- الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
- /
- ٠5الحج
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
الحج رِحْلةٌ إلى الله تعالى :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ مع اللقاء الأول من لقاءات توضيح مناسك الحج إن شاء الله تعالى .
بادىء ذي بدْء الحجّ رِحْلةٌ إلى الله تعالى ، وله طبيعةٌ خاصَّة ، فإذا لم يتفَقَّه الحاجُّ في مَقاصد الحج العُلْيا ، وما لم يتعرَّف إلى أحْكام الحجّ الأساسيّة ؛ ربما كان حجُّهُ باطِلاً ، تَصَوَّروا طالِباً ذهب إلى بلد غرْبي ، وفي هذا البلد ملاه ودُوَر لَهْو ومكتبات وحدائق ، إنه ما لم يكُنْ واضِحاً في ذِهْن هذا الطالب أنَّ مُهِمَّتَهُ الأخيرة والأولى هي الدِّراسة قد لا ينجح ولا يُحَقِّقُ هدفهُ الكبير ، فأكبر خطأ يُمْكن أن يقع فيه الحاجّ أن ينسى أنَّهُ حاج ، وينقلب من حاجٍّ إلى سائِح ، ومن حاج إلى مُسافر ، فالذي يحْصل أنَّ الحاج ينتقل إلى بلادٍ لا يعْرفها ، فتُبْهِرُهُ الطرقات والجُسور والمحلات والعمارات ، ويُراقب في المطار المُعاملة ، فَيَعود لِيُحَدِّثَكَ ساعةً من الزَّمَن عن مُشاهداته ، والشيء الذي ذَهَبَ من أجله ليس في مُسْتواه إطْلاقاً .
فحَجُّ الفريضة ، وحجَّةُ العُمْر رِحْلةٌ إلى الله عز وجل ، فما لم يكن الهَدَفُ الكبيُر واضِحاً جليًّا في ذِهْن الحاج ، والمقْصد الأسْمى من هذه العبادة ومن هذه الرِّحْلة الله عز وجل ، ربما لم يكن حجُّهُ في المُسْتوى المطلوب ، لأنَّكم تعلمون أيها الأخوة أنَّ العبادات مُعَلَّلَة بِمَصالِحِ العِباد . مثلاً قوله تعالى :
﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾
هذه هي عِلَّتُها ، وهذا هو هدفها ، فَمَن صلى ولم تنْهَهُ صلاته عن الفحْشاء والمنكر لم يزْدد من الله تعالى إلا بُعْداً ، فقد تعَطَّلَتْ الغاية الكُبْرى من الصلاة ، والصيام من لم يدع فيه قوْل الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ، قال تعالى :
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾
قال تعالى :
﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾
هذه الزكاة فقَدَتْ قيمتها وحِكْمتها ، والحجّ كذلك . ففي الحجّ لا رفث ولا فسوق ، فهذه الرِّحْلة تُكَلِّفُكَ عَشَرات الأُلوف ، وتُبْعِدُكَ عن أهْلك وأُسْرَتِك عَشَرات الأيام ، وتجْعلك تتجَشَّمُ آلاف المصاعب ، ثمَّ لا تُقْبل ! واللهِ هذه مُشْكلة ، لذلك الذي رأيْناهُ في الحجّ مِن انْحرافات فاحِشَة وخطيرة ، وتطاوُلٍ باللِّسان على عِباد الله ، ولَغْوٍ في الحديث ، وانْغِماسٍ في اللَّهْو والشراب ؛ من الطُّرَف التي تُرْوى أنَّ مجلَّةً مِصْريَّة رسَمَتْ حاجاًّ عاد إلى بلاده وهو مُحَمَّل بالأغْراض ؛ عَشَرات بل المئات من الكيلوغرامات ؛ هدايا وأجْهزة كهْربائِيَّة ، وفجْأةً ضَرَبَ جبْهَتَهُ وقال : الله ! لقد نسيتُ أن أحُجَّ !! فإذا ذهب الإنسان كسَائِح ونَسِيَ أن يحُجّ ، يا تُرى بالطواف أَيُعْقل أن يقول الله لك : تعال يا عبْدي من بلدك البعيد من أجْل أن تطوف حوْل الكعْبة وأنت ساهٍ لاهٍ ؟ أَيُعقَل هذا ! هل يُعْقل أن يأمرك الله أن تأتي بيته الحرام والكعْبة والوُقوف بِعَرَفات ثمَّ يكون حديثك بها عن أُمورٍ لا علاقة لها بالعبادة إطلاقاً ؟ وهل يُعْقل أن تزور مئة حاجّ ولا تسْمع منهم إلا ما أكلوه في عرفات ومع من الْتَقَوا والمشاهد التي أعْجَبَتْهم والنِّظام في المملكة؟ فالله عز وجل غَنِيٌّ عن عبادة في مظْهرها تواجد جِسْمي ، وإنّ الله غنِيٌّ عن عبادة تبْدأ بِتَرْك الطعام ، وتنتهي بِتَناوله ؛ فهذه ليْسَتْ عبادة .
أخْطر شيء في الحجّ حِكْمة الحجّ وجَوْهَرِه ومقاصِدِه :
هذه الكلمات التي يُرَدِّدُها الحُجاج ؛ لَبَّيْك اللَّهُمَّ لبيْك ، قد ينسون مضْمونها ، صَعِدْنا إلى مكان مُرْتفع ، وكلما دخلْنا إلى مدينة ، وهبْطنا وادٍ نردِّدُ هذه الكلمات ، ما معنى لَبَّيْك ؟ كأنَّ لِسان حال الحضْرة الإلهيَّة يقول لك : تعال يا عبْدي لأُريحَكَ من هموم أثْقَلَتْ صَدْرك ، تعال لأَنْقُلَكَ من عملك الوضيع إلى آفاق معْرفة الله ، تعال لِتَذوق طَعْم القُرْب ، تقول : لبَّيْك اللَّهُمَّ لبَيْك أيْ سَمْعاً وطاعَةً واسْتِجابَةً لِنِدائِكَ يا ربّ مرَّةً بعد مرَّة ، فأخْطر شيء في الحجّ أن تضع يدك على حِكْمة الحجّ ، وجَوْهَرِه ، ومقاصِدِه ، وأن تكون في المُسْتوى الذي يُمْكن أن يكون مَعْقولاً من تَرْكِكَ البلاد والعباد ، وتأتي لِتُلَبِّيَ الله عز وجل ، وهذه المُقَدِّمَة أنا شَرَحْتُها في دُروس كثيرة ، وإن شاء الله تعالى لي خطْبة عن حكمة الحجّ لا عن مناسك الحجّ أضَعُها بين أيديكم ، لماذا فُرَضَ علينا الحجّ ؟ ولماذا أمَرَنا الله تعالى بِأداءِ هذه الفريضة ؟ كلكم يعْلم أنَّ الصلاة رِياضَة بَدَنِيَّة ، والزكاة عبادة ماليَّة ، والدعاء عبادة قوليَّة ، والحجّ عبادة قوليَّة وشعائِرِيَّة وماليَّة وبَدَنِيَّة ، فالعبادة التي تجْمع كُلَّ العبادات هي الحجّ وهو في العُمْر مرَّة ، وكذا الصيام مرة في السَّنة ، والجمعة في الأسبوع مَرَّة ، والصلاة في اليوم خمْس مرات ، فمادامت هذه العبادة مَرَّة في العُمْر معنى ذلك أنَها تكْتَسِب أهَمِيَّة كُبْرى .
الاستشارة و الاستخارة :
واليوم نبدأ بآداب السَّفر في الإسلام لأنَّ الحجّ سفَر ، والموضوع الأوْسع من الحجّ هو السَّفر ، والشيء الأساسي في السّفر أن تُشاوِرَ في سَفَرِك من تَثِقُ بِدينه وعِلْمِه ، أيها الأخوة الأكارم من اسْتشار الرِّجال اسْتعار عُقولهم ، فإنسان له خِبْرة من أربعين أو خمسين سنة في حَقْل مُعَيَّن إذا أنت سألْتَهُ أخذْتَ كُلَّ عِلْمه وخِبْرته ، فالنبي عليه الصلاة والسلام عَلَّمنا شيئين ؛ عَلَّمنا الاسْتشارة ، وعَلَّمَنا الاسْتِخارة ، لِمَن الاسْتِشارة ؟ لأُولي الخِبْرة من المؤمنين حَصْراً ، لأُولي الخِبْرة لينْصَحوك ، فاِجْعل هذه قاعِدَة في حياتك وتِجارتك وسَفَرِك ، وفي أيِّ مَشْروعٍ تُقْبِلُ عليه ، قبل كُلِّ شيء اِسْتَشِرْ أهل الخبرة من المؤمنين والاستِخارة لله عز وجل ، وأنا أعْتقد أنَّهُ لا اسْتِخارة ولا اسْتِشارة في الفرائِض ، وهي حقيقة مُهِمَّة ، فأنت تسْتخيرُ في المُباحات ، وفي أشْياء لك أن تفْعَلَها ، وألا تفْعلها ، أما في الأشْياء التي أمرك الله بها فلا اسْتِخارة ولا اسْتِشارة ، ولكن السَّفَر لا بدّ أن تسْتشير من تَثِقُ بِدينِه وعِلْمِه وعقْله وخِبْرته ، والمُسْتَشار مُؤْتَمن ، من اسْتُشير فلْيُشِر ما هو صانِعٌ بِنَفْسِه ، فقَبْلَ أن تُسافر وتُقيم في بلدٍ أجْنبي ، قبل أن تنْقل تِجارتك في هذا المكان ، قبل أن تُمَثِّلُ شيئاً يُمَثِّلُ انْعِطافاً في حياتك ، عليك أن تسْتشير أهْل الخِبْرة من المؤْمنين حَصْراً ، فإذا اسْتَشَرْتَهم على السَّفَر وأشاروا عليك بذلك وجب عليك اسْتِخارة الله ، وأرْوَعُ ما في الاسْتِخارة أنَّ الشيء الذي أسْمَعُهُ من إخْوة كثُر : اسْتَخَرْتُ ولم أر مناماً !! من قال لك : إنَّ الرؤْيا من لوازم الاسْتِخارة ؛ اسْمعوا الحديث ؛ أخرج البخاري وأصحاب السنن
((عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رَضِي اللَّهم عَنْهمَا قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ يَقُولُ إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي ، قَالَ : وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ ))
فَمِنَ البشَر من يعْلم ولكنَّهُ ليس قادِراً ، ومنهم من يقْدر ولكنَّه لا يعْلم ، لكنَّ الله تعالى له العِلْم المُطلق ، والقدْرة المُطْلقة .
الله تعالى رفيق الإنسان في السفر و خليفته في أهله و ماله :
بالمناسبة في الكوْن كُلِّه لا توجد إلا جِهَة واحدة يُمْكِنُ أن تُرافقك في السَّفر ، وأن تكون خليفتك في الأهل والمال والولد ، هذه الجهة هي الله ، أقرب الناس لك إذا سافر معك ليس بِإمْكانه أن يكون خليفةً على أهْلِك ، وإن بقِيَ خليفةً في أهْلك وولدِك ليس له أن يُسافر معك ، لكنَّ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كان يدْعو قبل السَّفر ويقول :" اللَّهم أنت الخليفة في السَّفر ، والرفيق في المال والأهل والولد ..." فإذا دعا الإنسان بِهذا الدعاء وسافر فأغْلب الظنّ أنَّهُ يعود إلى بلده ، وليس هناك أخْبار سيِّئَة ولا مُفاجأة ، أحْياناً إبريق شاي ساخن يسيل على خدّ ابنتك فيصيبها بعاهة طول الأبد ، كلَّما ألْقى الأب نظْرةً على ابنته احْتَرَقَ قلبه أليسَ كذلك؟! فأنا أجزم بأنَّ من قال هذا الدعاء أدَّى سَفَرَهُ في طمأنينة وهناء .
من استخار الله بعلمه و قدرته يسر له الخير :
دعاء الاسْتِخارة كما قلنا :
((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي ، أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ ، فَاقْدُرْهُ لِي ، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ ، وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ، ثُمَّ أَرْضِنِي، قَالَ : وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ ))
كنتُ مُزْمِعاً على سفرٍ بِبَلد ، وقبل أن أخرج من بيتي قلتُ له يا رب :
((اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي ، أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ ، فَاقْدُرْهُ لِي ، وَيَسِّرْهُ لِي))
ذَهَبْتُ فإذا بي أرى الطريق مَسْدودًا ، ثمَّ علِمْتُ أنَّ هناك أخْطارًا تنْتظِرُ كُلَّ من يقْدم إلى هذا البلد لأسْباب طارئة ، فالمؤمن حياته رائِعة ، والله وَكيلُه ، فَهُوَ تعالى يعْلم وأنت لا تعلَم، وهو تعالى يقْدِر وأنت لا تقْدِر ، فإذا اسْتَخَرْتَهُ بِعِلْمِه وقُدْرتِه انتهى الأمْر ، قال :
((اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي ، أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ ، فَاقْدُرْهُ لِي ، وَيَسِّرْهُ لِي))
التَّيْسير دليل المُوافقة الإلهيَّة :
لكن هنا السؤال : كيف تعْرف أنَّ الله تعالى أحبَّ لك هذا العمل أم لم يُحِبَّهُ لك ؟! بالتَّيْسير ، إذا أحَبَّ الله لك هذا السَّفَر يسَّرَهُ لك ، وإذا لم يُحِبَّه لك وأنت صادِقٌ في اسْتِخارتِك عَسَّرَهُ عليك ، فالتَّيْسير دليل المُوافقة الإلهيَّة ، والتَّعْسير دليل المُعارضة ، بِتَعْبير المرور نقول : تألَّق الضوْء الأخْضر أمامه ، أي امْشِ ، فالإنسان إذا اسْتخار الله عز وجل ورأى كُلَّ الأمور مُيَسَّرة معنى ذلك أنَّ الله عز وجل أحَبَّ له هذا السَّفَر . ثمَّ قال :
(( ....وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ ))
فلو فرضْنا شَخْصاً ما تعلَّق بِفَتاة لِيَتَزَوَّجَها ، وهذه الفتاة لا تُناسِبُهُ وفي دينها رِقَّة ، فالله عز وجل صَرَفها عنه ، هل يكْفي أن يصْرفها عنه ؟! لا يكْفي ، لابدّ من أن يصْرِفَهُ عنها ، إذْ لو تَعَلَّقَ بها صار الأمر مُشْكلة كبيرة ، فلا بدّ من أن يصْرِفَها عنك ويصْرِفَك عنها ، دِقَّة الدعاء :
((........فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ ، وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي))
هناك شخْص يقول لك : حظُّه غير ميْسور كُلَّ حياته ، تجده يقول : لعن الله الساعة التي تَعَرَّفْنا بها على فلانة !!! قال :
((...... وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ ))
يا رب إنَّي مُزْمِعٌ السفرَ إلى هذا المكان ، هذا الموضوع قد يتعلَّق بالحجّ ، وبالتِّجارة، والزواج ، وعقْد شراكة ، ومشْروعٍ جديد ، فلا بدّ من حفْظ هذا الدعاء غَيْباً ، أنا إن شاء الله قبل أن تذْهبوا للحجّ أُوَزِّع عليكم كُتَيِّبًا فيه أشْياء أساسِيَّة ، يكون رفيقاً لكم في الحجّ ، فأيُّ مَشْروع تُقْبِل عليه تأتي بِهذا الدُّعاء .
المُهِمات المنوطة بالإنسان من البداية وحتى الحجّ :
أيها الأخوة ، اسْتَشَرْتَ أهْل الخِبْرة والإيمان ، واسْتَخَرْتَ الله عز وجل واسْتَقَرَّ عَزْمُكَ على السَّفر ، أو على الحجّ ، الآن ما المُهِمات المنوطة بك من البداية وحتى الحجّ ؟
أيها الأخوة الأكارم ، يجب أن تعْلموا عِلْمَ اليقين أنَّ هناك وَهْماً خطيراً وكبيراً ، هو أنَّ الإنسان إذا حجَّ رجع من ذُنوبه كَيومِ وَلَدَتْهُ أُمُّه ! وهذا حديث شريف ، أُؤَكِّد لكم أيها الأخوة أنّ الذنوب التي يغْفرها لك الله في الحجّ هي حَصْراً ما كانت بينك وبين الله ، أما الذنوب التي بينك وبين العباد فوالله لا تُغْفر إلا بالأداء ، ولا تسْقط إلا بالمُسامَحَة ، يغْتَصِبُ الإنسانُ بيْتاً ، ثمَّ يقول لك : أحُجُّ ويتوب الله عليَّ !! هذا توْجيه شَيْطاني ، أنْصح لكم أيها الأخوة أن تؤدوا ما عليكم من الذِّمم والحقوق ، أذْكر أنَّني حتى الكتب المُستعارة أعَدْتُها لأصْحابها ، وحتى المَجلات، كانت لي مَجَلَّة قديمة لِشَخْصٍ يسْكن بالميدان ولم أرهُ منذ فتْرة ، ذَهَبْتُ إليه وأدَّيْتُها له، اُنْظر لحال الإنسان لما يريد أن يُغادر الدنيا كيف يُصَفي علاقاته ، ذِمَم وحِسابات وحقوق ، لذلك قال : إذا اسْتَقَرّ عَزْمُك فبادِر إلى التوْبة ، وأدِّ ما عليك من حُقوق ودُيون ، واسْتَسْمح من نالهم منك ظُلْمٌ أو أذى ، ولا تشْعر أنَّك أكبر من ذلك ، فإذا كنت قد ظلمْتَ من كان يشْتغل عندك في الماضي فابْحث عنه واسْتسْمِحهُ ، فهذا له حق عندك ! وقَدِّم له هَدِيَّة ، وإذا أردت أن يتجلى الله عليك في الحج ، وأن تكون مقْبول الحج ، وأن تشْعر بالطواف الحقيقي ، فأنت لك مهِمَّة أصْعب من الحج ؛ كُلّ علاقاتك الماليّة ، وكُل الذِّمم ، والأشياء المُسْتعارة ، وتعْويضات مع تقادم الزَّمن نَسِيَها صاحبها ، ومَلَّ من مُطالبتك ، جاء الآن وقْتُ تَصْفِيَة الحُقوق ، وأداء الواجبات ، وأداء ما عليك من دُيون وحُقوق ، والتوبة النَّصوح ، ويجب أن تسافر إلى الحج وقد فَتَحْتَ بينك وبين الله صَفْحةً جديدة .
وعلى الزَّوْجة إرْضاءُ زَوْجِها ، فإذا كان بينها وبين زوْجها مشْكلة ، ولو حَجَّتْ مع أخيها فَحَجُّها غير مَقْبول ، فعلى الزَّوْجة أن تُرْضي زَوْجَها قبل أن تَحُجّ ؛ لأنَّ دين المرأة أربعة أقْسام : رُبْع دينها رِضى زوْجِها عنها ، فإذا صَلَّتْ المرأة خمْسها ، وصامَتْ شَهْرها ، وحَفِظَتْ نفْسَها ، وأطاعَتْ زوْجها ، دَخَلَتْ جَنَّة ربِّها ، فَكُلُّ زوْجةٍ عاصِيَة لِزَوْجِها ، ومُغْضِبَة له ولا يرْضى عنها وتُزْعِجُهُ ، فليس العِبْرة أنْ تَحجّ مع أخيها ، إنما العِبْرة أن يقبلها الله عز وجل ، وأن يتجلّى عليها هناك .
وَيُسنُّ للرَّجُل أن يصْطحب في الحجّ زَوْجته ، هناك أشْخاص يقولون لك : أُحِبُ أن أكون خفيفاً ، والمرأة صَعْبة وعِبْء ! لكن إن لم تَحُجّ عن طريقك فَعَن طريق من تَحجّ ؟! طبْعاً هذا على المَيْسور . ولا يجوز للوالِدَيْن منْعُ الابن مِن حَجَّة الإسلام ، فإن قالا لك : رِضى لنا لا تحجّ ، فلا يجوز طاعتهما إن كانت هي حجَّة الإسلام ، أما إن حجّجْت وكانت هذه للتَطوّع وقالا لك : رضىً بنا لا تحجّ هذه السنة نحن بِحاجتك أمامنا ، فلا مانع من طاعتهما ، وربما وجبتْ طاعتهما ، أما حجَّة الإسلام فلا اسْتِشارة ، ولا إذْن ، ولا شيء ، وعلى الابن أن يجْتهد في إرْضاء والِدَيْه .
لو أنَّ أحداً في ماله شُبْهة ، وفي دَخْله جزء من الحرام ، وله معاش ، فإذا أراد أن يحجّ بِهذا المال المَشْبوه ، فقد ورد في بعض الأحاديث : " يقول لبَّيْك اللهم لبَّيْك فيقول الله تعالى: لا لبَّيْك ولا سَعْدَيْك" إذاً يجب أن تحجّ من المال الحلال الذي اِكْتَسَبْته من كَدِّك وعرق جبينك ، وليَسْتَكْثِر من طيب الزاد والنَّفَقة ما أمْكنه ، لِيُعينَ ذوي الحاجة ، فإذا كان الإنسان مَيْسورًا وأخذ معه أدْوِية زائِدَة كان هذا من باب تقديم يد المساعدة للإخوة ، وأذْكر أنَّهُ لَزِمني علبة دواء ثمنها خمسون ريالاً ، مما يُعادل سبعمئة ليرة ! وهنا ثمنها ستّ عشرة ليرة !! أدْوِيَةُ الإسْهال أكْثر شيء ومُسَكِّنات ، وخافِضات حرارة ، والرَّشْح ، إذاً يمكن أن تأخذ مجموعة أدْوِيَة ، وإذا احْتاج أحدهم هناك للأدْوِيَة تُعْطيه ، فليس هناك عمل أمْتع من خِدْمة الناس ؛ من طعام ودواء وأجْهزة ، والأمْرُ الوحيد العملُ الصالح ، لأنَّك في عبادة وطاعة ، فالإنسان إذا كَثَّر الزاد ، وأطْعم الطعام يشْعر بِسَعادة ، فهذا من السنَّة ، وأذْكر في العام الماضي لما كنت رئيس بعثة أنَّني أخذْت زاداً كبيراً حتى رآه الحاضرون كثيراً ، إلا أنَّه كان له أثر كبير في أثناء ذهابنا ، فقد بقي معنا لِمُدَّة ثمانية أيام ، وأطْعمْنا منه وضَيَّفْنا .
والمشكلة هناك ظروف صعْبة ، فأنت تَصِل مُتْعبًا ، والخروج فيه إرْهاق ، والسيارات ربما لا تُلَبِّي حاجتك ، فإذا أخذتَ الأكل والدواء اللازم سُرِرْت .
الآن ترْك المُجادلة والمُشاحنة في الحجّ ؛ فلا رفث ولا فسوق ولاجدال في الحج ، أما المجادلة والاعْتِراض : ما هذه الأسْعار ! فأنت في حجّ ولا يجوز عليك فعْل هذا .
أيها الأخوة ، اُكْتُب وَصِيَّتك قبل السَّفر على الوَجْه المَشْروع ، سأُوَزِّع عليكم منها وادْرُسوها ووقِّعوها ، وهذه هي السنَّة .
المَشَقَّة في الحجّ ليْسَت مطْلوبةً لِذاتِها :
الحقيقة أنَّ المَشَقَّة في الحجّ ليْسَت مَطْلوبةً لِذاتِها ، أنا لي أجْرٌ بالشَّمْس أكثر !! لا هذا وَهْم وجهْل ، فالحجّ الآن بالطائِرة أكثر راحةً من البرّ ، والحجّ بِالبَرّ أقلُّ تعبًا من المَشْي ، فليْسَتْ المَشَقَّة مَطْلوبَةً لِذاتِها ، فلا تقل : إذا ركِبْتُ حافلةً مُكَيَّفةً يَخِفُّ أجْري ، وكذا خيْمة مُكَيَّفة هو أفْضل لك لأنّ الحرّ أحْياناً يشْتد لِدَرجة أنَّهُ يُعيقك عن الإقبال على الله عز وجل ، لذلك احْفَظوا هذه القاعدة : المَشَقَّة في الحجّ ليْسَت مطْلوبةً لِذاتِها ، وكُلُّ من يتَوَهَّم أنَّ من ازْدادتْ مَشَقَّته ارْتَفَعَ أجْرهُ فهذا وَهْم ! لكن إذا كانت المَشَقَّة لا بدّ منها في سبيل الله فَمَرْحباً بها ، مثَلاً ؛ الآن حوْل الكعْبة هناك رُخام يمْتَصّ الحرارة ، أشِعَة الشَّمْس مُسَلَّطة عليه عَشْرُ ساعات وهو بارد ، وهناك رُخام بالأرْوِقَة كالمِكْواة تماماً ، إياك أن تظنّ أنَّ المشقّة إذا طلبْتها لِذاتها فهذا مما يرْفع ثوابك عند الله تعالى ! لا ، النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً قابِعاً في الشَّمْس ، فقال: لمَ يقف هذا في الشَّمْس ؟ فقالوا : نذر هذا أن يقف في الشّمْس تقرُّباً إلى الله عز وجل ، فقال عليه الصلاة والسلام : مُروهُ أن يتحوَّل ، فإنَّ الله غنِيٌّ عن تعْذيب هذا نفْسه ، مثَلاً ؛ هل يجب أن تُصلي الصلوات كلها بالحرم ؟! إذا كان البيت قريبًا من الحرم فهذا أحسن ، أما إذا كان البيت بعيدًا ويجب أن ترْكب السيارة مَرَّتين ، وتمْشي في الشَّمْس ساعة ، وضَرْبة الشَّمْس مؤلمة، فلا تخرج في النهار إلا لِسَبب قاهر ، إنما عليك صلاة المغرب والعشاء والصبح ، فلا تُخاطر ، فحياتك غالِيَة ، وهي ليْست ملْكك وحْدك ، بالمناسبة ضربات الشَّمْس مُميتَة ، واللهِ كنت أخرج إلى الحرم الساعة العاشرة ليْلاً ، وكأنَّني في التنور فكيف بالنهار ؟! أنا لا أُخَوِّفكم ، إلا أنني أُبيِّن لكم حُكْم الشَّرْع في مسألة المَشَقّة ، لا تخرج من البيت في أثناء النهار وهذا بِإجماع العلماء ، أما إذا كنت بِجانب الحرم فهذا أمر آخر ، أذكر أنَّني كنت بِجانب الحرم، بيني وبينه عشرون مترًا ، فكنت أُصلي الأوقات الخمس في الحرم ، ولله الحمد ، فالخروج من البيت يتعلَّق بعدم المَضَرَّة أما إذا رافق هذا خطر فلا ، فمثلاً ضرْبة الشَّمس من الأخطار ، وأوَّل ما تشعر دوخة ، وشِبْه إغْماء ، فأوَّل شيء لا بدَّ أن تأكل أشْياء مالحة ، لأنَّ هذا الشيء المالح يشْرب الماء ، حتى إنه توجد مُستشْفيات من أجل ضرْبات الشَّمْس .
التفقه في أحكام الحج قبل الحج :
يجب على من عزم على الحج التَفقُّه في أحكامه ، وكذا حُكْم كُلِّ عمل ولا يُقَلِّدُ العوام ، والمفْروض أن يكون حَجّك صحيحاً ، رأيْتُ بِعَيْني أشياء ينْدى لها الجبين ؛ حُجاجٌ ما أحْرموا من الطائرة ، فلما وَصَلْنا إلى جدَّة قالوا : متى الإحْرام ؟! هؤلاء عليهم دم ، ومنهم من لم يطف طواف الإفاضة وهو رُكْن ، وهناك من يسْأل وهو في المدينة أين قبْر محمَّد ؟! هناك جهْل شنيع وأحدهم قال : أين القبلة ؟ فقالوا له : هذه هي الكعْبة ، فقال لهم : أنا أقول : أين القبلة وليس الكعبة ؟!! ، وهذا قالوا له : اُرْجم إبْليس ، فقال : ليس بيني وبينه شيء !! لا أُحِبُّ أن أرْجُمَهُ ، فهذا الحاج دفع ماله جُزافاً ، وضَيَّع وقْته ، وهو لا يعلم منه شيئاً! وقد كنا بِعَرَفات فرفع أدهم باب الخَيْمة فسَبَّهُ أحدهم بالدِّين !! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بِعَرَفات ! والآخر قَبَّل زوْجته بالباص قائِلاً لها لقد اشْتَقْتُ إليك !! فهذا مُسْتوى سوقي ، لذلك يجب أن يتَفَقَّه الإنسان قبل أنْ يحجّ .
مُصاحبة الإنسان من يُعينه على طاعة الله :
من السنَّة أن يبْحث الحاجّ على رفيق عالِمٍ ورِعٍ راغِبٍ في الخير والتُّقى ، وكأنَّ الحجّ يتضاعف أجْرهُ إذا صاحبك رجلٌ تقِيّ عالِم ، كُنْ في صُحْبة الأخْيار ، فإذا رأيْتَ في الحجّ من تعرفه من أهْل التُّقى فاصْحَبْهُ ودَعْ رِفاقَكَ ، فهذا العالم أو الداعيّة الملتزِم يُعَلِّمُكَ أحْكام حجِّك ومناسكه والآداب فالأصْل مُصاحبة من يُعينك على طاعة الله ؛ عالِم أو داعِيَة أو صاحب خِبْرة ومُتَخَلِّق ، فلا تبْحث عن السُّرور مع الأصْدِقاء ، إنما من هم فوْقك من أهْل العِلْم، هذه عِبادة لا يلْزمك فيها أن تمْزح وتتسَلَّى ، يلْزمك صُحْبة عالِمٍ .
على الإنسان أن يجعل سفره خالصاً لله :
من السنَّة أن يجْعل سَفَرَهُ خالِصاً لله تعالى ، فلا يتَّخِذهُ فُرْصَةً للتِّجارة ، وإن كان ذلك جائِزاً بِحُدود الشَّرْع ، فالإنسان يخرج من الحَرَم فَيَجِد مَحَلَّات فَخْمة ، وبِضاعة بأنواعها المُدْهِشَة؛ تجد هؤلاء الحُجَّاج مُلْتفين حوْلها ، وذلك لِرِخَصِها ، أو غيرها من الأمور ، دَعْك من البِضاعة ؛ أرْخَص ! لا يَهُمُّك ، تجدهم أصبحوا مُشْترين وزبائن ، ليْست هذه مُهِمَّةُ الحاج ، فإذا كان للواحد منا أقرباء بِجَدَّة تمرُّ عليك الأيام فتجد أنَّك قَضَيْت عندهم يومين دون أن تشْعر ، لأنَّها مدينة فَخْمة وعمارات شاهقة ، ومقاصف جميلة على البحْر ، وتجد نفْسك انْتقلت إلى غير طبيعة فليس من مصْلحة الحاج الانْتِقال إلى الأماكن الحضارِيَّة ، إنما مصْلحتك الحرَمَيْن لأنَّك ذهبْت للحج وليس للسِّياحة . فعلى الإنسان إذا كان في عبادة الحج أن يترك القرابة إلى حين الانْتِهاء ، لأنَّك إن ذهبْت وجدْتَ نفْسك في المُزاح والضَّحِك . ويُسْتَحَبُّ أن يكون سفره صباحاً باكراً ، أو أن يكون الخميس أو الاثنين ؛ لكن هذا ليس بِيَدِك إنما على حسب الحج .
ما يفْعله الحاج بعد أن يُزمِع المُغادرة :
ماذا يفْعل الحاج بعد أن يُزمِع المُغادرة ؟ يُسْتحَبُّ أن يُصلي قبل خروجه ركْعتين في غير أوْقات الكراهة ؛ وهي معْروفة ، انْتِصاف الشمْس في كبِد السماء حتى تزول ، واصْفِرار الشَّمْس حتى تغيب، وبُزوغ الشَّمْس حتى تعْلو في الأُفق ، و يقرأ في الأولى بعد الفاتِحَة : قل يا أيها الكافرون ، وفي الثانِيَة : قل هو الله أحد ، وهما سُنَّة السفر ، وبعد سلامه يقْرأ آية الكُرْسي وسورة قُريْش ، ثمَّ يدْعو الله سائِلاً بِخضوعٍ وخُشوعٍ التَّيْسير والعفْو ، فإذا نَهَض قال : " اللهمَّ إليك تَوَجَّهْت ، وبك اِعْتصمْت ، اللهمّ اكْفِني ما أهَمَّني ، وما لا أهْتَمُّ به " فلِسَبَبٍ تافِهٍ تُضَيِّع عشْر ساعات ! وقد حكى لي الحُجاج أنهم جلسوا في الحافلة أربعاً وعِشرين ساعة ؛ لماذا ؟! لأنّ أحد الحُجاج لم يجِد جواز سَفَرِه ، ويقول : " اللهمَّ زَوِّدْني التَّقْوى واغْفِر لي ".
ومن السُّنَّة أن تُوَدِّع أنت الأهْل وليس هم الذين يُوَدِّعونك ، فإذا جئْت من الحجّ هم الذين يهَنَّؤونك ، أما حين المُغادرة فأنت الذي تُوَدِّع - طبْعاً من هم أكبر منك - لك أب أو عمّ تذْهب إليهم قبل أنْ تَحُجّ ، وحينما تعود من الحجّ هم الذين يسْتَقْبلونك ويُهَنِّؤوك .
وفي الوَداع يقول كُلٌّ من المُوَدِّع والمُوَدَّع : " أسْتَوْدِعُ الله دينك وأمانتك وخواتيم عمَلِك ، زوَّدَك الله التقْوى ، وغفر الله ذنْبك ، ويسَّر لك الخير حيث كنت "، وهذا في الحجّ وغيره، فإذا خرجْت من بيتك قل : " بسم الله تَوَكّلْتُ على الله ولا حوْل ولا قوة إلا بالله ، اللهمّ إني أعوذ بك أن أضِلَّ أو أُضَلّ ، أو أزِلّ أو أُزَلّ ، أو أظْلم أو أُظْلم ، أو أجْهل أو يُجْهل عليّ " فإذا ركِبْت في السيارة قلت : " بسم الله ، سبحان الذي سَخَّرَ لنا هذا وما كنا له مُقْرِنين ، وإنا إلى ربنا لَمُنْقلبون ، الحمد لله ثلاثاً ، والله أكبر ثلاثاً ، سبحانك اللهمّ إني ظَلَمْتُ نفْسي فاغْفِر لي فإنَّهُ لا يغْفِرُ الذُّنوب إلا أنت "، هذه الأدْعِيَة مَوْجودة في الكُتُب ، وأنا إن شاء الله قبل أن تذْهبوا أزَوِّدُكم بِمِثْل هذه الكُتُب ، والدُّعاء الأخير : " اللهمّ إنَّا نسْألك في سَفَرِنا هذا البرّ والتَّقْوى ، ومن العمل ما تحِبُّ وترْضى ، اللهمّ هَوِّن علينا سَفَرَنا - فالدُّعاء مَطْلوب ؛ فقد بقِيَ فوْج من الحُجَّاج سبعة أيام ولياليها في المطار ! - اللهمَّ أنت الصاحب في السَّفَر ، والخليفة في الأهل والمال والولد ، اللهمّ إنا نعوذ بك من وَعْثاء السَّفَر ، وكآبة المُنْقلب ، وسوء المنْظر في الأهْل والمال والولد ."
ما يستحب في الحج :
ويُسْتَحَبُّ أن يتجَنَّب التَّرَفُّه والإسْراف في الطَّعام ، ففي الحج خَفِّف قَدْر ما اسْتَطَعْت أكْلات خفيفة ، كما أنَّني أنْصحُ أخْواننا الكِرام بِتَجَنُّب المَشْروبات الغازِيَّة ، عليك بالماء أو اللَّبن.
وقال : يُسْتَحَبُّ أن يتجَنَّب المُخاصَمَة والمُجادلة والمُزاحمة ، تجد في الطائِرَة قد وصل الأمْر للقتْل من أجل مقاعد الطائِرَة ، ولو وَقَفَ كُلٌّ منهم لَجَلَسَ كلُّ واحد في مكانه .
ويُسْتَحَبُّ أن يصون لِسانه عن الغيبة والنَّميمة والشَّتيمة ، والله سَمِعْت عَشَرات بل مِئات الأشْخاص وهم في عَرَفات يغْتابون المُسْلمين ، وفي الحَرَم ، أين الانْضِباط ؟!
ويُكْرَهُ أن يذْهب في طريق سَفَرِه مُنْفَرِداً أو مع واحِدٍ ، لِقَوْل النبي عليه الصلاة والسلام :
((الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ))
وإذا كانوا ثلاثة فلْيُؤَمِّروا عليهم واحداً ؛ هذه هي السُّنَّة ، نحن لنا أمير فإذا قال : نمْشي مَشَيْنا ، فلا تُناقِش ، ولا تُخاصِم ، ولا تُعارِض. فإذا أشْرَفْتَ على قرْيَةٍ قلْتَ : " اللهمَّ إني أسْألك خيرها ، وخيْر أهْلِها ، وخيْر ما فيها ، وأعوذ بك من شَرِّها ، وشرِّ أهْلها ، وشَرِّ ما فيها " وإذا نزلْت منْزِلاً قلت : " أعوذ بِكَلِمات الله التامات من شرّ ما خلق "، فإذا أطْبق الليل : " يا أرْض ربِّي وربُّك الله ، أعوذ بك من شرِّك وشَرِّ ما فيك ، وشَرِّ ما خُلِقَ فيك ، وشرّ ما يدبُّ عليك ، أعوذ بالله من أُسود وأفاع ، ومن ساكن البلد ، ومن والدٍ وما ولد " هذا دُعاء قريب ، لأنَّ في الخِيام هناك عقارب ووُحوش .
وإذا خِفْتَ شَخْصاً قلت : " اللهمَّ إنا نجْعلك في نُحورِهِم ، ونعوذ بك من شُرورِهم " ويُكْثِر من قوْل : لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله ربُّ العرْش العظيم ، لا إله إلا الله رب السموات وربّ الأرض ، وربّ العرْش الكريم ، يا حيُّ يا قيُّوم بِرَحْمَتِك أسْتَغيث .
ويُسْتَحَبُّ للمسافر أن يكون مُداوِماً على الطَّهارة ، فسِلاحُهُ الوُضوء ، لأنَّك إن لم تَكُن مُتَوَضِّئاً ، ودَخَلْت الحَرَم ، تحْتاج أكْثر من ساعة كي تتوَضَّأ ، فَكُنْ دائِماً على وُضوء في الحجّ .