وضع داكن
29-03-2024
Logo
الحج - الدرس : 11 - أركان الحج والعمرة
  • الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
  • /
  • ٠5الحج
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .

الحج رحلة روحية إلى الله تعالى :

أيها الأخوة الأكارم ؛ مع اللِّقاء الثاني من دروس الحج ، ففي اللِّقاء الأول تحدَّثنا عن آداب السَّفر ، والحج سفر إلى الله عز وجل ، ورِحْلةٌ روحِيَّة إلى الله تعالى ، وفي هذا اللِّقاء الحديث عن أركان الحج ، بهذا سَنَدْخل في صميم مناسك الحج .
أنتم لا يعْنيكم أركان الحج عند أبي حنيفة وعند الشافِعي ، فَكُلُّ حاجٍ عليه أن يؤدي الأركان والسُّنن والشروط ، فأركان الحج عند أبي حنيفة الوُقوف بِعَرَفة ، وطواف الإفاضة ، فهي عنده - رحمه الله تعالى - رُكْنان ، والشيء الذي يُؤْلِمُ ألَماً كثيراً أنَّ حُجاجاً كثيرين عادوا إلى أوطانهم ولم يَطوفوا طَواف الإفاضة .
يا أيها الأخوة الأكارم ، إنَّ هذه العِبادة هي عِبادة العُمْر ، وهي فيه مَرَّة واحدة ، وهي من أرْقى العِبادات ، فلا بدَّ من أن تتَفَقَّهَ في مناسِكَها وشُؤونها ودقائِقِها ، وهي عند الإمام الشافِعي الإحْرام ، والوُقوف بِعَرَفَة ، والطواف ، والسَّعْي ، والحَلْقُ أو التَّقْصير ، والترتيب بين الإحرام والوقوف والطواف ، فإذا قلنا : عند الشافعي سِتَّة ، وعند أبي حنيفة اثْنان ، فَكَيْفَ نُوَفِّقُ بينهما ؟ فهذه الأربعة تنْقلب عند الإمام الحنفي إلى واجِبات ، فكما قُلْتُ قبل قليل : لا يعْنيكم هذه الخِلافِيات فلا بُدَّ أن تُحْرِموا وتَقِفُوا بِعَرَفة وأن تطوفوا وأن تَسْعوا وتُحَلِّقوا أو تقْصروا ، وأن تطوفوا طَواف الإفاضة ، إذاً نحن نَدْخل الآن إلى صميم الدَّرْس .

الإحرام في الحج :

أوَّلُ شيءٍ هو الإحْرام ، وفي الحقيقة من الأخْطاء الشائِعَة عند بعض الحُجَّاج أنَّهُ بِمُجرَّد أن يخْلع ثِيابه ويرْتدي ثِياب الإحْرام يظُنُّ أنَّهُ قد أحْرم ، لو تَصَوَّرْنا أنَّ إنْساناً دخل الحمام وخلع ثِيابه واغْتَسَل وارْتَدى مناشِف ليتنَشَّفَ بها فهل أحْرم ؟ الإحْرام ليس هذا ، لكنَّ الإحْرام أساسه نِيَّةُ الحجّ والدُّخول فيه ، لأنَّ الحجَّ عِبادةٌ عظيمة ، فإذا بدَأْتَ بِها كان عليك إتْمامها لِقَوْل الله عز وجل :

﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾

[ سورة البقرة : 196]

فهي عِبادة من أرْقى العِبادات ، فَبِمُجَرَّد أن تبدأ بها عليك إتْمامها ، وهناك تَلْبِية خاصَّة فيما إذا كان الحاج أصابه أمْرٌ قاهِر ، كما حصل في العام الماضي ؛ أُناسٌ كثيرون ما تمَكَّنوا أن يَقِفوا في عَرَفَة ، فما حُكْمهم ؟‌ بعد قليل نَصِل إلى هذا الموضوع . فالإحرام نِيَّةُ الحجّ والدُّخول فيه ، وليس هو مُجَرَّد خَلْعِ الثِّياب ، ولُبْس الإزار والرِّداء ، وثمة مُلاحظات ، فَبَعْضُ الحُجاج يحْرِمون من بُيوتِهم ، وهذا جائِز ، إلا أنَّني لا أنْصَحُهُم أن يفْعلوا هذا ، لأنَّك إذا أحْرَمْتَ من بيْتِك ، ولِسَبَبٍ قاهِر لم تتمَكَّن من السَّفَر ، فأنت مُحْرِم ، وتُطَبَّق عليك كُلّ مَحْظورات الإحرام ، لذلك لا تُحْرِم إلا وأنت في الطائِرَة ، وهناك حُجاج أحْرموا ولم يتيسَّر لهم الحج ، فعادوا إلى بُيوتِهم ، وظنُّوا أنَّ الحج أُلْغي ، فالْتَقوا مع زوْجاتِهم ، وقد فعلوا كبيرة من كبائِر الحج ، إذاً لا تُحْرِم إلا وأنت في الطائِرَة ، من أجل أن تضمن أنَّ الإقْلاع قد حصل ، لكن بالمناسبة هناك طَيَّارون لا يعْبَؤون بِمَناسِك الحج ، ولا يُبَلِّغونهم الميقات فأنا أنْصَحُكم نصيحة ثانِيَة ، وهي أن تُحْرِموا بعد نِصْف ساعة من إقْلاع الطائِرَة ، أما الإحرام الصحيح فهو بعد ساعة .
الآن نتحَدَّث عن الإحْرام من دمشْق ، أو من المدينة فهو واحد ، الإحرام أيها الإخوة له ميقات زماني وله ميقات مكاني ، فأما الميقات الزماني فهُوَ شَهْرُ شوال وذو القِعْدة وعَشْر ليالٍ من ذي الحجَّة ، ولا يَصِحُّ الإحرام قبل هذه الأشْهر ، ولا بعدها إذْ يكون الحج قد انتهى ، ولو أنَّه أحرم قبل هذه الأشهر كان إحْرامه عُمْرَةً ، أما الميقات المكاني فيخْتَلِف على حسب مَوْطن الحاج .
وبادِئ ذي بدْء ، لدينا حاج آفاقي وحاج مكِّي ، فَمَن كان بلده مَكَّة ، أو من كان مُقيماً بين مكَّة وبين حُدود الميقات ، فهذا الحاج ليس آفاقيًّا وله أحْكام خاصَّة ، ولكِنَّنا كُلُّنا حُجاج آفاقيون ، أي نقْطُن خارِجَ حدود الحرم ، فميقات إحرام الحاج آبار علي إن كان من أهل المدينة ، والجُحْفة أو رابِغ إن كان من أهل الشام أو أهل المغرب أو مصْر ، وقرن المنازل إن كان من أهْل نجْد ، ويَلَمْلَم إن كان من أهْل اليمن أو تِهامة ، وذاتُ عِرْق إن كان من أهْل العِراق ، وقد قال العلماء : هذه المواقيت لِمَن كان بِها ، ولِمَن مرَّ بها ، فالصينيون إنْ جاؤوا من العراق فَميقاتهم كأهل العراق ، وأهل المغْرب إن جاؤوا من جهة الشام فميقاتهم كأهل الشام وهكذا .
بالمناسبة هناك خطأ يُمْكن أن يقع فيه الحاج ؛ وهو حينما جمع أغراضه في المحافظ الكبيرة وضع المناشف مع هذه الأغراض ، وحينما أقْلَعَت الطائرة قال : أعْطونا المناشف هذه لا حلَّ لها ، إذا دَخَلْتَ منطقة الحرم وأنت غير مُحْرم يجب عليك الدمّ ، أما إذا دخلْتَ مُتَعَمِّداً فلا يصِحُّ حجُّك إطلاقاً ، فلو أنَّ غَنِياً قال : أنا لا أحبّ أن أرتدي لِباس الإحرام إذا دخلت مكَّة فماذا عَلَيَّ ؟‍ يقولون : عليك كذا وكذا ، فيقول : أنا أدفع ثلاثة أضعاف ما تقولون ‍! فنحن نقول لِهذا الصِّنْف : لو دفعْت ألف مليون لما صَحَّ حجُّك ! فالذي يقصد الخطأ ويتعمَّده لا يصِحّ حجُّه البتَّة ، أما الناسي والساهي فعليه دم فقط ، فالملاحظة المُهِمَّة أنَّ ثياب الإحرام يجب أن تكون في مِحْفظة اليد ، لا في محفظة الشحن .
وكما قلتُ قبل قليل يجوز أن يُحْرِم الآفاقي من بيته قبل الوصول إلى الميقات ، إلا أنَّ الأفضل الإحرام من الميقات ، والأحْوط قبل الميقات بقليل مثلاً كنت في رِحْلة للحج قبل عامين أو ثلاثة ، وَزَّعوا الطعام ، ووزَّعوا مناديل مُعَطَّرة ، ولم يتجَشَّم الطيار أن يُبَلِّغ الحُجاج أنَّ هذه المناديل توجِبُ عليهم هدْياً ! أقول لكم هذا الكلام ، هناك طيارون لا دين لهم ، ولا يعْرفون شيئاً من الدِّين ، لذا الأفضل الإحرام بعد نصف ساعة من إقلاع الطائرة حتى يتجنَّب المرْء الخطأ ، أو أنَّ الطيار نَسِيَ أن يُذَكِّر بهذا ، فإنْ كان الحاجُّ مُقيماً بين حُدود الميقات وبين مَكَّة فإحْرامُهُ من قَرْيَتِه ومن مكان إقامَتِه ، أما إذا كان مُقيماً بِمَكَّة فيُحْرِمُ من بيتِه .
هناك حالة من الحالات ، وهي لو تجاوَزَ الحاجُّ الميقاتَ وهو يريد حجَّة أو عُمْرة ولم يُحْرِم ، فلهُ خِياران ؛ إما أن يعود إلى ميقات بلدِهِ وإما عليه الدَّم .

آداب الإحرام :

أمّا آداب الإحْرام ، فيُسْتَحَبّ إذا أراد الحاجُّ الإحرامَ أن يقوم بالأعْمال التالية :
أوَّلاً : الغُسل ، يغْتَسِلُ اغْتِسال الإحرام ، وغُسْلُ الإحرام سُنَّة ، حتى الحائِض والنُّفساء ، الذي معه زوْجَتُه بِإمْكانها أن تفعلَ كُلَّ شيءٍ في الحجّ إلا الطواف والصلاة ، أما الإحْرام ، والتَّلبِيَة ، والوُقوف بِعَرَفة ، فإن لم يجِد الحاج فلْيَتَيَمَّم ، والغُسل أحبّ .
ومن لوازِم الغُسل اسْتِكْمال التَّنْظيف بالحَلْق ، وقَصِّ الأظافر ، والنَّتْف وقص الشوارب ، أي التنْظيف لا بدّ أن يكون كامِلاً ، من حلْقٍ العانة ، والإبِط ، وغَسْلِ الرأس بالصابون ، ونحوه ، هذه من سُنن الإحرام ، ثمَّ خلْعُ المخيط والمحيط ، فلو فَرَضْنا أنَّ هناك ثِيابًا ليسَتْ مَخيطة ، ولَكِنَّها مُحيطة فهي لا تجوز ، لكنَّ المنْشفة لو دَرَزْت الخيوط الخارجة منها شرْط أن تكون سائِبة فلا مانع ، أما المرأة فتَلْبسُ كُلَّ شيء ، بل حجّها يقوى كلَّما أكثرتْ من اللِّباس وتَسَتَّرَتْ .
والتَجَرُّد عن المَلْبوس المَحظور للمُحْرِم ، وأن يلْبِسَ رِداءً ، وهو ما يضعُهُ الحاج على كَتِفَيْه ، لِيَسْتُرَ به جُزْءَهُ الأعلى ، هناك مُلاحظة ؛ ثمّة حُجاجٌ كثيرون يَخْلعون هذا الرِّداء فما دام هناك حجاج وحاجات فهل من اللَّباقة ومن أدب الحاج أن يبْدُوَ أمام النِّساء عارِياً من قِسْمِهِ الأعلى ؟! فأنا أتمنى من إخواننا أن يكونوا في المُسْتوى الأعلى من الأدب ، لذلك فهذا الرِّداء يوضَعُ على الكَتِفَيْن ، ولك أن تجْمَعَهُ ، فأصبح الكتفان والظهْر والصَّدْر مُغَطّى بِهذا الرِّداء ، والإزار هو ما يسْتر به الحاج عَوْرته من سُرَّتِه إلى رُكْبَتيْه ، وكثيرٌ من الأشْخاص تَجِدُ الإزار تحت سُرَّتِه ، معنى ذلك أنَّ سُرَّتَهُ مَكْشوفة ، فلا بدَّ أن تضع الحزام بِقِسْمٍ عالٍ ، وينبغي أن يكون الإزار واسِعاً لِيَلُفَّ الحاج عِدَّة لَفات ، وينبغي أن يُباعِدَ بين قَدَمَيْه حينما يلُفُّه عليه ، أما إذا لَفَّهُ وهو متقارب القَدَمَيْن شَعَر بِصُعوبة الحركة ، كما أنَّ المناشف القصيرة لا تصْلح إطْلاقاً ؛ لأنَّهُ ليْس في الحجّ أبْشع من أن تظْهر عَوْرةُ الحاج ، فلِإخْواننا الذين لم يَحُجُّوا القَضِيَّة ليْسَت سَهْلة ترْتَدي مَنْشَفة بلا ألْبِسَة داخِلِيَّة ، وأن تبْقى مُحْرِماً عَشْرة أيام ، ولا تبْدو عَوْرتُكَ لأحدٍ فهذا من الأدب العالي والحِرْص الشديد ، لذلك عليك أن تسْعى لأنْ يكون الإزار طويلاً ، وعريضاً ومعنى أنّه عريض ، حيث بإمْكانك أن ترْفَعَهُ فوق السُرَّة ، وبإمكانك أن تجْعله يتجاوز الركْبتين ، وبإمكانك أن تلفَّهُ لفات كثيرة ، وقد لاحظْتُ في الحج بعض الإخوة اشْتَرَوا مناشف خفيفة ، ولما غسلوها قصُرَت ، فينبغي التنبيه لهذا ، حتى إذا اشْترى الحاج منشَفَة تنبَّه لأن تكون طويلة وعريضة أكثر من اللازم ، حتى إذا غُسلتْ أصبَحت بِقِياسِها اللازم ، والأفْضل أن يكونا أبْيَضَيْن إذْ أحْياناً نجد ألواناً مُزَرْكَشَة ومُلَوَّنة ، فهذا يُلفِتُ النَّظر .
ولُبْس نَعْليْن لا يسْتُران أصابع القدمين ولا الكَعْبين ، فأنا بِحَسب خِبْرتي الشحاطة الصينيَّة زنوبيا طَرِيَّة جداً ، وهي شَرْعِيَّة ، فالسنَّة أن يُكْشَفَ العَقِب ، والكعب وعقد الشِّراك أي ظاهر القدم ، وأخْطر شيءٍ في الحج هذا الذي تَلْبَسُهُ بِرِجْليك ، فإذا صار هناك دمامات، وفقاعات بالجلد ، والْتِهابات ، أصبح الحج مُعَكَّرًا ، فعلى الإنسان الاهتمام بما يلبسه في رجله . ولك الحق في الإحرام أن تُطَيّب بدنك ، فلو طَيَّبْتَ المنْشَفَة فَسَدَ إحْرامك ، لأنَّ الطيب يبقى فيها، ثمَّ إنّ الإنسان حينما يُحْرِم له أن يغْتسل ما شاء ، ويعود ويرْتدي ثياب الإحرام .
ثم يصلي ركعتين سنَّة الإحرام ، ولك أن تُصَلي وأنت في مقعد الطائرة ، أما أن تُصَلي في ممرّ الطائرة ، والمُضيفات ذاهبات وراجِعات ، فهذا غير وارد إطْلاقاً ، لأنّ قبلة المسافر جهة دابَّته ، أي طائِرَتِه ، وتقرأ في هذه الصلاة ما تقرأه في سنَّة السَّفر ؛ قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ، بشرْط عدم وجود أوقات الكراهة ، وبعد أن يصلي الحاج ركعتي الإحرام في الميقات أو في بيته ينوي بقلبه الدخول في الحج .
وأقول لكم من علامة القبول البِداية الطيِّبة ، فالحاج حينما يقول : لبَّيك اللهمّ لبَيْك ، يدْخل في عبادة الحج ، ويشعر بأشْواق وتَجَلِّيات وكأنَّهُ يبكي ، فَحَجُّهُ يبْدأ حينما يبْدأ بالتَّلْبِيَة ، أما ما يجب أن يقول : نوَيْتُ الحج وأحْرَمْتُ به لله تعالى : لَبَّيْك اللهم لبِّيْك ، لبِّيْك لا شريك لك لبَّيْك إنَّ الحمد والنِّعْمة لك والمُلك ، لا شريك لك .

الإفراد والقران والتَّمَتُّع :

في الدرْس القادم إن شاء الله تعالى نتَحَدَّث عن الإفراد والقران والتَّمَتُّع ، فإذا أردْتَ أن تُفْرِد ، ولا أقول ينبغي ، وإنما أقول : يُمكن أن يأتي إفرادك في نِيَّتِك ، والأفضل أن تكون نِيَّة الحجّ مَلْفوظة بِلِسانِك ، وقد قال العلماء : العِبْرة بما نوى لا بما لبَّى ، فلو فرضْنا أنَّ أحداً نوى الحج وقال : نوَيْتُ العمرة فيَسِّرْها لي ! فالعبرة على ما انعقد عليه قلبه ، وإنما الأعمال بالنيات .
ومعلوم عند إخواننا الحجاج أنَّ الإفراد أن تنوي الحج فقط ، وهذا أفضل شيء ، فإذا انْقضَتْ أيام العيد لك أن تأتي بعمرة ، وانتهى الأمر ، وهناك من يدْخل الميقات مُعْتَمِراً ، يطوف ويسْعى ويحْلق ويفكّ إحرامه ، ويبقى في مكَّة أياماً طويلة مُتَمَتِّعاً ، يَرْتدي ثيابه العاديَّة ، ويأكل ويتطَيَّب ويحْلق ويقلِّمُ أظافره ويفعل ما يشاء ، كما لو كان في بلده ، فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحِجَّة نوى الحج ؛ هذا اسْمُهُ مُتَمَتِّع وعليه هَدْيُ جَبْر ، فَهَدْيُ التَّمَتُّع هَدْيُ جبْر ، لأنَّ هناك نقْصًا أما دمُ القران فَدَمُ شُكْر ، فأنت أكرمك الله تعالى بِعُمْرة ، وبقيتَ مُحْرِماً إلى أيام الحج ، فَحَجَجْتَ وبقيتَ مُحْرِماً أياماً كثيرة ، فقد جَمَعتَ بين الحج والعمرة ، فأنت إذاً قارن ، وعليك دم الشُّكْر لكن أكثر العلماء وأكثر أعضاء البِعْثات الدينيَّة يَحُجون مُفْردين .
والتمتّع أن يحْرم من الميقات بعمرة في أشْهر الحج ، فإذا انتهى من مناسكها تَحَلَّلَ ولَبِسَ ثيابه ، إلى أن يحينَ وقْتُ الحج ، فَيُحْرِم بالحج من مكَّة ، وعليه إذا تَمَتَّعَ دمُ شاةٍ، وبالمناسبة أنا مع أنصار من يروْن بأنَّ ذبائِحَهم تُهْدى إلى فقراء المسلمين من الصُّومال وباكستان وهو عبارة عن اشْتراء شيك ، وثمنها مئتان وخمسون ريالاً ، تذهب طائرة خاصَّة تَرَوْنها في الأخبار إلى هذه البلدان الفقيرة ، ويجوز التوكيل في موضوع الهَدْي ، فكُلُّ الأماكن في مكَّة وجدَّة هناك بنك التوكيل الراجحي ، وأنت تكتب في الشيك نوع الذَّبْح إن كان شكْراً ، أم جبْراً ، أم ذبح كفارة ، وهم الذين يتَوَلَّوْن الأمر ، وعلى الإنسان أن يُبَكِّر في اشْتِراء هذا الشيك ، ثمَّ إنَّ المملكة حرصتْ على عدم ضياع هذا الهدْي ، لأنه في الأوَّل كانت منى لأشْهر فيها ِرائِحةِ جِيَف ، هذه القَضِيَّة انْتَهَت والحمد لله . وعليه إذا تَمَتَّع دَمُ شاةٍ فمن لم يجِد فَصِيامُ ثلاثة أيامٍ في الحج ، وسبعة أيام بعد أن يعود إلى أهْله ، وإنَّما يجب الدمُ والصوم على المُتَمَتِّع بأرْبعة شُروط :
الشرط الأول : ألاَّ يخْرج عندما يريد الإحرام بالحج إلى ميقات بلده فَيُحْرِم ، فإذا دخل الإنسانُ من الميقات ، وأدى عمرة ، ثمَّ عاد إلى الميقات ، وأدَّى الحج لم يصبح مُتَمَتِّعًا ، أما أن يبقى في مكَّة ويُحْرِم من مكَّة فهذا هو التَّمتّع .
والشرط الثاني : أن يكون إحْرامه بالعُمْرة في أشْهر الحجّ ، ولو ذَهَبَ قبل شوال وأحْرم لم يكن مُتَمَتِّعاً ، ويجب أن يُحْرِمَ بالعُمْرة في أشْهر الحجّ ، والشيء الثاني أن يكون إحْرامه بالحجّ في نفْس سنة العُمْرة ، وألاّ يكون من حاضِري المَسْجد الحرام ، فإذا كان آفاقِياً وكان الحج والعمرة في سَنَة واحدة ، وتَمّتْ العُمْرة بِأشْهر الحج ، وما عاد إلى الميقات لِيُحْرِم بالحج من جديد فقد وجب عليه الدم ، فإن لم يسْتَطِع وجب عليه صيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى بلده .
أما القران فأن يُحْرِمَ بالحج والعُمْرة معاً ، فَيَطوفُ طوافاً واحِداً ، وسَعْياً واحِداً ، وحَلْقاً واحِداً ، ويُجْزئ عن ذلك أعمال الحج والعمرة معاً ، إذْ تدْخل أعمال العُمْرة في الحجّ ، ويجب عليه الدم أيْضاً كما في المُتَمَتِّع ، بِشرْط ألا يعود إلى الميقات فَيَكون من حاضِري المسْجد الحرام، فأنت مُخَيَّر بين القران والإفراد والتَّمَتّع ، ففي القران تتداخل المناسك ، وفي التمتَّع تتباعد وفي الإفراد حجٌّ فقط ، والعمرة بعد أيام عيد الأضْحى .
والوجْهُ الرابع وأنا أُرَجِّحُ هذا الوَجْه وهو الإطلاق ، وهو أنْ ينْوي الإحرام دون أن يُحَدِّد ، فهو حُرّ .

الإكثار من التلبية :

والتَّلْبِيَةُ سنَّة ، ويُسْتَحَبّ أن تكون كما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام : لَبَّيْك اللهم لبِّيْك ، لبِّيْك لا شريك لك لبَّيْك ، إنَّ الحمد والنِّعْمة لك والمُلك ، لا شريك لك ؛ ثلاثًا ، ثمَّ يُصلي على النبي صلى الله عليه وسلّم بِصَوْتٍ أخفض ، وبِصيغة الصلوات الإبراهيميَّة ، ثمَّ يقول : اللهمّ إني أسألك رضاك والجنَّة ، وأعوذ بك من سَخَطِك والنار ، ثمَّ يدْعو لنفسه ، ولِوالِدَيه ولِمَن أحبّ ، ويُسْتَحَبّ الإكثار من التَّلْبِيَة على كُلِّ حال ، عند تغاير الأحوال ، وتلاقي الرِّفاق ، وإقبال الليل ، وإدْبار النهار ، وفي المَسْجد الحرام ، وفي مسْجد الخيف ، وسائر المساجد ، ويرْفع بها صَوْته من غير مُبالغة بشَرْط ألا يُشوِّش على مُصَلٍّ أو قارئٍ أو نائِم . ولا يُلَبِّي في أثناء الطَّواف والسَّعْي ؛ لأنَّ للطواف والسَّعْي أذْكاراً مَخْصوصة ، ولا ترْفع المرأة صَوْتها بالتلْبِيَة ، وهذا من عُيوب الحاجَّات .
ولا ينبغي أن تُسَلِّم على من يُلَبِّي ، لأنَّهُ في ذِكْرٍ ، أما إذا سُلِّمَ عليه فعليه أن يَرُدَّ السلام ، وإذا رأى الحاج ما يُعْجِبُهُ من مظاهر الدنيا ينبغي أن يقول : لَبَّيْك إنَّ العَيْش عيْش الآخرة ، طرقات وقُصور وسيارات وتكْييف وسوبرماركتْ .
ويبدَأ وقْتُ التلْبِيَة حينما يُحْرِم ، وينتهي حينما يشْرع في التَّحلُّل بِرَمْي جمْرة العقبة صباح يوْم العيد ، وبعد ذلك تنتهي التَّلْبِيَة .

ما يجوز لمُحْرِم بِحجٍ أو عمرة إذا خاف مَرَضاً أو عَدُوًّا :

هناك حالة خاصَّة ؛ وهي إذا كان جسْمُ الإنسان فيه بعض الأعْراض ، ويمكن أن يمْرض في الحج ، واللهُ تعالى من كرمِهِ للحجاج أنَّه يُعافيهم من أمْراض يُعانون منها في إقامَتِهم، ولكن من باب الاحْتِياط يجوز ِلمُحْرِمٍ بِحَجٍ أو عمرة إذا خاف مَرَضاً ، أو عَدُوًّا ، أو نفاذ زادٍ ، أو أيّ مانعٍ يشُقّ معه الاسْتِمرار في الحج أن يشْترط في نفْسِه عند الإحْرام التَحَلّلَ عند طروء العُذْر بِهَدْي ، أو دون هَدْي بأنْ يقول : نَوَيْتُ الحجّ ، وأحْرَمْتُ به لله تعالى ، لَبَّيْكَ اللهمَّ بِحَجٍ ومَحَلِّي حيث حَبَسَني العُذْر أتَحَلَّل ، فهذا الكلام يجْعل حجَّك مقبولاً فيما إذا طرأ بينك وبين إتمام الحج طارئ ، وقد بلغني أنَّ المملكة عادَتْ إلى التَّقْنين ، وهي أنَّ مليون ونصف فقط ، وهذه الفئة يمكنها الحج بِرَاحة تامَّة ، أما أربعة ملايين فهذا غير معْقول !! كالعام الماضي . ويجوز أن يشْترط الحاج في نفْسه عند العُذْر أن يقْلب حجَّهُ إلى عمرة ، وتُعَدُّ العمْرة مُجْزئة عن عُمْرة الإسلام ، لأنَّ الله تعالى قال :

﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾

[ سورة البقرة : 196]

فالعمرة لا بدّ منها ، وهي غير الحج .

الأشياء التي لا يجوز أن يفعلها المحرِم و المُحرم :

الأشياء التي لا يجوز أن يفعلها المحرِم ، والأشياء التي لا يجوز أن يفْعلها المُحْرم ؛ اللِّباس بالنِّسْبة للرَّجل ، فَيَحْرُمُ عليه لُبسُ المخيط والمُحيط ، المصنوع على قَدْر البدن ، أو على قدْرٍ منه ، ويحْرُمُ عليه أيْضاً ستْرُ رأسِه بأيِّ شيءٍ يُعَدُّ ساتِراً ، وتُكْرَهُ المِظَلَّة عند الشافعِيَّة ، وتجوز عند الأحناف من دون كراهة ، إلا أنّ المظلَّة الآن واجبة ، لأنَّ تحرَّك الإنسان بِمَكَّة أو المدينة فيه احْتِمال كبير لضربة الشَّمْس ، والله تعالى قال :

﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾

[ سورة البقرة : 195]

أما من ضاعت مِنْشفته فلا بأس أن يضع عليه جُبَّة ، ولو أنَّها مخيطة إلا أنَّها ليْستْ مُحيطة .
فلو الْتَحَفَ بِجُبَّة أو لحافة عند نومه جاز له ذلك ، لكِنَّكم لا تحْتاجون لا إلى جبَّة ولا إلى لحافة ، إنما تحْتاجون إلى مُكَيِّف ، وله أن يشُدَّ عليه نِطاقاً ، وأن يلبس خاتماً ونظارات وساعة ، وله أن يعْقِدَ الإزار من طَرَفَيْه فعند الشافِعِيَّة يجوز ، وله أن يجْمعه بالدبابيس ، طبْعاً نحن نتَكَلَّم عن الإزار وليس عن الرِّداء ؛ فالإزار في القِسْم السُّفلي أما الرِّداء في القِسْم العُلوي .
وله أن يجعل في إزاره تكّةً أو خيطاً أو مطاطاً يعْقِدُهُ من طَرَفَيْه كي يشدّ الإزار على وسطِه ، ولكنّه ليس له أن يخيطه من جانِبَيْه على بعْضِهما ، أما المرأة فيجوز لها أن تلْبِسَ ما تشاء ، كما تلْبِسُ في حالتها العاديَّة ، ثمّ مسألة وجْه المرأة تعود على حسب القناعات فإذا الزَّوْجة تسْتر وَجْهها في بلدها فينبغي أن تسْتره هناك ، وهناك طريقة لِسَتْر وجْهها في الحج وهي أن تضع واقِيَة صغيرة بِمَطاطة يأتي المنديل بعدها ، فيأتي المنديل بعيداً عن وَجْهها وهي عَمَلِيَّة مَشْروعة ، وأنا أُفَضِّل سَتْر الوجه بِهذه الطريقة ؛ واقِيَة صغيرة بِمَطاطة يأتي المنديل بعدها والوجْه وجْه مهما كان بالحج أو بغيْره ، والدليل :
" كنا مُحْرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم - السيّدة عائِشَة - فكان الركبان إذا مروا بنا أو حاذَوْنا أسْدَلَتْ إحْدانا جِلْبابها على وَجْهِها " فإذا خَشِيَتْ المرأة كَشْف وَجْهها جاز لها أن تسْترهُ بمنديل كما ذكرنا قبل قليل ، ولُبسُ القُّفازَيْن عند الأحْناف جائز ، وعند الشافِعِيَّة لا يجوز . ولو احْتاج الرجل إلى أن يسْتر رأسه بِنَحْو مُداواة ، أو المرأة أن تسْتر وجْهها لِمِثْل ذلك جاز ووجَبَتْ الفِدْية .
ويحْرم على المُحْرم أن يتطيَّب في بدنه أو ثوْبه أو فراشه بِكُلِّ ما يُعَدُّ طيباً ، أما ما كان طَيِّبَ الرائِحَة ، وليْس بِطِيبٍ كرائِحَة الفواكه ، كالتفاح والبرتقال فلا تحْرم ، لكن الذي يحْرم أن تدَّهِنَ بالأدْهان والكريمات فهذه كُلُّها مُحَرَّمة ، ودُهْنُ ما ليس بِطيبٍ كالزَّيْت والسَمْن ونحوهما فلا يحْرم الادِّهان بِهما إلا في الرأس واللِّحْيَةِ ، ومن العادة قديماً أن يدْهنوا الشَّعْر بالزيت ويحْرُمُ اسْتِعمال الكُحْل المُطَيَّب ، وأكْل الطعام المُطَيَّب ، كبعض الحلويات .
وشمُّ الورْد عند الشافِعِيَّة يُعَدُّ تطيُّباً ، وعند الأحْناف مكْروهٌ ، فلو جلَسْتَ بِحانوت عطَّارٍ بِقَصْد شمِّ رائِحة ما عمدًا كُرِهَ ذلك ، وتطِّيب الناسي والجاهل والمُخْطئ والمُتَعَمِّد سواءٌ في وُجوب الجزاء ، إلا أنَّ الناسي لا يُحاسب عند الله ، والجاهل يُحاسب على جهْله ، والمُخْطئ كذلك ، إلا المُتَعَمِّد فيُحاسب على تَعَمُّدِه ، أما في الجزاء فهم فيه سواء .
ثمَّ على الإنسان أنْ يأخذ ما يكْفيه من أكْل وشُرْب ومُواصلات بالحدِّ الأدْنى ولا يزيد. وتُحْرَمُ إزالة الشَّعْر بنَتْفٍ ، أو حلْقٍ ، أو حرْقٍ ، أو قَصٍّ في أيِّ موْضِعٍ كان من البدن ، وتُحْرَمُ إزالة الظُّفْر أيضاً ، أو جُزْءٍ منه ، فلو فعل أثِم وعصى ، ولَزِمَتْهُ الفِدْية ، فلا يتسَلَّى الإنسانُ بِوَضْع ظُفْره في فمه ، والمُهِمّ الانْتِباه لهذه الأمور ، ثمَّ الحلْق أوْلى من التَّقْصير ، وكذا لو عَلِمَ أنَّ شعْرهُ خفيف وكلَّما مشَطَه سقط فلا يمسّ شعْره ، أما إذا سقط شعْره من تلقائِهِ فلا شيء عليه .

((وعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْعَجُّ وَالثَّجُّ ))

[ الترمذي عن أبي بكر رضي الله عنه ]

فكلَّما كانت هيْئتك مُنَفِّرَة كلَّما كان حجّك أضبط ، فالأناقة بِبَلَدِك ، أما في الحج فالعجّ والثجّ .
بالمناسبة بلغنا أنَّ معْجون الأسنان كريستال فيه لحْم خنزير ، وقد أخْبرنا بهذا إخوانٌ لنا .
و يحْرُمُ على المُحْرِمِ أن يُزَوِّجَ أو يتزَوَّج ، و كُلُّ عقْدُ نكاح كان فيه الوليّ والزوْج أو الزوْجة مُحْرِماً فهو باطِل ، و يجوز للمُحْرم الشهادة في عَقْدٍ لِغَيْر المُحْرِم ، قال تعالى :

﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾

[ سورة البقرة : 197]

ويدخل في ذلك الجماع ومُقَدِّماته كُلُّها . وإتْلاف الصَّيْد من كُلِّ حيوانٍ برِيٍّ وَحْشيٍّ مأكول مُستأنس أو غير مُستأنِس ، مملوكٍ أو غير مملوك يحْرُمُ على المُحْرِم ، فإن فعله لزِمَهُ الجزاء ، وقيمته لِصاحِبِه إن كان مملوكاً ، ولو توَحَّشَ إنسيٌّ لم يحْرُم ، ولا يحْرُمُ صَيْدُ البحْر وتحْرُمُ الطُّيور .
كما يحْرُمُ على المُحْرِمِ كُلّ شكْل من أشْكال المُعاوَنَة على الصَّيْد المُحَرَّم ، ويجوز للمُحْرِم أن يغْتَسِل ، ويكون ذلك بالصابون غير المُعَطَّر ، فَكُلُّ هذا مُتَعَلِّقٌ بالإحْرام ، وفي الدَّرْس القادِم إن شاء الله تعالى نتحَدَّثُ عن دُخول مكَّة زادَها الله تعْظيماً وتَشْريفاً . 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور