوجود، لأن حواسنا محدودة لحكمة بالغة، إذًاً من هذا نستنبط أن الشيء الذي لا تراه يمكن أن يكون موجوداً، ويمكن أن يكون وجوده أخطر من وجودك أنت، لكنك لا تراه, من يُنكـر أن هناك قوة جذب بيـن الأرض والشمس؟ قولاً واحداً، هذا قانون التجاذب، قانون جاذبية، قانون مفروغ منه، هناك تجاذب بين الكتل المادية بحسب حجم الكتلة ومربع المسافة بينهما، فكلما كَبُرت الكتلة زاد الجذب، وكلما صَغُرت قلّ الجذب، وهناك علاقة بالمسافة، هل ترى بعينك هذه القوة؟ التي تجذب القمر إلى الأرض؟ لا تراها بعينك هل تنكرها؟ لا، فعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، هذه حقيقة مُسلَّم بها.
قال: معلم أراد أن يـبث الإلحـاد في طلابه فقال: نحن لم نشاهد الخالق، فهو إذاً  غير موجود، قال: قام طفل صغير فقال لهذا الأستاذ: نحن جميعاً أيها الأستاذ لم نر عقلك الذي تفكر به، إذاً أنت لا عقل لك، قياساً على هذه القاعدة الواهية العقل لا يُرى, تُرى آثاره، إذا إنسان مشى بالطريق من دون ثياب أين عقله؟ لا عقل له، الدليل تصرفاته، العقل هل يُرى بالعين؟ لا يُرى بالعين، لا يوجد رأس لا يوجد فيه دماغ، المجنون أليس له دماغ؟ بلى، أين عقله؟ العقل لا يُرى بالعين. 

العالم الداخلي:


شـيء آخـر فـي الـقوة الإدراكية، طبعاً يوجد موضوع ثان أنك أنت تُكوِّن بعض الحقائق من عالمك الداخلي، لأن النفس تغضب وتفرح وتحزن وتخاف وتقلق وترجو وتستكبر، هذه المشاعر تُدركها أنت لا من طريق العالم الخارجي بل من طريق العالم الداخلي، فهناك نوافذ داخلية وهناك نوافذ خارجية، يوجد بيوت لها نافذة على حديقة المنزل داخلية ونافذة على الطريق، فكذلك الإنسان له نوافذ تُطلّ على العالم الخارجي منها يُكوِّن مُدركاته، وله نوافذ تُطل على العالم الداخلي ومنها يُكوّن أحاسيسه. 
 

الخيال:


الآن الخيال؛ ما هو الخيال؟ القدرة علـى التصور، أحياناً الإنسان يتصور عنده بيت طابق واحد، أمامه يوجد مسبح ضمن حديقة مساحتها دونم، عنده صف على اليمين أشجار سرو، وهناك أشجار مثمرة كرز وأجاص ودراق وتفاح، وهناك مسبح، وهناك حديقة فيها ورود ورد بلدي وزنبق، هو لا يملك شيئاً، لا يوجد عنده ثمن بيت، لا يوجد معه ثمن قطعة إسمنت، ما هذا الخيال؟ قبل أن ينام تخيل بيتاً ممتازاً، فالخيال هو قدرة على التصور، قل لإنسـان: تخيـل لي مسكناً؟ يتخيل مسكناً له سقف وجدران وأرض، هل يسـتطيـع إنسان أن يتخيل شيئاً غير موجود؟ الجواب لا، يتخيل حورية رأسها رأس امرأة وجسمها جسم سـمكة، السمكة موجودة والمرأة موجودة لكنه هو ركّب، جمع بين امرأة وسمكة، فالخيال البشري لا يستطيع أن يخلق شيئاً من لا شيء، إنما يخلق شيئاً من شيء، يجمع، شخص تخيل شجرة تحمل زجاجات شراب، تخيل، هذه الزجاجة موجودة والنبات موجود، إنسان تخيل حيواناً مثلاً، طوله ثلاثون متراً، خيال، لأن هناك حوتاً طوله ثلاثون متراً، إذاً الـخيـال أيضاً مـربوط بالواقع، لا يوجد عند إنسان القدرة على التخيل إلا من الواقع، أحياناً يتخيلون إنسان المريخ، رأس وجسم وأيدي وأرجل، يغير مكان العيون قليلاً، يُكبر الرأس قليلاً يعمله كرة مثلاً، يجعل لليدين مفاصل آلية، يقول لك: هذا إنسان المريخ.
هل يستطيـع أن يتصور إنساناً من دون يدين؟ من دون قدمين؟ من دون رأس؟ من دون جذع؟ لا يستطيع.
 

محدودية الخيال ليس دليلاً علمياً على رؤية الغيبيات:


هنا الآن توجد نقطة مهمة ثانية؛ إذا كنت لا تستطيع أن توجد صورة خيالية من لا شيء فكيف في إمكان الإنسان أن يتخيل الجنة ولم يرها؟ فالخوض في الغيبيات إذاً ليس من باب العقل: 

(( عن الله عز وجل عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَر،ٍ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) . ))

[ صحيح البخاري ]

فـالخيال يـجب ألا يجول في العالم الآخر، لأن الخيال لا يأتي إلا بشيء من شيء، أما هناك لم تر من هناك شيئاً، إذاً العلماء قالوا: نحن نكتفي بعالم الغيب بالخبر الصادق الذي ورد في كتاب الله فقط، أكثر لا تغير، فإذا كـنت عـاجـزاً عـن تخيـل الجنة فهل تستطيع أن تتخيل ذات الله عز وجل؟ مستحيل، لذلك قيل: تفكروا في المخلوقات ولا تفكروا في الخالق فتهلكوا، لا تستطيع.
 

العقل من آيات الله الدالة على عظمته:


عقلك مـربـوط بـحواسـك، وخيـالـك مربوط بالواقع، ولن تستطيع التجاوز، هذا الكلام أريد منه شيئاً مهماً جداً وهو أن العقل أو الفكر البشري حينما يعجز عن الوصول إلى شيء ليس هذا يعني أن الشيء غير موجود، لكن العقل الذي أُعطينا إياه ذو طاقات محدودة، ومحدودة لحكمة بالغة أرادها الله عز وجل، أحياناً ميزان مكتوب عليه: ثلاثون كيلو غرام، تريد أن تزن به سـيارة؟! أخي ثبت لي إياه حتى أصعد عليه لأعرف كم وزن السيارة، فتلف الميزان، ما هذا النوع؟ هذا النوع سيئ، لا ليس سيئاً، هذا الميزان مخصص لوزن ثلاثين كيلو غرام، وليس لوزن لسيارة، فلما الإنسـان يكلف عقله بشيء فوق طاقته ويخفق، الخطأ ليس في عقله وليس في الشيء، الخطأ في سوء اسـتخدام العقل، هذه ناحية مهمة جداً.
العقل مربوط بالواقع، والواقع فيه زمان ومكان، مثلاً قل لإنسان: وقعت جريمة، يقول لك أين؟ ومتى؟ بشكل لا شعوري، هذا العقل البشري لا يوجد عنده إمكانية يتصور حدثاً إلا ولـه زمـان إلا وله مكـان, لـكـن الخـالـق ليـس كمثلـه شيء، لا يُسأل عنه بأين هو؟ لأنه خالق المكان، ولا يُسـأل عنه متـى كـان؟ لأنه خـالق الـزمان، فكلمة متى وأين في حق الله مستحيلة، هو الذي خلق الـزمان والـمكان، المكان والزمان من مخلوقاته، فمضى ثلاثون سنة، مليون سنة، مليار سنة، هذه لنا، أما في حقّ الله عز وجل الزمان صفر، لا زمان، هو لا يقيده زمان ولا مكان. 
 

محدودية العقل:


شيء آخر؛ الكون غير محدود, أما العقل يقول: لابد من أن يـكون محدوداً، يجب أن ينتهي، أبعد مجرة توصلوا لها تبعد 18000 مليون ســنة ضوئية, وقد يكـون هنـاك مـجرات أخـرى، لكن بالنهايـة الكـون محدود، فالعقل كيف يستطيع أن يدرك اللامحدود وهو الله عز وجل؟ مستحيل، لذلك: 

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)﴾

[ سورة البقرة ]

يقول الإمام الشافعي: إن للعقل حدّاً ينتهي إليه كما أن للبصر حدّاً ينتهي إليه.
والإمام الغزالي يقول: لا تستبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور قد يظهر فيه ما لا يظهر في العقل.
هذا شيء فوق إمكان إدراكه، لكنه موجود، لأن العقل محدود، والعقل مرتبط بالمكان والزمان:

﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)﴾

[ سورة النمل ]

عرش بلقيس كيف جاء؟ تصور نفسك تريد أن تنقل عرشاً من اليمن إلى القدس، ألا تحتاج أول شيء إلى كونتينرات تضعه به؟ ألا تحتاج إلى شحن جوي؟ ألا تحتاج شاحنات للمطار؟ من المطار للطائرة، ألا تحتاج خمس أو ست ساعات؟ ﴿قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ فهناك أشياء موجودة لكن العقل محدود، فالإنسان العاقل -كما قلت قبل قليل-عـدم الـوجدان لا يدل على عدم الوجود.
الفكـر البشـري محدود بالحواس، والحواس محدودة، تحده الحواس والحواس محدودة، وخيـاله يحده الواقع والواقع محـدود، فـأنـَّى لـهذا الفكـر البشـري المـحـدود بالحواس والحـواس يحـدُّهـا الواقـع وأنّى لهذا الخيال البشري المحدود بالواقع والواقع محدود أن يدرك اللامحدود؟ إذاً معرفة الله لا تـكون إلا من معرفة آثاره فقط، معرفة الذات مستحيلة، معرفة الذات كما لو وضعت ورقة سيجارة أرق شيء في فرن صهر الـحديد، وقلت: ماذا حلّ بها؟ من الوهج ذابت، من فوق، من بعد متر من إلقائك أصبحت بخاراً، طبعاً، فالإنسان عاجز عن معرفة ذات الله, ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ لذلك قيل: إذا ذُكر القضاء والقدر فأمسكوا.
لا تتعمق كثيراً، لا تتعمق بذات الله، كيف يعرف الله عز وجل؟ علمه كيف؟ أنا أقول: يعـلم بلا كيف أفضل شيء, كلمة مختصرة مفيدة، يعلم بلا كيف، كيف يعرف ما سيكون؟ هناك أماكن خطرة في العقيدة ينبغي أن تقول: 

﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)﴾

[ سورة الإخلاص ]

أنا أردت من هذا الكلام أن هناك موضوعات مـن اختصـاص الـفكر البشـري، وهناك موضوعات أخرى فوق اختصاصهم، فينبغي عدم الخوض فيها أولاً، وإذا عجز الفكر عن إدراكها لا ينبغي أن ننكرها، لا، عـدم الـوجدان لا يدل على عدم الوجود، هذا موضوع تمهيدي، القوة الإدراكية في الإنسان هذا مما كرم الله به الإنسان.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور